الأزمة السورية والطريق المسدود

[?????? ??? ?????] [?????? ??? ?????]

الأزمة السورية والطريق المسدود

By : Ahmad Faiz Al-Fawaz أحمد فائز الفواز

 1- تتفاقم الأزمة الوطنية في سورية منذ حوالي السنة، ولا تلوح، في المدى المنظور، بارقة أمل في الوصول الى حلّ لها. البلاد تعيش حالة أقرب ما تكون لحالة الحرب، بل أصعب مما كانت عليه أيام الحروب التي عرفتها في الماضي. فالجيش ينتشر على مساحة الوطن وفي المدن ويقيم الحواجز على الطرقات العامة بين المدن والبلدات والقرى، والعنف المضاد لعنف السلطة آخذ في الاتساع. يرتبط التفاقم بجملة شروط وظروف، في مقدمتها إصرار النظام منذ البداية، وحتى الآن، على رفض الاعتراف بوجود أزمة وطنية، ليس الاحتجاج الشعبي سوى التعبير عنها. فإذا كان منشأ الأزمة بنية النظام، فإن نموها مرتبط بالسياسات القائمة على إلغاء الحريات والنفي الواقعي لمبدأ المواطنة وتغييب سيادة القانون، وبالسياسات الاجتماعية الاقتصادية، التي ترافقت مع الانتشار الوبائي للفساد وأدت، خلال ممارستها في العقود الأربعة الماضية وخصوصا منذ العام 2000، إلى استيلاء القلة على ثروات اسطورية متأتية من نهب المجتمع والمال العام، وإلى إفقار فئات واسعة من المواطنين ونمو البطالة وانعدام الأمل لدى الشباب في حياة كريمة ومستقبل آمن. لكنه يتعلق أيضا بتجاهل حقيقة أنّ حل أزمة بهذا العمق والتعقد هو شأن من صلب السياسة لا بدّ أن يتأسس على ادراك فوات النظام وغربته عن المجتمع، وضرورة الانتقال إلى نظام جديد يؤمن مستوى معقولا من المشاركة السياسية الحرة للمواطنين، ويلبي الحاجات الاجتماعية المحتجزة بالقوة للأغلبية، وينال رضى الناس. ويتعلق أخيرا بواقع أنّ الحل الأمني الذي سارت عليه السلطة منذ بداية الأحداث، لم يدفع بالأزمة إلا نحو المزيد من التفاقم، وحال ولا يزال يحول دون الوصول إلى حلول مقبولة من المجتمع ومن الأطراف الداخلية المشتبكة بالأزمة.

لم يكن من الممكن، إذا، جمع الحل الأمني والحل السياسي في وقت واحد وعلى صعيد واحد. بل لم يكن التلويح بالحل السياسي إلا لتغطية الحل الأمني. لقد نسبت السلطة الأزمة لمؤامرة خارجية، ولم تستطع، بالأحرى لم ترد الفصل بينها وبين المؤامرة التي حولتها إلى مشجب علقت عليه كل مايجري. حتى المؤامرة، المفترض توقعها من أطراف مختلفة معادية للبلاد أو للنظام قبل انفجار الأحداث، أو بعد انفجارها وتوفر شروط مناسبة لها، لم ُتستوعَب أبعادها، فجرى تضخيم البعد المتعلق بالنظام، وإهمال أو تجاهل الأبعاد المتعلقة بسورية الكيان والدولة والدور والموقع الستراتيجي. لقد حجبت الشجرة رؤية الغابة التي تقع وراءها. ولو كان تقدير الأوضاع صحيحاً وسليماً، لتصرفت السلطة بطريقة أخرى وبذلت الجهود الجدية للتعامل الصحيح مع الانتفاضة الشعبية، بتلبية مطالبها المشروعة التي اقتصرت في البداية على إصلاح النظام، والحيلولة، بالتالي، بين المتآمرين الواقعيين والمفترضين والاستفادة من الجو الذي خلقه عنف السلطة. ماجرى في الواقع هو العكس. وما اتخذ من تدابير أو خطوات تحت عنوان الإصلاح، كان إما متأخراً، وبالتالي قليل الفاعلية أو عديمها، أو شكلياً أدّى إلى الضد من هدفه المعلن. فكأن السلطة توفر للمتآمرين، الذين تعلنهم أعداء لها، أجواء ملائمة للمضي في التآمر وظروفاً مناسبة تغريهم بإمكانية النجاح.

