سفر الاختفاء: رحلة إلى فلسطين ونبش في تاريخها

سفر الاختفاء: رحلة إلى فلسطين ونبش في تاريخها

سفر الاختفاء: رحلة إلى فلسطين ونبش في تاريخها

By : Omar Shabanah عمر شبانة

منذ بداية روايتها "سِفْر الاختفاء"، حتى السطور الأخيرة من الرواية، تأخذنا الكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم، بنت يافا وطيبة المثلث، في رحلة إلى فلسطين، عبر حادثة وهمية، خيالية أو افتراضية، تتمثل في "اختفاء" الفلسطينيين من دولة "إسرائيل"، اختفاءً مفاجئا، بل مذهلا وصاعقا، يوقع هذه الدولة بإدارتها ومؤسساتها في حالة من الهلع والذعر والترقب، بما في ذلك الجيش والمؤسسة الأمنية، فضلا عن الإعلام الذي يقع في التخبط حدّ الهستيريا، إضافة إلى الجماهير التي تنقسم على ذاتها حدّ التشظّي، وتنتهي الرواية ولا ينتهي الاختفاء!

المواقف المختلفة هنا، في الرواية، ليست حيال عملية "الاختفاء" وحسب، بل هي مواقف تجاه العرب الفلسطينيين الباقين الذين لم يغادروا وطنهم، وما "لعبة" الاختفاء هذه سوى أداة تستخدمها الكاتبة لنبش هذه المواقف، ماضيا وراهنا ومستقبلا، لتظهر لنا ما كانت عليه الحال قبل "النكبة" ومعها وبعدها، حتى أيامنا هذه، أيام "الربيع العربي"، من خلال ذكريات الجدّة "تاتا هدى" التي يستعيدها حفيدها علاء العسّاف، ابن نكسة 1967، وكذلك من خلال ما يرويه الصحافي الإسرائيلي أريئيل.

الرواية الصادرة عن دار الجمل (ألمانيا، حزيران 2014، وجاءت في 240 صفحة)، وتسعة وأربعين فصلا، وتستمر لثمان وأربعين ساعة، يرتكز جزء منها على التأملات والتذكّر والحوارات، بينما يقوم جزء آخر على "مذكرات" كان يكتبها علاء في الدفتر الأحمر الذي يتصفّحه أريئيل في شقة علاء، أثناء اختفاء هذا الأخير، ضمن اختفاء العرب جميعا. ففي الفصول الأخيرة من الرواية، يعتبر أريئيل أن المكوث في شقة علاء، يهيء له راحة ومناخا أفضل للقراءة والكتابة، لكنه في فصل الختام يفاجأ بأصوات "خرخشة" مقلقة مجهولة المصدر، لا يعرف مصدرها، وما تزال البلاد في حالة طوارئ واستنفار قصوى، فيقرر أن "عليه تغيير قفل الباب". ربما خوفا من عودة علاء أو الفلسطينيين.

تثير الرواية الكثير من الأسئلة القديمة، والجديدة، والقديمة المتجددة، أسئلة يثيرها "أبطال" الرواية بأجيالها المتعددة، عربا ويهودا، مسلمين ومسيحيين، متدينين وعلمانيين.. ما أحقّيّة اليهود في إقامة دولة لهم على أرض الآخرين؟ ما الذي قام به الصهاينة ليقموا الدولة؟ ما الذي دفع العرب إلى الهجرة والمغادرة؟ ما طبيعة العلاقة بين اليهود والعرب الباقين في هذه الدولة؟ هل من ثقة بين هذين المكوّنَين من مكوّنات الدولة؟ وهل العرب "عملاء" مزروعون في قلب هذا الكيان، كما يزعم الكثير من المتعصبين اليهود؟ 

في الفصل الأول من الرواية، تختفي الجدة (تاتا)، وبعد البحث المضني يجدها حفيدها علاء جالسة على مقعد خشبي أمام البحر، في يدها عقد لؤلؤ. وكانت الجدّة قد استحمّت قبل خروجها من بيت ابنتها، وحين توفيت عن ما يقارب تسعين عاما، كانت كأنّما كي "تمشي في جنازتها هي نفسها". بعد اكتشاف وفاتها هذه، تنثال الحكايات والقصص عن حياتها، وحياة الفلسطينيين خلال ما يقارب قرنا من الزمان. فنتعرف على الأمكنة، وخصوصا مدينة يافا من المنشية إلى العجمي في شارع الكونت، وتل أبيب وحيفا، بأسماء الشوارع والمقاهي والمطاعم والحانات، وبيوت الدمى/ غاليريهات الفنانين، وحتى عاهرات المدينة، وتفاصيل الحياة اليومية للشخوص.

