إن الحق في المشاركة السياسية مقدس ولا يسعنا إلا الوقوف مع كل من حرم من هذا الحق في أي مكان. فكل المواطنبن العرب يجب أن يتمتعوا بحقهم الطبيعي في التعبير عن رأيهم في الاختيار السياسي، بغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي، ماداموا يؤمنون بالخيار الديمقراطي كحل لتداول السلطة وتحقيق التغيير السياسي المنشود، وما يستتبعه من تغييرات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المنطقة العربية التي ظلت متأخرة عن ركب الحداثة بسبب القرارات غير الحصيفة لمن تتابعوا على حكمها من الديكتاتوريين. لقد جاءت الثورات العربية ،في ظرفية وصلت فيها الهزيمة النفسية شعبيا مرحلة متقدمة جدا، لتبعث الأمل في قدرة الشعوب العربية على القيام بالتغيير الضروري للانتقال من مرحلة سادت فيها عقلية الرعية والولاء إلى مرحلة المواطنة المبنية على تعاقد واضح بين الشركاء السياسيين في الوطن الواحد. وكان الأمل معقودا على التيار الإسلامي ليثبت للعالم وللمواطنين العرب أنه تيار ديمقراطي، وصل إلى مرحلة النضج السياسي، إلا أن بعض تصرفات عناصر أو حركات محسوبة على هذا التيار إنضافت إلى الكثير من المنغصات، التي أبت إلا أن تعرقل الفرح العربي بإنجازات أبنائه، وبدأت تفرض علينا خفض سقف توقعاتنا من إحدى المكونات السياسية المهمة للنسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية.
التيار الإسلامي أبان عن عدم انسجام لا مثيل له في تعامله مع التغييرات التي حملتها الشعوب العربية إلى المنطقة ودفعت ثمنها غاليا. عدم الوضوح هذا، يهدد بتحريف الثورة عن الهدف الأسمى الذي انطلقت من أجله ألا وهو تطهير العالم العربي من الاستبداد والظلم، وبناء دولة المؤسسات وحقوق الإنسان وإنشاء الدولة المدنية. الدولة التي تستوعب جميع مواطنيها، بعيدا عن منطق الإيمان والكفر والشعوبية البغيضة التي ،منذ أن بدأت في عهد العباسيين، كانت وبالا على الشعوب العربية لأنها ضربت أطنابها في جذور المجتمع وأسست الفكر السياسي على كره الآخر. ولنا في خطاب بعض المشايخ الكبار في قناتين عربيتين كبيرتين بعد أحداث "ماسبيرو" ما يدل على هذه الخطورة ويزكي تخوفاتنا. دق إسفين العداوة بين المسلمين والمسيحيين، والمتدينين والعلمانيين، كلها قضايا فرعية تشكل إثارتها، في هذه اللحظة التاريخية بالضبط، خطرا على مشروع الشباب العربي.
لا بد من الاعتراف بأن الحركة الإسلامية، كغيرها من الحركات التي ناضلت ضد الديكتاتورية، دفعت ثمنا باهظا جراء معارضتها للأنظمة البائدة في تونس ومصر وليبيا، وفي سورية أيضا، حيث تعتبر مجزرة حماة من أكبر المجازر السياسية في التاريخ العربي المعاصر. وإذ يجب الاعتراف بالتضييق الذي تعرض له ويتعرض له أعضاء الحركة الإسلامية في الكثير من المناطق بسبب الاختلافات الإيديولوجية مع الأنظمة السائدة أو بسبب النزاع السياسي حول الشرعية الدينية في بعض المناطق، كالمغرب مثلا، حيث الصراع المحتدم جلي بين مؤسسة إمارة المؤمنين، التي يمثلها الملك، والجماعات الإسلامية الجذرية بقيادة جماعة العدل والإحسان بزعامة الشيخ ياسين، التي لا تعترف له بهذه الصفة. هذا الصراع، كما قلنا، دفع الإسلاميون مقابله ثمنا باهظا من حريتهم وحياتهم، وفي الكثير من الأحيان من أرزاقهم، وذاقوا بسببه كل أشكال القمع التي يمكن تصور حدوثها في الأقبية المظلمة لأنظمة القمع. إلا أن هذا الثمن المدفوع من قبل نشطاء الحركات الإسلامية في سبيل الدفاع عن اختياراتهم لا يمكن أن يشكل شيكا على بياض يفرضون بسببه تصورهم لشكل وطبيعة الدولة بعد سقوط الأنظمة القمعية في مصر وتونس وليبيا، وربما في سورية، إذا لم يتم التوصل إلى صفقة بين المعارضة والنظام المعزول حاليا، والذي رغم عزلته مازال يتوفر على الكثير من الأصدقاء والحلفاء.