2- على أرض الواقع، يلاحظ الانزياح التدريجي، من الحراك السلمي إلى اللجوء إلى استخدام السلاح. ثم اتساع رقعة المواجهات المسلحة، وتواترها وازدياد شدتها، وانتقال المسلحين إلى تطوير أساليبهم في نوع من حرب العصابات، بما في ذلك الانتقال إلى الهجوم على حواجز الجيش، ونصب الكمائن الموجهة ضدّ أفراد أو مجموعات من الجيش أو رجال الأمن، لكن خصوصاً في السيطرة على مناطق واسعة في الريف، وعلى بعض الأحياء الداخلية لبعض المدن والبلدات والقرى في الليل وأحياناً في النهار، ولمدد زمنية مختلفة تمتدّ للأسابيع. بالإضافة لذلك، حدثت اغتيالات عديدة في مدن مختلفة، وتفجيرات، نسب بعضها لـ"القاعدة" تناولت مراكز أمنية وجرى تخريب مؤسسات عامة (أنابيب نقل النفط والغاز والسكة الحديدية). في المحصلة، المبادرة باستخدام العنف، لم تظل وقفاً على النظام، الذي، بمواجهة ذلك، زاد في زجّ القوات المسلحة في الأحداث، وأخذت الممارسة ترتدي طابعاً حربياً يتجلى بحصار المدن وتطويق الأحياء وقصفها وتهديم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، كما هو جار حالياً في بعض أحياء حمص.

 في الميدان الاقتصادي، لمواجهة هجمة العقوبات الاقتصادية المتصاعدة المطبقة من الولايات المتحدة والدول الأوربية والخليجية العربية، لجأت السلطة لسياسة التراجع، لاحتواء هذه الهجمة. وهي ممارسة، أثارت استياء الغالبية، وكان بالإمكان أن تلقى تفهماً، بل تأييداً من المواطنين لو لم تتصف بالاضطراب والفوضى والعجز عن تأمين المواد الضرورية التي تحتكرها مثل المازوت والغاز، أو تنتجها مثل مستلزمات الإنتاج، إضافة للكهرباء التي تنقطع عدة ساعات يومياً في أنحاء البلاد كلها، ولو لم تتغاضَ عن التجار الذين استباحوا البلد وأمعنوا في نهب المواطنين، وعن تهريب الأغنياء لأموالهم إلى خارج البلاد، مما ساهم ،حتى الآن، بارتفاع قيمة العملات الصعبة بحدود الخمسين بالمئة، وتدني قيمة الليرة بحدود الثلث، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بماهو أكثر من ذلك بكثير.

الاتجاه من اسلوب الحراك الاحتجاجي السلمي، الذي هو الضمانة الأكيدة للتغيير، إلى العمل المسلح لا يعني تضييق قاعدة الحراك فقط، بل ربما دفعه للتقهقر، عدا عن أن العمل المسلح يحتاج للمال والسلاح، مما يدفع إلى البحث عنهما عند من يملكونهما. بذلك تنتقل قضية التغيير الديموقراطي الجذري من الحراك الشعبي السلمي إلى العمل المسلح الضيّق بالضرورة، ومن الداخل السوري إلى االخارج الغربي والخليجي، وتخضع، بالتالي، لإعادة صياغة موافقة لأهداف وتصورات هذا الخارج. وبدلا من أن تكون القضية ممسوكة بالأيدي السورية، يضع الآخرون أيديهم عليها، وهي الأقوى.

 يشير السياق الذي يسير فيه الوضع العام، وخصوصا جوانب السياسة والأمن والاقتصاد، إلى المخاطر التي تواجه البلاد والمجتمع. الممارسة الواسعة للعنف طوال هذه المدة، ومارافقها من اختلال الأمن، والغلاء الحاد والمفاجئ، ترفع التوتر بين الناس، وتنشر في دوائر ليست قليلة مزاجاً طائفياً، لم تألفه البلاد، ولم يتعود عليه أهلها، مما يشكل أرضية مناسبة لاستمرار الصراع الداخلي ونموه ويهدد بدخول البلاد أتون الحرب الأهلية.  

