شبح قطاع غزّة المقيم

[\"????? ???? ????????? ??? ????? ???. ????? ???? ????. ???? ?????? \"?? ?? ] [\"????? ???? ????????? ??? ????? ???. ????? ???? ????. ???? ?????? \"?? ?? ]

شبح قطاع غزّة المقيم

By : Mahmoud Omar محمود عمر

[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]

 

يجوز وصف الحالة السياسيّة والاقتصاديّة لقطاع غزّة على مدار السنوات الماضية بالقول إنّها تتراوح بين التأزّم، والتأزّم الشديد. أينما ولّيت وجهك في غزّة فثمّة إشكالات وعُقد. العنوان العريض الذي هو "حصار غزّة"، بعد سبع سنوات على تسلّم "حماس" السلطة، لم يعد كافيًا للإحاطة بكافة جوانب بؤس العيش الغزّي؛ وإن كان قرار العالم و"الدول الشقيقة" بمعاقبة أهل غزّة والمتاجرة بهم لا يزال ساري المفعول والفاعليّة؛ متمثلاً في الإدخال المحسوب للبضائع والمحروقات، والإفشال المتعمّد لكافة محاولات إيجاد حلّ جذري لانقطاع الكهرباء، والإغلاق شبه الدائم لمعبر رفح؛ منفذ غزّة الوحيد على العالم الخارجيّ.

لكنّ هذا الردح الطويل من العيش المقنن قد تجاوز بالفعل مرحلة استفزاز الصمود والإبداع، وبات لا يستفزّ شيئاً غير المزيد من المعاناة والضجر ومحاولات البحث المرتبكة عن بدائل تحت الأظافر. تحوّل الحصار، ومعه ما معه مما يترتب عليه، إلى شبح ينتاب، منذ مدّة طويلة، قطاع غزّة. وصار في كثير من المناسبات شأنًاً تسيء الحكومة إليه إذ تصيِّر الحديث عنه إلى بيانات رسميّة وفعاليات كرتونيّة. وتدفع به في معترك خلافها واختلافها مع سلطة رام الله والنظام المصريّ.

يرى أهل غزة اليوم حصارهم على أنّه "شيء ما" جاثم على صدر المدينة وصدرهم، ويرفضون بصمت كلّ المقاربات المعلّبة لهذا الشيء الذي ينغّص عليهم عيشهم. ويدركون أنّ من يعدّ ضربات العصيّ ليس كمن يتلقّاها. يدركون، بحسرة، أنّ العالم يتغيّر من حول مدينتهم. أمّا مدينتهم نفسها فهي مربوطة بالأرض، مثقلة ببطولتها، ولا تتغيّر. يفرض الوعي بهذا الشلل السياسي والاجتماعيّ نفسه على المزاج العام، وينتهي في كثير من المناسبات بمحاولات اشتباك رديئة مع الواقع، أو بتفريغ سريع للتوتّر عبر ارتفاع موسمي لحدّة الصدام مع "إسرائيل".

ظهرت واحدة من تجليات هذا الانسداد المنهجي في الأفق الغزّي مع تقرير فريق الأمم المتحدة القطريّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في أغسطس لعام 2012. التقرير الذي عُنون "غزة في 2020، هل ستكون مكانًا ملائمًا للعيش؟" ليس بريئاً. إذ يجيء في مقدّمته أن الغاية من ورائه هي "تسليط الضوء على القضايا والمتطلبات الإنسانيّة والاجتماعية والتنموية التي تحتاج إلى معالجة، بصرف النظر عن السياق السياسيّ". لكنّ التقرير يقدّم تصورّاً لما ستؤول إليه الأمور في القطاع كنتيجة لازمة لنفس السياق السياسيّ الذي يحاول التقرير صرف النظر عنه.

يوضّح التقرير أن ما يخبئه المستقبل لغزّة يتضمن ازدياداً كبيراً في عدد السكان ليصل إلى حوالى 2.1 مليون نسمة بعد ستّة أعوام. سيعني هذا أن الكثافة السكانيّة في الشريط الساحليّ الضيق ستصل إلى رقم قياسي هو 5835 شخصًا لكل كيلو متر مربّع. الطلب على المياه سيزيد بنسبة قدرها حوالى 60%، كذلك الأمر بالنسبة لقطاع التعليم (مطلوب أكثر من 400 مدرسة) والقطاع الصحّي الذي سيعاني نقصاً في الكادر الطبّي يمكن تقديره بحوالى 1000 طبيب و2000 ممرض.

