هل ثار الصعيد؟ محاولة للفهم ودعوة لاستكمال النقاش

 [ ??????: ??? ?????, ?????? ?????? ??????? ??? 3????2011] [ ??????: ??? ?????, ?????? ?????? ??????? ??? 3????2011]

هل ثار الصعيد؟ محاولة للفهم ودعوة لاستكمال النقاش

By : Sakr Al-nour صقر النور

 

أود هنا التعليق على مقالة صدرت في جدلية للسيد/أحمد أبوزيد لماذا لم يثر الصعيد؟ محاولة أولية للفهم ودعوة للنقاش والتي يفند فيها أسباب عدم ثورة الصعيد ويعيدها إلى عوامل متعددة ثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية.  تتكون المقالة الحالية من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يتناول فهم الثورة المصرية (ماهيتها وحدودها المكانية والزمنية)، الجزء الثاني يناقش مجموعة من الأفكار والإجابات التي يقدمها الكاتب عن أسباب عدم مشاركة الصعيد في الثورة، أما الجزء الثالث فيورد بعض الأمثلة عبر مجموعة من الملاحظات واليوميات التي كتبتها أثناء زيارات ميدانية أختصرها هنا لتناسب غرض النقاش.

  ما الثورة المصرية ؟

القواعد المبدأية التي يرسيها الكاتب قبل شروعه في التحليل بشكل مباشر هي، أولاً أن الصعيد لم يثر، وثانياً أن الثورة كانت حضرية. يقول: "أعتقد أن ثورة يناير كانت بالأساس ثورة المركز (ثورة القاهرة الثالثة)". يبدو لي أن إحدى المشكلات الأساسية في الورقة هي قصر الثورة أو الحالة الثورية على لحظة الـ 18 يوماً، وهي تعد لحظة إذا نظرنا إلى الثورة على مدى زماني واسع على امتداد الخط الفاصل بين يناير 1977 ثم أكتوبر 1997 وصولاً إلى أبريل 2006 وصولاً إلى يناير 2011 ثم يونيو 2013. كل هذه اللحظات التي تتفاوت في حجمها وعواملها المؤثرة تعتبر بالنسبة لي وبالنسبة لآخرين نقاطاً محورية في مسار طويل لا يجب أن يُفْصل عن سياقه. فإذا كانت لحظة يناير اتسمت بالوجه الحضري على الأقل من حيث الحيز المكاني فهذا لا يعني أن الثورة (والتي كما أشرت أكبر وأعمق من لحظة يناير) حضرية. وحتى خلال لحظة يناير يجب أن نميز بين الحضر كحيز مكاني احتضن حركة شعبية تتجاوز المسألة الحضرية أو كون الثورة حضرية في تركيبتها وبنيتها. شيء آخر يجب أن نحدد طبيعة توصيفنا لما حدث بعد التنحي مباشرة: هل هو امتداد للثورة أم ثورات أخرى؟ إن الفرضية المسيطرة على ذهنية العديد من الكتاب الحضريين (القاهريين تحديداً) بأن الـ 18 يوماً هي الثورة، بالإضافة إلى المفهوم الإجرائي عن ماهية الثورة وأشكال الفعل الثوري وخصائص الكائن الثوري التي تشكلت عبر تجربة الـ18 يوماً، تشكل عائقاً أمام قراءة وفهم الأحداث التي شهدتها مصر قبل 25 يناير 2011 وبعده. يشير جلبير أشقر في كتاب "الشعب يريد" أن الانتفاضات العربية، التي بدأت في 2011 ليست سوى أول الغيث بسبب استمرار الفقر واللامساواة وعدم الاستقرار. إنها سيرورة طويلة الأمد. يؤكد سمير أمين في كتابه "الثورة المصرية" على هذه الفكرة لكنه يربطها بالحراك على مستوى الجنوب والذي بدأ منذ حركات التحرر في خمسينيات القرن الماضي. إن توصيف أمين للحالة الحالية على أنها "لحظة ثورية" وقراءة أشقر على أنها سيرورة طويلة الأمد تفتحان المجال لقراءة أكثر تحرراً من قيد لحظة يناير. تحتاج القراءة إذن إلى انفتاح زماني لما قبل وما بعد لحظة ال 18 يوماً ليشتمل، على الأقل، الفترة الممتدة من 1997 إلى 2013 كما أنه يحتاج إلى انفتاح معرفي في توصيف ماهية الثورة وطبيعة الحراك الثوري يشتمل أشكال الاحتجاج الخاصة ب 18يوماً ولا يقتصر عليها. هذا الانفتاح يجعل التساؤل بدلاً من "لماذا لم يثر الصعيد؟" حول "هل ثار الصعيد أم لا ولماذا؟" ما الثورة؟ متى بدأت الثورة؟ ومتى انتهت؟ هي أسئلة محورية تسبق سؤال لماذا لم يشارك الصعيد في الثورة؟

