الآن وقد مر بعض الوقت على الانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها التي جرت في المغرب في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين ثاني والتي، كما يعرف الجميع، فاز الإسلاميون خلالها ب 25 بالمئة من المقاعد 395 المشكلة للبرلمان المغربي. فوز اعتبره الكثير من المتتبعين للشأن المغربي والمغاربي والعربي تاريخيا على اعتبار الظروف العامة التي جرت فيها الانتخابات التي وصفت بالشفافية، والحياد شبه المطلق "لأم الوزارات"—الاسم الذي يطلقه المغاربة على وزارة الداخلية نظرا لتشعبها وتداخلها مع كثير من القطاعات الحيوية الأخرى في البلاد وخاصة في زمن الوزير القوي إدريس البصري—التي عهد إليها بتنظيم هذا الاستحقاق التشريعي. هذا الحياد الذي لم يكن إيجابيا كل الوقت في نظر البعض إلا أنه لم يرقى إلى درجة التشكيك في نزاهة الانتخابات ونتائجها. هنا بالضبط، يجب التوقف لإثارة بعض الأسئلة الملحة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه المقالة في أفق استكشاف وتحليل المشهد السياسي المغربي من خلال ثوابته ومتغيراته وكذلك في سبيل معرفة طبيعة الظروف والحسابات السياسية الداخلية التي فرضت على المخزن—الاسم المتداول للنظام السياسي في المغرب—السماح بفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات رغم الحرب الشعواء المعلنة على حركة العدل والإحسان الصوفية مثلا. يحضرنا أيضا سؤال عن مدى قدرة حزب العدالة والتنمية على تحقيق التغيير السياسي الذي يطمح إليه نسبة كبيرة من المغاربة.
فأن يفوز حزب له من العذرية السياسية ما يحول به بين الشعب والمخزن لخمس سنوات أمر لم يفاجئ الذين يعرفون ركائز السياسة المغربية الداخلية المعتمدة أساسا على استقطاب النخب وتوظيفها "لتشحيم" محركات ودواليب المخزن حتى يتمكن من الاستمرار طويلا لكن دون المساس بجوهره وعقيدته السياسية المؤسسة على الخضوع المطلق والقبول باحتكار السلطة من قبل المؤسسة الملكية والعاملين معها. بالأمس كان الاتحاد الاشتراكي من خلال حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، والآن حان دور العدالة والتنمية بعد فشل سياسة استقطاب الكثير من الأفراد، من اليمين واليسار لفترات معينة لتزويد المخزن بالنفس الضروري لتجاوز "السكتات القلبية" المتتالية، ثم يتم الاستغناء عنهم بمجرد أن تزول الظرفية التي جاؤوا فيها إلى السلطة. فحركة "لكل الديمقراطيين"، التي كانت حركة هجينة جمعت بين اليساريين والليبراليين ورجال الأعمال والأدباء والمعتقلين السياسيين السابقين تحت جبة زميل دراسة سابق للملك، تندرج أيضا في هذا الإطار ولكنها فشلت فشلا ذريعا في هذه المهمة لان حزب الأصالة والمعاصرة المنبثق عنها لم يستطع أن يفوز بأكثر من 47 مقعدا ليحل رابعارغم الإمكانيات الهائلة المتوفرة له وخزان الأعيان الذي استند إليه. هذه إذن بعض الإشكاليات التي تفرض نفسها على المتتبع للمشهد السياسي المغربي، وتتطلب الغوص قليلا في الانثربولوجية السياسية المغربية لموقعة حزب العدالة والتنمية في المشهد الحزبي المغربي وفهم طبيعة البنيات السياسية الموروثة عن الاستعمار الفرنسي والتي مازالت مستمرة إلى اليوم وتوظف إلى يومنا هذا في التحكم في الخريطة السياسية وإضعاف المنافسين المحتملين للمؤسسة الملكية.