3- إيغال النظام في ممارسة العنف المنفلت من الضوابط والوضع المضطرب في البلاد خلال الأشهر المنصرمة سمح لقوى خارجية، بالتدخل المباشر وغير المباشر في الأحداث، تدخل واسع امتدّ من الحرب الإعلامية إلى الحرب الاقتصادية والسياسية وإلى أمور أخرى، وأصبح "للمسألة السورية" أبعاد إقليمية خطرة، ثم أبعاد دولية بعد ذلك. وتحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، والغيرة على الشعب السوري، شن حلف من الدول الغربية الكبرى ودول الخليج نوعاً من الحرب، يذّكر بشبيهه خلال الأشهر التي سبقت العدوان على العراق في ما سمّي بحرب تحرير الكويت. وبتواتر لافت للنظر، استخدمت منابر المنظمات الدولية والإقليمية. فالجامعة العربية، وظفت وقتا طويلاً وبذلت جهداً كبيراً لعلاج الأزمة. من حيث الظاهر أرادت بقراراتها ونشاطها، المساعدة في التوصل لحل في الإطار العربي. في الواقع لم يكن هدف السعودية وقطر تحقيق تسوية مقبولة، بل منع حصولها، ونقل القضية إلى مجلس الأمن، عسى أن يصدر منه قرار شبيه بالقرار حول ليبيا، يمهد لتدخل الحلف الأطلسي (وتركيا عضو فيه)، مدعوماً (بالأحرى مغطى) من قوات خليجية. من غير الواقعي عقد الآمال على الجامعة لإيجاد حلول معقولة للأزمة السورية. فهي، من جهة، منظمة دول يتحدد نشاطها بسياسات وأوزان هذه الدول، وهي حاليا واقعة تحت نفوذ السعودية ودول الخليج النفطية. ومن جهة أخرى، يكشف تاريخها، خصوصا في العقدين المنصرمين، الدور المشين الذي لعبته في تغطية العدوان الأمريكي الأول على العراق 1991، ثم في تغطية الاحتلال الأمريكي له2003، وأخيراً وليس آخراً، في استجلاب تدخل حلف الناتو في ليبيا بذريعة حماية المدنيين.

لا جديد في الأمر، إذاً، عندما تستخدمها دول الخليج بالاتفاق مع حلفائها الغربيين، وبالاستفادة من الأزمة السورية، للتمهيد لتغييرات كبيرة في الشرق الأوسط تلبي الأهداف المشتركة. ينطلق التصور الغربي، والأمريكي بالدرجة الأولى، وخصوصا منذ الخمسينيات، أي منذ إعلان مبدأ الفراغ لأيزنهاور، ينطلق من الأهمية الجيوسياسية الاستثنائية للشرق الأوسط في الصراعات على النفوذ، ومن الأهمية الاقتصادية لبتروله وغازه، وكون تأمينهما المستمر مسألة "وجودية" للرأسمالية الغربية، بل للحضارة الغربية التي تقوم على الاستخدام الكثيف للطاقة. لذلك يجب أن تبقى كياناته، خصوصا العربية منها، هشّة وضعيفة.وهذا هو مضمون المخطط الأمريكي الجديد لإعادة صياغة الشرق الأوسط، الذي عملت إدارة بوش الابن على تنفيذه، ولاتزال الإدارة الأمريكية الحالية تتابعه، وإن بطرق ووسائل جديدة. ينبغي الحيلولة، إذاً، دون وجود دول متطورة، قوية علمياً واقتصادياً ومجتمعياً. وإن وجدت مثل هذه الدول، يجب الخلاص منها بكل الوسائل، والحرب أجداها. وهذا هو السبب الرئيسي وراء عدوان 1967 للخلاص من مصر الناصرية، ووراء الحرب العراقية الإيرانية لاستنزاف الطرفين، ووراء حرب "تحرير" الكويت لإنهاك العراق والتمهيد لاحتلاله الذي أنجز عام 2003.  