الحركات اليسارية بدورها، وبكل توجهاتها الإيديولوجية، دفعت ثمنا باهظا أيضا في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات بل وحتى أوائل التسعينات بسبب إزعاجها للأنظمة الديكتاتورية التي استثمرت آنذاك في دعم الحركات الإسلامية لتشكل قوة رادعة لليسار الملتزم بتحرير الشعوب العربية من نير الديكتاتورية السياسية والاقتصادية، وما كان من الحركة الإسلامية في تلك الفترة إلا أن تحولت إلى أداة في أيادي أجهزة الدول المعنية، تلاعبت بها، بوعي منها أو بدونه، لتضرب العمل اليساري (ص.21) الذي لاقى خطابه قبولا شعبيا مهما في الكثير من البلاد العربية. فقراءة مذكرات الكثير من رموز اليسار عن تلك الفترة قمين بأن ينير المهتم بتفاصيل هذه المرحلة أكثر ويبين أن زعامات الحركات الإسلامية أتقنت الانتهازية السياسية. و ما الغموض الحالي في الكثير من مواقفها من الانتقال الديمقراطي إلا أحد تمظهرات هذه الازدواجية التي تحولت إلى نوع من التقية السياسية في نظرنا.
من خلال تتبعنا لبعض الحالات الإسلامية الأساسية في شمال أفريقيا تبين لنا أنها ربما في طور تضييع فرصة تاريخية لمصالحة نفسها مع ممارسة إنسانية حضارية أثبتت صلاحيتها لتداول السلطة ألا وهي الديمقراطية. فمن خلال تحليل سلوكيات حزب العدالة والتنمية في المغرب، وسلوك الإسلاميين التونسيين ونظرائهم في ليبيا يتبين لنا أن فئة مؤثرة من الإسلاميين يريدون ديمقراطية متحكما فيها أو يسمح لهم في ظلها بالوصول إلى السلطة ولا تختلف كثيرا عن ديكتاتورية الأنظمة البائدة باعتبار غرقهم المفرط في الخصوصية الدينية والثقافية.
أولا: حزب العدالة والتنمية، الذي يشكل في نظر الكثيرين إضافة نوعية إلى المشهد السياسي المغربي، بين في كثير من المناسبات عن خطاب شعبوي خطير، خاصة في خطابات أمينه العام الذي كثيرا ما قارن المهتمون خطاباته بأسلوب الحلقة نظرا لما يتضمنه من بهرجة يضيع في ثناياها نقاش القضايا الكبرى التي تهم المواطنين. كما أن الحزب، من خلال الكثير من تصريحات أمينه العام، أثبت أن ما يتداوله المتتبعين من كون مجيئه إلى الساحة السياسية يخدم أجندة المخزن المغربي في عزل الحركات الإسلامية ذات الحضور القوي مثل العدل والإحسان.
لقد أبأن حزب العدالة والتنمية، في المرحل الأولى لنشوء حركة 20 فبراير وخلال الاستفتاء على التعديل الدستوري، عن حربائية كبيرة. فمن الناحية الإعلامية اجتهدت وجوهه الإعلامية المعروفة لتسويق إيمانه المطلق بالديمقراطية والتشدق بها فكرا ومنهجا ولكن في نفس الوقت قدم الحزب اعتراضات على النسخة المعدلة للدستور أدت إلى وأد فكرة الدولة المدنية التي تنادي بها الكثير من القوى السياسية الحية في المغرب. الدليل على ذلك كلام محمد الطوزي الذي صرح بان "العمل على مشروع الدستور الجديد كان قد طال موضوع الدولة المدنية"، مضيفا أن "الضغوطات التي مارستها حركة التوحيد والإصلاح، وتهديدات بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية وتصريحات قيادي بارز (في إشارة إلى تصريحات امحمد الخليفة في برنامج حوار) في حزب الاستقلال، أد]ت[ للتراجع عنها". فالحزب نزل بكل ثقله لعرقلة وثيقة دستورية كان يمكن أن تكون أكثر تقدما مما هي عليه الآن.