اقتصادياً، لا تبدو الصورة أقلّ قتامة إذ بلغت نسبة البطالة في قطاع غزّة في العام قبل الفائت حوالى 29% وهي في ازدياد مضطرد. أمّا معدل البطالة بين النساء فيقترب من 50%، في حين يرتفع ليصل إلى حوالى الـ 58% لدى الشريحة الحرجة التي تتراوح أعمارها بين 20 و24 سنة. أمّا نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي أو تلك المعرضة له فبلغت حوالى 60%.

ولكن، ماذا عن المسائل الأكثر دقّة؟ كيف يمكن، مثلاً، توصيف منهج حكومة "حماس" في الداخل الغزّي، وما هي طبيعة العلاقة بين ما يحدث في مصر وانعكاسات ذلك على غزّة، وعلى خشونة/نعومة اليد الحكوميّة التي تحاول القبض على كافة مفاصل العيش المجتمعي في القطاع؟ ماذا عن المقاومة والاكتظاظ المسلّح في غزّة بعد كل هذه التغيرات الاقليميّة؟

الوضع الداخلي

قبل عشرة أيام فقط من فوز مرشّح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسيّة المصريّة الأخيرة، كانت حكومة "حماس" في غزّة تستشعر قوّة موقعها الإقليمي، وتقف متلهفة على النافذة المصريّة. انتفت "الفلاتر" البراغماتيّة التي تقف، في العادة، حائلاً بين الفضاء العام وبين أدبيّات حركة المقاومة الإسلاميّة بعد سقوط طاغية الاتحادية وقبيل تسلّم الإخوان للسلطة في أكبر بلد عربي. وقتئذ، صرّح محمود الزهّار بأنّ "المرحلة القادمة ستشهد دورة حضارية جديدة"، وأنّ مقر المجلس التشريعي الفلسطيني سيكون "عاصمة للدولة الإسلاميّة الكبرى".

تعاظم هذا الارتياح بعد فوز محمّد مرسي والتسهيلات النسبيّة التي شهدها معبر رفح وانكفاء الجيش المصريّ عن تدميره المنهجيّ للأنفاق المنتشرة على طول الشريط الحدوديّ. شهد عام حكم الإخوان نمواً ملحوظاً في نشاطات التجارة وفي طبقة "الأغنياء الجدد" الذين استفادوا من الاقتصاد-تحت-الأرضي، الأمر الذي انعكس في الثراء الملحوظ لقطاع واسع من قيادات حركة حماس ورجال الأعمال. غضّت جهات المحاسبة الداخلية في "حماس" الطرف عن هذا الثراء وعن المستفيدين منه من قيادات الحركة وكوادرها قبل أن تعود لتضبط أمورهم، وحتى تعتقل بعضهم، بعد سقوط مرسي وانتهاء شهر العسل مع المخابرات المصريّة.

أمّا شعبياً، فارتدّ هذا الارتياح الخارجي والهدوء النسبيّ مع القاهرة سلباً على عامّة الناس في غزّة، لاسيّما الشريحة الأكبر التي لا تستفيد من تسهيلات السفر لخلوّ أجندتها من أية رحلات. ففي شهر فبراير من العام الفائت أطلقت حركة "حماس" في قطاع غزّة حملة "ترسيخ القيم والفضيلة" التي هدفت لمكافحة الزيّ "غير الملتزم" وقصّات الشعر الغربيّة. الحملة انطلقت بالتزامن مع قرار مجلس إدارة جامعة الأقصى فرض الزيّ الشرعي على الطالبات.

بعد شهر واحد من الحملة، أصدرت الحكومة قانوناً جديداً يقضي بالفصل التّام بين الجنسين في المدارس ومنشآت وزارة التربية والتعليم والمدارس الخاصّة بعد الصّف الثالث الابتدائيّ. في حينه، قال وليد مزهر المستشار القانوني لوزارة التعليم إنّ القانون يهدف للحفاظ "على ثقافة الشعب الفلسطيني". لم يكد الصخب الذي تلى إصدار القانون ينتهي من الشارع الغزّي حتى شغلت الغزيين تصريحات وزير الداخليّة فتحي حماد الذي قال في حفل تخريج فوج ضبّاط في مايو من العام الفائت إنّ "الأجهزة الأمنيّة ستراقب كلّ من يساهم في خفض مستوى الرجولة في غزّة".