السؤال هنا ليس سؤالاً حول المفهوم المعرفي أو المجرد للثورة ولكن عن ماهية هذا المفهوم في ذهنية "الثوريين المحترفين" (أستخدم هذا المفهوم وفقاً لتعريف حنا آرنت له في كتابها عن الثورة حيث تقول " الثوري المحترف هو ذلك العضو من الطبقات الميسورة المتمتعة بالرفاه والفراغ، الذي يقضي وقته في التفكير والتنظير والمساجلة حول موضوع واحد هو الثورة". ومن هذه الزاوية أناقش مفاهيم استخدمها الكاتب مثل مفهوم "ثورة القاهرة الثالثة". إن النظر للثورة على أنها ثورة قاهرية أو ثورة لحظية، أي منفصلة الجذور (فيما عدا جذورها في حركة كفاية) ليس وليد الصدفة ولكنه وليد عملية تشييد اجتماعي تهدف في النهاية إلى تحديد المسار الذي تسلكه الثورة، لذلك يمكن اعتبار استبعاد الصعيد من الثورة لم يكن لأنه لم يشارك بفعل معين قبل يناير أو بعده ولكنه لم يشارك بفعل معين داخل المكان والزمان الذي حددته العاصمة، ليس ذلك فقط ولكنه حين شارك استخدم أساليب لا تُرى من قبل المركز "الثوري" على أنها أساليب ثورية، وبالتالي تم تجاهل كل ما يحدث من حراك وفعاليات سلمية أو عنيفة واعتبرت غير موجودة. 

إجابات كاملة لأنصاف أسئلة

سوف أناقش هنا بعض التعميمات والإجابات التي تطلقها المقالة عن خصائص الصعيد عبر إعادة طرح الإشكالية واستكمال الأسئلة لتناول الصعيد وباقي الأقاليم حتي يتسنّى لنا فهم المسألة بشكل أشمل.

