قصة للكاتب الأميركي: ريموند كارفر
ترجمة أسامة إسبر
بدأ زوج ساندي يجلس على الصوفا منذ أن سُرِّحَ من العمل منذ ثلاثة أشهر. في ذلك اليوم، منذ ثلاثة أشهر، رجع إلى المنزل وقد بدا شاحب الوجه وخائفاً وكل أشياء العمل الخاصة به موضوعة في صندوق. "عيد حبّ (فالنتاين) سعيد"، قال لساندي ووضع صندوقاً على شكل قلب من الحلويات وزجاجة ويسكي من نوع جيم بيم على طاولة المطبخ. "سُرِّحتُ اليوم. ماذا سيحدث لنا الآن برأيك؟"
جلست ساندي وزوجها إلى الطاولة وشربا الويسكي وأكلا الشوكولاتة. تحدثا عما يمكنه فعله بدلاً من سقْف المنازل الجديدة. ولكنهما لم يستطيعا التفكير بأي شيء. "سيظهر شيء ما"، قالت ساندي. أرادت أن تشجّعه. ولكنها كانت خائفة، أيضاً. أخيراً، قال إنه سينام عليها. وفعل ذلك. جعل الصوفا سريره في تلك الليلة، وهناك صار ينام كل ليلة منذ أن حدث الأمر.
في اليوم التالي لفصله من العمل كانت هناك فوائد بطالة يجب التحقق منها فذهب إلى مكتب الولاية في مركز المدينة كي يملأ الأوراق ويبحث عن عمل آخر. ولكن لم تكن هناك وظائف في خط عمله، أو في أي خط عمل آخر. بدأ وجهه يتعرّق وهو يحاول أن يصف لساندي الحشد الهائل من النساء والرجال هناك. في ذلك المساء رجع إلى الصوفا. بدأ يمضي معظم وقته عليها، كما لو أنه، كما اعتقدتْ، الشيء الذي من المفترض أن يفعله الآن بما أنه لم تعد لديه وظيفة. غير أنه اضطر بين فينة وأخرى للذهاب للتحدث مع شخص ما عن إمكانية تأمين عمل، وللذهاب كل أسبوعين كي يوقع ورقة ما كي يقبض تعويض بطالته. ولكنه كان يبقى على الصوفا في بقية الوقت كما لو أنه يعيش هناك، كما اعتقدت ساندي. إنه يعيش في غرفة الجلوس. بين فترة وأخرى يقلّب في المجلات التي تحضرها إلى المنزل من البقالية؛ وفي كثير من الأحيان تدخل فتجده ينظر في ذلك الكتاب الكبير الذي حصلت عليه كهدية كي تنضمّ إلى نادي الكتاب، وهو كتاب بعنوان أسرار الماضي. يمسك الكتاب أمامه بكلتا يديه، رأسه منحن فوق الصفحات، كما لو أن ما يقرأه يشدّه. ولكن بعد وهلة لاحظت أنه لا يقوم بأي تقدم فيه؛ إذ ما زال في الموضع نفسه، في مكان ما في الفصل الثاني، كما خمّنتْ. التقطت ساندي الكتاب مرة وفتحته في الموضع الذي وصل إليه. قرأت هناك عن رجل اكتُشف بعد أن أمضى ألفي عام في مستنقع في هولندة. ظهرت صورة على إحدى الصفحات. جبين الرجل متغضّن، ولكن ثمة تعبير رائق على وجهه. يعتمر قبّعة جلديّة ويتمدد على جنبه. كان متقلص اليدين والقدمين، ولكنه لم يبد قبيحاً. قرأتْ في الكتاب أكثر قليلاً، ثم وضعتْهُ من حيث أخذته. كان زوجها يبقيه في متناول يده على الطربيزة التي تتوضع أمام الصوفا. الصوفا اللعينة! وبقدر ما كان الأمر يهمّها، لم ترد حتى أن تجلس عليها ثانية. لم تستطع أن تتخيّل أنها هي وهو قد استلقيا هناك في الماضي كي يمارسا الجنس.
