تساؤلات لا بد منها: الجزء الثالث

[ ????? ???? ????? /AP] [ ????? ???? ????? /AP]

تساؤلات لا بد منها: الجزء الثالث

By : Raja Khalidi رجا الخالدي

تساؤلات لا بد منها : الجزء الثالث والأخير.

اذا كان الابتعاد عن الاتحاد الجمركي منطقياً، هل توجد بدائل فعلية له؟

هنالك عدة أسباب تجعلني غير واثق من توفر الاستعداد أو المقدرة السياسية لدى السلطة الوطنية الفلسطينية للتعامل اليوم مع بروتوكول باريس حسب ما تقتضي المصلحة التنموية الفلسطينية الاستراتيجية، وهي ذات الأسباب التي ستدفع أصحاب القرار الاقتصادي الفلسطيني على الأرجح للعمل على تعبئة الجهود لإجراء إصلاحات اقتصادية وتجارية داخل اطار باريس، وليس خارجه. وفي نفس السياق، يجب ألا نستغرب اذا ولدت مثل هذه الجهود "الترميمية" للبروتوكول بعيدا عن المس ب"أم الاتفاقيات" أوسلو، حشداً بل تزاحماً بين اطراف عديدة قد تجد مصلحتها في إدامة الإطار الاقتصادي الحاكم، أو لديها قناعة اقتصادية بضرورة وحتمية الحفاظ على الاتحاد الجمركي مع إسرائيل. وعلى ضوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والمخاطر المحدقة باطار أوسلو ومؤسساته، فانه من المؤكد ان ورش العمل ودراسات الخبراء والمعاهد والمانحين والمشاورات بين المسؤولين الاقتصاديين سوف تنطلق مجددا، في سعي لبعث الحياة، بل الأيمان، في اطار بروتوكول باريس وإطلاق "عملية إصلاح" له، قد تمهد لمرحلة "انتقالية" جديدة، شبيها بتلك السنوات ال3 التي مضت من "جهود بناء الدولة".

وبالرغم من المطالبة الشعبية المناهضة لآثار بروتوكول باريس، وللإجماع العلمي الواسع بان الاتحاد الجمركي لا يشكل افضل الصيغ للعلاقة التجارية الحالية والمستقبلية، بل هو الأسواء في جميع الأحوال، فان الإمعان في الترويج لإمكانية "تطوير" باريس أو تنفيذه بأمانة ("كما هو منصوص عليه") وليس حسب المزاج الأمني أو الاقتصادي الإسرائيلي، لا يبشر على بجاهزية السلطة الفلسطينية للبحث جديا بأية بدائل عما هو قائم و"موقع عليه"، ليس اليوم ولا غدا، وحتى ولو أحضرت لها مائة رأي ومبرر اقتصادي مغاير.

 ومع ان م.ت.ف. طالبت إسرائيل في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 باستبدال الاتحاد جمركي ب"منطقة تجارة حرة"، وأيدها في ذلك خبراء البنك الدولي الذين اكدوا في دراسة نشرت عام 2002 "ان البروتوكول بعباراته الغامضة، يشكل عقداً غير مكتمل وغير قابل للتطبيق، تم تنفيذه لصالح إسرائيل". لكن هذا لم يعد اليوم هو الموقف الفلسطيني الرسمي، حيث أكد رئيس الوزراء سلام فياض للمفوض التجاري الأميركي في 2010، انه يفضل شخصيا الانتقال نحو نظام تجاري اكثر متحرر من ذلك المتضمن في باريس ودون منح أفضليات تجارية لأي طرف، لكنه ليس "متحمسا لتغيير ما هو قائم"، وبإمكانه "التعايش مع البروتوكول". ومع انه لا يتم تنفيذه كما يجب، فان من الممكن حسب رأيه إجراء تحسينات لبعض جوانبه حيث انه إطار "أفضل بكثير مما يدعيه البعض".