أولاً: عن العنف

لا أختلف مع الكاتب في إشارته إلى سيطرة الدولة على الصعيد عن طريق القمع ولكني أرى أن هذا الشكل لم يكن مقتصراً على الصعيد فقط ولكنه اشتمل على جميع أنحاء الجمهورية وإن اتخذ أشكالاً متنوعة. وبدون العودة إلى التاريخ البعيد نسبياً (العهد المملوكي) فإن التاريخ القريب المرتبط بنمو الجماعات الجهادية في مصر بشكل عام وفي الصعيد بشكل خاص كان له دور كبير في السيطرة على الصعيد عبر القمع المفرط ومهاجمة المنازل واحتجاز الزوجات والأولاد وحرق أو تدمير المحاصيل. حدث هذا بالصعيد والدلتا لكن مجموعة الجهاد الإسلامي تنظيم الصعيد كانت الأقوى لذلك كان العنف أكثر تركزاً بالصعيد. اختلاف عنف الدولة في الريف والأقاليم عنه في الحضر والمدن الكبرى يرجع إلى اختلافات اجتماعية. لقد حاولت الدولة في حالات الأقاليم إحداث حالة اجتماعية من الرعب وتدمير "الكائن الاجتماعي" عبر المداهمات والاستعراضات المسرحية. أما في المدينة فكان عنف الدولة يتركز على تدمير الكائن الفرد (مثلاً اغتصاب الذكور بأقسام الشرطة وكذلك التعذيب المفرط). لا أنكر احتمالية حدوث تعذيب أو اغتصاب للريفيين ولكني أتصور أن إعلان شيء كهذا وتأثيره الاجتماعي أدى إلى جعله مسألة سرية. السلطة تمارس العنف لا لكي يظل سرياً ومقتصراً على مقراتها ولكن لينتشر ليخلق منها أسطورة مرعبة. وإذا كان أهل الأقاليم لا يروون حكايات تعذيبهم فإن وظيفه التعذيب الاجتماعية تتلاشى وبالتالي تلجأ السلطة إلى العرض المسرحي عبر الاقتحام وخطف النساء وإحراق المزروعات لإنتاج الرعب في الأقاليم بطريقة مختلفة عن إنتاجه في المدينة. هذا قد يفسر جزئيا اختلاف استجابات الصعيد أو الأقاليم عموماً لحالة خالد سعيد.

ثانيا: عن تحديث المدن والتمدن "الزائف" للريف

وكان هناك تريف المدن وتمدن القرى (الكاذب): يبدو أن الباحث لم يستخدم نفس التدقيق في دراسته للتحديث أو التنوير الزائف الذي شاب أيضا تحول المدينة المصرية.

مسألة تريف المدينة وتمدن الريف مسألة معقدة جداً وتحتاج مجهوداً أكبر من الكاتب لإقناعنا بأن "تمدن القرية كان كاذباً" في حين أن تحديث العاصمة كان ناجزاً وفاعلاً. كما أن إسقاط تريف المدينة وأثر الريفيين أو أشباه الريفيين (تخوم المدينة) وعلاقتهم بالثورة تثير مزيداً من التساؤلات حول طبيعة الثورة المصرية ناهيك عن النقاش حول مشروع التحديث أو التنوير. لا أتصور نفسي مؤهلاً للحديث عن الحداثة ومشروع التنوير المصري لكني فقط أطلب من الكاتب أن يطبق ذات المعايير على العاصمة كالحديث مثلاً عن أن التكنولوجيا ليست دليلاً على التحديث، ولماذا الحداثة "كاذبة" في الإقليم و "صادقة" في العاصمة؟ أعتقد أن استعلاء حضرياً (رغم أصول الكاتب الصعيدية) يبرز في الكثير من العبارات التي يطلقها دون تفسير أو نقاش يجعلنا نقتنع بتلك الأفكار كما أن إضافة المرادف الإنجليزي بجوار تلك المصطلحات لا يعني في الحقيقة أي شيء.

لنعود إلى مسألة الترييف الغائبة من التحليل ونضع هنا ملاحظة مهمة مرتبط بالـ 18 يوماً وهي أن أكبر المسيرات خرجت من المناطق "الأكثر تريفاً" الجيزة وإمبابة وبولاق الدكرور وفيصل والهرم. هذه الملاحظة التي يتم تجاهلها عن قصد لإضفاء الطابع الحضري الحداثي على حشود قادمة في معظمها من مناطق تخوم حضرية وهامش القاهرة الكبرى دون أن يستدعي ذلك التساؤل حول طبيعة الحشود. ويبدو لي أن مراجعات عن الطابع الحداثي المرتبط بالطبقة الوسطى للثورة قد ظهر بعد  "الانتكاسة الثورية"  حيث تراجع عمرو حمزاوي عن نظرته لطبيعة الثورة المصرية "كثورة ديموقراطية معبرة عن الطبقة الوسطى الحية" إلى "ثورة الهامش الذي لم يستطع الصمود أمام أزمته الاقتصادية"، يقول حمزاوي: "رتب انكماش الطبقة الوسطى، اضطلاع الشرائح محدودة الدخل والفقراء بمسئولية المطالبة بالديمقراطية فى يناير ٢٠١١ إلا أنهم سرعان ما تنكروا لها على وقع تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار قدرتهم على تحمل ضغوط غياب الأمن والعمل والخدمات الأساسية"  (الشروق، الأحد 17 نوفمبر 2013). إن تمركز النظر والدراسات لمطلقي البيانات لا لمالئي الميادين هو بعد آخر من أبعاد قصور ماهية الثورة لدى قطاع مهم من الكتاب في هذا الشأن.