وفي مقابل خرجات عبد الاله بن كيران المدافعة عن المخزن، تحدث المصطفى الرميد، أحد الوجوه البارزة في الحزب، والذي يحظى باحترام كبير، نظرا لخطابه المتوازن ومساندته لحركة 20 فبراير، في مداخلته في البرلمان مؤخرا عن خريف عربي في المغرب وعن تفويت المغرب للفرصة لإحقاق الإصلاحات التي نص عليها الدستور. وتزامن هذا الحديث عن مقالة للفقيه القانوني وعضو الحزب، عبد العالي حمي الدين، من أهم ما جاء فيها أن "هناك إرادة للانقلاب على روح الدستور الجديد وتأويل مضامينه بطريقة سلطوية وهو ما تجلى بشكل واضح في القوانين الانتخابية التي لم تختلف في مفاتيحها الرئيسية عن القوانين السابقة التي تضمن استمرار آليات التحكم القبلي في جزء أساسي من العملية الانتخابية، بل يمكن القول أننا بصدد تسجيل مؤشرات تراجعية حتى على فترة ما قبل 20 فبراير مثل عودة الحزب السلطوي المدعوم من طرف الدولة عبر تحالف 4+4، في إشارة واضحة على طبيعة الحكومة القادمة، ولم يلمس المواطنون تفعيلا للدستور الجديد يشعرهم بأن هناك تحولا حقيقيا عن مرحلة الدستور السابق بقدر ما سجلوا استمرار الحضور القوي لرئيس الدولة في وسائل الإعلام العمومية في مقابل الحضور الباهت لرئيس الحكومة، مع استمرار هيمنة وزارة الداخلية على الشأن الانتخابي".
المثير في الأمر أن حملة الحزب بدأت في الآونة الأخيرة لتشتكي من الإقصاء الذي تمارسه السلطة على الحزب رغم تجنده لتمرير الدستور الجديد. هذا يدل على أحد شيئين إما أن الدولة وعدت الحزب بضمانات مقابل موقفه المهادن كثيرا من الدستور ولم تلتزم بها، مما جعله يشتكي، أو أن الحزب بدأ يؤدي ضريبة موقفه المتخاذل شعبيا ويريد تحميل الدولة مسؤولية خسارته المحتملة للانتخابات، خاصة أن الكثير من المواطنين انزعجوا من تصريحات أمينه العام، التي جاءت مناقضة تماما للمزاج الوطني العام الذي يدعو إلى تغيير ديمقراطي حداثي، ينقل السلطة إلى الشعب، ويخلق آليات وضمانا للمراقبة والمحاسبة.
يبدو لنا جليا أن حزب العدالة والتنمية يبعث برسائل متناقضة عن الديمقراطية تتغير حسب مصالحه الانتخابية وحسب ترمومتر علاقته بوزارة الداخلية وليس حسب حاجة الشعب أو تبني خيار الديمقراطية الحقة. فهذه المواقف الأخيرة لا تمثل، في نظرنا، التزاما بالديمقراطية بقدر ما تمثل وسيلة ضغظ على الدولة بعدما تبين للحزب أن حليمة عادت إلى عادتها القديمة، كما يقول المغاربة، رغم البلاء الحسن للحزب في معارضته الشرسة لحركة 20 فبراير لدرجة شيطنتها من طرف أمينه العام، في سعيه الحثيث لكسب النقط ورئاسة الحكومة القادمة.