تأتي الصحيفة إلى المنزل يومياً. يقرأها من أول إلى آخر صفحة. رأته يقرأ كلّ شيء مشدوداً إلى قسم الوفيّات، والجزء الذي يبيّن درجة الحرارة في المدن الرئيسية، وكذلك قسم أخبار البزنس الذي يتحدث عن عمليات الدمج بين الشركات ونسب الفائدة. في الصباحات، ينهض قبلها ويستخدم الحمام. ثم يشغل التلفاز ويعدّ القهوة. اعتقدت أنه بدا سعيداً ومبتهجاً في تلك الساعة من اليوم، ولكن في الوقت الذي تذهب فيه إلى العمل، يتوضع في مكانه على الصوفا والتلفاز شغال. يبقى التلفاز في معظم الأحيان مفتوحاً إلى أن تعود ثانية بعد الظهر. يجلس على الصوفا، أو يستلقي عليها، مرتدياً بنطلون جينز وقميصاً خفيفاً، الثياب التي كان يرتديها للذهاب إلى العمل. ولكن أحياناً يكون التلفاز مطفأ وهو جالس هناك حاملاً كتابه.
"كيف تسير الأمور؟" يقول حين تنظر إليه.
تقول:"لا بأس. كيف أمورك أنت؟"
"تمام".
يضع دوماً إناء القهوة كي يسخن على الغاز لها. وفي غرفة الجلوس، تجلس على الكرسي الكبير. وتجلس على الصوفا حين يتحدثان عن يومها. يحملان كوبيهما ويشربان قهوتهما كما لو كانا سوّيين، كما اعتقدت ساندي.
ما تزال ساندي تحبّه، رغم أنها تعرف أن الأمور صارت غريبة. إنها ممتنة كونها تحتفظ بوظيفتها، ولكنها لا تعرف ما الذي سيحدث لهما أو لأي شخص آخر في العالم. لديها صديقة في العمل أسرّت لها مرة واحدة عن زوجها، عن جلوسه على الصوفا طول الوقت. ولسبب ما، لم تعتقد صديقتها بأنّ الأمر غريب جداً، مما أدهش ساندي وأحزنها. أخبرتها صديقتها عن عمّها في تينيسي ـ حين صار عمر عمها أربعين، دخل إلى سريره ولم يغادره بعد ذلك. قالت لساندي إنها ظنّتْ أن عمّها خائف من التقدّم في العمر، أو ربما كان خائفاً من نوبة قلبية أو شيء ما. ولكن الرجل في الثالثة والستين الآن وما يزال يتنفّس، كما قالت. حين سمعت ساندي هذا، ذُهلتْ. إذا كانت هذه المرأة تقول الحقيقة فإن الرجل أمضى في السرير 23 سنة كما اعتقدت. إن عمر زوج ساندي 31 فقط. 31 و 23 يساوي 54. سيضعها هذا في عمر الخمسين آنذاك، أيضاً. يا إلهي، لا يستطيع الشخص أن يمضي بقية حياته كلها في السرير، أو على الصوفا. لو جُرح زوجها أو كان مريضاً، أو تعرض للأذى في حادث سيارة، فإن الأمر سيكون مختلفاً. بوسعها أن تفهم ذلك. لو حدث شيء كهذا فإنها ستتحمله كما تعرف. إذا اضطر أن يعيش على الصوفا واضطرت أن تحضر له طعامه إلى هناك، وربما تحمل الملعقة إلى فمه، فإنه سيكون حتى في هذا شيء كالرومانس. ولكن أن يلجأ زوجها الشاب والمعافى إلى الصوفا بتلك الطريقة ولا يرغب بالنهوض إلا كي يذهب إلى المرحاض أو يشغل التلفاز في الصباح أو يطفئه في الليل، فإنّ هذا كان مختلفاً. جعلها هذا تشعر بالعار؛ وباستثناء تلك المرة، لم تتحدث عن الأمر مع أي شخص. لم تتحدث عن الأمر لصديقتها بعد ذلك والتي دخل عمها إلى السرير وبقي 23 سنة وما يزال هناك.