ثالثاً: عن قلق الأهالي

إن ما يقوله الكاتب عن موقف أسر أهل الصعيد تجاه نزول أبنائهم في المظاهرات ينطبق على القاهرة. دعوة الأمهات لأبنائهنّ بعدم المشاركة يمكن أن تقارنها بنفس الدعوات لأمهات الحضريين بعدم المشاركة والكذب المستمر على الأهالي (خاصة الأم) الذي سجلته آلاف وليس عشرات الشهادات التي أدلى بها المواطنون في الفضاءات الإلكترونية (مثلاً: الثوار لا يخافون الموت ولكنهم يخافون أمهاتهم) . لماذا تبدو دعوة الأم الحضرية لابنها أو ابنتها بعدم الخروج "حرصاً علي ولدها" في حين ينظر إلى دعوة الأم الريفية لولدها على أنه فعل محافظ. إن نفس الفعل يتم إضفاء صبغة ثقافية عليه لمجرد اختلاف فاعليه ليس أكثر.

رابعاً: عن الاقتصاد والتركيبة الطبقية

الحديث عن الشق الاقتصادي غاب عنه حقيقة أن شباب الصعيد مهاجرون سواء للمدن الكبرى أو المناطق السياحية أو دول الخارج، وهذا قد يطرح تساؤلاً حول من كانوا بميدان التحرير؟ بمعنى هل كان هؤلاء الريفيون وسط الجموع التي اشتركت في لحظة 25 يناير؟ هنا سوف أعطي مثالاً ميدانياً يشير إلى أن الكثير من العمال "الفواعلية" قد لجأوا للميدان كملاذ لهم بعد توقف أعمال البناء وتوقف القطارات (حكى لي شاب من أسيوط أنهم كانوا يقضون الليل علي تبة الرملة التي كانت بجوار الصينية) لا توجد أي تفاصيل حول دور هؤلاء في الأحداث لكن الشواهد تؤكد وجودهم.

كما أن صعوبة التحليل الطبقي بسبب تنوع سبل العيش لسكان الصعيد ليست مقتصرة فقط عليهم فذات الشيء ينطبق على الدلتا، وبشكل عام هناك نقاشات حول كيفية دراسة التراتبية الاجتماعية في الجنوب ليس من منطلق الخصوصية الثقافية ولكن من منطلق طبيعة البنى الاجتماعية وطريقة تطورها أو تشوهها عبر مشروعات التحديث والإدماج المتعثرة في النظام العالمي.

خامساً: عن الوعي

يقول الكاتب، "إن هناك أناساً لا يدركون أو لا يعرفون كيف يقرأون الفاتحة كيف تتوقع منهم أن يشاركوا في ثورة، التي تعني وسط ما تعنيه وصول الوعي الإنساني الفردي والجمعي لذروة توقده وحضوره، بصوره تدفعه لتغيير الأوضاع الجائرة المحيطة به". هل كانت الثورة المصرية (أو ال 18 يوماً) فعلياً ذروة توقد وحضور الوعي الجمعي والفردي؟ هل كان المتواجدون جميعاً في تلك الفترة وبكل الميادين قد وصلوا إلى هذه "الذروة"؟ كيف يفسر لنا الكاتب التقلبات المتتالية في المزاج العام بين المتعلمين والتأييد الجارف لقطاع كبير من الحضريين اليوم للمشير السيسي والعودة إلى الدكتاتورية؟ أين ذهب هذا الوعي الإنساني الفردي والجمعي؟ أخيراً ما العلاقة بين الوعي والأمية؟ هل الوعي بضرورة تغيير الأوضاع الجائرة يتطلب معرفة قراءة الفاتحة؟  

