ممنوع الاقتراب أو التصوير: الجيش والاقتصاد في مصر

[???? ????? ??????. ??????: ?????? ??????? ??????? ?????? ?????? ??????? ???????] [???? ????? ??????. ??????: ?????? ??????? ??????? ?????? ?????? ??????? ???????]

ممنوع الاقتراب أو التصوير: الجيش والاقتصاد في مصر

By : Abdel-Fattah Barayez عبد الفتاح برايز

يسود اعتقاد واسع أن القوات المسلحة المصرية تلعب دورا مؤثرا، بل وربما مهيمنا، في الاقتصاد القومي إذ أنه من الثابت أن القوات المسلحة تدير اقتصادا موازيا يقوم بإنتاج العديد من المنتجات الاستهلاكية من الغذاء والألبان والقمح إلى الاسمنت والأسمدة وتوزيع مشتقات البترول كما يحضر الجيش بقوة في قطاع
البنية الأساسية والمرافق العامة مثل الطرق والموانئ والكباري والأنفاق. 
على أنه خلافا للاعتقاد الشائع فإن المعلومات المتوفرة والتي يمكن الثقة في صدقيتها ـ على ندرتها ـ تشير إلى أن الجيش بالفعل حاضر في العديد من القطاعات الاقتصادية إلا أنه لا يحتل موضع السيطرة في أي منها كما أنه يغيب بشكل يكاد يكون تاما عن قطاعات اقتصادية هامة. ويضاف لهذا إلى أنه ليست هناك أدلة قوية بأن اقتصاد الجيش يزاحم أو يقصي شركات القطاع الخاص اللهم إلا في حالات ترسية العطاءات الحكومية، وبالأخص في حالة المشروعات القومية الكبرى التي أسند غالبها لشركات تابعة للجيش في أعقاب يوليو 2013.

وبينما لا تبدو مشكلة دور الجيش الاقتصادي ماثلة في مزاحمة القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية المختلفة، فإن الإشكال الحقيقي يقع في تحويل الجيش سيطرته القانونية والفعلية على الأصول المملوكة للدولة إلى عائد في صورة ريع، وينطبق هذا خاصة على الأراضي العامة، الصحراوية في الغالب، والتي تمثل نحو 94٪ من إجمالي مساحة مصر إذ يقوم الجيش بترجمة صلاحياته التنظيمية الواسعة إلى عوائد اقتصادية ذات طابع ريعي لا إنتاجي كما يمتلك الجيش تأثيرا كبيرا على تخطيط وإدارة الأراضي العامة في الجهاز البيروقراطي المدني من خلال شبكات واسعة من العسكريين السابقين.

إن الأراضي العامة ـ الصحراوية في الأساس ـ عنصر جوهري لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية في قطاعات هامة مثل التنمية العقارية والتصنيع والسياحة والزراعة، والتي تمثل مجتمعة جل الاقتصاد المصري، ويؤدي التحكم الخانق في الأراضي الصحراوية إلى تكبد الاقتصاد ككل لتكاليف باهظة، وذلك لأن تعقد وغموض البيئة التنظيمية والقانونية للنفاذ إلى الأراضي يقلل من كفاءة وفعالية عمل القطاع الخاص على نحو يفضي إلى ارتفاع تكلفة الفرص الضائعة للنمو والتوسع المحتملين اقتصاديا وسكانيا، خاصة في بلد مكتظ كمصر ربما تمثل فيه المساحات الصحراوية الممتدة شرق وغرب وادي النيل المنفذ الوحيد للتوسع المستقبلي.

اقتصاد الجيش المدني "صغير"

لقد قيل الكثير حول اقتصاد الجيش الموازي والذي يمتد لقطاعات عدة من بينها الزراعة والصناعة والخدمات، وتفيد المصادر القليلة التي يمكن إيلاؤها بعض الثقة بأنه على الرغم من الحضور المتشعب للأنشطة المملوكة للجيش إلا أن نصيب شركات الجيش فعليا صغير نسبيا، ولا يقارن بنصيب القطاع الخاص في غالبها، سواء أكان القطاع الخاص المصري أو الأجنبي، وتشير الدلائل إلى أن إستراتيجية التوسع الاقتصادي للجيش تقوم على تأمين حصص سوقية لا للهيمنة أو السيطرة على قطاعات اقتصادية.
لقد كان الدافع الأصلي وراء إنشاء الجيش لاقتصاد مدني مواز هو الحاجة لتوفير الإمداد والتموين اللازم لجيش كثيف عددا ما يخلق له احتياجات استهلاكية واستثمارية بشكل مستمر، وبجانب هذا العامل فإن القوات المسلحة قد سعت إلى
تعويض تناقص نصيبها من الإنفاق العام منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل في 1979 عن طريق البحث عن مصادر بديلة للإيرادات، وذلك لأن الدولة في خضم أزمتها المالية منذ منتصف الثمانينيات قد سعت إلى التخفيف من عبء الإنفاق العسكري على كاهلها من خلال تمكين الجيش من تحقيق عوائد اقتصادية بشكل مباشر عن طريق الدخول إلى أسواق جديدة أو بإنشاء شراكات مع رأس المال العربي أو الأجنبي.

