الجزائر : لماذا رُشِّح بوتفليقة لعهدة رابعة؟

[???? ???? ???? ?????- ???????] [???? ???? ???? ?????- ???????]

الجزائر : لماذا رُشِّح بوتفليقة لعهدة رابعة؟

By : Yassine Temlali ياسين تملالي

لم يكن ترشيح الرئيس بوتفليقة لانتخابات نيسان/ أبريل 2014 الرئاسية لِيُحدث كلَّ هذه الضجة لو كان في صحة جيدة، يتوجه إلى الجزائريين بالحديث من حين لآخر مباشرة، لا عبر وزراءَ يرتّلون رسائله الروتينية على مسامعهم دون كثير من الاقتناع. والحال أن مجلس الوزراء، منذ مدة ليست بالقصيرة، لم يعد ينعقد بسبب مرضه، وأنه لم يعد يمثل الجزائرَ في المحافل الدولية، وهو هاوي السفر والتجوال، ولا يستقبل الوفود الأجنبية إلا نادرا، وربما أساسا بغرض تمكين وسائل الإعلام الحكومية من تصويره لمدة دقائق وإقناع الشعب بأنه في عداد الأحياء.
لقد سلك النظام الجزائري بهذا الترشيح (فيما يبدو إجماعا لأغلب مكوناته، بما فيها الجيش واستخباراتُه) مسلك دكتاتوريات عتيدة، لا يكلِّف الزعماء فيها أنفسهم عناء الظهور أمام الناخبين، وضرب عرض الحائط بقواعد «الدكتاتورية الديمقراطية» الجزائرية السائدة منذ 1989، التي تحتِّم حتى على «المرشحين الرسميين» أن ينشِّطوا حملاتِهم الانتخابية بأنفسهم ويكلِّموا الشعب في مهرجانات خطابية يذكِّرونَه فيها بإنجازاتهم ويغدقون فيها عليه الوعود.

شعبية بوتفليقة : توزيع الريع وفتات الريع

أولُّ العوامل التي تكون قد حسمت الأمر لصالح هذا القرار هو التوافق داخل السلطة (الجيش وخاصة الاستخبارات العسكرية، ومعه الحزبان الرسميان، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، الخ) على أن بقاء بوتفليقة في منصبه، ولو اسميا، أحسن ضمانة لاستمرار التوازن بين أطرافها المتصارعة ولبقاء الوضع في الجزائر على ما هو عليه، في ظرف إقليمي يميزه تسارع التغييرات الجيوسياسية على عتباتها (الاضطرابات في ليبيا، الوجود العسكري الفرنسي في مالي، الخ). وقد شجع على تحقيق هذا التوافق الاقتناع بأن للرئيس الحالي بقيةً من شعبية لا يستهان بها، وإن زعزع صورتَه إصرارُه على نيل عهدة رابعة رغم تدهور صحته وما توالى من فضائحِ الفساد في عهده التي طال بعضُها أقرب المقرّبين إليه (وزير الطاقة السابق، شكيب خليل، مثلا). كما شجع على تحقيقه عدم وجود «مرشحين رسميين» محتملين آخرين، يحظون بالمستوى نفسه من الإجماع، ما يُعدّ سببُه الأساسي سعيَ بوتفليقة منذ 1999 إلى تهميش كل من اشتمّ فيه رائحة التفكير في خلافته: علي بن فليس، رئيس حكومته بين 2000 و2003 وأحد منافسيه اليوم، يظهر كمرشح «عادي» غير قوي، بدليل اختفائه التام من الساحة عقب هزيمته في انتخابات 2004 . أحمد أويحيى، الذي قاد الحكومة 3 مرات (1995- 1998، 2003 2006 و 2008 -2012) غيرُ محبوب في الأوساط الشعبية، لارتباط اسمه بالتقشف وتصفية عشرات الشركات الحكومية في عقد التسعينيات، ولا في أوساط الإدارة العمومية، لاختصاصه في تنظيم حملات «أيد نظيفة» يروح ضحيتها قليل من (صغار) الفاسدين وكثير من الأبرياء (1996 ثم 2010). أما عبد العزيز بلخادم، وهو أحد من استهلكهم العهد البوتفليقي على رأس الحكومة (2006-2008)، فمطبوع بقربه من التيار المحافظ داخل جبهة التحرير الوطني، ما يباعد بينه وبين الاستخبارات العسكرية وقطاع من رجال الأعمال.
ولا يفسر استمرار شعبية بوتفليقة إلا بشكل ثانوي بـ «فصاحته» أو «ثقافته» مقارنة بأسلافه منذ وفاة الرئيس بومدين (1978)، ولا بماضيه كأحد أهم مسئولي الدبلوماسية الجزائرية (1963-1979)، كما أنه ليس إلا بشكل ثانوي ثمرة الصورة التي صنعها لنفسه كرئيس «جاء بالأمن والسلام» (الجماعات الإسلامية التي وضعت السلاح في 2000 كانت قد أعلنت هدنة مع الجيش في 1997، إثر مفاوضات مباشرة مع الاستخبارات العسكرية). ما يفسر استمرار شعبيته نسبيا، لمدة 15 سنة بعد انتخابه، هو تواصل الإنفاق العمومي بوتيرة عالية وما يصاحبُه من استخدام لأموال الدولة لتوسيع رقعة زبائن السلطة من جهة، وشراء السلم الأهلي عند فشل سياسة العصا الغليظة، من جهة أخرى.