ويبرز هنا التخوف من الدخول في منطق التفاؤل المطلق لشخصية فولتير الشهيرة، ذلك الفيلسوف "بانغلوس" الذي كان يصر على انه "في عالمنا هذا، وهو الأفضل بين كل العوالم، فان كل شيء على افضل حال". وقد يستسلم لهذا المنطق كل من صانع القرار الاقتصادي الذي لا يرى الاقتصاد سوى من منظار باريس وأوسلو، والجمهور الفلسطيني الأوسع الذي يراوده في آن واحد التذمر من الوضع المعيشي والقلق تجاه أي تغيير في الوضع القائم. لكن اذا اصبح "إنقاذ باريس" هو العنوان الفعلي للفترة القادمة، رافضا بذلك التعلم من دروس العقدين الماضيين وتفادياً المواجهة مع تحديات اليوم وغدا الاساسية، سينطوي مثل هذا التوجه على تجاهل بقية حكاية "بانغلوس"، الذي واجهه تلميذه "كانديد" بالإجابة "اذا كان عالمنا الأفضل بين كل العوالم، فكيف هي فعلا تلك العوالم؟" وهذا هو محور ما سأجيب عليه في هذا المقال لدى دراسة البدائل الممكنة "لعالم" باريس الاقتصادي.

***

من المتعارف عليه في علم الاقتصاد وفي التجارب التنموية المختلفة من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، هنالك اربع نماذج للعلاقات التجارية بين الدول يتم الانتقال من واحدة للثانية في مراحل متعاقبة من الاندماج الاقتصادي المتزايد.

المعاملة التجارية غير التمييزية: أو ما يعرف أيضا بمعاملة الدولة الأكثر رعاية، وهي صيغة العلاقة التجارية القائمة فعلاً بين معظم دول العالم، في أولى مراحل علاقاتها التجارية المتبادلة، واعتماد هذه المعاملة هو الشرط الأساسي لقبول انضمام أية دولة أو منطقة جمركية منفصلة لمنظمة التجارة العالمية؛    

منطقة التجارة الحرة: لتحقيق المزيد من الفوائد المحتملة من الاندماج التجاري والاقتصادي، يمكن تحرير جميع التدفقات التجارية السلعية والخدمية بين دولتين (مجاورتين عادة) أو اكثر وإعفائها من التعريفة الجمركية والرسوم، مع حق كل طرف بالاحتفاظ بترتيبات تجارية وجمركية مختلفة مع دول أخرى. ومن الأمثلة الناجحة نسبيا لهذه الصيغة "منطقة التجارة الحرة لشمال أمريكا – نافتا" بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك؛

الاتحاد الجمركي: وهو نموذج اكثر متقدم للاندماج، ينطوي ليس على تحرير كامل للتجارة بين مجموعة من الدول المشاركة فحسب، بل على اعتماد تعرفة جمركية موحدة تجاه كافة الدول الأخرى، و"الاتحاد الأوروبي" اصبح المثال الأكثر تقدما لمثل هذه الصيغة، بالإضافة "للاتحاد الجمركي لجنوب افريقيا" كمثال لاتحاد جمركي بين اقتصاد كبير ومتقدم وأخرى اقل نمواً.

الاتحاد الاقتصادي: و في ارقى شكل من الاندماج الاقتصادي فان مثل هذا الاتحاد - الجمركي والنقدي والضرائبي - بين اقتصاديات مماثلة أو متقاربة، يكون بمثابة تسليم سيادة الدول الاقتصادية إلى هيئة جماعية عليا تراعي مصالح جميع الأعضاء ضمن نفس المعايير السياسية الاقتصادية الكلية. و"منطقة اليورو" (المتأزمة اليوم) هي مثال على محاولة لم تنجح حتى الآن في إكمال جميع عناصر الوحدة الاقتصادية اللازمة للحفاظ على الاتحاد الاقتصادي، وخاصة الضريبية والمالية، مما يهدد بتفكيك الاتحاد النقدي اذا لم تنجح الدول الأعضاء بإنجاز المزيد من التوحيد لسياساتهم المختلفة، بما يراعي مصالح جميع أعضائها الكبار والصغار. 