يتجلى هذا عند النظر إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة المصرية ، وهو هيئة تابعة للجيش نشأت بموجب القرار الجمهوري رقم 32 لسنة 1979، ويهدف الجهاز بحسب موقعه الرسمي إلى "تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي من الاحتياجات الرئيسية للقوات المسلحة لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة مع طرح فائض الطاقات الإنتاجية في السوق المحلي والمعاونة في مشروعات التنمية الاقتصادية في الدولة من خلال قاعدة صناعية متطورة". ويمتلك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية 21 شركة تعمل في قطاعات مدنية متنوعة من البناء والمقاولات إلى الزراعة والمنتجات الغذائية وصناعة الأعلاف والأسمدة والإسمنت وإدارة الفنادق وخدمات الأمن والحراسة بجانب محطة بنزين "وطنية".

وبالاعتماد على البيانات الرسمية التي وفرها الجهاز لأول مرة على الإطلاق في إطار استعراضه لمشاركته في "خطة الدولة في التنمية الشاملة" من خلال بيان تم توزيعه على المراسلين العسكريين في مايو 2015، يمكن الوقوف على الحجم النسبي لعمليات الجهاز، علما بأن البيان كان يهدف لإظهار أهمية مشاركة الجيش من خلال شركات الجهاز في تحقيق التنمية وتدعيم خطة الدولة، ما يعني انتفاء الاتجاه نحو التقليل من وزنه النسبي، في ظرف سياسي يتصدر فيه الجيش الحكم بشكل غير مباشر، ويقوم على تنفيذ مشروعات التنمية الكبرى ودعم نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.

تعد الإحصاءات الصادرة عن الجهاز الخاصة بالإنتاج والتوزيع المصدر الوحيد المتاح لتحديد نصيب شركاته ـ ولو بشكل مجمل ـ في بعض القطاعات الاقتصادية الهامة. ففي الزراعة يقوم الجهاز
باستصلاح وزراعة مائة ألف فدان في منطقة شرق العوينات بالصحراء الغربية حيث يتركز القسم الأكبر من مزارع القوات المسلحة، وتنتج تلك المزارع نحو 78 ألف طن من القمح سنويا (2013) و156 طن من زيت الزيتون و25 ألف طن من منتجات الألبان بالإضافة إلى 2000 طن من اللحوم الحمراء ونحو 30 مليون بيضة
سنويا، وتمتلك نحو 16 ألف رأس ماشية، ونحو 60 ألف طن من الأعلاف الحيوانية. وتستخدم تلك المنتجات في تموين عدد من الشركات المملوكة للجهاز والتي تنافس في أسواق المنتجات الاستهلاكية الغذائية، ومنها شركة "صافي" للمياه المعدنية، وقد بلغ إنتاجها السنوي نحو 37 مليون زجاجة في 2014.

وبجانب السلع الاستهلاكية فإن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يمتلك شركة العريش للأسمنت والتي تنتج ما يتراوح بين 2.5 و3 مليون طن اسمنت سنويا (مايو 2014)، كما تضطلع شركة النصر للكيماويات الوسيطة بإنتاج الأسمدة، وبلغ إنتاجها نحو 150 ألف طن سنويا لصالح قطاع الزراعة.
توحي الصورة أعلاه بأن الجيش يملك اقتصادا مدنيا موازيا في قطاعات كالزراعة والصناعة والخدمات، ولكن مقارنة الكميات التي تم الإفصاح عن إنتاجها من قبل شركات الجهاز بحجم الإنتاج الكلي في مصر حسبما تفيد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنوات 2012 و2013 تظهر أن اقتصاد الجيش المدني في تلك القطاعات جد محدود مقارنة بنصيب القطاع الخاص الوطني كيما الأجنبي. ويوضح الجدول أدناه حصص شركات جهاز الخدمة الوطنية التقريبية.

\"\"
جدول (1): تقديرات حول الوزن النسبي لمنتجات الجيش


المصادر: كميات الإنتاج الخاصة بشركات جهاز المشروعات الوطنية مأخوذة عن البيان العسكري والمنشور بجريدة اليوم السابع بينما البيانات الخاصة بالكميات الكلية للإنتاج مأخوذة عن
بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء مدعومة ببيانات من بعض الصحف ذات التخصص الاقتصادي، والبيانات الخاصة بزيت الزيتون مأخوذة عن المجلس الدولي لزيت الزيتون ، والبيانات الخاصة بحصة شركة صافي في المياه .المعدنية مأخوذة عن موقع "يورومونيتور انترناشيونال". أما العمود الثالث فمن حساب الباحث

تؤشر الأرقام أعلاه على أمرين: إن الجيش يمتلك بالفعل اقتصادا مدنيا موازيا، وهو ما قد يكون مبررا في ضوء حجم القوات المسلحة، والتي يبلغ قوامها نحو نصف المليون، والحاجة لتأمين متطلبات الجنود والضباط من المأكل والمشرب والوقود مع تصريف الفائض في الأسواق، بيد أن أنصبة شركات الجيش في تلك القطاعات ليست بكبيرة أصلا، وهي حتما دون مستوى الهيمنة بحيث يكون لها أثر المزاحمة على القطاع الخاص، بتراوحها بين 018 كحد أدنى و3.9٪ كحد أقصى.

إن القسم الأعظم من الأراضي الزراعية في مصر مملوك من القطاع الخاص الكبير والصغير والعائلي، وذلك هو الحال منذ العهد الناصري، والذي غاب فيه القطاع العام عن ملكية الأراضي الزراعية رغم ملكية الدولة لمعظم الأراضي الصحراوية، وينطبق الأمر نفسه على المنتجات الغذائية التي قد تكون موجودة، وقد تكون مستخدمة لأغراض سياسية تدعم من شعبية الجيش كتوزيع اللحوم في المواسم أو توفير منتجات غذائية منخفضة التكلفة عبر المجمعات الاستهلاكية أو توريد القمح لهيئة السلع التموينية والاضطلاع بدور مباشر في توزيع أرغفة الخبز المدعم، ولكن هذا كله أمر والحديث عن مزاحمة الجيش للقطاع الخاص في تلك القطاعات أمر آخر.