رجال الأعمال: «ليس في الإمكان أبدع من بوتفليقة»

وقد بلغ الإنفاق العمومي منذ مطلع الألفين مستويات غير مسبوقة في تاريخ البلاد : 500 مليار دولار بُرمجت بين 2004 و2013 ، و125 مليار في ميزانية 2014 (بزيادة 11 في المئة عن 2013). وكان من آثاره الإيجابية توسيع شبكة المرافق العامة (الطرق، السكك الحديدية، المدارس، الخ) وارتفاع مداخيل شرائح معتبرة من الأجراء والطبقات الوسطى. يشهد على ذلك تضاعف النفقات المنزلية للجزائريين 3 مرات بين 2000 و2011. ويمكن القول إن توزيع فتات الريع البترولي في عهد بوتفليقة في شكل أجور ومنح اجتماعية مكّنه من كسب ودّ فئات واسعة أدماها تقشف التسعينيات، فيما ساعد تسهيل التمويل البنكي للمشروعات الصغيرة على تشكيل فئة انتقلت، بفضل «اهتمام الرئيس بمشاغل الشباب» - وبجرة قلم من مدراء البنوك - من البطالة التامة إلى مصاف أرباب العمل (وإن وجب التذكير بأن هذه النقلة، في كثير من الأحيان، تنتهي بسقوط أليم).
وكما تجري الأمور عادة في الدول غير الديمقراطية، يمثل هذا الإنفاق العمومي ضرعا تنهل منه البيروقراطية الإدارية والاقتصادية امتيازاتِها وتُدميه أنياب كوكبة من رجال الأعمال نزلت عليهم كمائدة من السماء مشاريع ضخمة كُلفت شركاتُهم بإنجازها، وقروض وتسهيلات عقارية لم يكونوا يحلمون بها. ولعب الحصول على صفقات حكومية من خلال شبكات المصالح في أجهزة الدولة والأحزاب الحكومية والمنظمات المهنية دورا بارزا في تشكيل فئة جديدة من المتعاملين الاقتصاديين (التجارة الخارجية، الأشغال العمومية، الخدمات، الخ) وُلدت من شبه عدم، ناهيك عن إثراء شركات أجنبية ربما كان بعضُها سيفلس بسبب الأزمة المالية الدولية لولا عوائد فروعها الجزائرية. ومن غير الضروري التذكير بأن زبائن النظام البوتفليقي من رجال الأعمال، على اختلاف درجات استفادتهم من النفقات الحكومية، راغبون في أن يستمر تنفيذ «برامج الإنعاش الاقتصادي» الحكومية بالطريقة نفسها، أي بعيدا عن كل رقابة من البرلمان أو من القضاء الإداري (مجلس المحاسبة). ولا غرابة أن نرى بعضَهم يموّلون بشكل سافر حملة بوتفليقة الانتخابية ويُنشئون وسائل إعلام تدافع عنها (قناة وئام تي.في مثلا). ونذكر من هؤلاء علي حداد، أحد أهم محتكري صفقات الأشغال العمومية في السنوات الأخيرة، ومحيي الدين تاحكوت، الذي أصبح بين عشية وضحاها صاحب إحدى أكبر شركات النقل الجامعي.

«دولة مدنية» أم دولة اللصوص المدنيين؟

وهنا نأتي إلى ذكر العامل الثاني الذي قد يفسر هذه الجرأة الفجة على ترشيح رئيس مريض لولاية مدتها 5 سنوات، وهو وجود إيمان حقيقي في أوساط النظام بأن فترة الرخاء المالي الحالية إلى زوال قريب. ما يشير إليه، على الصعيد الوطني، ركود الإنتاج البتروغازي الجزائري مقابل ازدياد الاستهلاك الداخلي، وعلى المستوى الدولي، دخول الغاز الصخري بقوة سوق الطاقة الأحفورية كوقود بديل للنفط والغاز الطبيعي، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. الايمان بأن هذه العصر الذهبي ماضٍ إلى غير رجعة يزيد عزم رجال الأعمال والبيروقراطية الحكومية على إطالة عهد بوتفليقة اصطناعيا، إن لم يكن لسنوات فلبضعة شهور. ذلك أن مجيء غيره إلى الرئاسة ينطوي على خطر تقصير مدة استفادتهم من كرم الدولة، سواء أَخرج هذا الرئيس الافتراضي البديل من صفوف المعارضة أم كان من أبناء النظام ممن يفضلون الليبراليةَ الصرفة على الرأسمالية الإدارية، ولا يرون مانعا من تمويل الاقتصاد بالاستثمارات الخارجية ومن الخضوع لشروط المستثمرين بحذافيرها.
تنديد بعض موالي بوتفليقة بـ «تدخل الجيش في السياسة»، وكلامهم عن واجب «بناء دولة مدنية»، يعبر عن بروز فئة من رجال الأعمال والسياسيين وكبار المسؤولين الذين يرغبون في التحرر من ربقة حماتهم العسكر. ويزيد رغبتَهم هذه شدة أن القضاء العسكري يحتكر التحقيق في أهم قضايا الفساد التي عرفها العهد البوتفليقي (الطريق السيار شرق-غرب، الشركة البترولية سوناتراك، الخ). وقد كان عمار سعيداني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، الناطق باسمهم جميعا عندما انتقد، في مطلع شباط/فبراير الماضي، سيطرة استخبارات الجيش على الحياة العامة، مدافعا في الوقت نفسه عن... نزاهة شكيب خليل، وزير الطاقة السابق، المتهم بقبول رشوة قدمتها له الشركة البترولية الإيطالية سايبام، وهو اتهام فتحت التحقيقَ فيه الشرطةُ القضائية العسكرية.

