البروليتاريا الفلاحية والإقطاع الجديد : أسئلة الريف المفكك

[\"??? ???. ?????? ???? \"????????] [\"??? ???. ?????? ???? \"????????]

البروليتاريا الفلاحية والإقطاع الجديد : أسئلة الريف المفكك

By : Mahmoud Salah محمود صلاح عبدالحفيظ المهر

بينما كان القطار المكيف المتجه إلى الوجه القبلي يشق طريقه مخترقا حقول ريفية شاسعة على جانبي الطريق، كان رفيقي في المقعد المجاور يُبدي تبرمه من عدم لحاقه بالطائرة المخصصة له، فهو وكيل شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال صناعة مواد البناء، ولها مصنعها الضخم في قلب الصعيد، فالوكيل لا يحتمل طول ساعات السفر في هذا الطقس الحار، حيث القطار المزدحم يقلل من برودة المكيف، كما أن المناظر الطبيعية مُملة - في نظره -؛ فهي متكررة وغير مثيرة، ولكن القطار - في لحظة الصدق- يتعطل قليلا فتزداد معاناة الوكيل، في ذات الوقت الذي تتحول نافذة القطار إلى نافذة اجتماعية تعكس بناء المجتمع الريفي المحيط ؛ فالوكيل الذي لا يحتمل الطقس الحار في القطار المكيف يشاهد من النافذة الزجاجية السميكة فتيات صغيرات السن بالعشرات، يعملن في الحقول المنتشرة على جانبي الطريق، وإذ به يبدو مندهشا "كيف لتلك الفتيات أن يعملن في هذا الوقت شديد الحرارة؟ وكم يَحصُلن من مال لقاء هذا العَناء؟

لم تستمر معاناة الوكيل كثيرا فهو لا يجد تبريراً غير إعادة إنتاج خطاب نيوليبرالي ملائم للمرحلة السياسية، فالقرويون يُنجبون كثيراً ولا يعبأون بمواردهم، فتلك الأسر – في نظره – هي من تستحق اللوم، فالدولة ستظل عاجزة عن تلبية المطالب اللامنتهية للجماهير الغفيرة وغير المنتجة، ولم يلبث الوكيل – هربا من الشعور الطبيعي بالتعاطف وتأنيب الضمير – أن أغلق النافذة بدعوى أن أشعة الشمس تخترق الحاجز الزجاجي، ولكنه لم يستطع أن يغلق الحقيقة...

البحث عن بروليتاريا زراعية

كانت الحقيقة شاخصة خارج النافذة السميكة، ولكن الوكيل لم يرها إلا ذنباً اجتماعياً يدفع ثمنه هؤلاء الأطفال، حيث القيم والعادات الموروثة هي المُشكل، لكن ما غاب عن بال الوكيل أن الناس يُقاومون بالكَمّ، فتلك الفتيات يَبعنَ قوة عملهن في ظل نظام رأسمالي يفرض نفسه على القرية في صورة متجددة، وهي ذات الرأسمالية التى يُسبح بحمدها الوكيل، ولا يكف عن ذكر محاسنها، ودورها في فتح بيوت الناس، وانتشال الدولة من أعباء الإنفاق على مشروعات غير قادرة على النجاح، ولعل الوكيل أو أي مراقب - ينظر من النافذة - لن يصدق أن ما تقوم به تلك الفتيات الصغيرات هو علاقة رأسمالية!  نعم كانت علاقة رأسمالية، فالتحول الرأسمالي عرف طريقه إلى القرية المصرية قبل أن تعرفه المدينة، وإن لم يكن هو النمط المُسيطر، لكنه كان دائما متمفصلا بالقرية مع علاقات إقطاعية أو خارجية حاكمة، فعلى الرغم من أن إقرار الحق القانوني في الملكية الخاصة للأرض الزراعية تم إقراره فى 1891، إلا أن علاقات الانتفاع التي حكمت استغلال الأرض الزراعية لم تمنع من ظهور علاقات رأسمالية صريحة لم ينقصها غير الإقرار القانوني بملكية الأرض المُستغَلة، لكن تلك الرأسمالية – حيث رأس المال والعمل المأجور وجها لوجه فى سوق عمل واحد – كانت جزءاً- ولا تزال -  من السيطرة السياسية، فالسلطة تفرض رؤيتها في نمط الإنتاج الحاكم في الريف، فهى عملياً تهيمن على أدوات الإنتاج الأساسية، حيث قدرتها على تنظيم توزيع المياه منحتها مكانة تاريخية، ومَكّنتها من تحديد نمط الإنتاج المسيطر، وهو الإقطاع الشرقي ، فـ"محمد علي الكبير" ينجح في سنوات قليلة من تغيير الشخصية الزراعية لمصر، حيث النظام الخراجي الذي تسيطر فيه الدولة ونخبتها على رقاب المنتفعين، ويتحلل نظام الالتزام الذي مَثلّ فيه الملتزم سلطة مستقلة عن الدولة، وبالرغم من أن سياسة الملتزم كانت شبه إقطاعية ؛ حيث السلطة على الجسد والحركة، إلا أنها جمعت أنماطاً رأسمالية واضحة، لم تجد فرصة لتنضج؛ حيث الدولة ترسم مسارات التنمية كما تشاء، فإرادة "محمد علي" الخراجية مَكّنته من الهيمنة على علاقات الإنتاج ؛ بل والأجساد المنتجة، فكان الفلاح - من صغار المنتفعين - يمارس علاقة رأسمالية عندما يبيع قوة عمله نظير أجر لأحد كبار الأعيان - المرتبطين بالدولة - في أراضي أقطعها الوالي لهم، وفي وقت آخر يعمل سُخرةً في ذات الحقول، أو في حقول الدولة، حتى وردت الوثائق التاريخية العديدة؛ التي تشير إلى أن الفلاحين باتوا يفضلون تشريك أجسادهم وتشويه أطرافهم على العمل في حقول الدولة ومعاملها.

