مرور ست سنوات على إطلاق جدلية

مرور ست سنوات على إطلاق جدلية

مرور ست سنوات على إطلاق جدلية

By : Jadaliyya Co-Editors

حين نشرتْ جدلية أولى مقالاتها لم تكن التغيرات السياسية التي عصفتْ بالشرق الأوسط في أواخر 2010 قد بدأت بعد. وحالما بدأت تلك الأحداث وتحولاتها الناتجة كانت جدلية في موقع مثالي كي تعكس وتفسّر وتسهم في النقاشات حول هذه التغيرات في كل من الشرق الأوسط والغرب. وكان أحد الأسباب الرئيسية لصعود جدلية هو قدرتها على تقديم محتوى نقدي عميق ودقيق في ذلك الوقت الحاسم، باللغتين العربية والإنجليزية. وفي السنوات القليلة التي تلت لم تكن جدلية مجرد قناة للتحليل فحسب بل صارت أيضاً منبراً عضوياً فاعلاً للأصوات المعبأة على هوامش الخطاب العام. ولقد قدمنا أحد الفضاءات القليلة كي نشكك ب”الخبراء” واعتبارهم المصدر الوحيد للمعرفة.

وفي الأعوام الستة الأخيرة، كان محررو جدلية وكثير من كتابها، كشعوب الشرق الأوسط، في حالة غير مستقرة من الأمل واليأس الشديدين. وبعد فورة أولية، خابت الآمال وتراجعت الإمكانيات الخيالية، بعد أن ألقت الوقائع الدموية في ليبيا وسوريا واليمن وقطاع غزة (وبالطبع صعود الدولة الإسلامية) ظلالها على الوعد الأولي لتونس ومصر. وبعد أن هيمنت على الصراعات من أجل العدالة الاجتماعية في المنطقة في أواخر 2010 قوى مضادة للثورة في حالة صعود، واجهت جدلية ركوداً على صعيد تلقي المواد النقدية والفكرية العميقة. وقد كان الدافع للكتابة والتوثيق في أزمنة الأمل في ارتفاع قياسي، في جدلية وفي كل مكان. وبعد أن صار الشرق الأوسط ميداناً للحروب والقمع والتطهير العرقي من كافة الجهات قلّت كتابة كثير من المحللين والباحثين، ولجأوا إلى الصمت كي يستوعبوا نقدياً، لا أن يشرحوا الحقائق المتغيرة بسرعة والأوضاع الكارثية والمحطمة للقلب على الأرض. وقد جعل هذا عملنا أكثر صعوبة ليس فقط من ناحية دعم وتوسيع انخراطنا والتزامنا في تقديم التحليل النقدي حول الحالات الأكثر إلحاحاً.

مع ذلك، هناك حاجة ماسة من أجل التحليل النقدي عن ومن المنطقة، خصوصاً في وقت تخلى فيه إعلام التيار الرئيسي عن اهتمامه (القصير الأمد) بتطلعات شعوب المنطقة كجزء من تغطيته الاحتفالية (أحياناً المفرطة) للانتفاضات العربية. لهذا نحن نقوم هذا العام ببذل جهد متواصل مع المنظمات الشقيقة لجدلية (هنا) كي ننتج دورة أخرى من التحليلات العميقة حول التحول العنيف وأحياناً الرجعي للانتفاضات.
 

 \"\"

الإعلام يهم

عاد كثيرٌ من المحللين الآن إلى التركيز التقليدي على “التهديدات” في المنطقة لمصالح الأمن القومي الأميركي والأوربي الغربي كالعنف والردكلة أو اللاجئين. فضلاً عن ذلك، إن كثيراً من المنابر التي تهدف إلى تقديم منظورات نقدية صرفة من المنطقة مُسيّسة بشكل عميق إما من خلال مصادر تمويلها أو ولاءاتها السياسية بحيث صارت جزءاً من المشكلة من زاوية إنتاج المعرفة. إن الترابط بين العسكرة والبترودولار يُعرّف معظم وسائل إعلام التيار الرئيسي وحتى بعض الإعلام البديل في المنطقة. ثمة توجه سائد إلى المعايير المزدوجة في التغطية الإعلامية التي تقدمها هذه المنابر يسرق من الجماهير التحليل العميق والكلي. وسواء كان يتحدث عن سوريا بشكل غير دقيق أو يتجاهل اليمن تماماً، ويتجنب نقد السعودية أو يهلل للعسكرة في مصر، أو إذا كان يجمّل الاستبداد في الأردن أو ينسى فلسطين، فإن حالة المعرفة التي ينتجها هذا الإعلام عن المنطقة هي في الحقيقة بالغة السوء.