4- تأتي أهمية سورية ليس من نظامها السياسي، ولا من سياسته تجاه الدول الغربية أو إسرائيل أو الدول العربية والإقليمية، والتي يقال فيها الكثير، وليس من بترولها الضئيل الكمية والمتجه للنفاد، بل من أهمية موقعها الجيوسياسي، ومن شعبها الذي حمل دائماً مشعل العروبة، ولم يتزعزع ارتباطه بقضية فلسطين. لذلك احتل "الصراع على سورية" حيّزاً هامّاً من تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين. وبعد الحرب العالمية الثانية، مع ازدياد أهمية البترول، وفي سياق الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والغرب وبين الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، ازدادت أهمية الموقع السوري.

في الوقت الحاضر تسنح فرصة ذهبية للإمساك بمصير هذا البلد. على هذا الهدف يتفق الغرب (وإسرائيل من ضمنه) ودول الخليج والسعودية على رأسها، ويتفقون أيضاً على ضرورة ضرب إيران، وعلى قطع السلسلة الممتدة من طهران إلى بيروت في أضعف حلقاتها، وهي في الحاضر سورية، ثم الإجهاز على الحلقات الأخرى بعد ذلك. لعل مايجري هو أيضاً حرب إستباقية هدفها المباشر الكيان السوري لفرض وقائع على الأرض، قبل أن يتبلور تحالف عالمي تلوح بوادره في الأفق، من روسيا والصين ودول أخرى لمجابهة التحالف الغربي والحيلولة دون تحكم الولايات المتحدة بالعالم لعقود قادمة. الأيام القادمة ستكشف ما وراء هذا النشاط المحموم لدول لم تعرف عنها الغيرة على حياة البشر وحقوق الإنسان. كما ستكشف حماسة دول الخليج لنقل "القضية السورية" إلى مجلس الأمن، والتمهيد لتحالفات غربية- إقليمية لا يمكن تصور اقتصارها على استهداف نظام الحكم السوري لوحده.

لقد تحول مجلس الأمن الى ساحة صراع، حاصرت الدول الغربية فيها روسيا والصين لإجبارهما إما على التراجع أمام الهجوم الغربي المعتمد على قرار الجامعة بطلب تأييد المجلس لقرارتها الأخيرة بشأن سورية، أو في حال استعمال الدولتين لحق الفيتو، تشويه سمعتهما، بإظهارهما كمدافعتين عن نظام والغ في دماء شعبه. انتقلت المعركة بعد ذلك إلى الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ثم إلى خارج الأمم المتحدة والجامعة العربية.

في تونس انعقدت الدورة الأولى لمؤتمر "أصدقاء سورية" الذي ستنعقد له دورة ثانية في اسطنبول وثالثة في باريس. وبغض النظر عن القرارات المتخذة من هذين المحفلين، فلا تجوز الاستهانة بقرار الأمم المتحدة، ولا بمؤتمر تونس، ولا بالمنظمات العالمية المختلفة، فهي تساهم في تكوين الرأي العام على نطاق العالم، وتؤثر على الرأي العام العربي والداخلي، وقد تمهد الأرض لأمور أخرى تتجاوز الكلام. فبعد مؤتمر تونس تشكلت مجموعة من سبع دول غربية وخليجية (منها الولايات المتحدة والسعودية وتركيا) "للعمل الميداني" في الأوضاع السورية.

5- في الأيام الأولى للأحداث، بل وحتى في الأسابيع الأولى لها، كان في قدرة النظام قيادة البلاد على طريق إصلاح سياسي حقيقي طالب به الديمقراطيون السوريون منذ أكثر من ثلاثة عقود، بعد العام 2000 ووضوح فوات النظام لدوائر أوسع من المواطنين ازدادت المطالبة بإصلاح سياسي ينقل البلاد باتجاه الديمقراطية. القمع كان رد النظام. فإصلاح من هذا النوع لم يكن مقبولاً منه، وربما لم تتوفر القدرة على تحقيقه، لأنه يلحق الضرر بالقوى المسيطرة على النظام والمستفيدة منه. بالإضافة لذلك لم تتوفر قوى اجتماعية عريضة قادرة على تحقيقه. الإصلاح الاقتصادي والإداري طُرحا في حينه للتشويش على الإصلاح السياسي، ولم يُقيّض لأي منهما أن يتبلور في مشروع محدد. في الواقع مارس النظام سياسة اقتصادية ليبرالية، حسب وصفات البنك الدولي، أُطلق عليها اسم "اقتصاد السوق الاجتماعي"، أدت إلى تسريع التمايز الطبقي وزيادة غنى الأغنياء وإفقار مجموعات جيدة من المجتمع ونشر البطالة خصوصا بين الشباب وزيادة تهميش أغلب المناطق التي تحولت إلى مراكز للحراك الشعبي.