وإذا كان بروتوكول باريس يوصف عادة بانه "شبه اتحاد جمركي" (غير مكتمل بسبب تصميمه المنحاز للمصالح الاحتلالية وتضمنه استثناءات مختلفة)، فان العلاقة الاقتصادية الفلسطينية الفعلية مع إسرائيل أشبه ب"اتحاد اقتصادي" (غير مكتمل أيضا). وعلى ارض الواقع ليس هناك بين البحر والنهر سوى نظام اقتصادي واحد، أي النظام التجاري والضرائبي والنقدي والكلي الإسرائيلي. وضمن هذا الواقع القانوني والظرف الميداني الراهن، فان بروتوكول باريس لا يعتبر عقداً بين طرفين بقدر ما هو وثيقة ترشيدية إسرائيلية لبعض الاستثناءات عن أنظمة الاتحاد الاقتصادي التجارية والضريبية، والمسموح اعتمادها لدى سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية إذا رغبت بذلك. والجدير بالملاحظة أيضا أن قرار المم المتحدة 181 لتقسيم فلسطين عام 1947 نص في ملحقه الأول على إقامة اتحاد اقتصادي بين الدولتين اليهودية والعربية. ومع انه لم يتم تنفيذ بنود القرار الرئيسية في إقامة دولتين، إلا انه نُفذ ملحقه الاقتصادي على نحو مشوه، بعيدا عن هدفه الأصلي بتحقيق التقارب والاندماج الاقتصادي، حيث لم يولد هذا "الاتحاد" سوى التباعد والانفصال في مسارات النمو العربية واليهودية، وذلك هو النتاج الحقيقي ل 6 عقود من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

***

هكذا يبدو (لي على الأقل) مشروعاً التساؤل لماذا يتجه الرأي السياسي و"العلمي" اليوم نحو إعادة اختراع أو إحياء نموذجاً للعلاقة التجارية مع القوة القائمة بالاحتلال لم يكن يوماً هو الخيار الاقتصادي الفلسطيني أو الإطار المناسب لتقوية اقتصاد تحت الاحتلال؟ بينما هنالك نماذج بديلة بإمكانها إتاحة فرص أكثر جدوى للعلاقة التجارية ليس مع إسرائيل فحسب، بل مع سائر الشركاء التجارية. وهنا ايضاً نلاحظ تكرار نفس الخطاء المنهجي في عملية صياغة السياسة الاقتصادية الفلسطينية الذي تكرس في الماضي، حيث كان السؤال المطروح يتمحور دائما حول ما هي أفضل الصيغ للعلاقة التجارية مع إسرائيل، بينما السؤال الجوهري الوحيد (والمغفل دائما) يجب ان يكون شكل النظام الاقتصادي والتجاري المطلوب لفلسطين مع العالم اجمع، وبالتالي ما هي انسب صيغة للعلاقة مع إسرائيل؟ 

وبينما قد يبقى الخيار الوحيد المسموح اليوم ضمن أوسلو هو الإبقاء على الاتحاد الجمركي المعلن (رغم تشوهه عدم تكافئه)، فانه حان الوقت للاعتراف علنا بان كيانيه الاقتصاد الفلسطيني أصبحت أسيرة لاتحاد اقتصادي اضطراري يملي شروطه محافظ بنك إسرائيل المركزي ووزران المالية والتجارة والدفاع الإسرائيلية، و تنحصر دور السلطة الفلسطينية في إدارة مناطق نفوذها المحدودة دون أية كلمة لها في رسم السياسات المالية والنقدية والتجارية الكلية التي تحد بشكل مطلق من قدرة "صانع القرار" الفلسطيني من صنع أي قرار فعلي.