في هذا المفصل الحيوي بشكل خاص قررنا ألا نخضع للقيم التي يشجعها السوق والتي هي مزيد من الإنتاج بجودة مخفضة. بدلاً من ذلك، اتبعنا سياسة على النقيض تماماً. فمن خلال تركيزنا على الجودة خففنا من حجم المحتوى الكلي في جدلية. إن ضرورات السوق والشركات ستعتبر هذا القرار مخالفاً للحس العام، لكننا كمنبر مستقل ونقدي تكمن نزاهته بشكل كبير في جودة إنتاجه، لم نكن مهتمين في التحول إلى “التغطية الإعلامية”، بل كان هدفنا هو “تغطية” كل شيء في المنطقة، من أجل أن نقدم تحليلاً هادفاً حول مسائل نمتلك معرفة مميزة بها ونمتلك القدرة على التحدث عنها. وعبر رفضنا أن نكون بيادق في “عبادة الخبرة” المتنامية حول كل شيء يتعلق بالمنطقة، تجنبنا تحويل جدلية إلى مجلة مختصة بكل شيء وخاضعة لمعايير السوق.

بالرغم من اليأس الجمعي وتراجع الحركات الاجتماعية من أجل العدالة في المنطقة، فإن الناشطين والباحثين والمفكرين في ومن الشرق الأوسط يواصلون النظر إلى جدلية باحترام بأنها أحد تلك المنابر القليلة التي يقرأون فيها ويتعلمون منها عن الصراع القائم من أجل الحرية والكرامة. إن هذا الصراع الذي وحّدنا منذ ست سنوات، يواصل توحيدنا اليوم. لهذا نعتبر الطور الحالي جوهرياً جداً. في هذا المجال، نحن مدينون بشكل خاص لقائمة كتابنا المتنامية باستمرار، وكلهم بذلوا الجهود وقدموا أبحاثهم وتحليلاتهم، دون مكافأة.

[إن المؤسسة الصيفية لمشروع الاقتصاد السياسي هي جزء من مشروع تعليمي أكبر. اضغط في الأسفل من أجل المزيد]

\"\"

مبادرة تعليمية

لهذا السبب ننوي أن نركز انتباهنا على أولويتنا الأكبر كمدرسين. ومن أجل وضع إنتاج المعرفة حول المنطقة في سياق تاريخي وطبيعي وإعادة تشكيله ستعمل جدلية على أن تكون مصدراً ونقطة انطلاق للبحث الاستقصائى، ولهذا السبب سنسميها “دورة جدلية التعليمية”. قمنا بهذا منذ ثلاث سنوات من خلال جادماغ (وهي منشورات قصيرة ومركزة حول موضوعات معينة) والمجلة الصوتية الوضع\\Status (وهي قاعدة بيانات سمعية بصرية من المحاضرات والبرامج والمؤتمرات والندوات والمشاغل)، والمزيد من التعاون مع منظمتنا الشقيقة تدوين للنشر (التي تنتج كتباً مستمدة من المقالات المنشورة في جدلية وغيرها) لكن مرحلتنا التالية ستوحد هذه الجهود والجهود الإضافية الأخرى تحت اسم المبادرة التعليمية لدراسات الشرق الأوسط. وبمعنى ما، نهدف إلى أن نصبح منبراً ليس فقط للتفكير النقدي على الإنترنت - مبرر وجودنا - لكن أيضاً كي نرعى أعمال الأكادميين والناشطين والفنانين والصحفيين من خلال إبداع فضاء تتفاعل فيه هذه الأصوات. نحن عازمون على فعل هذا فيما نقاوم رمزية وتفاضلية وقمع الإجماع. ونأمل أن يواصل المحتوى الذي ننشره في جدلية تحدي هيمنة الأصوات “المرجعية” وأن يوسع قدرتنا على تقديم سلسلة من الأصوات من المنطقة.