في وقت متأخر من بعد ظهر أحد الأيام رجعت إلى المنزل من العمل، صفّت السيارة، ودخلت. كان بوسعها سماع صوت التلفزيون في غرفة الجلوس حين دخلتْ من باب المطبخ. كان إناء القهوة على الغاز، والنار خفيفة. من حيث تقف في المطبخ، وتحمل محفظتها، كان بوسعها أن تنظر إلى غرفة الجلوس وترى ظهر الصوفا وشاشة التلفاز. الأشكال تتحرك على الشاشة، وقدما زوجها الحافيتان ناتئتان في نهاية الصوفا. وفي الطرف الآخر، استطاعت أن ترى تاج رأسه. لم يتحرك. ربما هو نائم أو لا، وربما سمعها تدخل أو لم يسمعها. ولكنها قررت أن الأمر لا يحدث أي فرق بأية طريقة. وضعت محفظتها على الطاولة وذهبت إلى البراد لتخرج بعض اللبن لنفسها. حين فتحت الباب خرج إليها هواء ساخن محبوس. لم تستطع تصديق وجود خلل في الداخل. فقد ذابت البوظة في الثلاجة وسالت حتى سقطت على أصابع السمك المتبقية وسلطة الكرنب. دخلت البوظة إلى إناء الأرز الأسباني وتجمعت في قاع البراد. البوظة في كل مكان. فتحت باب الثلاجة فخرجت رائحة كريهة جعلتها ترغب بالتقيؤ. البوظة تغطي أرضية الثلاجة وتتجمع فوق علبة همبرغر وزنها ثلاثة أرطال. ضغطت بإصبعها على غلاف السيلوفان الذي يغطي اللحم فغاص في العلبة. ذابت قطع لحم الخنزير أيضاً. ذاب كلّ شيء بما فيه المزيد من أصابع السمك وعلبة من ٍالستيك ـ آم ، ووجبتين من الطعام الصيني من نوع شيف سامي. ذاب أيضاً الهوت دوغ والسباغيتي المصنوعة في المنزل. أغلقت باب الثلاجة ومدت يدها في البراد كي تخرج علبة اللبن. رفعت غطاء اللبن وشمّت. آنذاك صرخت بزوجها.
"ما هذا؟" قالت، منتصبة خلف الصوفا. "هيه، ما الأمر؟" دفع يده في شعره مرتين. لم تستطع أن تميّز إن كان نائماً طول هذا الوقت أم لا.
قالت ساندي:"لقد تعطّل هذا البراد اللعين. هذا هو الأمر؟"
نهض زوجها عن الصوفا وأخفض صوت التلفزيون، ثم أطفأه وذهب إلى المطبخ. قال:"دعيني أتفحصه. لا أصدّق هذا".
قالت:"انظرْ بنفسك، سيفسد كلّ شيء".
ألقى زوجُها نظرة داخل البراد، وارتسم على وجهه تعبير في غاية الجدية. ثم بحث في الثلاجة ورأى كيف هي الأشياء هناك.
قال:"قولي لي ما التالي".
خطرت في رأسها فجأة مجموعة من الأشياء، ولكنها لم تقل أيّ شيء.
قال:"اللعنة، حين تُمطر تُغرق. إيه، لا يمكن أن يكون عمر هذا البراد أكثر من عشر سنوات. كان جديداً تقريباً حين اشتريناه. استمعي، إن أهلي يملكون براداً خدمهم 25 سنة ثم أعطوه لأخي حين تزوّج. كان يعمل بشكل جيد. إيه، ما الذي يجري؟" تحرك بحيث استطاع أن يرى في المكان الضيّق بين البراد والجدار. "لا أفهم الأمر"، قال وهزّ رأسه. "إنه موصول بالكهرباء". ثم أمسك البراد وهزّه إلى الأمام والخلف. وضع كتفه عليه ودفع وهزّ الجهاز بضعة إنشات خارج موضعه داخل المطبخ. سقط شيء داخل البراد عن رفّ وتحطّم. قال:"أجراس الجحيم".
أدركت ساندي أنها ما تزال تحمل اللبن. ذهبت إلى علبة القمامة، رفعتْ الغطاء، ورمت العلبة في داخلها. قالت:"يجب أن أطبخ كلّ شيء الليلة". رأت نفسها عند الموقد تقلي اللحم، تثبت الأشياء في مقال على الموقد وفي الفرن. قالت:"نحتاج إلى براد جديد".
لم يقل أي شيء. نظر داخل الثلاجة مرة أخرى وأدار رأسه إلى الأمام والخلف.
تحركت أمامه وبدأت تأخذ الأشياء عن الرفوف وتضع أشياء على الطاولة. ساعدها. أخرج اللحم من الثلاجة ووضعه في مكان مختلف على الطاولة. أخرج كلّ شيء ثم عثر على المناديل الورقية وقماشة غسل الصحون وبدأ يمسح في الداخل.
قال متوقّفاً عن المسح:" لقد فقدْنا الفريون الخاص بنا. هذا ما حدث. تسرّب الفريون. حدث شيء ما وذهب الفريون. رأيت هذا يحدث لبراد شخص آخر". هدأ الآن. بدأ المسح ثانية. قال:"إنه الفريون".