لم يُكتب لهذا الانتشاء الحمساويّ أن يستمر. سقط محمّد مرسي في القاهرة وسقطت معه بنود عديدة على جدول أعمال حكومة حماس في غزّة. للوهلة الأولى، لم تصدّق "حماس" ما حدث. تجسّد فشلها في استقراء المشهد المصريّ عبر القيام بأعمال صبيانيّة دون أي اعتبار لتبعات تلك الأعمال على المجموع الإنسانيّ الواقع تحت سلطتها. حيث قامت كتائب القسّام، ذراع "حماس" المسلّح بأكثر من ثلاثة عروض عسكريّة رفع المشاركون المقنعون فيها شعارات "رابعة"، في حين كانت وجوه الغزيين مكشوفة على مستقبل غامض وصفحة جديدة من التشهير والتشويه المصري الرسميّ وشبه الرسميّ لغزّة وأهلها.

ولكن، ومع مرور الوقت، بدأت قاعدة التناسب العكسيّ بين ارتياح حكومة "حماس" على الصعيد الخارجي وبين الحدّة في نبرة خطابها وأفعالها الداخليّة تنطبق بامتياز. اتّسمت الأشهر التي تلت عزل مرسي على يد جيش السيسي  بهدوء نسبيّ فيما يتعلق بنشاطات حماس لأسلمة المجتمع، وانصبّت الجهود في محاولة الحركة البحث عن أرض صلبة ومسكنات للجرح الذي أصاب يقينها، رغم أنّها ظلّت مصرّة على بعض خطوط الحمراء التي كان من بينها، على ما يبدو، منع محمّد عسّاف من الغناء.

محاولات حماس الخروج من عنق الزجاجة شملت تلطيفاً لخطابها المتعلّق بالمصالحة الوطنية، وانفتاحاً على "الآخر" تحت وطأة الأزمة المالية المتعاظمة التي تتعرض لها الحكومة لاسيّما بعد إيقاف إيران دعمها للحركة. حيث صرّح زياد الظاظا، نائب رئيس وزراء الحكومة، بأنّ هناك قبولاً مبدئياً لخصخصة توزيع الكهرباء وإدارة معابر قطاع غزّة مع "مصر" و"إسرائيل" عبر تسليمها إدارتها لرجال أعمال من القطاع الخاص في غزّة.

المقاومة؟

من الضروري، حيم نتحدث عن المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة في غزّة أن نؤكّد أنّها، بكلّ أسف، "في غزّة". تنبع هذه الضرورة من حقيقة الفشل الفلسطيني العارم في الاتفاق على استراتيجيّة محددة، سواء كان الحديث منحصراً في ثنائيّة غزة/رام الله، أو مفتوحاً على نشاطات وفعاليات الشعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن تواجده. يلقي هذا الفشل بظلاله على كلّ أفعال الاشتباك مع إسرائيل، ويعيق أي إنجاز حقيقي، بعيد المدى، لأيِّ من مسارات المقاومة الموجودة على الطاولة.

ففي حين تستمر غزّة التي يمكن تشبيهها بأنها ضاحية جنوبية لا بيروت لها في دورها كمخزن للنّاس والأسلحة، تبدو الضفّة الغربيّة نموذجاً ناجحاً لسياسات الهندسة الاجتماعية الغربيّة والسياسات النيوليبراليّة التي طبّقها بنجاعة رئيس وزراء رام الله السّابق سلام فياض. وفي حين يركّز قطاع كبير من النشطاء الفلسطينيين جهودهم على مسار مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ويختارون نموذج "الأبارتهايد" لمقاربة المسألة الفلسطينيّة، يجتمع الرئيس الفلسطيني بطلاب إسرائيليين في المقاطعة برام الله ويطالب في خطابه أثناء تشييع مانديلا في جنوب إفريقيا بعدم مقاطعة "إسرائيل".