كانت الهيمنة على الجسد حق للدولة والسادة من كبار المنتفعين، فهم يملكون عقاب الفلاح المُقَصر في عمله، أو المخالف لرؤيتهم، أو المفارق لقريته، فالجلد، وبتر الأطراف، والتعذيب، والسخرة، والإلحاق بالجهادية؛ كلها نظم للعقاب، وكبت للقوى المنتجة عن التطور التلقائي الحر في علاقة مكافئة للسادة والسلطة، التي رأت في الجسد مصدر للسيطرة، فـ" الفلاح الخرسيس" لن يعمل بدون عقاب ومراقبة، ولن يطيع الحُكام بدون خوف وألم .

 تنجح البرجوازية الزراعية في لحظات أزمة الدولة الخراجية من أن تقتنص حق الاعتراف القانوني بملكيتها للحيازة الزراعية، وتنجح تلك الطبقة فى نشر هيمنتها حتى على الدولة ذاتها، فتصبح القرية مركز الثقل الاجتماعي والاقتصادي، وحيز تكوين أصحاب المصالح، ويصبح الجوع على الأرض سياسة تلك الطبقة، التي عرفت الاحتكار الرأسمالي في أنقى صوره ، حتى يجيء العام 1950  والطبقة من كبار الملاك وتحديداً:  6% من الملاك يحوزون قانونيا ثلثي الأراضي الزراعية، بينما 94% من صغار ومتوسطي الملاك يحوزون الثلث فقط .

كانت خطة دولة يوليو خطة مدينية تحديثية تعتمد إحلال الواردات وتفضيل المدينة على القرية، لذا رأت الدولة أن السيطرة على الريف تنبع من تفكيك الحيازات الكبيرة، ومن ثم خلق طبقة من كبار ومتوسطى المستأجرين ، تكون أيسر على التطويع من كتلة متماسكة وكبيرة الملكية، فالقطاع العام في المدينة، والإصلاح الزراعي في القرية أجهزة للضبط وتطويع الأجساد سياسياً واقتصادياً، ومن ثم انتقل الثقل الاجتماعي والاقتصادي إلى المدينة ، فالمدينة – في نظر السلطة – ذات حيز واضح، وأحياء مخططة، تجمع أُناساً لا يعرفون بعضهم البعض، ولا تجمعهم أشياء كثيرة للوعي المشترك، وضَعُفت قدرة المستأجرين – الملاك من الناحية العملية – على تمثيل مصالحهم سياسياً، وارتبطوا بالدولة حماية لأوضاعهم القانونية، ولكن الدولة تخلت عنهم في 1992 بصدور قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضى الزراعية، الذي أعاد الأوضاع إلى سابقها، ولكن بعد أن تغيرت الخريطة الاجتماعية للقرية، وتفتت الحيازات الزراعية بطريقة تمنع أية جهود جماعية للتكتل الطبقي أو السياسي، ولم يتم تطبيق ذات القانون على سكان المدينة، فالانحيازات الاجتماعية للدولة تفضل ركود الأوضاع الاجتماعية بالمدينة، مع فتح مجال رأسمالي موازي في المساكن والأحياء الجديدة.