الجدّة كانت بنت حياة وحيوية، تقول "احنا أهل البحر من المنشية، منحب الحياة غير شكل عن أي مكان بالدنيا". كانت رفضت الخروج من البلاد مع والدتها وأهلها، فظلت في ذاكرة حفيدها علاء كأنما هي روح يافا وذاكرتها، يكتب علاء في دفتره "كنت متأكدا أن مدينتك التي تتحدثين عنها، والتي لها نفس الاسم، لا علاقة لها بمدينتي. تشبهها إلى حد الجنون، الأسماء والبيارات والروائح وسينما الحمراء والأعراس وعيد النبي روبين وشارع إسكندر عوض وساحة الساعة... والناس. أولئك الناس الذين أعرف كل مشاكلهم، وكيف تهجّروا من يافا. أعرف تفاصيل حياتهم المملة، وتلك الأكثر إثارة. ونكاتهم. كل هذا وأنا لم أر أيّا منهم وأشك أنني سأرى".

 وحين خرج أهلها وراح زوجها يقنعها بالخروج إلى بيروت، ظلت تقول "حدا بتكون عنده يافا وبيروح لبيروت؟". وتتساءل "شو فيها بيروت؟". وعن سبب الخروج "هديك السنة" تقول كنا "زي الفيران حياتنا مالها قيمة.. الطخ"، ومع ذلك رفضت الخروج.

اختفاء العرب بدأ باختفاء السجين رقم 3 وليد، ومساجين (المعتقل 48)، حيث السجان رافي يصرخ بهلع وهستيريا "الزنازين فارغة"، ثم نتحول إلى مستشفى، حيث العجوز السبعينية "حبيبة" العراقية في المستشفى تسمّي الأشياء بغير أسمائها المألوفة، فهنا (تل الخربة) بدل تل أبيب، وعزرائيل بدلا من إسرائيل، وترى أن الأحفاد صاروا مثل اليهود، وتتذكر الرحلة من بغداد إلى فلسطين واستقبال المهاجرين بالرش بالأدوية من أجل التعقيم.

شخصية أريئيل ملتبسة وإشكالية، فهو، من جهة، يثير أسئلة وشكوكا حول عدد من المسلّمات الصهيونية، ومن جهة مقابلة يتساءل عمّا كان يمكن لليهود فعله في ظل جرائم النازية، ويظل يذكّر بالمحرقة، ويستمر شعوره بالهلع وغياب الثقة، ويتساءل "ماذا سيحدث لو انفجر آلاف العرب بنا؟"، فهناك خيبة أمل من العرب الإسرائيليين، خصوصا أن بعض دول ما يسمى بالربيع العربي يحرّض ضد إسرائيل، لذلك لا يتورّع عن القول "فليذهبوا إلى الجحيم"، أو "إلى الدول العربية"، ويتهم اليساريين الإسرائيليين الذين يساندون الحقّ بدولة فلسطينية.

في مسألة المسلم والمسيحي، يجدر التوقف عند مسألة جديرة بالاهتمام، فأنت قد تنتهي من قراءة الرواية، من دون الانتباه إلى من هو مسيحي ومن هو مسلم، فالحديث في الغالب يكون عن عربي فلسطينيّ تحت حكم الدولة الصهيونية، هذا أولا، لكنك ستقرأ بالتأكيد عن سلوك ينمّ على رفض التمييز بين مسلم ومسيحي، خصوصا الحادثة المتعلقة بشيخ جاء ليقدم موعظة للجدة حول الجلباب واللباس الإسلامي، وفي حديثه تعريض بالمسيحيين، فما كان من الجدة إلا أن أخذت حذاء جارتها المسيحية أم ياسمين وضربت الشيخ به بعد توبيخه.

على مستوى اللغة، تستخدم الكاتبة في بعض المشاهد لغة جنسية إيحائية وذات شفافية عالية، لكنها في مشاهد أخرى، وعلى لسان بعض الشخصيات، لا تتورع عن استخدام الشتائم الدارجة التي تنتمي إلى الشارع. وعلى مستوى آخر، فهي تستخدم الفصيحة حينا، والمحكية الدارجة حينا، ونجدها تستخدم اللغة العبرية في بعض الحوارات، ومن غير ترجمة، وإن كان السياق مفهوما في أغلب الأحيان.