وينبغي الأخذ في الاعتبار أن تلك القطاعات الاستهلاكية من مواد غذائية تتميز بانخفاض عوائق الدخول للإنتاج ما يعني صعوبة وقوع ممارسات احتكارية فيها أو إبعاد المنافسين عنها، وينطبق هذا على المياه المعدنية على سبيل المثال التي تحظى شركة نسلة متعددة الجنسيات بنحو 26٪ من السوق المصرية في مقابل استحواذ شركة صافي على 3٪ فحسب، رغم أنها تأتي في المرتبة الثالثة، ولكن بفارق كبير عن الشركتين الخاصتين المتصدرتين.

ومن المسائل التي ينبغي التوقف عندها كذلك إذا كان الغرض هو تقييم حجم أعمال الجيش وشركاته الإنتاجية أن تلك الشركات ليس لها وزن يذكر في قروض الجهاز المصرفي، وذلك في حين تفيد تقارير البنك المركزي منذ 2002 وحتى 2012 أن الخزانة هي أكبر المقترضين من الجهاز المصرفي يليها شركات القطاع الخاص، والتي تستحوذ على ما يقرب من خمسين بالمائة من إجمالي قروض الجهاز المصرفي، وتزاحم الحكومة القطاع الخاص لتمويل العجز المتزايد في الموازنة وذلك من خلال بيع أذون وسندات الخزانة. وبما إن شركات القوات المسلحة ليس لا حضور لها في الجهاز المصرفي في بلد يعتمد كليا تقريبا على التمويل المصرفي فإنه من غير المرجح أن يكون لديها حجم أعمال ضخم يستوجب التمويل، وإن اعتمدت على أدوات أخرى للتمويل الذاتي من عائد المشروعات التي تديرها، وهو أسلوب تمويل بالقطع أقل مرونة وأصغر حجما من النفاذ إلى التمويل المصرفي.

مما سبق فإنه يبدو أن التوسع الاقتصادي للجيش إلى الأنشطة المدنية كان رد فعل لتخفيض الدولة للإنفاق العسكري طيلة العقود الماضية، وهو ما تظهره بيانات البنك الدولي حول نصيب الإنفاق العسكري من الإنفاق العام في مصر، والتي تفيد انخفاض نصيب الجيش من الإنفاق العام بشكل مطرد منذ بداية التسعينيات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (من 7٪ في 1990 إلى 2٪ في 2012) وكنسبة من إجمالي الإنفاق العام، ويشمل تقدير البنك الدولي لكل من المخصصات الحكومية والمعونات الأجنبية العسكرية بالإضافة إلى المعاشات والأجور المخصصة للعاملين المدنيين والعسكريين علاوة على نفقات استثمارية أخرى. ويبدو أن الجيش قد تفاعل مع هذا التخفيض من خلال زيادة حضوره في الأنشطة الاقتصادية منذ الثمانينيات من القرن الماضي.

\"\"
رسم بياني (1): تطور نصيب الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي ومن الإنفاق العام للحكومة المركزية في مصر(1990ـ2012)

الخط الأزرق: نسبة الإنفاق العسكري للإنفاق العام
الخط الأحمر: نسبة الإنفاق العسكري للناتج المحلي الإجمالي
المصدر: مؤشرات التنمية ـ البنك الدولي

اقتصاد الجيش: حضور دون هيمنة

وفي المقابل فإن الجيش كان إما غائبا بالكامل عن القطاعات التي شهدت رواجا ونموا متسارعا منذ عقد التسعينيات، وإما كان حاضراً بشكل محدود في بعضها، والحديث هنا عن قطاع الصناعات التحويلية مثل الإسمنت والأسمدة والزجاج والسيراميك والحديد والصلب والألمنيوم وقطاعات كاتصالات التلفون المحمول، ومعها قطاعات خدمية كالسياحة والفنادق والمطاعم.

ففي الصناعات التحويلية توسع إنتاج الجيش من الإسمنت من خلال شركة إسمنت العريش، ولكن ظل القسم الأعظم من الإنتاج السنوي (97٪) بيد القطاع الخاص وشركة واحدة مملوكة للقطاع العام (وهي لا تتبع الجيش في جميع الأحوال)، وينطبق الأمر نفسه على الأسمدة، والتي ظل الجزء الأكبر من التوسع فيها خاضعا للقطاع الخاص بعد خصخصة الشركات الحكومية التي كانت تضطلع بإنتاج الأسمدة في 2008 و2009، فيما غاب أي حضور للجيش في قطاعات كالحديد والصلب (شركة عز تهيمن على ما يقرب من 52٪ في 2014) ، وعن الزجاج والسيراميك والألومنيوم (شركة قطاع عام هي المنتج الأوحد).

وينطبق ذات الأمر على قطاعات خدمية كالسياحة والمقاولات والبناء.