على ضوء هذا كله، فان الخيارات ليست بالضرورة محدودة لدرجة جعل خيار البقاء على الاتحاد الجمركي هو الوحيد أو "أفضل العوالم" وطالما تفكر السلطة بفتح الملف الاقتصادي مع إسرائيل، يمكن وضع عدة خيارات أخرى على الطاولة والتي خضعت جميعها إلى الدراسة المقارنة من قبل جهات عديدة منذ سنوات: 

خيار الانفصال التجاري والنقدي الشامل عن إسرائيل من خلال اعتماد المعاملة التجارية غير التمييزية والعمل على بلورة المفهوم القانوني والمؤسسي لمنطقة جمركية منفصلة والتعريفة الفلسطينية التنموية والتواجد/السيطرة على الحدود التجارية الدولية؛

خيار تحويل الاتحاد الجمركي إلى منطقة تجارة حرة بين المناطق الفلسطينية وإسرائيل، تشمل ربما 30% من الواردات الفلسطينية السلعية الحالية، ونسبة أعلى من الصادرات السلعية والخدمية (خاصة في حال تضمن ذلك صادرات الأيدي العاملة الفلسطينية)، مع إمكانية تطوير التجارة مع الدول الأخرى بعيدا عن النظام الجمركي الإسرائيلي وحسب المقتضيات التنموية الإستراتيجية؛

وأخيرا وليس آخرا، هناك خيار تحسين شروط الاتحاد الاقتصادي الفعلي المهيمن (وغير المعلن)، حيث يمكن للسلطة الفلسطينية ولمبررات اقتصادية، ان لم تكن أيضا سياسية، دراسة خيار تحميل السلطة القائمة بالاحتلال بالامتثال لواجباتها القانونية في رعاية مصالح الشعب الفلسطيني في جميع قراراتها وسياساتها النقدية والتجارية والضريبية، خاصة وان عبء تنفيذها تقع على عاتق السلطة الفلسطينية وآثارها الاجتماعية البعيدة تؤثر مباشرة على معيشة ما يزيد عن 4 مليون فلسطيني.

هكذا، عندما نتوقف لحظة للتفكير قليلاً قبل التسليم لمنطق "بانغلوس" الراضي على ما هو قائم كونه افضل من أي بديل آخر، نرى ان العوالم الاقتصادية الأخرى ليست بالضرورة سيئة "كما يدعيه البعض"، بل ربما هي فعلا افضل من العالم الوحيد الذي عرفناه منذ 20، بل منذ 60 سنة.

[لقراءة الجزء الثاني يمكنكم الضغط هنا ولقراءة الجزء الأول يمكنكم الضغط هنا]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      For six weeks now, Israel has unleashed its full military power in a prolonged retaliation for the October 7 surprise attack by Hamas-led Palestinian armed brigades targeting Israeli towns and settlements surrounding the Gaza Strip, which killed some 1200 Israeli civilians and military personnel. Palestinians view this a natural outcome of years of economic and social deprivation in Gaza and denial of Palestinian rights everywhere, and as legitimate resistance against occupation. While generally not condoning the deliberate killing of non-combatants, many Palestinians look at October 7 in terms of proportionality with what has happened since. For Israel and its allies around the globe, this brazen and bloody assault entailed an intelligence and policy failure that has been termed Israel’s Pearl Harbour, its 9/11. Meanwhile, Israel and the US have cast Hamas as a Nazi-ISIS entity that must be eliminated for the benefit of Western civilization itself.

    • The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      Hyperbole aside, events of the past weeks here in Palestine have if nothing else pointed to a major re-imagining of the prospects for Palestinian political unity and vision, effective resistance to Israel and a fresh narrative of the meaning of liberation to a younger generation of Palestinians, one that resonates among their compatriots and their supporters worldwide. Once the dust from this latest battle has settled, the Palestinian political system will need to draw the latest lessons to gear up for future phases of coordinated confrontation. In particular Palestinian politics going forward can only benefit from the potential for mass mobilization and coherent, coordinated action that has been shown to be within the realm of the possible. The fact that the latest struggle has brought 1948 in all its political, social and geographic dimensions back into the center of attention, suggests a moment where Palestine as a whole is at stake, not only Gaza or Jerusalem or Ramallah but also Jaffa and Haifa and the shatat.