[عددنا الأخير من مجلة الدراسات العربية صدر هذا الأسبوع. اضغط على الرابط من أجل المزيد] 

\"\" 

أرضنا الصلبة

ننشر هذه الأيام تحليلات مباشرة للأحداث وكذلك مقالات بحثية أطول. ويقدم لنا هذا مرونة كي نعلق على الأحداث الحالية بطريقة نقدية وعميقة دون التضحية بحساسيتنا وإخلاصنا لمقالات تحليلية قائمة على بحث جيد، والعكس هو الصحيح. إن جدلية هي أيضاً منبر خيار لسلسلة واسعة من الإنتاجات، من مقابلات إلى عروض كتب ومختارات من الصحافة والمراجعات والصور وعروض الكتب. وبينما ليس من السهل الاستمرار في تقديم جدول متدفق من الأعمال المدهشة في إطار منظمة قائمة على العمل التطوعي (ولا تدفع مقابل المحتوى)، تمكنّا من أن نقدم لقرائنا مادة متماسكة ومفيدة في السنوات الست الماضية، بالإنكليزية والعربية، وفي بعض الأحيان بالتركية والفرنسية. ومن الواضح أن نتاجنا بالإنكليزية تباطأ منذ أن تراجعت فورة الانتفاضات، إلا أن نتاجنا بالعربية ازدهر. ففي السنوات الثلاث الماضية، تمكنا من جذب الكثير من القراء في المنطقة من خلال تقديم المادة الثقافية النقدية. والحقيقة أن قاعدة جمهورنا واسعة النطاق ونتاجنا متنوع بحيث لا يتسع المجال للحديث عنه هنا.

وفي الشهور والأعوام القادمة سنجعل هذا مرئياً من خلال موقع إلكتروني جديد، وسطح بينيّ متاح تكنولوجياً أكثر، وإحساس متجدد بالهدف الذي سيستند إلى مشاريعنا الأخرى، ومنها مشروع إنتاج المعرفة، وهو مهمة ضخمة سنعلن عنها في مؤتمر ميسا في بوسطن، ٢٠١٦.

سنبني أيضاً على العدد الضخم من شبكات الباحثين والناشطين الذين جمعناهم معاً كجزء من مشاريع وورش مختلفة مع منظمتنا الشقيقة فاما (منتدى الشؤون العربية والإسلامية). إن كثيراً من قرائنا سيتم تعريفهم بشكل أكمل على إنتاجنا السمعي البصري الذي ترعاه كيلتنغ بوينت. أخيراً، سنستفيد من الجهد البحثي المهم جداً والشبكات المرتبطة به والذي تقدمه مجلة الدراسات العربية.


[إصداراتنا الجديدة من “تدوين للنشر”. اضغط الرابط في الأسفل]
 

\"\" 

العودة إلى الأساسيات

إن التزامنا المستمر بالتفكير والكتابة عن الشرق الأوسط من إطار عابر للقومية يسمح بتسليط الضوء أكثر على الوشائج الداخلية وخصوصيات مجتمعات المنطقة وأنظمتها السياسية واقتصاداتها. ومن بين الأمور الكثيرة التي ميزت جدلية العصب البصري الذي يسمح لنا بأن نرى المآزق والاحتمالات بشكل عابر للقومية. إن إزالة الحدود بين الحركات الاجتماعية العابرة للقومية، والإنتاج الثقافي، والأطر التحليلية (بما فيه الاستعمار الاستيطاني،الاقتصاد السياسي، ومعاداة السود، دون أن يقتصر الأمر على ذلك) سيواصل تمييزنا. من ناحية أخرى، إن تغطية تيار الإعلام الرئيسي للمنطقة منذ 2010 انتقل من الدهشة والحماس إلى تغطية سطحية تلجأ إلى أطر وكليشيهات هيمنت لوقت طويل على التغطية الإعلامية للشرق الأوسط، لا ترى الأشياء إلا من خلال عدسة الإرهاب والصراع الاثني - الطائفي والدين والجيوبوليتيكا وأمن الطاقة.