أما بالنسبة للسياحة والفندقة فقد قدم قرار وزير الدفاع المنشور بالوقائع المصرية (العدد 127 بتاريخ 3 يونيو 2015) والخاص بإعفاء بعض الوحدات التابعة للقوات المسلحة من الضريبة على العقارات المبنية كشفا حصريا للمنشآت التي يملكها الجيش طبقا لوثيقة رسمية، ولم يشتمل القرار بالطبع على بيان المساحات التي يحوزها أو يسيطر عليها الجيش من الأراضي غير المبنية، إلا أن الكشف يقدم صورة جلية وحية لعدد المنشآت وأوجه نشاطها الاقتصادي المحتمل.

\"\"
جدول (2): المنشآت المبنية التابعة للقوات المسلحة حسب الاستخدام (حساب الباحث)

المصدر: قرار وزير الدفاع المنشور بالوقائع المصرية (العدد 127 بتاريخ 3 يونيو 2015)

تظهر الأرقام أعلاه أن مساهمة الجيش في قطاع السياحة والفنادق محدودة إلى حد كبير، فهي موجهة بالأساس لخدمة العاملين المدنيين والعسكريين بالقوات المسلحة وأسرهم، كما أنها تنتشر في مناطق من غير الجذب السياحي كمدن الدلتا والصعيد، والتي توجد فيها تلك الخدمات بكثافة، وعلاوة على هذا فإن العدد الإجمالي للدور والفنادق على مستوى الجمهورية لا يشي بأن للجيش نصيبا كبيرا في عدد الغرف خاصة وأن الفنادق التابعة للجيش بشكل مباشر تغيب تقريبا بشكل كامل عن مناطق الجذب السياحي في جنوب سيناء والغردقة، وحتى في الساحل الشمالي فإن دليل القرى السياحية والفنادق يظهر أن للقوات المسلحة أربع قرى سياحية من ضمن 128 قرية سياحية مقسمة ملكيتها على جهات تعاونية للعاملين بالحكومة كالوزارات والجامعات والنقابات المهنية، وهيئة االتنمية العمرانية (المجتمعات العمرانية سابقا) والتي أنشأت بعض أكبر الاستثمارات في الساحل الشمالي منذ الثمانينيات وآخرها مجموعة قرى مارينا، بالإضافة للقطاع الخاص الكبير الذي بدأ في التوسع في العقد الأخير.

وحتى مع الحضور المرئي للشركات التابعة للقوات المسلحة في مجال الإنشاءات وخاصة البنية الأساسية للطرق والكباري والأنفاق فإنه لا يبدو أن للجيش نصيبا مهيمنا على هذا القطاع رغم ندرة المعلومات المتوفرة حول حجم أعمال تلك الشركات. فطبقا لبيانات البنك المركزي المصري فإن قطاع المقاولات والبناء والتشييد مثل 4.63% من الناتج الإجمالي المحلي في مصر سنة 2013/2012، وأن نصيب القطاع الخاص منه كان 88.84٪ من الناتج في مقابل 11.51٪ فحسب للقطاع العام ،وقد يكون هذا التقدير بالطبع غير شامل لأنصبة شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية إلا أنه من غير المنتظر أن يكون ذاك الحجم أكبر من نصيب القطاع الخاص دون أن ينعكس على وزن القطاع ككل في الاقتصاد.
وثمة قرينة أخرى يمكن استخدامها لبيان حجم أنشطة الجيش في قطاع التشييد والبناء بما في ذلك البنية الأساسية والمرافق، فطبقا لمصادر إعلامية وبمتابعة الجريدة الرسمية توسعت حكومة حازم الببلاوي التي تلت الإطاحة بمحمد مرسي في إسناد مشروعات إنشاءات للقوات المسلحة، وبلغ إجمالي قيمة تلك المشروعات المسندة نحو 5.5 مليار جنيه مصري في 2013 والنصف الأول من 2014 ، وهو مبلغ ضخم ولا شك ولكنه جرى في وقت استثنائي من حيث الاضطراب السياسي وانخفاض الاستثمارات الخاصة علاوة على توفر كافة الدوافع السياسية للجيش للمساهمة بثقل في دفع عجلة الاقتصاد قدما، ومع هذا كله فإن المبلغ الإجمالي هذا يمثل 10٪ فحسب من استثمارات الحكومة للعام المالي 2014ـ 2015، علما بأن الكثير من تلك المشروعات غير ممول من موازنة الدولة بالطبع، وإذا أخذنا المبلغ 5.5 مليار جنيه كمؤشر لحجم أعمال الجيش في قطاع المقاولات والتشييد وقسنا نسبتها من حجم القطاع طبقا لبيانات المركزي في 2013/2012 سنجد أن حجم شركات الجيش يمثل نحو 7.71٪ من إجمالي قطاع المقاولات، و8.71٪ من حجم أعمال الشركات الخاصة في القطاع ذاته في نفس الفترة، وهي نسبة بعيدة عن الهيمنة.

بيد أنه ثمة أدلة ظرفية قد تشير إلى تزايد انخراط الجيش في المشروعات القومية الكبرى في مرحلة ما بعد يوليو 2013 على نحو يزاحم بالفعل شركات القطاع الخاص العاملة في مجال التشييد والبناء. لعل المثال الأول هو قناة السويس الثانية، والتي انتهى العمل فيها في أغسطس 2015، ومشروعي المليون وحدة سكنية والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي حالات يبدو فيها أن الشركات المملوكة للجيش تحصل على العقود العامة على حساب الشركات الخاصة، ولكن لا ينسحب هذا على قطاع البناء والتشييد ككل، والذي تظهر الأرقام أعلاه أن النصيب الغالب لا يزال منعقدا للقطاع الخاص.