شبح سوريا وذكرى جزائر التسعينيات


ويستعمل البوتفليقيون في دعايتهم نجاحات الرجل المريض الحقيقيةَ (تحييد العسكر نسبيا) والمزعومة (إنعاش الاقتصاد). لكن أهم حججِهم دون منازع، هي ما ميز عهدَه على حدّ قولهم من «استقرار»، وهي كلمة لها، على انتمائها إلى القاموس الخشبي العالمي، معنى ملموس لدى الجزائريين الذين عانوا ويلات قمع قوات الأمن الوحشي وفظائع الحركات الإسلامية المسلحة، خصوصا بين 1992 و2000. وعلى ذكر «الاستقرار»، نأتي إلى ما قد يكون عاملا ثالثا حسم الأمر لصالح ترشيح بوتفليقة: انتشار الخوف داخل النظام وخارجه من أن يفتح التنافس الحقيقي على قمة الحكم باب صراعات عنيفة تعود بالجزائر إلى دوامة التسعينيات، وتتسبب في تدخل أجنبي على أرضها أو تودي بها إلى ما يشبه الحرب الدائرة رحاها في سوريا.
وتتخذ «بروباغندا الاستقرار» شكل التخويف من كل حركة اجتماعية راديكالية، خاصة في «الولايات البترولية» (حركة أبناء الجنوب، حركة العاطلين عن العمل في ولاية ورقلة، مثلا) والإلحاح المرضي على انسداد الافق السياسي والاقتصادي في «بلدان الربيع العربي». لكنها تستغلّ أيضا، على منوال «الحق الذي يراد به باطل»، معطيات سياسية موضوعية، منها ازدياد المخاطر الأمنية على حدود الجزائر (المجموعات الإسلامية المسلحة في مالي وليبيا)، بل وعلى ترابها، وفي أكثر مناطقها حساسية، صحرائِها الغنية بالغاز والبترول (الهجوم على موقع تيغنتورين في كانون الثاني/يناير 2013). ومن هذه المعطيات الموضوعية أيضا اشتداد عزلة البلاد الجيوستراتيجية بسبب تعزز الوجود الفرنسي في مالي، وتدهور علاقاتها مع ليبيا الغارقة في الحرب الأهلية، وتراجع تأثيرها السياسي في الساحل الإفريقي، وهو تراجع يستغله النظام المغربي لانتزاع اعتراف دول هذه المنطقة بـ«مغربية» الصحراء الغربية (وقد نجح في ذلك مؤخرا مع الغابون مثلا).

ترشيحَ بوتفليقة لولاية رابعة لم يكن إذاً قرارَه الشخصي فحسب. وبالنظر إلى غياب بديل قوي يوفق بين مختلف مكونات النظام، فقد كان حلا مؤقتا عاجلا لمنع اندلاع النزاع بينها أو بالأحرى تأجيلِه إلى حين هدوء عاصفة التغيير التي هبت على المنطقة في نهاية 2010. أما عدم تسببه في اضطرابات سياسية كبيرة فيمكن أن يُعد مؤشرا على حقيقة الإجماع داخل السلطة والفئات المندمجة بشكل أو بآخر في المنظومة الاقتصادية الرسمية (الأُجراء، الفئات الوسطى، الخ) على أن «ليس في الإمكان أفضل مما كان»، وأن أيّ تغيير ستكون عاقبتُه المزيد من الإفقار للفقراء، وحرمانا لرجال الأعمال الطفيليين من نهب الموارد العمومية، ومستقبلا دمويا حالكا للجميع. وبالنظر إلى قوه هذا الإجماع، لن تشتعل نار الاحتجاج على الوضع القائم إلا لدى الفئات التي لا نصيب لها من الريع البترولي، ولا حتى من فتات الفتات. 

[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي"]

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]