حاولنا، طيلة ست سنوات، أن نقاوم هذه الخلفية من خلال جعل النقاشات حول المنطقة أكثرإشكالية وتعقيداً ومحلية بطريقة تتحدى النبرات التشاؤمية الساذجة والسطحية والعفوية. وسنواصل تقديم نوع مختلف من التحليل بما أن فهم المنطقة يحتاج إلى تغطية إعلامية عميقة ودقيقة ومتأصلة ومجتهدة وحساسة وليس تلك التي تظهر حين تحدث جائحة ثم تختفي.

حاولنا، طيلة ست سنوات، أن نلقي الضوء على تعقيدات الحركات الثورية وبيئاتها وتداعياتها. وبحثنا، لست سنوات، عن طرق جديدة في التحليل كي نصقل على نحو أفضل الوقائع الجديدة التي تواصل البزوغ. وطيلة ست سنوات، كانت جدلية منبراً لنقاش عن المنطقة مستقل ونقدي وعميق.

وبمناسبة هذه الذكرى، نعدُ قراءنا بأن نضاعف الجهود في التركيز على مهمتنا الجوهرية كي نقدم تحليلاً أفضل وتغطية أدق وأعمق حول الشرق الأوسط وغيره.

بعد ست سنوات، نعتقد أن جدلية ستظل جوهرية كما دوماً.

[انضم إلينا لإطلاق مشروع إنتاج المعرفة ومشروعات أخرى لمؤسسة الدراسات العربية]

\"\"

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Jadaliyya Co-Editor Noura Erakat Awarded Laureate of the Amnesty International Chair

      Jadaliyya Co-Editor Noura Erakat Awarded Laureate of the Amnesty International Chair

      Every year, Ghent University awards the Amnesty International Chair to a person who makes a special contribution in the field of human rights. The laureate gives a public lecture at Ghent University and additional guest lectures for students. This year laureate of the Amnesty International Chair is Noura Erakat, a prominent Palestinian lawyer and activist, whose courageous and relentless work as a human rights academic and attorney has reshaped legal and political discussions on the Israel-Palestinian conflict.

    • One Year of Horror: Israel’s Genocide in Gaza and Its Percussive Violence Beyond

      One Year of Horror: Israel’s Genocide in Gaza and Its Percussive Violence Beyond

      It has been one year since 7 October 2023. One full year of watching unfathomable levels of death and destruction of the Palestinian people, particularly in Gaza, as well as that of people in surrounding countries. One year of unceasing shock and horror. To paraphrase Palestinian attorney Lara Elborno, every day has been the worst day.

    • Jadaliyya Co-Editors Statement on “Impossible Solidarity”

      Jadaliyya Co-Editors Statement on “Impossible Solidarity”

      As we announced previously, the article titled “Impossible Solidarity” was taken down when it was discovered that proper in-house editorial procedure had not been followed prior to publication. After a full review that included relevant Page Editors as well as Jadaliyya Co-Editors, the article was removed permanently, and the author was notified. The editors fundamentally disagreed with the article’s placing of settler colonial genocide and authoritarian state repression on equal footing, regardless of what the author’s intentions may have been. The article also included several questionable and/or patently incorrect statements. The consequence of the publication of this piece has been temporarily costly to our mission, regardless of whether readers understand the decentralized and volunteer-based nature of how Jadaliyya operates.