أشاحت السلطة السورية بوجهها عن المعاني العميقة الواجب استخلاصها من الثورتين التونسية والمصرية ومن انفجار الأحداث في اليمن والبحرين وليبيا. بل استعدّت لمواجهة الاحتجاج بالعنف. على أن الأشهر المنقضية كشفت عن عجزها عن هزيمة الحركة الشعبية، لكن أيضاً عن عجز الحركة الشعبية عن كسر النظام أو اجباره على التسليم بمطالبها. ودخل الوضع حالة من الاستعصاء، بالأحرى نوعاً من حرب الإستنزاف المترافقة مع تدهور في الأوضاع العامة، مما يرهق المجتمع والسلطة ويفسح في المجال لتدخل متزايد متنوع الأشكال من القوى الاقليمية والدولية، ويحمل الأخطار على تماسك البلاد ووحدتها وعلى الدولة نفسها. بل يكاد الاضطراب أن يصل إلى لبنان، وحالته قابلة للتفجر من أصغر الشرارات، وإلى العراق بما يهدد بتشظي الدولة العراقية الضعيفة التماسك منذ الاحتلال الأمريكي، وربما يُوظف الوضع للتمهيد لحرب أوسع تشمل ايران ولن تكون منطقة الخليج بمنجاة من حريقها، حرب يزداد فيها الكلام عن قيام اسرائيل بالدور الرئيسي فيها، وليس من المستبعد مشاركة الولايات المتحدة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فأمريكا التي تعاني من أزمة اقتصادية شديدة، قد تجد في الحرب مخرجا لها من هذه الأزمة، برغم سنة الانتخابات الرئاسية التي يقال إنها تحول دون الذهاب إلى الحرب مؤقتاً.  

6 – مع استمرارالحل الأمني-الحربي، والعمل المسلح، وتدويل القضية ودخول أطراف كثيرة فيها يصبح الحل السياسي الداخلي، أي التسوية السياسية، صعباً جداً يقترب من الاستحالة. ورغم ذلك من الخطأ الاستسلام أمام هذا الواقع الصعب. لقد أهدر النظام فرصاً كثيرة، خصوصاً في الأسابيع الأولى من انفجار الأزمة الوطنية، وكان بإمكانه استغلالها وتولي قيادة العملية التاريخية السلمية للتغيير. لكن السلطة، بنهجها الأمني، حولت نفسها من قوة رئيسية للحل إلى جزء هام من المشكلة المطلوب حلها. لقد فشل الحل الأمني، واتسعت الهوة بين المجتمع والنظام، وتزعزعت الثقة، ولم يعد من الممكن الوصول الى صيغة حل قادرة على تلبية مطالب الشعب بدون إعلان السلطة الالتزام بالحل السياسي، والاستعداد لتقديم التضحيات الملموسة القادرة على إحداث تغيير جدي في الرأي العام، وعلى إقناع الناس بأنّ التغيير نحو الديموقراطية قد بدأ. ومن واجب المعارضة، على اختلاف تشكيلاتها، الدفع نحو الحل السياسي السلمي، والابتعاد عن الطريق الذي سارت عليه المعارضة العراقية. الأيدي المعادية لشعبنا وبلادنا موجودة وفعالة في الأزمة، وهي لم ترد الخير لها في الماضي ولا تريده الآن ولن تريده مستقبلاً. هذا لا يعني رفض الاستفادة من القوى والدول التي تساعد في تحقيق حل يلبي مطالب شعبنا وينقل بلادنا إلى النظام الديموقراطي، ويصون استقلالها ووحدتها. من هنا أهمية التعامل الصحيح مع الاستعداد الروسي للمساعدة في البحث عن تسوية والخروج من حالة الاستعصاء السائدة والحيلولة دون الغرق في حرب الاستنزاف. كما تنبغي الاستفادة من أي جهد صادق تبذله الدول والهيئات الراغبة بتقديم العون لتحقيق هذا الهدف. وكيفما سارت الأحداث، فالمارد الذي خرج من القمقم لا يمكن إعادته إليه، والنصر في النهاية للشعب. 