الانتخابات المغربية الأسئلة المغيبة
المتتبعون للشأن السياسي المغربي لابد أنهم لاحظوا درجة التهليل المرافق لنسبة المشاركة في الانتخابات التي بلغت حسب بيانات الحكومة المغربية 45 بالمئة من مجموع الكتلة الناخبة المسجلة في اللوائح الانتخابية التي يبلغ عددها 6 ملايين. هنا بالضبط مربط الفرس حيث إن بعض المتتبعين رأوا أن الرهانين الأساسيين لهذه الانتخابات هما الشفافية ورفع نسبة المشاركة. الرهان الاول يبدو أنه قد كسب على اعتبار أنه حتى الاحزاب التي "خسرت" في هذه الانتخابات لم تطعن في شرعيتها كما أنها لم تشكك في حياد وزارة الداخلية وأطرها الذين أشرفوا على العملية الانتخابية رغم أن أحزاب اليسار الجذري طالبت بهيئة مستقلة للانتخابات،على الشاكلة التونسية، لتوفير كل ظروف الشفافية. والدليل ذلك نسبة الطعون المتدنية جدا مقارنة مع السنوات السابقة. علاوة على ذلك فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان أكد وجود خروقات مختلفة في اقتراع الخامس والعشرين من نوفمبر. أما الرهان الثاني الذي تحدث عنه الاستاذ المعطي منجب فهو رهان نسبة المشاركة لان انتخابات 2007 شكلت انتكاسة كبرى لكل الفاعلين السياسيين المشاركين في الحكم في المغرب لان البرلمان انتخبه 19 في المئة من الناخين فقط وكان منتظرا،كما جرت العادة في الديمقراطيات العريقة، أن يتم حله والدعوة إلى انتخابات جديدة إلا أن هذا لم يحدث، بل تم اللجوء إلى تأسيس حزب سياسي جديد تحت اسم الاصالة والمعاصرة للدفع بالحياة السياسية قدما وإخراجها من الجمود تحت رئاسة أحد أصدقاء العاهل المغربي وزملائه في الدراسة في المدرسة المولوية (انظر جيمس ليدل). فانتخابات 2007 أرسلت رسالة قوية إلى الماسكين بزمام السلطة مفادها أن الشعب المغربي سئم من وجود نفس النخب السياسية وتكرار نفس الكرنفال الانتخابي اللذان لايؤديان في نهاية المطاف إلى أي تغيير ملموس على المستوى المعيشي وتدبير الحياة اليومية للمواطنين، هنا أيضا تجدر الاشارة إلى الرسوم الكاريكاتورية لجريدة المساء وما لعبته من دور في توعية المغاربة بالحاجة إلى نخب سياسية جديدة.
من هنا إذن نفهم الاهمية السياسية لنسبة المشاركة في بلد تعتبر فيه الانتخابات مقياسا لمدى شعبية الماسكين بزمام السلطة واستفتاء على المبادرات التي يأخذونها. فأن تنتقل نسبة المشاركة في انتخابات 25 نوفمبر من 11 بالمائة إلى 45 في بضع ساعات أمر يدعو إلى الاستغراب فعلا. كما أن السؤال الكبير المغيب هو إقصاء مليون شخص من اللوائح الانتخابية التي تمت مراجعتها، بالإضافة إلى عدم تمكين أربعة مليون مغربي القاطنين بالخارح من حقهم في التصويت رغم أنهم سمح لهم بالتصويت في استفتاء تعديل الدستور، بالإضافة إلى هذا فكل المتتبعين يتحدثون عن كون الكتلة الناخبة تتشكل من 22 مليون مغربي وليس فقط ستة ملايين كما يذاع يوميا في الإعلام. فنسبة المشاركة الحقيقية في هذه الانتخابات إذن يجب أن تخضع لمسائلة أكثر.
أما بالنسبة لحرمان المواطنين المغاربة القاطنين بالخارج من حقهم في التصويت المباشر، فهذا إجراء غير ديمقراطي يجد تفسيره في خوف السلطة من عدم القدرة على التحكم في أنواع وطبيعة الناس الذين سيصلون إلى قبة البرلمان من الخارج، خاصة من العدل والإحسان التي تبقى حاضرة وبقوة في بلدان المهجر الأوروبي ذات النسب العالية من المهاجرين المغاربة. هذا ما دفع الماسكين بزمام السلطة إلى وأد إمكانية وصول هذا المكون إلى البرلمان المغربي واستثماره للحصانة التي يوفرها لتقريع النظام، بما يمكن أن يشكله له ذلك من تحديات كبرى على الصعيدين الداخلي والخارجي. هنا أيضا لابد من الإشارة إلى أن تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان أكد أنه في كل المكاتب 847 التي راقبها مراقبوه تم الوقوف على حالتين للتصويت بالوكالة فقط، مما يستدعي، في نظر المجلس، البحث عن طرق بديلة مثل التصويت بالمراسلة أو التصويت الالكتروني. هنا أيضا يظهر أن الهدف ليس ضمان مشاركة المواطنين المغاربة القاطنين بالخارج فقط ولكن التحكم في طبيعة المنتخبين أيضا حتى لا تحدث مفاجآت، وإلا ماذا يمنع المجلس بأن يضمن توصياته اقتراحا التصويت المباشر في بلدان المهجر.