ثانيا: الحركة الإسلامية في ليبيا كشفت عن ارتهانها لمموليها في الخليج وعدم توفرها على مشروع واضح المعالم لدورها في ليبيا المستقبل. إذ بمجرد خروج القذافي من السلطة سارعت هذه الحركة التي يمثل الشيخ علي الصلابي، عالم الدين المقيم في دولة خليجية، وعبد الكريم بلحاج، رئيس المجلس العسكري لطرابلس، أبرز زعمائها، إلى تبني خطاب إقصائي لا يبشر بالخير لمستقبل ليبيا.
لقد سارعت هذه الحركة إلى بعث رسائل متناقضة للداخل والخارج. نشر عبد الكريم بلحاج مقالا في صحيفة الغارديان يعبر فيه عن إيمانه بالديمقراطية وحقوق الإنسان، في شبه إعلان توبة من ماضيه السياسي، ويحذر فيه من مغبة إقصاء الإسلاميين من السلطة. أما علي الصلابي فتحدث من منفاه الخليجي عن وجود نية لدى محمود جبريل لتأسيس ديكتاتورية جديدة في ليبيا قائلا أن "جبريل مع مجموعة من أمثال محمود شمام وعلي الترهوني وعبد الرحمن شلقم وقلة قليلة أخرى، مجموعة متحدة يريدون أن يفصلوا لليبيين ملابس خاصة على المقاس الذي يرونه، وأرادوا أن يأتوا بأناس على شاكلتهم ليسيّروا شؤون الليبيين في مجالات الأمن والجيش، وفي مجال الطاقة والنفط، وفي الطب والصحة، وفي عموم الإدارات، للسيطرة والهيمنة، ولم يشاوروا القوى الوطنية الفاعلة التي دفعت الغالي والنفيس من أجل الحرية" .
هذه المماحكات السياسية سرعان ما انتقلت إلى الممارسة الفعلية التي تجلت في رفض الإسلاميين لرئاسة محمود جبريل للحكومة المؤقتة. كما أن الكثير من المقالات المنشورة تبين تدخل بعض الدول العربية في الشؤون الداخلية لليبيا عن طريق دعم الإسلاميين مما يشكل في نظرنا خطرا على المشروع الوطني الليبي ويبين ولاء الحركات الإسلامية لشيوخها في الخليج. كما أن رهن القرار الوطني بأيد المانحين يشكل ضربة موجعة لكفاح الشعب لإزالة نظام القذافي من السلطة.
إن استيراد طرق تعبد جديدة وغريبة عن ثقافة المنطقة يشكل، في نظرنا، ضربا للديمقراطية، ويتنافى مع احترام مبدأ الحرية في الاحتفاظ بعادات وتقاليد الشعوب. كما أن ظهور جماعات تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر كلها أنماط تفكير تتناقض مع الديمقراطية التي يجب أن تتأسس على الحرية وليس على المنع. فأن يهاجم ثلاثمئة مسلح مسجدا وينبشوا قبورا وينقلوا رفات الموتى سلوك لا يمت للإسلام بصلة ولا علاقة له بالديمقراطية وحقوق الإنسان. فتدنيس القبور وتدمير الآثار مظهر من مظاهر التخلف لا علاقة له بالممارسات الإسلامية على الأقل كما تفهمها الغالبية العظمى من مسلمي شمال إفريقيا الذين زاوجوا عبر التاريخ بين إسلامهم الوسطي السمح وبين ثقافتهم الامازيغية المحلية التي شكلت على مر العصور مصدر ثراء لهم ومتراسهم ضد التطرف والتعصب الديني. هذا يشكل تهديدا كبيرا للتراكمات الفقهية والفكرية وللطبيعة الخاصة التي تميز شمال إفريقيا على مر العصور والتي من المفروض أن تحميها الديمقراطية.