دمشق، أوائل آذار 2012.

[عن جريدة "السفير" اللبنانية]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • رؤية

      رؤية
      1-- تجتاح الحرب،التي تقترب من نهاية عامها السادس، سورية من أقصاها الشرقي إلى أقصاها الغربي ومن شمالها إلى جنوبها. وهي لم تعمل على تفكيكها وحسب، بل أدت إلى تدمير الكثير من مدنها وقراها واحتلال مناطق ع
    • المسألة السّورية: سؤال المصير والمستقبل: الحراك الشعبي في سورية

      المسألة السّورية: سؤال المصير والمستقبل: الحراك الشعبي في سورية
      ‫الحراك الشعبي في سورية1ـ الحراك الشعبي السّوري ، الّذي بدأ في النّصف الثّاني من آذار (مارس) 2011 تحوّل تدريجياً ، وقبل أن يتصلّب عوده، وتترسخ قاعدته الشّعبية، ويتحقق استقلاله عن القوى والمؤثرات الخا

Firing Ibrahim Eissa From Al-Dostour Exposes The Reality Of The Wafd's New President

وأخيرا خلع السيد البدوي برقع الحياء بفصله إبراهيم عيسى وطاقمه من الدستور

 

وحدث ما كنا نتخوف منه ونتوجس حدوثه. فقد أقال بالفعل مجلس إدارة صحيفة الدستور إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير الجريدة أمس، ووقع القرار كلامن رئيس مجلس إدارة الجريدة د. السيد البدوي (رجل الأعمال المعروف ورئيس حزب الوفد الذي يتم تلميعه منذ شهور) والرئيس التنفيذي لمجلس الإدارة رضا إدوارد (وهو وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد أيضا). وواجه صحفيو الدستور ذلك القرار على الفور باعتصام مفتوح بمقر الجريدة (بعد ساعات من صدور القرار)، وهو ما يعني دخول الجريدة في أزمة طاحنة لمدة لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها. ثم تلى ذلك فصل كل أعضاء سكرتارية التحرير: شادي عيسي ومحمد فوزي، مساعدا رئيس التحرير، وعبدالمنعم محمود سكرتير عام التحرير. وهذا يعني أن ما تعرضت له الجريدة لا يقل عن مجزرة واسعة لاستئصال مراكز ثقل سياسة التحرير القديمة.

لا أظن أن هذا القرار فاجأ أحد، فمنذ أن أشترى السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، ومعه مجموعة من رجال الأعمال الوفديين الجريدة من مالكها السابق ونحن نتوجس إزاحة إبراهيم عيسى عن الساحة ليهدئوا بذلك من وتيرة معارضة النظام ومحاربة التوريث التي كانت تنتهجها الدستور تحت قيادته. لكن ما فاجأني أنا شخصيا هو تنفيذهم لمخططهم بهذه السرعة، فكنت أتوقع أن يكونوا أكثر حصافة من ذلك. لكن يبدو أن السيد البدوي لا يبالي بأية حصافة فقرر خلع برقع الحياء بكل بساطة وبسرعة البرق. لماذا لم ينتظر بضعة أشهر قبل أن ينفذ مخططه، وهو ما كان سيكفل له الوقت اللازم للتغطية على أغراضه الحقيقية؟ هل وصلت له تعليمات أمنية بضرورة الاسراع في تنفيذ المخطط؟ هل يريد أن يغلق فم الدستور قبل الانتخابات التي ستشهد تزويرا واسعا للوفد؟ أم أن تحالفاته الجديدة لا تتحمل الحصافة أصلا (فمن المعروف عن رجال الأعمال أنهم يرهقون أنفسهم في تحقيق شيء غير ممكن)؟ 