عناصر كثيرة في هذه الرواية جديرة بالتناول، لا يمكن لهذا المجال أن يتسع لها، ولكن أختم بما يمكن القول إنه الوعي السائد في أيام الأجداد، ومنهم هذه الجدة التي رفضت التهجير، وقد كانت معرّضة للقتل مثل عشرات الآلاف ممن قتلوا، هذا على صعيد العلاقة مع الوطن والذاكرة والتاريخ، لكن هناك مسألة تبدو على قدر من الهامشية، وقد لا يلتفت إليها إلا القارئ المدقق، وهي تتعلق بلوحة في شقة علاء، تتكون من شخص ملثّم وخلفية اللوحة مضرّجة بالدّماء، هنا نستمع إلى الجدة، إلى وعيها المبكر المتقدّم، نستمع إلى ما يقارب التوبيخ لحفيدها علاء لأنه يعلق هذه اللوحة "اللي بتخنق القلب"، وتسأله لماذا لا يضع صورة ليافا، أو "صورة بنت حلوة". 

فهل هذا هو الوعي الذي تمّت هزيمته؟ الوعي الداعي إلى الحياة في مواجهة الموت؟ هذه هي الدعاية التي أشاعها الإعداء عن شعبنا الفلسطيني، فهل نظل نصدّق أن أجدادنا كانوا جاهلين ولصوصا وقتلة ودمويين؟! سؤال برسم إعادة كتابة التاريخ، ولو روائيا!

نسخة مشابهة من المقال نشرت لأول مرة في ”مجلة دبي الثقافية“ العدد 120 تحت عنوان: ”سفر الاختفاء لابتسام عازم: رحلة إلى فلسطين ونبش في تاريخها“

  

 \"\"

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • في المشهد الأدبي الفلسطيني: الشعر والرواية من التأسيس إلى التجديد

       في المشهد الأدبي الفلسطيني: الشعر والرواية من التأسيس إلى التجديد
        - وجهة نظر -   منذ سنة النكبة 1948 حتى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت جسر القضية الفلسطينية وتوابعها، أعني ما يتصل بها وينبثق عنها، سياسة وثقافة واقتصادًا ومجتمعًا. ورغم عدم انفصال أي من هذه العناصر
    • عمر شبانة: سيرة لأبناء الورد

      عمر شبانة: سيرة لأبناء الورد

      مقاطع مختارة من ديوان "سيرة لأبناء الورد“ للشاعر عمر شبانة فلسطين/ الأردن، الصادر عن ”الأهلية“ في عمّان. اسْمي الذي يليقُ بي -10- في غابة الأسماء كانَ الأنبياءُ، والصّعاليكُ، وتاريخٌ من الدّماء، حارقّ، وكان ثمّة السيّد والعبيد، كان الماء من زمزم، والنبيذ، وكلّ واحدٍ يقودني في غابة، وكل غابة تأخذني، من أذنيّ نحو غابة، تدور بي كأس هُنا، وموجةٌ من البكاء في الكأس، كأنني هناك وبين كأسين من الجنون والصلاة في المعابد ما بين قلبي واقفا أو راكعا أو ساجدًا في عتمة كأنها جزيرة الهلاك

كل الأشياء

 

“Except that the dog is here and now, while its concept is everywhere and nowhere, always and never.” 

ألكسندر كوجيف

حَرّ. ناس يتكلمون لغة غريبة ويعجّون شوارع أغرب. شوارع غير تلك التي اعتدت شكلها. يدي تقبض عليها يد أكبر. يد كانت مصدر كل الطمأنينة في العالم، حتى في تلك الشوراع الغريبة. بدأ حوار مع شخص مبتسم شكله غريب أيضاً. استمر الحوار لبعض الوقت، ثم نزلت اليدُ الأخرى من الجهة البعيدة عني وأعطتني شيئاً. كان ملمس الشيء خشناً وكان وزنه خفيفاً. لم يكن حاراً ولا بارداً، وكان يجب علي أن أمسكه بحيث يبقى متوازناً. عرفت أن الشيء للأكل. بعجلة، وضعت لساني على الشيء ووجدته بارداً جداً. بارداً ورائعاً. عندما وضعت أسناني عليه لم يخرج منه الكثير، ولكن ما خرج منه كان ثلجياً. كان يدخل فمي بارداً ثم أشعر بالثلج يتكسر على أسناني، ومن ثم ينطلق منه الطعم منتشراً في كل أنحاء فمي. بعدها يبدأ الشي بالذوبان على لساني. كان عليه ثلج، لا بل كان الثلج فيه. كان جزءاً منه. في المحاولة الثانية استخدمت لساني وأسناني، وعدلت من زاوية اقتراب فمي إليه. كانت المحاولة ناجحة وأخذت جزءاً أكبر من الشيء. هذا الشيء العظيم. هذا الشيء الذي قدمته لي تلك اليد الكبيرة المطَمئنة، في ذاك الشارع غريب الشكل، الذي كل ما أعرفه عنه هو أنه بعيد، بعيد كل البعد عن البيت. تحركت اليد الكبيرة، وتحركت معها، مستخدماً ما تعلمته لأبقي الشيء العظيم في مكانه بينما أسير في خطوات كبيرة لأواكب انطلاقة اليد. 