يوميات وملاحظات ميدانية

في هذا الجزء سوف أعرض لملاحظات ميدانية شخصية وأخرى قرأتها في تقارير مراكز حقوقية ودراسات بحثية بالإضافة لمتابعتي عن بعد لبعض نشاطات مجموعات ونشاطات بمدن وقرى الريف "حضرية وريفية" بصعيد مصر لإيضاح تنوع الحراك الاجتماعي السابق واللاحق والموازي للـ 18 يوماً.

هنا ميدان التحرير (03-03-2011): أولاً النظرة السطحية لما حدث خلال الـ 18 يوماً تشير إلى أنها حركة اجتماعية حضرية ولكن إذا قمنا بجولة داخل مخيمات المعتصمين سوف نلاحظ تواجد لمختلف الأقاليم المصرية من الدلتا والصعيد وحتى أسوان. في اليوم الذي نزلت فيه إلى الميدان سألني أحد التائهين هل تعرف أين هي خيمة أسوان؟ قلت له: وهل هناك خيمة لأسوان؟ قال: نعم وقد كنت معهم من يوم 28 حتى يوم التنحي وبعد ذلك رحلت للبلد (النوبة) وعدت اليوم. وأنا أستكمل جولتي وجدت خيمة مكتوب عليها "أسرة شهيد ديروط"، بعدها التقيت صديقي حاتم وكان يجلس بخيمة بها مجموعة من سوهاج والبحيرة.

من دهميت ( التهجير – نصر النوبة) إلى أسوان المدينة  7/3/2011: في مساء يوم وصولي إلى دهميت تحركت في القرية لأداء الواجبات الاجتماعية. السكون هو سيد الموقف، قلت لنفسي يبدو أن الثورة لم تمر من هنا. ولكن في قلب القرية أمام المنازل وجدت مجموعات تتحدث عن وثائق أمن الدولة. وفي المحال التجارية وحتى في الصيدلية أيضاً كانت المناقشات مستمرة. في هذه الأثناء كانت هناك ندوة شعرية بمركز الشباب للشعر النوبي كانت الدولة قد منعت القيام بنشاط مماثل قبل عامين نظراً لأنهم دعوا ناشطين سياسيين نوبيين. التقيت بالمنظمين والمشاركين عند مفترق طرق. عرفت أن المعلمين بالقرية أسسوا رابطة المعلمين بدهميت.  في اليوم التالي ذهبت إلى أسوان المدينة وعلمت أن هناك لجنة من "شباب بيحب أسوان" تدير عمليات النظافة والوعي وكذلك دعم اتخاذ القرار عبر حملات أهلية واجتماعات دورية مع الجهاز التنفيذي للمحافظة والمحافظ.

حول بحيرة ناصر (اعتصام البشاير) 8 مارس 2011: ابتداء من تاريخ 4 سبتمبر 2011 اعتصم 64 شاباً نوبياً يطالبون بأرض وسكن بقرية البشائر الواقعة علي ضفاف بحيرة ناصر. تتكون المجموعة من أكثر من 12 قرية نوبية من قرى التهجير بمركز ناصر، التي تبعد حوالي 250 كيلو متراً عن موقع الاعتصام بجوار البحيرة. بدا هذا الاعتصام للمطالبة بأرض زراعية ومنازل قبل الـ 18 يوماً واستمر بعدها. وقد زرت المعتصمين بشهر مارس 2011.  يبرر الشباب حراكهم وطلبهم لهذه المنازل بأن الاتفاقية التي أجراها العون الغذائي مع الحكومة المصرية تقوم على أساس توطين النوبيين والقبائل التي كانت متواجدة في هذه المناطق أو امتدادها الجغرافي. وقد عرضت هذه الاتفاقية في مؤتمر حق السكن بعام 2007 وأصبحت متاحة بالمواقع والمنتديات النوبية. 