كما صدر مؤخرا قرار جمهوري بقانون رقم 466 في ديسمبر 2015 والذي أباح للقوات المسلحة من خلال جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة إنشاء شركات تجارية، وامتلاكها إما كلية أو بالشراكة مع شركات خاصة مصرية أو أجنبية، وهو ما قد يوفر الإطار القانوني لصفقات مستقبلية في مجالات كالإسكان الاجتماعي ومشروعات البنية الأساسية بما يتيح لشركات الجهاز الدخول في شراكات بالأراضي التي تمتلكها بغاية توليد عائد اقتصادي.

تأمين حصص سوقية لا الهيمنة: منطق التوسع الاقتصادي للجيش

بعيدا عن مزاحمة القطاع الخاص فإن توسع اقتصاد الجيش في مصر قد تزامن منذ الثمانينيات مع توسع نصيب القطاع الخاص في الاقتصاد القومي، والذي أخذ في النمو سواء في صورة شركات كبيرة أو متوسطة أو صغيرة منذ إطلاق الرئيس أنور السادات ما عرف بسياسات الانفتاح في منتصف السبعينيات. وبمطلع التسعينيات كان القطاع الخاص يمثل نحو 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي المصري (دون احتساب البترول والغاز الطبيعي).

\"\"
جدول رقم (3) هيكل الناتج المحلي الإجمالي في سنوات مختارة (بالنسبة المئوية)

المصدر: البنك المركزي المصري، هيكل الناتج المحلي بحساب تكلفة المدخلات (1991ـ2012)
• البيانات الخاصة بالتسعينيات تشير إلى قطاع الصناعة شاملا الصناعات التحويلية والاستخراجية مثل البترول والتعدين.
+ البيانات الخاصة بالنقل والاتصالات في التسعينيات تشمل القطاعين معا قبل أن يتم فصلهما في القرن الحادي والعشرين. ^ لا تفصل بيانات التسعينيات حول التجارة بين تجارة الجملة والتجزئة.

لقد احتفظ القطاع الخاص المصري بنسبة غالبة في الناتج المحلي الإجمالي غير الهيدروكربوني (أي باستبعاد قطاع البترول) منذ مطلع التسعينيات، وقد زود من نصيبه بشكل ملحوظ على حساب القطاع العام في قطاعات كالتجارة والصناعات التحويلية والفندقة والنقل والاتصالات حيث كان النمو مطردا. ويشير هذا إلى أن التوسع في نشاط القطاع الخاص قد تزامن مع توسع الجيش في قطاعات اقتصادية مدنية أن بعض التعايش ممكنا، وأنه من ثم افتراض المزاحمة يحتاج الكثير من التدقيق حتى يمكن إطلاقه بشكل عام.

بيد أنه من غير الواضح ما إذا كان تقسيم العمل بين القطاع الخاص والجيش، والذي ظهر في ظل حكم مبارك
سيستمر في المستقبل دون تغيير في ضوء توسع الجيش الاقتصادي الكبير بعد يوليو 2013، إذ يبدو أن الجيش قد بقى حتى الآن بعيدا عن التوسع في القطاعات الاقتصادية التي كانت متروكة تقليديا للقطاع الخاص عن طريق حصر توسعه في البنية الأساسية والمرافق، والتي كان حاضرا فيها بشكل دائم من قبل. وهو ما قد يشير إلى أن التحولات الخاصة بدور الجيش الاقتصادي كمية وليست كيفية أي أنها لا تزال تتعلق بالتوسع في أنشطة كان الجيش يملك حضورا فيها تاريخيا. ولكن ينبغي الحذر فيما يتعلق بتقدير التوسع الحاصل في نشاط الجيش الاقتصادي في الفترة الراهنة في ظل ندرة المعلومات التي قد تمكن من مقارنة اقتصاد الجيش حاليا بما كان عليه في عصر مبارك.

المشكلة الحقيقية: الحصول على الريع وليس المزاحمة في الإنتاج

في حين لا يتمتع الجيش بوضع الهيمنة كفاعل اقتصادي فإنه يملك تأثيرا واسعا وفريدا من نوعه في جانب أساسي وهو الصلاحيات التنظيمية والقانونية المنعقدة له في تخطيط وتخصيص وإدارة الأراضي العامة. وهنا يكمن وجه الإشكال الرئيسي في انخراط الجيش في أنشطة اقتصادية، إذ تؤثر هذه السيطرة على قدرة القطاع الخاص والاقتصاد ككل على النمو، ويستخدم الجيش صلاحياته القانونية وسيطرته الفعلية على الأراضي العامة ـ خاصة الصحراوية ـ في واقع الحال لتوليد أشكال مختلفة من الريع ـ وإن صعب تحديد حجمه بدقة ـ. ويتجلى الأثر الاقتصادي لإدارة استخدامات الأراضي الصحراوية في كونها محطا تقريبا لكافة الفرص المستقبلية للتوسع سواء العمراني من أجل السكنى بعيدا عن الوادي والدلتا المتكدسين بالسكان، أو للتوسع الاستثماري في مجالات شتى تضم الزراعة والسياحة والتصنيع والاستثمار العقاري أو لأنشطة توليد الطاقة ، ومن هنا فإن إدارة الدولة للأصول العامة المتمثلة في الأراضي تعد أمرا جد خطير من حيث تحكمه الفعلي في فرص التوسع الاقتصادي، وتوزيع فرص النفاذ للأراضي، وما يترتب عليها من إمكانية الحصول على التمويل، ومن ثم التكلفة التي تقع للحصول على مدخل هام من موارد الإنتاج، علاوة على استخدام الأراضي والعقارات المنشأة عليها كشكل من أشكال الإدخار لدى الغالبية من أبناء الطبقات المتوسطة العليا في مصر هربا من ارتفاع معدلات التضخم.