كان هذا قبل أن تخونني اليد المطَمئنة، وتكشف لي عن وجهها الآخر. عن مقدرتها على الاختفاء، عن برودتها وجفائها، وعن قدرتها الهائلة في أن تهوي، دون أي تحذير، وبكل قوتها، على وجهي. لهذا السبب يا صديقي، فأنا آسف، ولكنني لا أستطيع قبول ما قدّمت. أنا لا أتناول إلا نكهة واحدة من البوظة. تلك البنية الغامقة. هي النكهة التي كانت ذاك اليوم. ذاك اليوم، عصراً أظنه كان. أو ظهراً. لا يهم. كان يوماً جميلاً. وفي كل مرة أتناول فيها البوظة، فأنا أكون أبحث فيها عن تلك النكهة. أريدها أن تكون مطابقة تماماً لتلك في ذاك اليوم. وإن لم تكن، ومهما كانت لذيذة، فإن أملي يخيب. ولحد الآن، فأنا للأسف، لم أجدها أبداً. 

صدقني يا صديقي عندما أقول أني بحثت عنها. جربت المعلب والـطازج والغالي والرخيص. وضعت إعلانات في مجلات البوظة شارحاً المواصفات بالتفصيل الممل. ذهبت إلى مؤتمرات وحفلات تذوق. بحثت طويلاً. سافرت بلاداً وجبت أراض واسعة باحثاً عن تلك النكهة. ولكني لم أوفق أبداً. أعرف كيف أقول بوظة على نكهة شوكولاطة بثلاث وعشرين لغة. أكلت البوظة في عواصف ثلجية، في درجات حرارة سالبة، في قرى صغيرة في ريف الصيـن، وعلى قمم جبال عند قبائل أمريكا اللاتينية. بحثت في أوروبا وأمريكا ونيوزيلندة وإفريقيا. وجدت أقرب ما يكون إلى تلك النكهة في اليابان. ولكنها كانت ثلجية أكثر من للازم، والنكهة بحد ذاتها أضعف مما كانت عليه  في ذاك اليوم. ذاك اليوم الذي لن أنساه ما حييت. مجرد لحسة واحدة، أعرف عندها فوراً أن مرامي خاب. أرميها وأنطلق متجهاً إلى مكان آخر أبحث فيه. لم أقم بواحدة من تلك الرحلات منذ سنتيـن. فلقد تقدمت في العمر كما ترى، كما أنني أنفقت كثيراً مما أملك في هذه الغاية. في المنزل أنا دائم الإطلاع على وصفات جديدة ومراجعات لما يتعلق بالبوظة، كما أن عندي عدة اشتراكات بمجلات ودوريات متخصصة في هذا الموضوع.

أمضي في هذا وقتاً كثيراً. أحياناً يمر باص البوظة بموسيقته العالية منادياً الأطفال. تجدني أركض إلى الشارع، سابقاً الأطفال في أكثر الأحيان. يرمقني الأطفال وأهلهم بنظرات ريبة. لا بل البائع نفسه يعاملني بجفاء. ولكنه يعرف الطلب. واحدة من كل نكهة شوكولاطة عنده. أحملها وأذهب، ويسعد الجميع بذهابي. لا يهم. المهم هو شيء واحد. أن أجد تلك النكهة، مجبولة بتلك الطريقة. أن يكون الثلج جزءاً من الشيء. في صميم الشيء. ليس مجرد قطع على السطح، أو بعض الثليجات في الأسفل. أصعب هذا جداً؟ أهو مستحيل؟ وها أنا الآن قد قاربت على الموت، وما زلت لم أجد تلك النكهة، ذاك الشيء.