احتلال أراضي بوادي النقرة- كوم امبو: في هذه الأثناء أيضاً احتل فلاحون من نصر النوبة وكوم امبو أراضي بوادي النقرة كان يمتلكها مستثمرون ومسؤولون قاهريون وقد حدثت صدامات مسلحة لكن للأسف لم أتمكن من تسجيل التفاصيل فالأخبار وصلتني وأنا بالقرية ولم ألتق أحداً من المشاركين في الحدث.

مدرسون ومعاونو هيئة تدريس منتفضون، جامعة جنوب الوادي (أسوان) مارس 2011: حضرت اجتماعاً عاصفاً بنادي أعضاء هيئة التدريس بأسوان على كورنيش النيل. تواجدت في حدود الساعة الثامنة ونصف وكانت القاعة ممتلئة بحوالى 120 عضو هيئة تدريس ومعاونيهم. من البداية يلاحظ أن هناك معسكراً محيطاً بالسيد النائب يجلس حوله في مقدمة الصفوف ويتكتل المعيدون والمدرسون المساعدون والمدرسون في نهاية القاعة. تحدثت إحدى المعيدات وقالت إنه كلما تحدث معيد يتم اسكاته وتحدثت عن التمييز ضدهم واستبعادهم من كل القرارات. وهنا اتخذ رئيس نادي هيئة تدريس قراراً بأن تتم المساواة بين المعيد والأستاذ ولهم جميعاً صوت في انتخابات النادي والترشح لمجلس إدارة الناي قائلاً "لا فرق بين المعيد والمدرس المساعد والأستاذ. كلنا واحد" ... طلب أحد المعيدين الكلام ليعلن بيان المعاونين والذي كان دقيقاً يحوي نقاطاً تتناول حق المعيد في الانتخاب وفى اختيار المشرف على رسالته. وفى نهاية بيان المعاونين تقرر إجراء انتخابات بعد إخطار ثلاث جهات: رئيس الجامعة، وزير التعليم والحاكم العسكري بأسوان. وأعطوا مهلة ثلاثة ايام لإتمام ذلك وإلا اضطروا إلى فرض واقع انتخابي. الجدير بالذكر أنه في داخل القاعة استجاب أحد عمداء الكليات وقرر إجراء انتخابات بكليته وفقاً للقواعد التى اقترحها الشباب. كان الاجتماع ناجحاً وقد فرض شباب الباحثين موقفهم بمساندة أساتذة رائعين وكان منظر معسكر النائب هزيلاً.... في الوقت الذي كان طلبة إعلام القاهرة معتصمين فيه لمحاولة تغيير عميد كليتهم استطاع أعضاء هيئة التدريس بهندسة أسوان أن يجبروا العميد على إجراء انتخابات حرة لاختيار عميد جديد قبل إقرار قانون من المجلس الأعلى للجامعات وكانت هذه أول واقعة انتخاب لعميد كلية في مصر بعد رحيل مبارك.