الريع القانوني

تنعقد قانونا للقوات المسلحة سلطات واسعة في التحكم في استخدامات الأراضي الصحراوية العامة في مصر، سواء على مستوى التخطيط المبدئي بمعنى تحديد أي أراضي ـ كما وكيفا ـ التي سيتم تخصيصها للهيئات الاقتصادية المتخصصة لكي تقوم بدورها بتخصيصها للمستثمرين في القطاعات الصناعية والعقارية والزراعية والسياحية، إذ أنه طبقا للقانون رقم 143 لسنة 1981 الخاص بتنظيم استخدام الأراضي الصحراوية فإنه لا يجوز تخصيص
أي قطعة أرض صحراوية بدون موافقة من وزير الدفاع (بجانب البترول والآثار، ولكن بالطبع لا تتمتع هاتان الوزارتان فعليا بنفوذ الجيش وتأثيره)، كما يتمتع وزير الدفاع طبقا للقانون ذاته بالحق في تحديد الأراضي الصحراوية ذات الاستخدام العسكري أو الإستراتيجي، والتي لا يجوز تملكها أو تخصيصها، كما لا يجوز تغيير الغرض من استخدامها العسكري إلا بقرار من وزير الدفاع نفسه. ومن هنا أمكن القول بأن الجيش فعليا يملك "حنفية" الأراضي الصحراوية على حد تعبير مصدر في مجال حقوق الأرض والسكن.

لقد احتل الجيش المركز الأشد تأثيرا بجانب أجهزة الدولة الأخرى في وضع قواعد وإستراتيجيات تنظيم الأراضي العامة منذ سبعينيات القرن الماضي عندما وضعت خطط التوسع في الصحراء لأول مرة، وبجانب ولاية الجيش الرسمية لاعتبارات الأمن القومي والاستخدامات العسكرية فإن الجيش يملك تأثيرا كبيرا على إدارة الأراضي العامة في المراحل اللاحقة على تخصيصها للاستخدامات الاقتصادية إذ كثيرا ما يضطر المستثمرون إلى الحصول على موافقات من وزارة الدفاع في مسائل عدة تتعلق بارتفاعات المباني على اختلاف أغراضها في المناطق الصحراوية، ويضاف إلى هذا حالات كالحصول على موافقات للأراضي الصحراوية التي قد تكون مدرجة ضمن خرائط الألغام وكذا الحال مع المناطق الساحلية، والتي تقع ضمن المناطق الحدودية التي يحظر تملكها وتقع مباشرة تحت ولاية القوات المسلحة رغم السماح باستخدامها لأغراض سياحية كما هو الحال في الساحل الشمالي وفي سواحل البحر الأحمر.

كما يحق للجيش الحصول على تعويضات مالية عن أي أرض تثبت ملكيتها له، تقع بين مناطق تم تخصيصها لأغراض استثمارية أو سكنية (ما يرفع قيمتها بالطبع)،وهو ما وقع في حالة الأراضي الواقعة شرق حي مدينة نصر وبين الطريق الدائري.

وطبقا للقرار الجمهوري بقانون رقم 531 الصادر في 1981 فإن الجيش يستحق تعويضات مالية عن أي قطعة أرض تستخدم لأغراض عسكرية ـ كأراضي المعسكرات ـ يجري تخصيصها لاستخدامات أخرى، بما يتيح له بناء مواقع ومنشآت عسكرية بديلة، وقد قدم هذا القانون الإطار الرسمي لتحويل الصلاحيات التنظيمية التي يتمتع بها الجيش على الأراضي العامة إلى عوائد اقتصادية مباشرة. وفي 1981، صدر قرار جمهوري بقانون رقم 223، والذي أنشأ جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، ونص على منحه صلاحيات إدارة وبيع الأراضي المملوكة للقوات المسلحة والحصول على العائد المالي اللازم لبناء مواقع ومنشآت عسكرية بديلة لتلك التي جرى تخصيصها أو بيعها لأغراض غير عسكرية. وقد نص القرار على أن يتلقى جهاز مشروعات الأراضي الأموال المستحقة وأن يودعها في حساب خاص لدى بنك الاستثمار القومي لحين صدر قرار آخر في 1990 (رقم 233)، والذي أباح للجهاز إيداع عائد بيع الأراضي في أي من البنوك التجارية المملوكة للدولة.

وفي نهاية 2015 جرى تعديل قانون جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة بقرار جمهوري رقم 446 بما يبيح للجهاز حق إنشاء شركات تجارية يملكها وحده أو بالشراكة مع رأس المال الخاص الوطني أو الأجنبي، وقد تشكل هذه الخطوة طريقا قانونيا للاستثمار المباشر من جانب الجيش في مشروعات عقارية أو خدمية في المستقبل القريب إما بمفرده أو بالشراكة مع القطاع الخاص حيث يوفر التعديل الأخير الإطار الرسمي لاستخدام الجيش الأراضي التي يملكها للدخول في مشروعات استثمارية خاصة في محور قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة.