ثالثا: الحالة التونسية مثيرة للاهتمام أيضا. فالشيخ رشيد الغنوشي يؤكد التزام حزبه بالديمقراطية وحقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي رغم أنه صرح لجريدة Jeune Afrique في يوليوز سنة 1990 أنه "ليس هناك طريق آخر للوصول إلى الحداثة إلا طريقنا الخاص، الطريق الذي سطره لنا ديننا وتاريخنا وحضارتنا". الديمقراطية في نظر الكثيرين وجه من أوجه الحداثة، هل هذا يعني أنها تتعارض مع قيمنا لأنها ليست جزءا من ديننا وثقافتنا؟. رغم مرور أزيد من عشرين سنة على هذا الكلام، ورغم المراجعات التي قام بها التيار الإسلامي عموما، إلا أن الكثير من الوقائع على الأرض تؤكد بأن هذا هذه المقولة احتفظت براهنيتها لأن الكثير من الإسلاميين يحنون إلى دولة الخلافة ويريدون العودة بالشعب التونسي سنينا إلى الوراء في منطق معاكس للتاريخ.
فخروج الآلاف من المتظاهرين يوم الجمعة في تونس للتنديد بقناة نسمة الخاصة التي بثت فيلما كرتونيا من إنتاج إيراني، يزعمون أنه يجسد الذات الإلهية، يشكل ضربة موجعة لكل الذين آمنوا بأن التيار الإسلامي اقتنع أخيرا بأن الديمقراطية هي الحل. فبعيدا عن الفهم السطحي لهذه القضية ودرجة التجييش الغير المتناسب مع التهمة الموجهة للقناة، فإننا نقرأ فيها مؤشرات على وجود قوى تريد تشتيت المجهود واللحمة الوطنية التي قامت في تونس إبان الثورة، وحان الوقت لخلق فرز بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، مما سيسهل مهمة الثورة المضادة التي نعرف الكثير عن محاولاتها لإفشال المجهودات الرامية إلى الديمقراطية. فمجرد مشاهدة جرأة صحافي الجزيرة والتغيرات المرافقة لقسمات وجهه وهو يقدم هذه المادة، تدل على أن هناك ضغطا خارجيا كبيرا، إعلاميا على الأقل، لإفشال المشروع الوطني التونسي. الضيف كان ذكيا، ولم ينسق مع رغبة الصحافي الظاهرة لجره لتجريم قناة نسمة وتجييش المواطنين ضدها، حين أكد أن هناك أولويات أكبر في تونس من الاحتجاج على قناة هامشية تمارس الحرية في بلد ظن الجميع، أو على الأقل آمل الجميع، بأن ينتقل إلى مرحلة أحسن بعد الثورة.
كما أن هجوم المئات من الإسلاميين المتشددين على جامعة في تونس، لرفضها تسجيل امرأة منقبة، ما هي إلا إشارات ذات دلالة عميقة على أن الحركة الإسلامية قد تضيع الفرصة على نفسها لتثبت لنفسها وللعالم أنها تغيرت وأنها تشبعت بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالخطاب الإعلامي شيء والممارسة السياسية الواقعية شيء آخر. السيد سمير ديلو عضو المكتب السياسي لحركة النهضة قال لوكالة الأنباء الفرنسية إنه "لا يمكن إلا إدانة هذا النوع من الحوادث" وإنه " ينبغي عدم خلط الأوراق" ودعا الناس إلى " التزام الهدوء" غير أن المشكلة المطروحة أعمق بكثير من ذلك لأنها تدل على أن هناك قطاعات كبيرة من الإسلاميين يختلف تصورها للمستقبل اختلافا جذريا عن تصور القيادات، وبما أنها ستصوت في الانتخابات فإن أصواتها بطبيعة الحال ستذهب إلى المترشحين الذين يعكسون تصوراتهم للدولة والمجتمع، وهنا بيت القصيد. فنحن لا نجادل في صدق الشيخ راشد الغنوشي ، ونعي تمام الوعي وجود العناصر السلفية، ولكن حماس الأتباع في مرحلة دقيقة قد يعطل المرور إلى عهد الديمقراطية المنشود.