العدالة والتنمية واستمرار المخزن بطرق أخرى
لم يكن فوز حزب العدالة والتنمية ب107 من مقاعد البرلمان مفاجئا نظرا لتظافرعوامل داخلية وخارجية غيرت اللعبة السياسية المغربية وفرضت بعض التنازلات على النظام، ناقشناها في مقال سابق، رغم أنها لم ترقى إلى مستوى القطيعة مع أنماط الحكم السائدة لخمسين سنة منذ استقلال المغرب عن فرنسا إلا أنها أدت إلى وصول ما يسمى بالإسلاميين إلى السلطة لأول مرة. هنا أيضا لابد من القول بأن حزب العدالة والتنمية هو حزب أبناء المخزن ويشكل في عقيدته وجوهره استمرارا لعقيدة مؤسسه ومحتضن الاطر الذين التحقوا به بعدما تعذر عليهم تأسيس حزب سياسي إسلامي: الدكتور الخطيب. هذا الأخير تشير إليه أدبيات الحزب بالرئيس المؤسس وكان لافتا أيضا الزيارة التي قام بها عبد الالاه بن كيران إلى أرملته يوما واحدا بعد تعيينه رئيسا للوزراء. زيارة تحمل، في رأينا، إشارة رمزية لوفاء الحزب لرسالة محتضنهم الذي منحهم سك الغفران للدخول إلى العمل السياسي الشرعي، بعدما رفضت وزارة الداخلية السماح لهم بتأسيس حزب سياسي. ودائما في نفس الإطار، لما سئل رئيس الحكومة المعين عن طبيعة تحالفه مع الحزب الإداري، الحركة الشعبية، اعترف بعظمة لسانه بأن حزبه وحزب الحركة الشعبية ينبثقان من نفس الرحم الذي كانت نواته المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب وزكى الامين العام للحركة الشعبية هذا الطر بقوله إن "حزبه يملك " تاريخا مشتركا ورؤى موحدة مع العدالة والتنمية". فالدكتور الخطيب واحرضان معروفان بقربهما الشديد من القصر، رغم خلافاتهما بعد فرض حالة الاستثناء سنة 1965 وانشقاق الثاني عن الأول (سنة 1967) وتأسيسه الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية التي تحول اسمها إلى العدالة والتنمية سنة 1996. كما أنهما شاركا في تأسيس "الفديك" أو جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية
(Le Front de la Defense des Institutions Constitutionnelles) التي ساهمت بقسط وافر في تحريف المسار الديمقراطي بالمغرب بعد إفشال تجربة حكومة عبد الله إبراهيم رغم أنهما يرجع لهما بعض الفضل في محاربة محاولات حزب الاستقلال فرض نظام الحزب الوحيد في المغرب (أنظر جون واتربوري: أمير المؤمنين: دراسة للنخب السياسية المغربية وجون دامس:المشهد السياسي المغربي). لذلك ففوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات ليس مخيفا ولا بالحدث الجليل كما يصفه البعض: أولا، لان الحزب تربى في رحاب المخزن ولا يجادل في ما يسميه الثوابت الوطنية، كما أن إيديولوجيته الدينية تلتقي كثيرا مع الفكر الديني للنظام المغربي بل وتزكي منهج المخزن القائم على الطاعة والولاء وفكرة الرعية وإمارة المؤمنين. علاوة على كل هذا، فهو يحصر مشاكل المغرب في الرشوة وتحسين الظروف المعيشية للناس مما لا يشكل أي خطر على مصالح الماسكين بالسلطة في البلد، لأن لا يتحدث عن الإصلاح السياسي إلا بشكل محتشم. كما أن هذا الخطاب الاقتصادي والاجتماعي سيف ذو حدين يحمل في طياته عوامل القضاء على الحزب نفسه، إذا لم يستطع أن يفي بالوعود التي قدمها للناخين ويؤدي إلى انتكاسته السياسية، وهناك الكثير من التجارب التي يمكن الاستدلال بها في هذا المضمار ولكن أبرزها هي انتكاسة الاتحاد الاشتراكي منذ انتخابات 2002، إذ تحول من رقم صعب في المعادلة السياسية المغربية إلى حزب يتهافت على استقطاب الأعيان للفوز بمقاعد في البرلمان، ناسيا أو متناسيا إيديولوجيته التقدمية التي منحته هويته الاجتماعية والسياسية وميزته كحزب للجماهير الشعبية في مقابل أحزاب الإدارة التي يشكل الأعيان عمودها الفقري.