وفي حين تنجح "حماس" في توسيع دائرة قدراتها الناريّة لتصل حدود تل أبيب، فإنّها لا تتورع في مرحلة لاحقة من نشر حرس للحدود في غزّة بغرض منع أيّ إطلاق للصواريخ. هذه الخطوة ما هي إلا تعبيرٌ جدّي عن العقلية البراغماتيّة الآخذة في كسب النقاط داخل الحركة، وعن حسابات الربح والخسارة التي يجريها القائمون على المقاومة في غزّة. هذه المقاومة الذي تأخذ يوماً بعد يوم، صفة دفاعيّة (بشكل استراتيجي؟) لا يلبّي، بحسابات حرب العصابات والكفاح المسلّح، طموحات الحالة الفلسطينيّة، وإن كان ذلك يوفّر فرصة لالتقاط الأنفاس على الصعيد الشعبيّ. ليس هذا تشكيكاً في إنجازات المقاومة ولا في كونها ورقة قوّة للشعب الفلسطيني، بل هو تساؤل مشروع له ما يدعمه على الأرض والجغرافيا.

ولكن، هل تستطيع غزّة احتمال الاشتباك الدّائم مع الاحتلال؟ هل من العدل أن نستثمر في هذا القطع الحاصل بين غزّة وباقي أماكن الوجود الفلسطيني بأن نحمِّلها ما لا طاقة لها به؟ يجب التمعّن في هذه الأسئلة لاسيّما وأن ثمة محاولات دائمة لتقديم غزة على أنّها "النموذج" المخلّص الذي سيزيل الهم والغمّة.

وفي العموم، وبإطلالة عريضة على المشهد، يبدو الفلسطينيون اليوم مغرقين في الاغتراب والتفتت، لاسيّما فلسطينيو القطاع الذين لم يعد بوسعهم ولا برغبتهم اختيار تطوّر بعينه للأحداث من حولهم. وما زال الحصار الذي صار عمره ثمانية أعوام شبحاً مقيماً يعيش معهم ويجوب بلا هدفٍ وبخطوات ضجرة مدينتهم المتعبة.     

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الدولة الإسلاميّة: نزهة في كهف التنين

      الدولة الإسلاميّة: نزهة في كهف التنين
      بنفس الحدّة التي يقول فيها وائل الحلّاق "إنّ الغالبية العظمى من مسلمي العصر الحديث تتمنّى عودة الشريعة بشكل أو بآخر"، يمكن القول إنّ الغالبية العظمى من قرّاء "الدولة المستحيلة: الإسلام
    • ماذا فعلت «حماس» بالمناهج؟

      ماذا فعلت «حماس» بالمناهج؟
      بعد عقود قضوها مشتتين بين المناهج العربيِّة، كان قد أصبح للفلسطينيين في مطلع الألفيّة الجديدة منهاجهم التعليميّ الخاص والموحَّد في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة. في حينه، لم تعجب المناهج الجديدة «أميركا»
    • النكبة الفلسطينيّة ليست غزوة أحد

       النكبة الفلسطينيّة ليست غزوة أحد
      لم تثمر دعوات الإخوان المسلمون ورسائلهم إلى رؤساء الحكومة المصريّة المتعاقبين والتي دعت إلى مخاطبة «الحليفة بريطانيا» ومطالبتها بضمان استقلال وكرامة فلسطين؛ البلد العربيّ المسلم، كما ولم تسفر العلاقة

الجدل حول مبادرة كيري الاقتصادية: مآخذ ومنافع ومخاطر

اذا رأيت جارك يحمل غرضاً، فاسرع بمساعدته، ولا تخطئ ظنك بأن تجد الجنة في تلك الدار المجاورة.

بوب ديلان ”The Ballad of Frankie Lee and Judas Priest” 

منذ اللحظة الأولى لإعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أيار 2013 عن إعداد خطة استثمارية عالمية تحت شعار "تنمية الاقتصاد الفلسطيني"،  لم تنقطع التعليقات المؤيدة والمستنكرة والمتسائلة من مختلف الجهات، وخاصة الفلسطينية، حول الدوافع الأميركية ومغزى الخطة ومضمونها. وعند إطلاق المبادرة بصياغتها الأولية بمبلغ استثماري مقترح بـ 4$ مليار، طُرحت وفُهمت على نطاق واسع بأنها تشكل تشجيعاً ملموساً للأطراف (أو ربما طعماً للطرف الفلسطيني) بموازاة الجهود لإحياء المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية حول حل "الوضع الدائم". والكثير من الجدل دار (وما زال) حول هذا التفسير المبسط، وفيما بعد قام فريق دولي من "الخبراء" تابع لممثل الرباعية الدولية بصياغتها رزمة من المقترحات وإعادة تسمية الخطة بـ"المبادرة الاقتصادية من أجل فلسطين"، نزولاً عند الإصرار الرسمي الفلسطيني بضرورة التوضيح أنها ليست مبادرة فلسطينية بل أنها تعكس تدخل دولي لصالح فلسطين.