نزلة سالمان (أسيوط خط الغروب) مارس 2011: في حلقة نقاشية مع شباب من القرية قال لي أحدهم: "ما يحدث في القاهرة يهم أهل القاهرة. نحن مشغولون حالياً بالشأن الليبي". على مدى ثلاثين دقيقة حاول الشباب إقناعي بأنهم لا يعتبرون الثورة الدائرة بالقاهرة تعني لهم شيئاً، لكن فجأة بدأوا يتحدثون عن الرابطة التي أسسوها منذ أسبوع لمحاولة حل المشكلة القبلية والتعصب بالقرية، الشباب الذين التقيتهم من عائلات مختلفة ومستوى تعليمي واجتماعي مختلف. فهم ينتمون إلى قبائل مختلفة تخضع العلاقة بينهم لتراتبية طبقية يحاول الشباب تجاوزها، ولذلك قرروا اتخاذ قرارهم بتأسيس الرابطة، التي ليست الأولى بالمنطقة، فثمة قرى مجاورة قام شبابها وبعض كبارها بتأسيس ذات الروابط وتسجيلها والبدء بالاجتماعات. أود أن أشير أن نزلة سالمان شمال غرب أسيوط وهي قرية داخلية لا تقع بالقرب من الطريق الرئيسي.

عالم التكنولوجيا الصعيدية - مجموعة صعيدي جيكس: عن علاقة شباب الصعيد بالتكنولوجيا وكون التحديث زائفاً ودور التكنولوجيا هامشياً أعرض هذه المبادرة (صعيدي جيكس) وهي مبادرة شبابية مصرية لـرواد الأعمال و التقنيين بصعيد مصر تعمل في محافظات ( أسوان - الأقصر - قنا - سوهاج - أسيوط - المنيا - بني سويف - الفيوم - الوادي الجديد). تم إنشاؤها عام 2011 من مجموعة شباب الصعيد تهدف إلى تنظيم وتوزيع جهود الشباب المصري لإقامة مجتمع جديد لرواد الأعمال من التقنين يهدف إلى نهضة ورقي الصعيد. عقدت المجموعة ورش عمل وندوات في المجال التقني بمحافظات الصعيد منذ عام 2011، وقامت بالتشبيك بين المبرمجين في المحافظات المختلة للصعيد وتأهيلهم فنياً وتبادل الخبرات بينهم. (تجدر الإشارة إلى أن لصفحتهم على الفيس بوك أكثر من 70 ألف شخص مشارك، المعلومات من موقع المجموعة: http://ar.s3geeks.com/).

الصراع حول الأرض الزراعية: في أسوان وقنا والفيوم وبني سويف: يشير مركز الأرض في تقريره عن الحركات الاجتماعية بالتالي: " وفي مركز ناصر ببني سويف قام الفلاحون في 8 قرى بالتظاهر وقام آخرون باقتحام مبنى الجمعية الزراعية بقرية الشناوية وتحطيم الأثاث ومكتب مدير الجمعية بسبب التلاعب في حصص الأسمدة واكتشاف حالات كثيرة من المجاملات والمحسوبيات لأصحاب الحيازات الكبيرة على حساب صغار المزارعية". كما أن ياسمين معتز تشير إلى تجمهر "حوالى 100 فلاح من الفيوم أمام مجلس الوزراء اعتراضاً على قانون المالك والمستأجر". وفي كوم أمبو عام 2011 قام المزارعون بطرد المستثمرين الغرباء من أراضي بوادي النقرة وقامو بزراعتها، حدث ذلك أيضاً في الفيوم ولكن الفلاحين استعادوا الأراضي التي انتزعت منهم عبر قانون المالك والمستأجر رقم 62 لسنة 1997 الذي تسبب في انتفاضة ريفية منسية استمرت تبعاتها حتى عام 2000 واستعادت نشاطها بعد يناير 2011. كما أن صدامات بين الفلاحين ووزارة الري وأحد المستثمرين بجزية الدوم باوتشت أجبرت المستثمر الذي استأجر الأرض التي يزرعونها من وزارة الري علي ترك الارض وحدث الكثير من الصراعات المحدودة في القرى المصرية والتي تأثرت بلا شك بانفتاح المجال العام.