فأحزاب اليسار الصغيرة، اليسار الاشتراكي والنهج الديمقراطي وحزب الطليعة الديمقراطي، تشكل مصدر إزعاج كبير للسلطة أكثر من نظائرهم المسمون إسلاميين لانها تتميز بحيويتها وصلابة الإيديولوجية العملانية التي تستند إليها. تهميشها بعد الفوز بالانتخابات سيكون مكلفا جدا لصورة النظام نظرا لتماهي خطابها مع الخطاب الحقوقي والسياسي الكوني، في حين أن خطاب الأحزاب الاسلامية محلي ولايرقي إلى مستوى العالمية وهذا عامل يزيد من ثقة النظام السياسي في نفسه لأنه متيقن أن المغاربة لا يريدون النماذج السياسية السائدة في الخليج أو في البلدان التي تحكمها طبقة "إكليروسية" باسم الدين. من هنا، يمكن القول بأن كل ما قيل عن كون العدالة والتنمية سيغير قواعد اللعبة السياسية في المغرب ليس دقيقا ولا ينطلق من فهم سليم للواقع السياسي المغربي ولآليات السلطة التي تستطيع كبح جماحه باستعمال الكثير من الوسائل الناعمة لإفشال مساعيه في القيام بأي تغييرات جذرية غير متوافق عليها إن اكتسب جرأة التفكير في ذلك في المستقبل. فالحقل الديني في المغرب حقل أمير المؤمنين حسب الدستور ولا يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يستغل هذا الحقل للقيام بتغييرات على مستوى التشريع أو للتأثير على الحريات الفردية كما يخشى البعض. كما كتب أحد المعلقين فليس مهما أن يفوز العدالة والتنمية بالانتخابات ولكن المهم هو ألا يخسر نفسه. لذلك لا يجب التهويل من حجم هذا الفوز ولا من النتائج السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تترتب عنه على اعتبار أنه يشكل فوزا داخل الاستمرارية ولا يمكن أن يحدث أية قطيعة جذرية مع أنماط السلوك السياسي السائدة في البلد. وهنا لابد من قراءة خريطة المتحالفين مع العدالة والتنمية لفهم محدودية التأثير الذي يمكن للحكومة الملتحية أن تحدثه في البلد.
تحالفات "الحكومة الملتحية"
كما أشرنا في الفقرات السابقة، فوز العدالة والتنمية بالانتخابات التي جرت في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر بربع مقاعد البرلمان المغربي وتعيين أمينه العام رئيسا للوزراء، الاسم الجديد للوزير الاول، ليس في حد ذاته إنجازا كما يحاول الكثيرون تسويقه لان عوامل كثيرة، لاترتبط بإيديولوجية الحزب ومبادئه، توافرت ومكنته من تحقيق نتيجة لم يسبق أن حققها أي حزب سياسي في تاريخ المغرب. فالمغرب أمامه تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة يجب ألا تضيع في خضم الاحتفال ب"نجاح العرس الديمقراطي" كما ألفنا تسميته من طرف الاعلام الرسمي. فالنقاش يجب أن ينصب على مدى توفر الظروف السياسية الذاتية والموضوعية التي ستساعد "هذا القادم الجديد" على الحكم وممارسة السلطة في جو يسمح له بتطبيق "برنامجه السياسي" الذي تقدم على أساسه إلى الانتخابات تحت عنوان " بناء مغرب جديد... مغرب الحرية والكرامة والتنمية والعدالة"، فالمغرب الجديد يجب أن يكون مغربا ديمقراطيا، شفافا، تتوفر فيه العدالة القانونية والاجتماعية وتحترم فيه كرامة المواطنين، على الأقل إذا جاز لنا إعادة قراءة هذا الشعار الانتخابي للحزب.