"لقد قلتَ هذا. من أين سنحصل على واحد؟ إنها لا تنمو على الأشجار".
قال:"يجب أن نحصل على واحد. ألا نريد براداً؟ ربما لا نريد. ربما نستطيع أن نترك موادنا القابلة للتلف على إفريز النافذة كمثل أولئك الناس الذين في الشقق. أو نستطيع الحصول على واحد من مبردات ستايروفوم الصغيرة ونشتري بعض الثلوج كلّ يوم". وضعت خسة وبعض البندورة على الطاولة إلى جانب علبة اللحم. ثم جلست على أحد كراسي حجرات الطعام الصغيرة ورفعتْ يديها إلى وجهها.
قال زوجها:"سنؤمّن براداً آخر. إلى الجحيم، نعم. نحتاج إلى واحد، أليس كذلك؟ لا نستطيع التحمل بدون واحد. والسؤال هو: من أين نأتي بواحد وكم نستطيع أن ندفع كي نأتي به؟ لا بد أنّ هناك عدداً هائلاً من البرادات المستعملة في الإعلانات المبوّبة. تماسكي فحسب وسنرى ما في الصحيفة. أنا خبير في الإعلانات المبوبة"، قال.
أنزلتْ يديها عن وجهها ونظرتْ إليه.
تابع:"ساندي، سنعثر على واحد مستعمل جيد في الصحيفة. إن معظم براداتك مصنوعة كي تستمر فترة حياة. أما برادنا، يا يسوع، لا أعرف ما الذي حدث له. إنه ثاني براد في حياتي فقط سمعت أنه يعطّل هكذا". نقل تحديقته إلى البراد ثانية. قال:"اللعنة! يا له من حظّ تعيس".
قالت:"أحضرْ الصحيفة إلى هنا. لنر ماذا هناك".
قال:" لا تقلقي". ذهب إلى الطربيزة، بحث في رزمة الصحف، وعاد إلى المطبخ بقسم الإعلانات المبوبة. دفعتْ الطعام إلى أحد الجوانب بحيث يستطيع أن يفتح الجريدة. جلس على أحد الكراسي.
نظرت إلى الصحيفة، ثم إلى الطعام الذي ذاب. قالت:"عليّ أن أقلي قطع لحم الخنزير الليلة. ويجب أن أطبخ ذلك الهامبرغر. وأصابع الساندويتش تلك. لا تنْسَ وجبات العشاء الخاصة بالتلفزيون أيضاً".
قال:"ذلك الفريون الملعون. تستطيعين شمّ رائحته".
بدأ بقراءة الإعلانات المبوبة. مرر إصبعه على أحد الأعمدة ثم على آخر. مرّ بسرعة فوق قسم "الوظائف المتوفرة". رأت شيكات إلى جانب شيئين آخرين ولكنها لم تنظر كي ترى ما الذي علّمه. لم يهمّ الأمر. كان هناك عمود بعنوان: مؤونة التخييم في العراء. ثم عثرا على ما يريدان: برادات جديدة ومستعملة.
"هنا"، قالت، ووضعتْ إصبعها على الصفحة.
حرّك إصبعها. قال:"دعينا نرى".
أرجعت إصبعها إلى حيث كان. "برادات، أفران غاز، جلايات، نشافات، إلخ.،" قالت، وهي تقرأ من الإعلان المبوب . "مزاد بارن العلني، ما هذا؟" مزاد بارن العلني". واصلت القراءة. "برادات جديدة ومستعملة والمزيد كلّ يوم خميس. المزاد في السابعة. هذا يعني اليوم. اليوم هو الخميس"، قالت. "إن هذا المزاد العلني هو الليلة. وهذا المكان ليس بعيداً جداً.إنه في شارع باين.لا بدّ أنني سقت إلى هناك مائة مرة. أنت، أيضاً. تعرف أين هو. إنه هناك قريب من باسكين ـ روبينز".
لم يقل زوجها أية كلمة. حدّق في الإعلان. رفع يده وشد شفته السفلى بإصبعين. قال:"مزاد بارن العلني".
ثبّتت عينيها عليه. "لنذهب إليه. ما رأيك؟ سينفعك الخروج. سنرى إن كان بوسعنا العثور على براد لنا. نصطاد عصفورين بحجر"، قالت.