العراق: خطاب التقسيم والأقلمة

‪
عاد خطاب التقسيم و“الأقلمة“ إلى الواجهة مع تدهور الوضع في العراق و“تمدّد“ الدولة الإسلامية وسيطرتها على الموصل وأجزاء مهمّة من البلاد، حتى أصبحت تشكل خطراً حقيقيّاً يهدد وجود الدولة العراقية. فصرنا نسمعه يتداول في التقارير الإخبارية وتعليقات ”الخبراء“ والمراقبين ونقرأه في تعليقات عدد من العراقيين. ولا شك أنّ الإشارات والتصريحات القادمة من القيادات الكردية بخصوص إعلان وشيك عن استقلال كردستان العراق تضيف زخماً إلى خطاب التقسيم والأقلمة في ما تبقّي من العراق. إن الهدف من هذه المقالة السريعة هو التركيز على خطاب التقسيم والأقلمة وليس التعرّض إلى موضوع كردستان الشائك. لكن لا بد أن نسجّل أن من حق أكراد العراق تقرير مصيرهم ومستقبلهم واختيار شكل وهوية الدولة التي يريدون العيش ضمن حدودها مستقبلاً. فلقد عانوا كثيراً من عنف الدولة العراقية ومن ظلمها وإقصائيتها في الماضي. لكن اختيار هذه اللحظة الكارثية، بالذات، لتعجيل موضوع الاستقلال خطأ جسيم. وستكون له تبعات سلبية على المدى البعيد، مهما كانت أرباحه السياسية على المدى القريب.


بالعودة إلى خطاب التقسيم والأقلمة (والثانية تقود إلى الأوّل)، فإنّه يبدو غريباً في زمن العولمة الذي تتهاوى فيه الجدران (باستثناء جدار الفصل العنصري في فلسطين)، الحقيقية والمفترضة، وينحو فيه العالم عموماً نحو التكامل الاقتصادي والدخول إلى منظومات وكيانات وتكتّلات سياسية واقتصادية كبرى. لكن إحدى الحجج التي يسوقها الذين يروجون لفكرة التقسيم هي أن العراق يشكل حالة استثنائية. فهو دولة ”مصطنعة“ بحسب هؤلاء، وبذور فشلها تكمن في الكيفية والظروف التي تأسّست بها. كما أن الطائفية، بحسب هؤلاء، متجذرة في ثقافة البلد وتاريخه وليست تمظهراتها الأكثر حدة في العقود الأخيرة إلّا دليلاً على ذلك. وهناك أيضاً من يفضّل التقسيم على أساس أنه أهون الشرور. ويرى فيه حلّاً لإشكالية الصراعات الطائفية ووسيلة لحقن الدماء. بالإضافة إلى كل ما تقدّم هناك افتراض أن الأقلمة واللامركزية ستضمن نظاماً أكثر عدالة في توزيع الثروات وأن التقسيم سيخلص المناطق التي طالما همّشتها أو عاقبتها الحكومة المركزية من الظلم والإهمال.


بغض النظر عن النوايا والغايات فإن الافتراضات التي يستند عليها هذا الخطاب خاطئة. كل الدول الحديثة كيانات مصطنعة. فالدول ليست نباتات طبيعية أو كائنات حية! والأمثلة كثيرة في المنطقة وفي العالم بأسره. هناك أجزاء كبيرة من أراضي الولايات المتحدة (التي يحرص بعض سياسييها بالذات على الترويج لمقولة أن العراق دولة مصطنعة ولا بد من تقسيمها) تم شراؤها من فرنسا في صفقة ”شراء لويزيانا“ عام ١٨٠١ في عهد توماس جيفرسون. وتضمنت الصفقة أكثر من مليوني كلم مربع (١٥٪ من الولايات المتحدة): ولايات آركنسا ومزوري وآيوا وأوكلاهوما وكانساس ونبراسكا وأجزاء من مينيسوتا، وأجزاء من ولايات أخرى. وهذه أساساً اغتصبت من سكانها الأصليين ومن المكسيك. أليست الولايات المتحدة دولة مصطنعة أيضاً؟ 


إن بدايات تشكّل الهوية الوطنية العراقية الحديثة تسبق الاحتلال البريطاني وتعود إلى القرن الثامن عشر. وكان لبروزها وتبلورها علاقة بالمصالح الاقتصادية المشتركة وتشكّل وحدة إدارية تجمع مدن العراق الرئيسية مركزها بغداد (انظر دراسة عصام الخفاجي المهمّة في هذا السياق: “تشكّل العراق الحديث”). إن الرواية التبسيطية التي يتم ترديدها والتي تدّعي أن بريطانيا هي التي شكّلت العراق من ثلاث ولايات عثمانية وهذا يعني أو يفترض عدم وجود أي تجانس أو فضاء وطني مشترك آنذاك أو قبلذاك خاطئة تاريخياً وإشكالية. لكنها، بالطبع، تتناغم مع رواية المركزية الأوربية التي يكون وصول الأوربي فيها إلى أرض ما هو بداية التاريخ الحديث. وكل ما قبله ظلام دامس.