فتشخيص الحزب، حسب برنامجه الانتخابي توصل إلى أنه رغم ما توفر للحكومة من إمكانيات استثنائية فقد أخفقت في تحقيق التنمية الموعودة وفرطت في التوازنات الاقتصادية التي كلفت الشعب المغربي تضحيات كبيرة. هذا الإخفاق هو نتيجة طبيعية الاختلالات الحادة في مقاربة تدبير الشأن العام والقائمة على التحكم والريع والفساد" ثم يضيف أن معالجته لهذه الإخفاقات ستستند على "الحكامة الجيدة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والخارجية، والقائمة على الديمقراطية الحقيقية والمسؤولية والمنافسة الشريفة والشفافية والنزاهة المنطلقة من قراءة متجددة لمرجعيتنا الإسلامية وهويتنا المغربية متعددة المكونات من أجل استثمار أمثل للإمكانيات والفرص"، تشخيص مهم للواقع الاقتصادي والاجتماعي ولكنه لا يرقى إلى درجة الحديث عن الذين تسببوا في هذه الكوارث التي تحدث عنها في تشخيصه كما أن طبيعة العلاج الذي يعد به الحزب ليس بالضرورة ناجعا لأن كل الحكومات التي مرت كانت تقول نفس الكلام. الجديد، إذن، في هذا البرنامج الانتخابي هو التأكيد على البعد الإسلامي لمرجعية الحزب السياسية وهذا في نفسه ليس ما يهم المغاربة.
لكن كيف للعدالة والتنمية الحكم مع خليط هجين من الأحزاب لا تربطه أي رابطة إيديولوجية أو "قرابة سياسية" إن صح القول؟
الجواب عن هذا السؤال جاء من رئيس الحكومة المعين في أحد اللقاءات التلفزيونية عندما أكد أنهم يفضلون التحالف مع أحزاب الكتلة الديمقراطية وهم أحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية. هذه "الكتلة الوطنية" تأسست من قبل حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي لاحقا) سنة 1970 كإشارة قوية للملك الراحل الحسن الثاني للتعبير عن سخطهم على الإجراءات التي اتخذها لإنهاء حالة الاستثناء وكتابة دستور جديد منحه سلطات واسعة وللتنديد بأنه " رغم مرور أزيد من أربع عشرة سنة على استقلال المغرب ليست هناك ديمقراطية بسبب سيادة ذوي الامتيازات والاقطاعييين". فاختارت اسم الكتلة لما له من دلالة تاريخية على اعتبار أن "كتلة العمل الوطني" ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي في الثلاثينات، مما قد يوحي بأن هذه الأحزاب كانت تعتبر نفسها في حالة حرب سياسية مع شكل جديد من أشكال الطغيان السياسي حسب تحليل جون دامس.