عودة أمراء الإقطاع الجديد

 كان للمالك الغائب الذي عادت إليه السيطرة على حيازته ميول مدينية استهلاكية، ففضل تبوير الحيازة واستغلالها عقارياً؛ وبما يُدر أرباحا تفوق العائد الزراعي الموسمي ، وتم ذلك في مواجهة بروليتاريا زراعية ضخمة من متوسطي وصغار المستأجرين وجدت نفسها بلا عمل ثابت، وبلا ضمانات قانونية وبلا أي غطاء اجتماعي، فزحفت قواها الشابة من الذكور على المدينة، والخليج وليبيا؛ لتغير تلك الطبقة من شخصيتها المنتجة؛ من عامل زراعي إلى عامل بناء ونجار مسلح وميكانيكي إلخ، وبقيت النساء والأطفال وكبار السن من أسر صغار المستأجرين، في ظل أسلوب رأسمالي لا يرى قيمة للحيز الزراعي من غير مردوده المالي المرتفع، فالتغير في إستغلال الحيز هو نتاج للتحولات الاجتماعية، فيتم التخلص من مشروع القرية المصرية، كما تم التخلص من القطاع العام، خاصة مع التوسع في النشاطات المدينية والصناعية شديدة استهلاك المياه، وتُعتَمد فكرة التنمية الزراعية في الصحراء، ويُخَدع الشباب بضرورة غزو الصحراء الشاسعة، في الوقت الذى يتم الإجهاز على القرية ذات الأرض الطينية، وإفقار البروليتاريا الزراعية من النساء والأطفال وكبار السن، الذين لا يجدون سبيلاً للفكاك، فالأرض والإنسان سلع تُطرح في السوق، وتُمَارس تلك السياسات بالعنف الرسمي، فالجهاز القمعي يتماهى مع الجهاز الأيديولوجي، بحيث يصعب التمييز بينهما، ففرض النظام العام لم يعد ممكناً بالتراضي والإجماع، وتشهد حالتي قريتي سرسو بالدقهلية، وأرض اللاجون بالسويس على انحياز السلطة لمشروع الإقطاعيين الجدد، فلم تعد للمجموعة والحشد قوة أو رمزية مؤثرة لدى السلطة، وهو سلوك تتبناه السلطة عناداً، وإصراراً على نزع شرعية الجماهير والكتل المحتشدة، ليس فقط في ميادين العمل والفِلاحة ولكن أيضا في ميادين الاحتجاج والثورة، فمشروع الثورة المصرية استند إلى كتل الأجساد المحتشدة، ومن ثم فتلك الكتل لن تُعار أية أهمية فى أي ميدان أو حيز، ففلاحو "سرسو" يدفعون ضريبة تصفية شرعية الحشد؛ فهم يُجبَرون على مغادرة أراضيهم التي منحها إياهم عبدالناصر بعد عودة أبنائهم من حرب اليمن، لصالح ورثة أحد كبار الإقطاعيين. وفي أرض "اللاجون" بالسويس تريد المحافظة طرد الفلاحين من أرضهم التى يزرعونها من عام 1987 بعقود رسمية؛ بحجة أنهم استولوا على أراضي الدولة، في الوقت الذي يستولي فيه أمراء الإقطاع على مساحات شاسعة بلا ثمن أو بقروش زهيدة، وهو ما يؤكد دور علاقات القوة في تحديد الحيازة وملكيتها .

ليس غريبا أن تكون أفقر القرى المصرية هى تلك التى مازال نشاطها الأساسي هو الزراعة، فالإقطاع الجديد ذو الملامح الرأسمالية يحكم ويهيمن، ولا يجد سبيلا للضبط والرقابة بغير سيطرة الأمراء الجدد على كل مفاصل الإنتاج والاقتصاد، مع استمرار تحويل الملايين إلى بروليتاريا حيث هي سلع وليست قوى اجتماعية .

السؤال الآن هو : ما مصير البروليتاريا الغفيرة التي لن يحتملها نمط الإقطاعيين الجدد؟ تلك البروليتاريا التي أُضرت جَرّاء التحولات الثورية في مصر والوطن العربي، تعود فلا تجد شيئاً تفعله، فالقرية تفككت بنيتها وصارت مدينة متريفة مشوهة المعالم، والمدينة تمزقت وتدهورت فرص العمل الكثيف بها، ويبدو أن الطرق المؤدية للعنف والتشدد باتت ممهدة ومتاحة.

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]