    • كيف يمكن للقدس الصمود؟

      كيف يمكن للقدس الصمود؟
      منذ سنوات، دأب أحد الأقارب من أبناء القدس الأصيلين يحذّرني من أنّ المخططات الإسرائيلية للاستيلاء على الحرم الشريف جاهزة بل قيد التنفيذ، وسيتم تحويل ساحاته إلى "حديقة وطنية" ترتبط بالمس

Firing Ibrahim Eissa From Al-Dostour Exposes The Reality Of The Wafd's New President

وأخيرا خلع السيد البدوي برقع الحياء بفصله إبراهيم عيسى وطاقمه من الدستور

 

وحدث ما كنا نتخوف منه ونتوجس حدوثه. فقد أقال بالفعل مجلس إدارة صحيفة الدستور إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير الجريدة أمس، ووقع القرار كلامن رئيس مجلس إدارة الجريدة د. السيد البدوي (رجل الأعمال المعروف ورئيس حزب الوفد الذي يتم تلميعه منذ شهور) والرئيس التنفيذي لمجلس الإدارة رضا إدوارد (وهو وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد أيضا). وواجه صحفيو الدستور ذلك القرار على الفور باعتصام مفتوح بمقر الجريدة (بعد ساعات من صدور القرار)، وهو ما يعني دخول الجريدة في أزمة طاحنة لمدة لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها. ثم تلى ذلك فصل كل أعضاء سكرتارية التحرير: شادي عيسي ومحمد فوزي، مساعدا رئيس التحرير، وعبدالمنعم محمود سكرتير عام التحرير. وهذا يعني أن ما تعرضت له الجريدة لا يقل عن مجزرة واسعة لاستئصال مراكز ثقل سياسة التحرير القديمة.

لا أظن أن هذا القرار فاجأ أحد، فمنذ أن أشترى السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، ومعه مجموعة من رجال الأعمال الوفديين الجريدة من مالكها السابق ونحن نتوجس إزاحة إبراهيم عيسى عن الساحة ليهدئوا بذلك من وتيرة معارضة النظام ومحاربة التوريث التي كانت تنتهجها الدستور تحت قيادته. لكن ما فاجأني أنا شخصيا هو تنفيذهم لمخططهم بهذه السرعة، فكنت أتوقع أن يكونوا أكثر حصافة من ذلك. لكن يبدو أن السيد البدوي لا يبالي بأية حصافة فقرر خلع برقع الحياء بكل بساطة وبسرعة البرق. لماذا لم ينتظر بضعة أشهر قبل أن ينفذ مخططه، وهو ما كان سيكفل له الوقت اللازم للتغطية على أغراضه الحقيقية؟ هل وصلت له تعليمات أمنية بضرورة الاسراع في تنفيذ المخطط؟ هل يريد أن يغلق فم الدستور قبل الانتخابات التي ستشهد تزويرا واسعا للوفد؟ أم أن تحالفاته الجديدة لا تتحمل الحصافة أصلا (فمن المعروف عن رجال الأعمال أنهم يرهقون أنفسهم في تحقيق شيء غير ممكن)؟ 

للأسف ما قيل على صفحات الانترنت من أن سبب فصل إبراهيم عيسى هو اعتراض البدوي علي نشر مقال ما أو وجود خلافات بينه وبين إبراهيم عيسى بشأن المرتبات هو تفسير غير مقنع على الاطلاق، وضار جدا أيضا. فلا يمكن إقالة شخص بوزن إبراهيم عيسى من صحيفة كصحيفة الدستور (تدور كلها حول شخص إبراهيم عيسى) بهذه السهولة على خلفية خلافات عادية كهذه. وعلى الرغم من سخافة هذه تفسيرات نراها للأسف تقنع الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة. الثابت هنا هو أن البدوي يبيت النية لهذا القرار منذ اللحظة الأولى...تشير كل الدلائل إلى أنه أخذ قرار إسكات إبراهيم عيسى مع سبق الإصرار والترصد، وكلنا كنا نتوقع أن يفعل ذلك. بل كان ذلك هو السبب الرئيسي والوحيد لشرائه الجريدة. لنترفع إذن عن التحليلات السخيفة التي لا تفعل أي شيء سوى تبرير القرار بالبحث عن أسباب <<معقوله>> و<<محترمة>> له، ولنبدأ جميعا من الاعتراف بأن البدوي فصل إبراهيم عيسى وطاقمه للتقليل من حدة الجريدة في معارضة النظام...كجزء من مخطط متعدد الخطط والأطراف يهدف لتهدئة الاحتقان في البلد وتسهيل عملية انتقال السلطة بشكل عام (برلمان، رئاسة، إلخ).