أما بالنسبة للطائفية، فلا شك أنّها اليوم، بعد كل ما جرى ويجري، ترسّخت في المجتمع العراقي. لكن، لا بد من التمييز بين التوتّر والصراع الموجود بين الجماعات المختلفة في كل مجتمع والذي تتصاعد حدته وتخف بحسب الظروف السياسية والاجتماعية من جهة، وبين الطائفية السياسية المنظّمة من جهة أخرى. الأخيرة ظاهرة حديثة وليست متجذرة في تاريخ العراق ولكنها ترسّخت في الأذهان والممارسات والخطاب، خصوصاً منذ عام ٢٠٠٣. حتى أصبح من الصعب على الكثيرين أن يفكروا خارج إطارها. أولئك الذين ينطلقون من مبدأ هوياتي، وهم ليسوا قلة للأسف، يُسْقِطون صراعات الحاضر أو أحداث التاريخ القريب (العقود الثلاثة الأخيرة) على خارطة الماضي لنسج سردية لاتاريخية، مهما استعانت بأحداث حقيقية، ذات أهداف سياسية. ليس القصد هنا التقليل من معاناة ومظلومية أي مجموعة البتّة ولا تجميل الماضي والقفز فوق مآسيه، خصوصاً بعد ما حدث منذ عام ٢٠٠٣. لكنها دعوة للتفكير خارج مقولة الطائفة وخطابها ومعادلاتها. لم تبدأ الطائفية عام ٢٠٠٣ بكل تأكيد، لكن ترسيخ الطائفية السياسية ومأسستها كهوية سياسية بدأ في ٢٠٠٣. حيث تم جعلها العملة السياسية الرئيسية والوحيدة (مع العرق) في النظام السياسي الفاشل الذي تم تأسيسه بعد تفكيك الدولة العراقية. هناك لحظات مفصلية تسبق هذا التاريخ كانت مهمة في هذا السياق، ومن بينها أسلوب وخطاب النظام البائد في قمع انتفاضة ١٩٩١. كما لا شك أن لسنين الحصار أثرها أيضاً في تخريب النسيج الاجتماعي والفضاء المدني في العراق وإجبار شرائح كبيرة على الهجرة إلى الشتات وخلق فراغات. إن هيمنة “الطائفة” كمقولة ومعيار وخطاب تؤدي إلى إعادة سرد الماضي والتاريخ من منظار طائفي وتغفل، بل تسقط، عوامل ومقولات أساسية في فهم أي مجتمع في أي مكان، وهي التموضع الاقتصادي والاجتماعي والمناطقي والأيديولوجيا.


إن التقسيم الذي يروج له بعض السياسيين سيؤدي بالضبط إلى ما يفترض أن يحول دونه. فخلق أقليمين مبنيين على أساس طائفي، شيعستان وسنستان، سيؤدي إلى حملات تهجير جديدة وحروب أهلية مستمرّة، بالذات من، وفي، ما يسمّى “المناطق المختلطة.” وهذا المصطلح الجديد نسبياً والمستورد هو واحد من المصطلحات التي تم ترسيخها بعد الاحتلال. وهو يعكس الخطاب الطائفي وهيمنته. فهو يفترض أن وجود المناطق المختلطة هو استثناء، بينما العكس (كان) هو الصحيح. لا ننكر أن هناك مناطق في العراق كان غالبية سكانها من هذه الجماعة أو تلك. لكن الكثير من مناطق العراق كانت دائماً “مختلطة” بنسب متفاوتة ولم يكن الأمر غريباً أبداً قبل عصر الطائفية. ولم يستدع ابتداع مصطلح ليدل على ذلك. تغير الحال، للأسف، بعد الحرب الأهلية الدامية والتطهير العراقي في بغداد وغيرها. المهم، إن التقسيم (أو الأقلمة) سوف يكمل عملية التطهير العرقي ويسرّع في عمليات تهجير كل جماعة إلى إقليمها. فهل فكّر دعاة التقسيم بما سيحدث في منطقة بغداد الكبرى مثلاً؟ وبمناطق أخرى “مختلطة”؟