في لندن اعتقدت أني سأجدها. ما أوقعني في غرام تلك المدينة، هو أنه لو كان هناك خمسة أشخاص في العالم أجمع، مهتمون بأمر مغمور وفي منتهى الغرابة، فستجد ثلاثة منهم في لندن، وعلى الأغلب أنهم سيكونوا قد نظموا نادياً أو جمعية بهذا الخصوص. اجتمعت بهواة البوظة هناك، لا بل وجدت ناديا مختصاً بعاشقي نكهتي بالذات، الشوكولاطة. كانت اجتماعاتنا أسبوعية، في حانة اسمها البطة والعجلة. كان يحضر الاجتماع عادة اثنا عشر أو ثلاثة عشر شخصاً. معظمهم في الأربعينات من عمرهم. نشرب البيرة ونتبادل القصص عن البوظة، وننظم رحلات لزيارة مكان جديد لجبْل البوظة في أوروبا أو في مدن بريطانيا الصغيرة. ولكنني سرعان ما استوعبت أن هوسهم يختلف عن هوسي. كنا عندما نصل إلى مكان جديد، ونتذوق ما عنده من نكهات بوظة، كانوا يستمتعون بها ويتذوقونها ببطء، ثم يحاولون وصف الطعم. "هذه فيها آثار لطعم البندق، كما أني أشعر بنغمات خفيفة للتفاح، وحليب كامل الدسم"، وآخر "أنا أحب هذه البوظة، فيها شيء غير اعتيادي، عندي شعور أن من صنعها أراد التحايل علينا، هذه شوكولاطة ولكنها ليست شوكولاطة، وأعتقد أن صانع هذه الخلطة نجح وتفوق علينا بمهارته". هذا بالنسبة لي كان هراءً. أنا كنت أبحث عن شيء محدد. كنت أتذوق البوظة، ثم أعرف فوراً ونهائياً أنها ليست ما أبحث عنه. أرميها دون أن أنهيها وأطلب النكهات الأخرى. في زيارة لجابِل بوظة في جنوب النمسا، كان جميع من في المجموعة ينهالُ بالمديح لما جربوه من بوظة، بينما جلست أنا صامتاً، فقد بقي هناك نكهة واحدة لم أجربها. كانوا قد اعتادوا على كوني الصامت المؤدب ولم يزعجهم وجودي. المهم، جربت النكهة الأخيرة، وكانت بعيدة كل البعد عما أبحث عنه. ما حصل عندها هو أنني وقفت في مكاني وضربت البوظة في الأرض. كنت أستشيط غضباً. نظرت في الجدار الأبيض المقابل إليَّ وقلت: “هذه أيضاً ليست هي". أصيب الجميع بالذهول، وصمتواً. تمالكت نفسي وحاولت أن أجلس في مكاني وأن أتابع السهرة كأن شيئاً لم يحصل، هم أيضاً حاولوا هذا. ولكن المحاولة لم تنجح. غادرت مبكراً وعدت إلى غرفتي في الفندق. طلبت ما لديهم من بوظة وجلست أشاهد التلفاز. عندما تركت الغرفة كانت هناك أربع علب مفتوحة في كل منها غَرفة ملعقة واحدة. 

عندما عدنا إلى لندن حاولت أن أبقى عضواً في النادي، ولكن وصلتني رسالة تقول إن أعضاء النادي لا يشعرون أن اهتماماتنا واحدة، وأن "شغفي لبوظة الشوكولاطة هو من نوع آخر ولا يتماشى مع شغف المجموعة". لا أستطيع أن أنكر أنني شعرت بوحدة هائلة ذاك اليوم، وبشعور ثقيل، مرهق بأنني لن أجد أبداً ما أبحث عنه، ولكن أنني أيضاً، لن أتوقف أبداً عن البحث عنه. أنا لا أمر بفترات أتمنى فيها أن أتوقف عن بحثي هذا. هو ليس إدمانا كالتدخيـن أو الكحول مثلاً، تود أن تقلع عنه ولكنك تجد الأمر صعباً. لا. أبداً. هو أمر مصيري لا أملك ولا أريد الإقلاع عنه أبداً. سأبحث دون كلل أو ملل، سأبحث طالما سمحت لي صحتي بهذا، وبالقدر الذي تسمح لي به.

لقد أطلت عليك يا صاحبي ولا شك أنك مللت من هرائي. ولكن الموضوع فرض نفسه عندما قدمت لي هذه البوظة على نكهة الليمون، في هذا اليوم الحار الجميل. ولهذا وطمعاً في حسن ضيافتك وكرمك، فأطلب منك، إن تكرمت، وتفضلت، أن تذهب إلى البقالة، أو ترسل أحداً. لا بل أذهب أنا، لم لا أذهب أنا؟ أو نذهب أنا وأنت في كزدورة. هُم مجرد دقيقتيـن لا أكثر. من يعرف، ممكن أن نجدها هناك. هو احتمال بسيط، يؤول إلى الصفر، ولكنه موجود. والأمر يستحق التجربة. بالتأكيد يستحق التجربة. فلو أجدها … آه لو أجدها.