قال:"لم أذهب إلى مزاد علني طيلة حياتي. ولا أظنّ أنني سأذهب إلى واحد الآن".
قالت ساندي:"هيا. ما الذي حدث لك؟ إنها مسليّة. لم أذهب إلى واحد طيلة سنوات، ليس منذ طفولتي. كنت أذهب إليها مع والدي". فجأة رغبت كثيراً بالذهاب إلى هذا المزاد العلني.
قال:"والدك".
قالت: "نعم، والدي". نظرتْ إلى زوجها، منتظرة أن يقول شيئاً آخر، أقلّ شيء، ولكنه لم يفعل.
قالت:"المزادات العلنية مسليّة".
"ربما كانت كذلك ولكنني لا أريد الذهاب".
واصلت:"أريد أيضاً مصباحاً للسرير. سيكون لديهم مصابيح للأسرّة".
"هيه، نحتاج إلى الكثير من الأشياء. ولكن ليس لدي وظيفة، أتذكرين؟"
قالت:"أنا ذاهبة إلى هذا المزاد سواء ذهبت أم لم تذهب. يمكن أن تأتي أيضاً. ولكن لا أكترث. إذا أردت الحقيقة، هذا غير مهم بالنسبة لي. ولكنني ذاهبة".
"سأذهب معك. من قال إنني لن أذهب؟" نظر إليها ثمّ نظر بعيداً. التقط الصحيفة وقرأ الإعلان ثانية؟ "لا أعرف أي شيء عن المزادات العلنية. ولكن سأحاول القيام بأي شيء. من قال أي شيء عن أننا سنشتري براداً في مزاد علني".
قالت:"لا أحد. ولكن سنفعل هذا على أي حال".
قال:"حسناً".
قالت:"جيد. ولكن فقط إذا كنت حقاً تريد".
هزّ رأسه.
قالت:"أظنّ أنه من الأفضل أن أبدأ بالطبخ. سأطبخ قطع لحم الخنزير اللعينة الآن، وسنأكل. إن بقية هذه المواد تستطيع الانتظار. سأطبخ كل شيء فيما بعد. بعد أن نذهب إلى هذا المزاد. ولكن يجب أن نبدأ بالحركة. قالت الصحيفة في السابعة".
قال:"في السابعة". نهض عن الطاولة وشقّ طريقه إلى غرفة الجلوس، حيث نظر من النافذة الناتئة لدقيقة. عبرتْ سيارة في الشارع في الخارج. رفع أصابعه إلى شفتيه. راقبته وهو يجلس على الصوفا ويتناول كتابه. فتحه إلى المكان الذي وصل إليه. ولكن بعد دقيقة وضعه في مكانه وتمدد على الصوفا. رأت رأسه ينخفض على المخدة التي تستلقي عبر ذراع الصوفا. عدّل المخدة تحت رأسه ووضع يديه خلف عنقه. ثم تمدد بهدوء. في الحال رأت ذراعيه يتحركان إلى الأسفل إلى جانبيه.
طوت الصحيفة. نهضت عن الكرسي وذهبت بهدوء إلى غرفة الجلوس، حيث نظرتْ من فوق ظهر الصوفا. كانت عيناه مغمضتين. بدا وكأن صدره بالكاد يرتفع ثم يهبط. عادت إلى المطبخ ووضعت مقلاة على عين الموقد. أطفأت العين وسكبت الزيت في المقلاة. بدأت بقلي قطع لحم الخنزير. كانت قد ذهبت إلى المزادات العلنية مع والدها. وكانت جميع تلك المزادات تتعلق بحيوانات المزرعة. بدت وكأنها تتذكر أن والدها كان يحاول دوماً أن يبيع عجلاً، أو يشتري واحداً. أحياناً يوجد تجهيزات مزرعة ومواد منزلية في المزادات. ولكن في معظم الأحيان حيوانات مزرعة. ثم، بعد أن تطلق أبوها وأمّها، وذهبت كي تعيش بعيداً مع والدتها، كتب والدها أنه مشتاق للذهاب معها إلى المزادات. في آخر رسالة كتبها إليها، بعد أن كبرتْ وكانت تعيش مع زوجها، قال إن اشترى سيارة ممتازة في هذا المزاد بمبلغ مائتي دولار. وقال إنها لو كانت موجودة لاشترى لها واحدة أيضاً. بعد ثلاثة أسابيع، في منتصف الليل، أخبرتها مكالمة هاتفية أنه توفّي. سرّبتْ السيارة التي كان يقودها أول إكسيد الكربون عبر ألواح الأرضية مما تسبب بموته وهو وراء المقود. كان يعيش في الريف. ظلّت السيارة تسير إلى أن نفذ الوقود . بقي في السيارة إلى أن عثر عليه أحد الأشخاص بعد بضعة أيام.