وعلاوة على ما سبق فإن القوات المسلحة تنظم الاستثمار في شبه جزيرة سيناء من خلال هيئة تنمية سيناء المنشأة
طبقا للمرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2012 الخاص بالتنمية الشاملة في سيناء، والذي بموجبه يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الهيئة بناء على ترشيح من وزير الدفاع، ويمنح القانون هيئة تنمية سيناء كافة الصلاحيات التنظيمية الخاصة باستخدامات الأراضي للأغراض الاستثمارية.

السيطرة الفعلية على استخدامات الأراضي العامة

في مقابل الصلاحيات القانونية واسعة النطاق التي يتمتع بها الجيش في مجال إدارة الأراضي العامة فإنه ثمة آلية أخرى أقل رسمية للسيطرة تتمثل في استحواذ المسئولين من ذوي الخلفيات العسكرية على المناصب العليا في الغالب الأكبر من الأجهزة البيروقراطية المدنية التي تدير الأراضي العامة المخصصة لأغراض الاستثمار أو التنمية، وينطبق هذا على الهيئات المتخصصة التي تدير الأراضي الواقعة خارج الزمام كهيئة التنمية العمرانية (المجتمعات العمرانية سابقا) ومعها وزارة الإسكان وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وهيئة التنمية السياحية وهيئة التنمية الصناعية، علاوة على الحضور الكثيف للواءات المتقاعدين على مستوى المحافظات وما هو دونها من الأحياء على المستوى المحلي، وهي الجهات التي يقع ضمن صلاحياتها إدارة الأراضي العامة داخل الزمام أي الواقعة داخل حدود المحافظات سواء من الأراضي الزراعية أو من الأراضي الواقعة ضمن كردونات المدن.

على أن هذا المنطق الريعي في مقاربة استخدام الأراضي العامة لا ينحصر في الجيش فحسب بقدر ما يمتد إلى أجهزة مدنية للدولة تقارب الأمر من زاوية تحقيق مكاسب مالية ـ أي ريع ـ من ملكيتها للأراضي العامة بدلا من تغليب منطق تنموي يقضي بإخضاع استخدامات الأراضي العامة لحسابات تتعلق بالعائد على الاقتصاد المصري ككل وليس العائد المالي المباشر، وهو ما ينطبق على هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والتي طالما دخلت كمستثمر لتحقيق عائد استثماري للدولة، وهو ما خلق تضاربا في المصالح بين كونها الجهة المسئولة عن تخطيط وإدارة الأراضي مع وزارة الإسكان المصرية لأغراض اقتصادية تشمل القطاع الخاص وبين كونها مستثمر يسعى لتعظيم العائد المتحقق من استثماره.
يضيف حضور الجيش الكثيف في الأجهزة المنظمة لاستخدامات الأراضي العامة طبقات من الإجراءات البيروقراطية في إدارة يشوبها أصلا عدم الكفاءة وارتفاع تكاليف التعامل معها، وذلك باشتراط المزيد من الإجراءات المعقدة التي تستغرق وقتا طويلا لاستخراج التراخيص والتصاريح اللازمة.

وفي هذا الخضم كانت سيطرة الجيش المتشعبة والمستمرة في ضوء عدم وضوح القواعد القانونية والإدارية الحاكمة لاستخدامات الأراضي العامة سببا في رفع التكلفة النهائية للحصول على الأراضي العامة في مصر إما من خلال التكلفة المالية المباشرة أو من خلال تعقيدات الإجراءات وعدم اليقين فيما يتعلق بحقوق الملكية وحقوق الحيازة، خاصة في ضوء الحفاظ على سياسة تقوم على التعتيم والغموض المتعمد تحت زعم اعتبارات الأمن القومي والدفاع فعلى سبيل المثال يشير قرار رئيس الجمهورية رقم 7 لسنة 2001 والخاص بتحديد المناطق الإستراتيجية التابعة للقوات المسلحة إلى خريطة على مستوى الجمهورية لم تنشر قط لاعتبارات الدفاع والأمن القومي وهو ما يعني أن أيا من الجهات الحكومية أو المستثمرين الخاصين يعرف أين تقع تلك الاراضي ذات الاستخدام العسكري، وما يعنيه هذا من تعقد الإجراءات ورفع تكلفتها أو تهديد حقوق الملكية والاستثمارات الواقعة عليها من ثم.

يكبد هذا النظام ذو القواعد المعقدة والغامضة والتحكمية الاقتصاد تكاليف باهظة متمثلة في الفرص الاقتصادية الضائعة للنمو والتوسع العمراني في بلد مكتظ بالسكان تكاد تنحصر فرص التوسع فيه في الأراضي الصحراوية المترامية شرقا وغربا من وادي النيل والدلتا، وما قد يخلقه من فرص عمل واستثمارات لا تتحقق نتيجة تلك الإدارة الريعية لمورد عام كالأرض، هي في نهاية المطاف ملك عام، ومن ثم ينبغي أن تكون إستراتيجية استخدامه قائمة في المقام الأول على اعتبارات التنمية لأكبر عدد ممكن من المواطنين. ولا شك في أن المنطق الريعي في إدارة أصول الدولة الثابتة يؤدي إلى رفع كلفة الأرض على رأس المال الصغير والمتوسط، والذي يواجه صعوبات طبقا لتقرير البنك الدولي مقارنة بالعديد من البلدان، خاصة في بلد كمصر من المفترض أن تتوفر فيه المساحة للتوسع منخفض التكاليف في المحافظات ذات الظهير الصحراوي المترامي الأطراف. وينطبق الأمر نفسه على التكلفة الاقتصادية والاجتماعية في ملف كالإسكان والذي يتجلى في التوسع فيما يسمى بالمناطق العشوائية وارتفاع تكلفة الحصول على شقق للشباب والتضخم الشديد في تكاليف الإسكان.