الهدف الرئيسي من وراء شراء رجال الوفد الصحيفة هو إغلاق أحد أهم أبواق المعارضة المستقلة في الدعاية ضد النظام وتوريث الحكم، ولهذا السبب يجري تلميع حزب الوفد وقياداته منذ فترة الآن. وذلك إنما يكشف أن السيد البدوي وحزبه لا يختلفان عن جمال مبارك وحزبه.

لكن يبقى السؤال: ماذا ستفعل المعارضة المستقلة تجاه ذلك؟ هل ستسكت على ما يفعله البدوي وحزبه بعد أن أثبتوا أنهم جزء لا يتجزأ من حملة تجفيف أقلام المعارضة المستقلة؟ هل ستظل تتعامل مع حزب الوفد على أنه من المعارضة، وتتعامل مع رئيسه على أنه معارض لامع؟ وهل ستستطيع المعارضة المستقلة فتح مساحات إعلامية وتثقيفية مستقلة في المستقبل؟ أين ستنشر أخبارها وآرائها؟

في كل الأحوال يشير قرار فصل إبراهيم عيسى بهذا الشكل الفج أننا على أعتاب فترة حرجة جدا ستضيق فيها المساحات المفتوحة أمام المعارضة المستقلة (وهي قليلة بالفعل) بشكل خانق وغير مسبوق، وأن التنكيل بالمعارضة المستقلة سيأتي من النظام وبعض مؤسسات المعارضة على حد سواء. إذا نجحوا في ذلك لا سمح الله ستختلف ساحة صنع الرأي العام في البلد بشكل مخيف. إقالة إبراهيم عيسى حدث مخيف ومؤسف جدا، وفيه تهديد مباشر لنا كلنا، ويجب أن نتعامل معه على انه كذلك. ولن يكون الأخير بكل تأكيد، بل هو بداية حملة للتقليل من المساحات القليلة المفتوحة أمام المعارضة، وملاحقة كتابها، صحفي صحفي. وتشمل هذه الحملة توسعة مساحة المعارضة المنضبطة، ولذلك تنوي الحكومة السماح لثلاث صحف جديدة بنشر إصدارا يوميا، وهم: <<الكرنك>>، جريدة هشام قاسم الجديدة (كان قاسم من أهم مؤسسي المصري اليوم)، و<<اليوم السابع>> ولها موقع إنترنت معروف وتنشر جريدة اسبوعية بالفعل، و<<الفجر>> جريدة عادل حمودة الأسبوعية. وهذا يعني أن المرحلة القادمة ستشهد مضاعفة مساحة الصحافة <<المستقلة>> اسما والتضييق على الصحافة المستقلة فعلا.

لا أعلم إلى أين سينتهي إضراب الدستور، وما إذا كان سيفشل أم ينجح في الوصول إلى حل وسط ما. لكن حتى لو نجح في الوصول إلى حل وسط ستظل الخسارة كبيرة لأن هذا سيعني ان طاقم الجريدة سيعمل تحت التهديد المستمر. كما لا أفهم سر شماتة البعض في إبراهيم عيسى والدستور بسبب اختلافهم معه، فعدم تقدير فداحة هذا الحدث هو قمة الغباء السياسي. وأقول لهؤلاء: أنتم اللاحقون أيها البلهاء.