كان الدخان قد بدأ يتصاعد من المقلاة. صبّت المزيد من الزيت وحركت المقلاة. لم تذهب إلى مزاد علني طيلة عشرين سنة، واليوم هي تستعدّ للذهاب إلى واحد. ولكن عليها أولاً أن تقلي شرائح لحم الخنزير. كان حظاً سيئاً أن برادهم تعطّل، ولكنها وجدتْ نفسها تتطلع إلى الأمام نحو المزاد العلني. بدأت تشتاق إلى والدها. اشتاقت حتى إلى أمها الآن، رغم أنهما كانتا تتجادلان طول الوقت قبل أن تلتقي بزوجها وبدأت تعيش معه. وقفت عند الموقد، مقلّبة اللحم، ومشتاقة إلى كلّ من أبيها وأمّها.
ما تزال مشتاقة إليهما، تناولت حامل إناء عازلاً للحرارة ونقلت المقلاة عن الموقد. شُدّ الدخان إلى الأعلى عبر المنْفَس فوق الموقد. خطت إلى الردهة مع المقلاة ونظرتْ في غرفة الجلوس. الدخان ما يزال يتصاعد من المقلاة وقطرات الزيت والدهن تقفز عن الجوانب فيما هي تمسكها. في الغرفة المظلمة، كان بوسعها فقط أن تميّز رأس زوجها، وقدميه العاريين. قالت:"تعال إلى هنا. إن الطعام جاهز".
قال:"حسنا".
رأتْ رأسه يرتفع من نهاية الصوفا. أعادت المقلاة إلى الموقد وذهبت إلى الخزانة. أنزلت صحنين ووضعتهما على الكاونتر. استخدمت ملعقة الصيدلي الخاصة بها كي ترفع قطعة من لحم الخنزير. ثم رفعتها إلى الصحن. لم يبد اللحم لحماً. بدا كجزء من العظم الكتفيّ، أو أداة للحفر. ولكنها تعرف أنها قطعة لحم خنزير، أخرجت الأخرى من المقلاة ووضعتها في صحن أيضاً.
بعد دقيقة، دخل زوجها إلى المطبخ. نظر إلى البراد مرة أخرى، البراد الذي كان ينتصب هناك ببابه مفتوحاً، ولكنه لم يقل أي شيء. انتظرت أن يقول شيئاً ما، أيّ شيء، ولكنه لم يقل. وضعت الملح والفلفل على الطاولة وطلبتْ منه أن يجلس.
"اجلسْ"، قالت وقدمت له صحناً فيه بقايا قطعة لحم الخنزير. "أريدك أن تأكل هذه"، قالت. أمسك بالصحن ولكنه وقف هناك فحسب ونظر إليه. ثم استدارت كي تأخذ صحنها.
أبعدت ساندي الصحيفة ودفعت الطعام إلى الطرف الآخر من الطاولة. "اجلس"، قالت لزوجها مرة أخرى. نقل صحنه من يد إلى أخرى. ولكن واصل الوقوف هناك. حينئذ رأت الماء المتجمّع على الطاولة. سمعت المياه، أيضاً. تقطر عن الطاولة وعلى الموكيت.
نظرت إلى قدمي زوجها العاريين. حدقت بقدميه إلى جانب بركة الماء . أدركتْ أنها لن ترى أبداً مرة ثانية في حياتها أي شيء غير عادي كهذا. ولكنها لم تعرف ماذا تفعل في البداية. اعتقدت أنه من الأفضل أن تضع بعض أحمر الشفاه، وتحضر معطفها، وتذهب فوراً إلى المزاد العلني. ولكنها لم تستطع أن تبعد عينيها عن قدمي زوجها. وضعت صحنها على الطاولة وراقبت إلى أن غادرت القدمان المطبخ وعادتا إلى غرفة الجلوس.
[ترجمة: أسامة إسبر]
*هذه القصة اختيرت من مجموعة “كاتدرائية”، والتي تصدر ترجمتها العربية قريباً.