ثم أضافت الرباعية تقديرات لاستثمارات متعددة القطاعات لتبلغ قيمة المبادرة حوالى 10.5$ مليار خلال 3 سنوات (تنفق 60% منها في السنة الأولى)  مع حديث عن احتمال رفع الهدف الاستثماري إلى 19$ مليار إذا تبين أن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الفلسطيني تتحمل مثل هذه المبالغ خلال فترة تنفيذ البرامج المقترحة. ومع أن تلك المقترحات لم تنشر رسمياً من قبل الرباعية أو الأطراف المعنية، فإن صحيفة اقتصادية محلية جديدة انفردت بنشر ما تؤكد أنها التفاصيل الدقيقة (المسربة) للمبادرة بشكلها الأولي والمبالغ الاستثمارية الإجمالية والبرامج القطاعية (جريدة الحدث، 10/12/2013).  وما تكشفها هذه التفاصيل عن أهداف المبادرة وحجمها واحتمالات تنفيذها توفر المزيد من الوقود للجدل الدائر والتفسيرات المتباينة لأهميتها ووظيفتها ومصيرها في هذه اللحظة التفاوضية المحفوفة بعدم اليقين وتقلبات إقليمية ومحلية في موازين القوى. 

ما من شك أن الرؤى الفلسطينية الغالبة ما زالت تعتبر أنه لا يمكن فهم مبادرة الرباعية الاقتصادية سوى من منظور ما يسمى ب"السلام الاقتصادي" القائم أساساً على توظيف المحفزات الاقتصادية وتقديم تسهيلات كبديل مؤقت عن السلام العادل والشامل. ويمكن تفصيل هذا المفهوم إلى نوعين، "سلام اقتصادي خبيث" و"سلام اقتصادي حميد"، يتجددان ويتشكلان حسب المرحلة. والنوع الخبيث ترويضي، أي تسليم الشعب الفلسطيني بشكل من الحياة المستقرة في مرحلة معينة مقابل إطلاق يد إسرائيل لتحقيق أهداف استعمارية أو رأسمالية. وهو تأجيلي، حيث يساعد على الابتعاد عن التعامل مع القضية السياسية من خلال إشغال الناس بالهم الاقتصادي والمعيشي. وهذا النوع من السلام الاقتصادي كان له عدة نماذج سابقة، مثل "الجسور المفتوحة" التي أطلقها موشى دايان بعد احتلال 1967 لإنهاء الكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية، ثم سياسة " تحسين جودة الحياة" التي أطلقها شولتز ورابين، عام 1986 وقوبلت بحجارة الانتفاضة الأولى، إلى أن جاءت أوسلو في 1993. وما بعد ذلك ما أطلقه في 2009 رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي لم يخجل بتسمية الشيء باسمه، حيث أنه الذي أشهر مصطلح "السلام الاقتصادي" أصلاً، دون تحديد مدى خباثته!

أما السلام الاقتصادي "الحميد" فهو ثنائي الطرف ومتفق عليه من قبل الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، لفترة محددة ولهدف محدد جوهره بالأساس سياسي، وربما يعتبر بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994 ارقى أشكاله. ودون أدنى شك إن الطرف الإسرائيلي "المستعمر" هو الأكثر استفادة أيضاً من هذا النوع، الذي يطيل من فترة احتلاله ويكرس استعماره، مثل ما حدث بعد 5 سنوات على توقيع اتفاقية أوسلو تكشفت نوايا إسرائيل غير الحميدة وأثبتت عجز السلام الاقتصادي الحميد نفسه.  كما كانت "تفاهمات ستينتز- فياض 2012" حول إدارة التدفقات التجارية والضريبية بين الطرفين نسخة "حميدة" إلى حد ما. وهذه النماذج التعاونية شبيهة بالطرح الدولي الجديد الذي يبدو للوهلة الأولى بأنه ليس سوى نسخة جديدة معدلة عن النسخ السابقة الحميدة، التي كانت محددة بفترات زمنية وتحمل معها أهدافاً سياسية مشتركة. 