للأسف ما قيل على صفحات الانترنت من أن سبب فصل إبراهيم عيسى هو اعتراض البدوي علي نشر مقال ما أو وجود خلافات بينه وبين إبراهيم عيسى بشأن المرتبات هو تفسير غير مقنع على الاطلاق، وضار جدا أيضا. فلا يمكن إقالة شخص بوزن إبراهيم عيسى من صحيفة كصحيفة الدستور (تدور كلها حول شخص إبراهيم عيسى) بهذه السهولة على خلفية خلافات عادية كهذه. وعلى الرغم من سخافة هذه تفسيرات نراها للأسف تقنع الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة. الثابت هنا هو أن البدوي يبيت النية لهذا القرار منذ اللحظة الأولى...تشير كل الدلائل إلى أنه أخذ قرار إسكات إبراهيم عيسى مع سبق الإصرار والترصد، وكلنا كنا نتوقع أن يفعل ذلك. بل كان ذلك هو السبب الرئيسي والوحيد لشرائه الجريدة. لنترفع إذن عن التحليلات السخيفة التي لا تفعل أي شيء سوى تبرير القرار بالبحث عن أسباب <<معقوله>> و<<محترمة>> له، ولنبدأ جميعا من الاعتراف بأن البدوي فصل إبراهيم عيسى وطاقمه للتقليل من حدة الجريدة في معارضة النظام...كجزء من مخطط متعدد الخطط والأطراف يهدف لتهدئة الاحتقان في البلد وتسهيل عملية انتقال السلطة بشكل عام (برلمان، رئاسة، إلخ).

الهدف الرئيسي من وراء شراء رجال الوفد الصحيفة هو إغلاق أحد أهم أبواق المعارضة المستقلة في الدعاية ضد النظام وتوريث الحكم، ولهذا السبب يجري تلميع حزب الوفد وقياداته منذ فترة الآن. وذلك إنما يكشف أن السيد البدوي وحزبه لا يختلفان عن جمال مبارك وحزبه.

لكن يبقى السؤال: ماذا ستفعل المعارضة المستقلة تجاه ذلك؟ هل ستسكت على ما يفعله البدوي وحزبه بعد أن أثبتوا أنهم جزء لا يتجزأ من حملة تجفيف أقلام المعارضة المستقلة؟ هل ستظل تتعامل مع حزب الوفد على أنه من المعارضة، وتتعامل مع رئيسه على أنه معارض لامع؟ وهل ستستطيع المعارضة المستقلة فتح مساحات إعلامية وتثقيفية مستقلة في المستقبل؟ أين ستنشر أخبارها وآرائها؟

في كل الأحوال يشير قرار فصل إبراهيم عيسى بهذا الشكل الفج أننا على أعتاب فترة حرجة جدا ستضيق فيها المساحات المفتوحة أمام المعارضة المستقلة (وهي قليلة بالفعل) بشكل خانق وغير مسبوق، وأن التنكيل بالمعارضة المستقلة سيأتي من النظام وبعض مؤسسات المعارضة على حد سواء. إذا نجحوا في ذلك لا سمح الله ستختلف ساحة صنع الرأي العام في البلد بشكل مخيف. إقالة إبراهيم عيسى حدث مخيف ومؤسف جدا، وفيه تهديد مباشر لنا كلنا، ويجب أن نتعامل معه على انه كذلك. ولن يكون الأخير بكل تأكيد، بل هو بداية حملة للتقليل من المساحات القليلة المفتوحة أمام المعارضة، وملاحقة كتابها، صحفي صحفي. وتشمل هذه الحملة توسعة مساحة المعارضة المنضبطة، ولذلك تنوي الحكومة السماح لثلاث صحف جديدة بنشر إصدارا يوميا، وهم: <<الكرنك>>، جريدة هشام قاسم الجديدة (كان قاسم من أهم مؤسسي المصري اليوم)، و<<اليوم السابع>> ولها موقع إنترنت معروف وتنشر جريدة اسبوعية بالفعل، و<<الفجر>> جريدة عادل حمودة الأسبوعية. وهذا يعني أن المرحلة القادمة ستشهد مضاعفة مساحة الصحافة <<المستقلة>> اسما والتضييق على الصحافة المستقلة فعلا.

لا أعلم إلى أين سينتهي إضراب الدستور، وما إذا كان سيفشل أم ينجح في الوصول إلى حل وسط ما. لكن حتى لو نجح في الوصول إلى حل وسط ستظل الخسارة كبيرة لأن هذا سيعني ان طاقم الجريدة سيعمل تحت التهديد المستمر. كما لا أفهم سر شماتة البعض في إبراهيم عيسى والدستور بسبب اختلافهم معه، فعدم تقدير فداحة هذا الحدث هو قمة الغباء السياسي. وأقول لهؤلاء: أنتم اللاحقون أيها البلهاء.