هذه الأحزاب المعروفة بتاريخها السياسي العريق ومشاركة مؤسسيها في حركة التحرر الوطنية تلتقي مع العدالة والتنمية في انبثاقها كلها من رحم حزب الاستقلال الذي تعرض لانشقاقات كثيرة أدت في الأخير إلى وجود كل هذه الأحزاب في الساحة السياسية المغربية. فحزب الاستقلال يتميز بكونه حزبا محافظا سياسيا وعروبيا ثقافيا الشيء الذي يشكل قاسما مشتركا كبيرا بينه وحزب العدالة والتنمية. أما حزب التقدم والاشتراكية الشيوعي سابقا فيبقى هاجسه الأساسي هو الحفاظ على نفسه سياسيا ولن يتأتى له ذلك إلا بدخول الحكومة رغم التناقض الصارخ بين من كان يؤمن بالشيوعية ومن يريد أن يحكم باسم الدين غير أن أمين عام الحزب لم تعوزه التبريرات لتحليل (من الحلال) مبدأ المشاركة في الحكومة الملتحية على أساس الإيمان "الراسخ بأن الحزب كلما وجد نفسه أمام الاختيار بين مصلحته كحزب وبين مصلحة الوطن ككل إلا واختار، دائما وأبدا، الوطن". فمصلحة الوطن يمكن أن تبرر تشكيل تحالف هجين لا يربط بين أعضائه إلا الرغبة في الوصول إلى السلطة مهما كلفت من ثمن وإن كان التفريط في هوية الحزب. فبقاء الأحزاب التي تسرب إليها الأعيان في الحياة السياسية المغربية رهين بمشاركتها في الحكومة وإلا فإن الترحال السياسي يبدأ مباشرة بعد تشكيل الحكومة للالتحاق بالأحزاب التي استطاعت أن تضمن لنفسها تواجدا فيها وهذا في حد ذاته يعكس المأزق السياسي الذي تعيشه الأحزاب السياسية نظرا لعدم استطاعتها تجديد نخبها وتأطير المواطنين لتشكيل قاعدة صلبة من المناضلين والمناضلات باستثناء أحزاب اليسار الصغيرة التي تمتلك ذراعا حقوقية ونقابية قوية.
فحضور حزب أو أحزاب إدارية في حكومة بن كيران واعتماده على أصوات نوابها يمكن أن يسبب لها الكثير من المتاعب—في برلمان لم يسمح نمط الاقتراع المعتمد لانتخابه ببروز قطب سياسي ذو أغلبية مطلقة تمكنه من فرض رؤيته لطريقة الحكم—والأعيان يشكلون ما كان الماريشال ليوطي يسميه "القادة الطبيعيون" (Natural Leaders) والذين يلعبون دورا جوهريا في الحفاظ على التوازنات السياسية في البلد، الأمر الذي شكل أطروحة كتاب ريمي لوفو" الفلاح المغربي: حامي العرش". ف"هوبير ليوطي" كتب "أن الزعماء الطبيعون يقودون والآخرون يطيعون" ومن هنا،حسب تحليل الاستاذ بيير فيرميرن، تم خلق مجموعة من المؤسسات لتأهيل أبناء الأعيان و النتيجة بطبيعة الحال هي تكوين نخبة سياسية مازالت الكثير من رواسبها مستمرة في المشهد السياسي المغربي بعد خمسين سنة من الاستقلال.
ختاما نقول إن حزب العدالة والتنمية يستطيع القيام بحملات للتوعية ضد الرشوة والدعوة إلى تخليق الحياة العامة كما أنه يستطيع اتخاذ بعض الإجراءات الرمزية لتوظيف حملة الشواهد غير أن التحدي الأكبر الذي سيواجهه هو الإصلاح المؤسساتي الضروري لنقل المغرب من الحقبة المخزنية إلى الحقبة الديمقراطية. لذلك لا نعتقد أن الحزب يستطيع المقامرة بمستقبله السياسي(وعلاقته النموذجية مع المخزن) لتغيير الواقع السياسي للمواطنين المغاربة الذين يعقدون عليه آمالا كبرى.إذا كانت هناك حسنة يمكن أن تحسب للتحالف الذي سيشكله الحزب، خاصة إذا تم الاشتغال على تعميقه في المستقبل، هو إمكانية بروز قطب يميني محافظ في مقابل قطب ليبرالي يساري بزعامة الاتحاد الاشتراكي الذي قرر مجلسه الوطني عدم المشاركة في أول "حكومة ملتحية" برئاسة العدالة والتنمية.
يبقى فقط أن نرى طبيعة المعارضة السياسية في البلد خاصة أنها ستتشكل من أحزاب إدارية في معظمها، باستثناء الاتحاد الاشتراكي، وهذا في حد ذاته تحد يواجه بلدا مازال يبحث لنفسه عن هوية سياسية تسمح له بأخذ طريق الديمقراطية الحقة بغض النظر عن تشخيص العدالة والتنمية أن المشاكل التي تعرفها المملكة مرتبطة أساسا بخمس قطاعات هي القضاء والتعليم والبطالة والسكن والصحة". مما قد يعني أن "الحكومة الملتحية" حكومة اجتماعية أكثر منها سياسية.
[" الحكومة الملتحية" عنوان كتاب للدكتور عبد العلوي المدغري]