والأهم من ذلك أن جميع نسخ السلام الاقتصادي باءت بالفشل؛ إما لأنها كانت تضمر في ثناياها نوايا إسرائيلية استعمارية، أو بسبب المعارضة الفلسطينية أو خلل ما في تصميمها. وكلها عملت على مبدأ إخضاع التنمية الفلسطينية للأولويات السياسية السائدة وإلى اعتبارات توثيق التعاون الاقتصادي الفلسطيني مع إسرائيل. وكانت دائما ترافق مثل هذه والمبادرات دراسات وأبحاث علمية مشتركة، التي غالباً ما استندت إلى مفاهيم وتنبؤات اقتصادية خاطئة، تمحورت حول الادعاء بأن هناك مساراً اندماجياً محتملاً من خلال التبعية للاقتصاد الإسرائيلي الأكثر تقدماً ومن خلال نموذج اقتصادي يعتمد السياسات الليبرالية و"اقتصاد السوق الحر"، كما ينص على ذلك القانون الفلسطيني الأساسي.

إن القائمين على إعداد مبادرة الرباعية، ومن يروج لفوائدها المحتملة، يتوقعون منها نتائج كبرى خلال 3 سنوات، حملت كيري نفسه على التساؤل إذا ما كانت "ضرب من الخيال":

  • نمو حقيقي في الناتج الإجمالي المحلي يبلغ 50% وارتفاع موازي في الناتج الإجمالي المحلي للفرد؛
  • تخفيض نسبة البطالة من 23% إلى 8% من خلال خلق 350000 وظيفة جديدة في القطاع الخاص؛
  •  زيادة 30% في معدل الدخل الأسري يصل إلى 10000$؛
  • زيادة في تدفق رأس المال الأجنبي المباشر من 600$ مليون سنوي إلى 5-6 مليار خلال 3 سنوات؛
  • إيرادات ضريبية إضافية مقدرة بـ 655$ مليون سنوياً؛
  • التحول من نمط المساعدات الدولية على شكل منح (والبالغة تقريباً 1$ مليار سنوياً) لسد عجز الموازنة العامة إلى خليط من الاستثمارات المباشرة الدولية والعربية والمحلية (6$ مليار) والقروض "المضمونة" دولياً للقطاع الخاص (3$ مليار) والقروض الرسمية الميسرة (1.5$ مليار) لتحسين أداء القطاع العام ومساعدتها على تنفيذ سياسة تكييف هيكلي وتقشف في التوظيف العام بنسبة 18% خلال فترة المبادرة؛

وتحقيقاً لاستراتيجيتها المتمثلة بثلاث شعارات كبرى، "تزويد القطاع الخاص بالبنية التحتية المدفوعة" و"تحرير الإمكانيات الذاتية الجوهرية للاقتصاد"  و"تسريع النهوض في القطاعات الرئيسية"،  تشمل مبادرة الرباعية حوالي 50 مشروعاً/برنامجاً موزعة على 8 قطاعات اقتصادية وبنية تحتية رئيسية: المياه (استثمارات بحوالي 1.3$ مليار)؛ الطاقة (2.5$ مليار)؛ السياحة (1$ مليار)؛ الاتصالات (400$ مليون)؛ الزراعة(550$ مليون)؛ الصناعات الخفيفة (300$ مليون)؛ المقاولات والبناء (3.7$ مليار)؛ مواد البناء (250$ مليون). 

ودون الخوض بالمزيد من التفاصيل، يمكن الإقرار بأن ما تتضمنها المبادرة من حجم استثماري موعود، وتوسع قطاعي، وتفصيل برنامجي وآليات تمويلية، تعتبر انحرافاً عن توجه التدخلات الاقتصادية والمساعدات الدولية السابقة. كما أن غالبية برامجها تخص تطوير القدرات الإنتاجية والإنمائية الفلسطينية (سياحة، زراعة، صناعة وبناء)، ربما كان يفترض البدء بالعناية بها منذ أوسلو وليس في هذه المرحلة المتأخرة، بينما برامج أخرى تمس جوانب اقتصادية سيادية لا بد من إنشائها كبنية تحتية للدولة الفلسطينية العتيدة (طاقة، اتصالات، معادن). وهذا يعتبر تقدماً إيجابياً مقارنة بطبيعة السياسات والاستثمارات والمساعدات الاقتصادية القائمة، التي لم تلبِّ احتياجات القطاعات الاقتصادية الحيوية بل أغفلتها وهمشتها على حساب ضرورات التجاوب مع الطوارئ والأزمات الإنسانية، ناهيك عن تمويل العجز العام من رواتب وتكاليف تشغيلية للسلطة الفلسطينية. ومع ذلك فإن المبادرة الجديدة لا تبتعد عن النهج الاقتصادي الليبرالي المتصاعد في فلسطين منذ 2005 (أو 1994) من حيث تضمنها لمشاريع تعجّل من انحسار دور الدولة الاقتصادي واستبداله بالخصخصة و"شراكات خاصة – عامة" حيث ذلك ممكن، ونشر ثقافة السوق الحر والمديونية وما يتصل بها من توجهات استهلاكية وقيم مادية ترسخت في فلسطين (كما في دول المنطقة والجنوب عامة) خلال العقدين الماضيين.