نخشى تفويت الحركات الإسلامية الفرصة على نفسها لركوب قطار الديمقراطية الحقيقية دون مفاوضات خلف الكواليس أو عقد صفقات مع الأفراد والأجهزة الذين يريدون الحفاظ على الوضع الراهن. فالحركة الإسلامية يمكن أن تستفيد من اجتهادات مهمة في كتابات عبد الله النعيم مثلا. يقول الأستاذ عبد الله النعيم ما مضمونه أن الدولة يجب أن تكون محايدة دينيا، و هذا لا يمنع الفرقاء السياسيين من توظيف الدين في السياسة، شريطة عدم المساس بمقومات الدولة، إذ "يجب الفصل بين الدين والدولة، ولكن الدين والسياسة لا يمكن ولا يجب الفصل بينهما". من هنا طور مفهومه للمنطق المدني ويرشح الدين ليكون جزءا من هذه المنظومة في الساحة العامة شريطة التزامه بإطار الدستور. فاجتهادات مثل هذه كفيلة بمصالحة الحركة الإسلامية عموما مع مفهوم بشري يحظى بالقبول وموجود على كل الألسنة: الديمقراطية. التاريخ لا يعيد نفسه، والحركة الإسلامية يجب أن تبين أنها لا تعاكس إرادة الشعوب في التغيير والديمقراطية تحت أي ذريعة كانت. الخصوصية لا تتناقض مع الديمقراطية وبناء الدولة المدنية التي تكون فيها الكلمة الأولى والأخيرة للشعوب، وصناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة.
ونحن نقوم بالقراءات الضرورية لكتابة هذه المقالة، استوقفتنا الكلمات العميقة الدلالة لليساري المغربي،علي فقير، التي تؤكد " على أن الجوهر في خلفيات الصراع السياسي […] ليس دينيا ولا حضاريا. إن التناقض الرئيسي الذي يحرك مختلف أوجه الصراع … (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا) ليس عموديا كإسلامي-غير إسلامي، إنه أفقيا بالدرجة الأولى: تناقض بين تكتل طبقي يقوي مصالحه عبر الاستغلال الفاحش للقوة العاملة، وعبر التفقير للجماهير الشعبية، وعبر نهب المال العام والرشوة….معتمدا في كل هذا على جهاز الدولة لفرض اختياراته... هذا من جهة، وبين مختلف الطبقات الشعبية من جهة أخرى، هذه الجماهير التي تنتج خيرات الوطن ولا تستفيد منها، والتي تعيش في وطن بدون حقوق المواطنة…"
لقد حاولنا في هذه الورقة البحث في بعض تناقضات خطاب الحركة الإسلامية في شمال إفريقيا بين تمجيد الديمقراطية كوسيلة لتداول السلطة وبين الممارسة الفعلية الواقعية من خلال سلوكيات أتباعها أو من خلال ولآتها لبعض الدول التي تبحث عن مجالات نفوذ في هذه المنطقة أو تلك. فحتى إذا كانت القيادات السياسية، بحكم تمرسها وفهمها للجيوستراتيجية وطبيعة الخطاب الذي يجب التعامل به مع الفرقاء الوطنيين والدوليين، قد قامت بمراجعات تتلاءم مع طبيعة المرحلة، إلا أن بعض المواقف المتخاذلة، كالتي أبداها حزب العدالة والتنمية في المغرب، أو انقلاب 360 درجة في خطاب الحركة الإسلامية الليبية التي تطالب غيرها من القوى السياسية بترك المجال "للقوى الحقيقية" أو الاحتجاج المفرط، إلى حد التشويش على الأولويات الوطنية، على مسائل قد تحل إداريا في تونس، كل هذه إرهاصات تدل على أن فكرة الوطن للجميع مازالت تحتاج إلى وقت طويل لتترسخ في أذهان الكثيرين من أعضاء الحركة الإسلامية في شمال أفريقيا.
القبول بالآخر وتحديد طبيعة الصراع، الذي يجب أن يكون ضد الديكتاتورية فقط، مهما يكن شكلها أو لباسها، مازالت يطرح إشكالا لهذه الحركات. كما أن وجود بوادر مهادنة سياسية بين ورثة الأنظمة القمعية وبين الإسلاميين، في بعض الدول، تشكل مصدر قلق بالنسبة لنا وتبين مدى أسبقية الاعتراف الرسمي بها، النسبة لها، على مطلب التغيير الديمقراطي
١. من كتاب فرانسوا بوركات صفحة 183