أما بالنسبة للعدالة في توزيع الثروات والتحسّن في توفير الخدمات، فإن التقسيم أو الأقلمة لن يغيّرا طبيعة الطبقة السياسية الحاكمة ( وهي الأكثر فساداً وفشلاً ). بل إنهما، في ظل المناخ السياسي السائد وممارساته و”ثقافته،” سيزيدان من فرص الفساد والإثراء غير الشرعي للسياسيين على حساب المواطنين، الذين لن يتغيّر شيء في حياتهم وواقعهم عملياً باستثناء الإطار الشكلي. ليست صدفة أن أبرز الأصوات التي تدعو إلى التقسيم والأقلمة من غير العراقيين هي لسياسيين أميركيين سابقين يرتبطون حالياً بشبكات مصالح اقتصادية ضخمة لها مطامعها ومصالحها في العراق (انظر، مثلاً، مقالة زلماي خليلزاد، الذي كان السفير الأمريكي في العراق بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٧ والذي يترأس الآن مجموعة غريفوند الاستشارية). فمن الذي سيتفيد من الأقلمة؟


هل سيسرع الساسة الفاسدون الذين أنتجتهم “العملية السياسية” والذين دأبوا على سرقة ثروات الشعب لعقد من السنين دون أن ينجزوا مشروعاً واحداً لكي يفعلوا عكس ما يفعلونه في هذا الإقليم أو ذاك؟ ما دامت الثقافة السياسية والنخبة السياسية هي نفسها فإن الأقلمة لن تعني إلا المزيد من الفساد والطائفية.


إن اللامركزية وإعطاء صلاحيات أكبر لمختلف المناطق في أي بلد وتوزيع أكثر عدالة للثروات وغيرها هي أهداف منطقية وضرورية بحد ذاتها. ومن حق المواطنين في مناخ ديمقراطي حقيقي أن يناقشوا بشكل علني نظام الحكم الذي يفضلون أن يعيشوا في إطاره وأن يصوّتوا على ذلك. إن إنجاز اللامركزية وكل ما تعد به من إيجابيات سيكون ممكناً في بلد يعمل نظامه بشكل “طبيعي” وفق آليات ومؤسسات ناجحة وفعّالة ويمتلك بنية تحتية. لكن العراق بوضعه الحالي المزري لا يمتلك الحد الأدنى مما يسمح أساساً بانتقال ناجح ومنظم إلى نظام مختلف، مهما كان شكله. التقسيم سيكون تقسيماً وتوزيعاً، ليس أكثر عدالة بالضرورة، للخراب والفساد.


لقد بات واضحاً، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة وبعد احتلال الموصل ومراقبة ردود فعل النخبة السياسية الكارثية واللامسؤولة، أن ما يسمّي بـ”العملية السياسية” لن تنتج إلا المزيد من الخراب والتمزق والفساد. كما أنها ليست بمستوى المخاطر والتحديّات التي تهدد وجود العراق ككيان، بل إنّها بفسادها وطائفيتها كانت سبباً في تفاقمها.


إن الحل الوحيد لإنقاذ العراق وشعبه من مستقبل أكثر ظلاماً وخراباً هو التخلص من النظام الطائفي وخطابه المقيت وممارساته الكارثية. لا بد من تشكيل حكومة إنقاذ وطني وكتابة دستور جديد، أساسه المواطنة والمساواة. إن هذه اللحظة الحالكة في ليل العراق تتطلب إعلاء الروح الوطنية العراقية لاستعادة وبناء وطن للجميع، وليس لطائفة أو عرق.


معالم العراق تُنْسَف وخارطته تتمزّق وبستانه الكبير يفقد نخيله وأشجاره، وأبناءه، أمام جرّافة الإرهاب ونار الطائفية والفساد. والساسة في بغداد يتشاورون ويتحاصصون. لا بد من الحفاظ على ما تبقّى قبل أن يحترق البستان بأكمله!‬