وإذا كانت المبادرة سترى النور وتتاح الفرصة لاختبار وعودها الوردية، تقر الرباعية نفسها بضرورة إحداث تغيير جوهري في تعامل الاحتلال مع ملف التنمية الفلسطينية بعيدة عن السياسة، وهنا طبعاً بيت القصيد. لذلك تتضمن الخطة قائمة ما تسمى بـ"ركائز الدعم" (enablers)، وهي إجراءات تسهيلية يجب توفيرها لإنجاح تنفيذ المبادرة وخاصة مشاريعها العملاقة. ومع أن بعض هذه الركائز تخص إصلاحات فلسطينية داخلية، فإن معظمها تتحكم بها إسرائيل، أما من خلال إملائها لشروط العلاقة الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية عامة (في اطار أوسلو وباريس) أو بحكم إخضاع 60% من الضفة الغربية المحتلة (مناطق "ج" الخارجة عن ولاية السلطة الفلسطينية) وشواطئ/بحر غزه والقدس الشرقية للاحتلال المباشر. 

وإذا اعتبرنا أن هذه المبادرة من ناحية المضمون ليست في أسوأ الأحوال سوى سلام اقتصادي حميد على طراز 2014، يترافق مع حل سياسي أو ربما يحل محله، وفي أحسن الأحوال تعبر عن نوايا رأسمالية عالمية جدية ترى من الأراضي الفلسطينية ساحة للتوسع وسوق للاستثماراتها الباحثة دائما عن مجالات جديدة، فإنه في كلتا الحالتين لا بد من التعامل بحذر شديد مع المبادرة من قبل القيادة الفلسطينية السياسية والاقتصادية. ولا يمكن أن يتلخص موقف السلطة تجاهه دون شروط "بالاستمرار في خطة كيري حتى لو توقفت المفاوضات"، كما أكد وزير الاقتصاد الوطني (جريدة الحدث 26/11/2013). وقبل إثارة الضجيج حول منافعها المحتملة، يجب تناولها من مختلف جوانب المخاطر التي تحملها، من توجهات الأصولية السوقية في التعامل مع قضايا تنموية جذرية تخص الأمن الاقتصادي القومي وليست قابلة لحلول الخصخصة، مروراً بالقبول بالافتراض الساذج بإمكانية قيام إسرائيل بتقديم جميع تلك التسهيلات التي امتنعت عن منحها طوال 20 سنة وحتى عندما كان الوضع الداخلي الفلسطيني أقوى بكثير، وصولاً إلى التنبؤات الاقتصادية "الخيالية" فعلاً حول وقع مثل هذه الاستثمارات لو سُمح لها.

ورغم كل المخاطر المحتملة، وفي السياق السياسي الأوسع المتمثل بالسعي الدولي لإتمام اتفاق إسرائيلي-فلسطيني تاريخي في 2014، فلا بأس بأن يتم اختبار الاستعداد الإسرائيلي الآن فيما يتعلق ببعض القطاعات الاستراتيجية لفحص مدى الجدية في تقديم رزمة من التنازلات والتسهيلات في مجالات أو مناطق يفترض أنها ستنسحب منها قريباً (مثلاً الطاقة والزراعة والمياه). ومن زاوية أخرى غير مشككة بنوايا جون كيري، يمكن إعادة قراءة كل الموضوع في سياق الجهود الأميركية (الصديقة ظاهرياً) لوضع الحكومة الإسرائيلية على المحك، حيث إذا لم تكن قادرة أو مستعدة للتعامل مع سلام اقتصادي حميد وفتح الأبواب أمام رأس المال العالمي، فكيف ستتعامل إسرائيل مع خطة كيري السياسية التي سيزيل الستار عنها قريباً؟