خاتمة

يبدو لي أن الخلل المبدئي الذي وقع فيه السيد أبو زيد هو الانطلاق من قاعدة أن الصعيد لم يشارك وبالتالي بدت الإشارات التالية لوجود بعض المشاركات في الصعيد مثيرة للالتباس، كما أن التحليلات حول بنية الصعيد شابها تعميم غير دقيق بالإضافة إلى إعادة الإنتاج لصور نمطية يتم تداولها رغم نقد الكاتب للصور النمطية وهذا التباس آخر. إذا كانت الثورة في نظر الكاتب مركزية وأن الثورات في الأطراف مكتوب لها الفشل (كما يضرب مثالي سوريا وليبيا) فالسؤال ليس لماذا لم يشارك الصعيد في الثورة ولكن لماذا يشارك الصعيد في ثورة "حضرية وقاهرية"؟ وهذا يجعلنا (إذا سلمنا بوجهة نظر الكاتب) نرى موقف الصعيد من "عدم المشاركة" في هذه الحركة القاهرية فعلاً تقدمياً لإدراكه أنها لا تعني له شيئاً. وبالتالي لم يستنفذ جهوده في فعل لا يتعلق به.

رغم أن الثورة كعملية تراكمية في طور الإنجاز تتجاوز لحظة الـ 18 يوماً ولا تلغيها إلا أن ملامح عديدة تؤكد أن حشد يناير لم يكن حشداً حضرياً تماماً. ولم يكن الاعتصام اعتصاماً حضرياً أيضاً، وبالنسبة لي كان الاعتصام هو الأكثر قدرة على إزعاج الدولة. وكانت خيام المعتصمين ولافتاتهم تشير إلى تنوع لم يظهر للأسف في الخطاب المتولد فيما بعد. غياب خطاب يتناول المشاركين الفرديين (غير المنظمين- الذين مثلوا قلب الاعتصام) حيث أن غالبية أبناء الأقاليم ظلوا في الميدان سواء لإيمانهم بالقضية أو لتوقف القطارات أو لغياب مأوى أرخص. كان غالبية "ائتلاف شباب الثورة" يغادر إلى البيت ينام ويأخذ قسطاً من الراحة ثم يعود في الصباح ليلقي بياناً باسم الثورة. كما أن كون أكبر المسيرات خرجت من المناطق المختلطة فمثلاً مظاهرات الهرم – فيصل بالإضافة إلى مظاهرات بولاق الدكرور وهي مناطق تخوم محاطة بقرى الجيزة ناهيك عن أن نقطة انطلاق البرادعي كانت من الجيزة ويقع مسجد الاستقامة على بعد كيلومترات قليلة من مساحات زراعية وجزر قروية مر من أمامها المتظاهرون. هذه المناطق الحضرية المريفة أو الأكثر تريفاً كانت في قلب الحدث.

الهدف من فتح النقاش حول المفاهيم الإجرائية والوقائع الميدانية المتعلقة بمشاركة الصعيد في الثورة هو توضيح وجود عوالم أخرى تتحرك بطريقة مختلفة وفي أزمنه مختلفة وبمجالات مختلفة من أجل تغيير الواقع المحلي وإنتاج التغيير لا تتطابق بالضرورة مع الحراك الحضري ولا توقيته أو إشارة الانطلاق الصادرة منه. الخروج من العاصمة المسيطرة ليس فقط عبر الخروج الجسدي لكن عبر الخروج من الأفكار والتصورات والمعاني والمفاهيم التي يصوغها المركز ويعتمدها كأطر ومحددات لقراءة "الثورة". هذه الأطر يمكن اعتبارها عنفاً رمزياً يمارسه المركز "الثوري" يضاف إلى العنف الرسمي الذي يمارسه المركز "المضاد للثورة". 

 

المراجع

. عصام الخفاجي، ولادات متعسّرة: العبور إلى الحداثة في أوربا والمشرق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013.
. حنة ارندت، ترجمه إلى العربية عطا عبدالوهاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008 .

 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