إعادة صياغة إدارة الأراضي العامة: بعيدا عن تحصيل الريع

شهدت مصر منذ الثمانينيات تزامنا بين توسع اقتصاد الجيش من ناحية وزيادة نصيب القطاع الخاص في الناتج من ناحية أخرى دون أن يتسبب ذلك في المزاحمة أو التضييق من طرف على الآخر بدرجة ملموسة، وقد حدث هذا دون تخطيط مسبق من خلال تقسيم فعلي للعمل بين الطرفين بحيث تركز نشاط الجيش في قطاعات بعينها هي البنية الأساسية والمرافق بينما هيمن القطاع الخاص على القطاعات الأخرى، بيد أن المشكلة الجوهرية تكمن في الصلاحيات القانونية والفعلية المنعقدة للجيش إزاء إدارة الأصول العامة، وخاصة الأراضي الصحراوية، دائما بحجة الدفاع والأمن القومي. وثمة دلائل عدة على أن تلك الصلاحيات الموسعة قد رفعت من تكلفة الاستثمار على القطاع الخاص سواء من خلال إضافة المزيد من الإجراءات المكلفة والمعقدة أو من خلال استخراج الريع مقابل تخصيص الأرض بشكل رسمي أو غير رسمي.

إن الأراضي الصحراوية العامة تحتل موقعا شديد الأهمية للتنمية المستقبلية في مصر كونها تمثل نحو 94٪ من إجمالي المساحة الكلية للبلاد، وكون الفرص المستقبلية للتوسع في مجالات كالإسكان واستصلاح الأراضي والسياحة والتصنيع وتوليد الطاقة تدور حول استخدامات تلك المساحات المتوفرة ـ نظريا على الأقل ـ بتكلفة منخفضة شرق وغرب وادي النيل.

أما في ظل الإطار القانوني والتنظيمي الحالي فإن تداعيات الإدارة المنشغلة بتحقيق الريع تؤثر سلبا على تكلفة الاستثمار وترفع من الأعباء الاجتماعية لإسكان الطبقات المتوسطة والفقيرة التي تعاني من ارتفاع أسعار الأراضي نتيجة النقص المصطنع في العرض، كما يمس النفاذ للأراضي العامة سؤالا رئيسيا حول التوزيع العادل للأصول في مصر، وليست هناك إمكانية لإصلاحات جادة لنموذج التنمية القائم في مصر دون علاج قضية إدارة الأراضي العامة، وفي القلب من هذا الدور الرسمي وغير الرسمي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية.

1. لا تولي هذه الورقة أي اهتمام إلى الاقتصاد العسكري للجيش الخاص بإنتاج الأسلحة والذخائر وإقامة المنشآت العسكرية على أساس أن هذه المجالات ليس من المفترض أصلا أن تكون محلا لمنافسة القطاع الخاص في مصر، كما أن مبرر وجودها عادة ما يكون أمنيا وغير اقتصادي، ويشمل هذا كذلك المعونة العسكرية الأمريكية التي تبلغ نحو 1.7 مليار دولار منذ 1979، والتي تنفق على تطوير وتدريب وتسليح الجيش، فهذا كله يقع خارج نطاق هذا التحليل.

2. الموقع الرسمي لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية ـ قوات مسلحة

3. ساسة بوست (نوفمبر 2014) “ما هي الشركات التي يمتلكها الجيش في مصر؟” 

4. محمد أحمد طنطاوي (مايو 2015) “القوات المسلحة تدعم خطة الدولة في التنمية الشاملة”، اليوم السابع

5. محمد أحمد طنطاوي (مايو 2015) “القوات المسلحة تدعم خطة الدولة في التنمية الشاملة”، اليوم السابع

6. المصدر السابق

http://www.euromonitor.com/bottled-water-in-egypt/report .7 

8. تقارير البنك المركزي المصري السنوية (2002ـ2012)

9. بوابة أخبار اليوم “عز الدخيلة: سوق الحديد سينتعش في 2015 ومتفائلون بمصنع السخنة” 22 أكتوبر 2014

10. دليل القرى السياحية والفنادق بالساحل الشمالي، وان إيجيبت 

11. البنك المركزي المصري، بنية الناتج المحلي الإجمالي في مصر ـ تقسيم قطاعي (2006)

12. محمود الواقع، “بالأمر المباشرة: القوات المسلحة تسيطر على تنفيذ المشروعات العامة” شبكة يناير (29 مارس 2014)

World Bank (2006), “Arab Republic of Egypt: Egypt Public Land Management .13 Strategy”, Report Number 36520, volumes 1 and 2

14. يحيى شوكت (تأليف وتحرير) (2012) “العدالة الاجتماعية والعمران: خريطة مصر”، القاهرة: وزارة إسكان الظل

15. الطعن على قرار وزير الدفاع بتحديد أراضي بجزيرة القرصاية كمناطق عسكرية ذات أهمية استراتيجية (2012) والمقدم من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومركز النديم ومؤسسة الهلالي، ص 15

16. ربيع وهبة (2013) “الأرض ومن عليها: حقوق ومصير الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: دفتر أحوال منتدى الأرض، القاهرة: حقوق الأرض والسكن: التحالف الدولي للموئل

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]