تأملات في صناعة صورة الموت؛ اغتيال السفير

تأملات في صناعة صورة الموت؛ اغتيال السفير

تأملات في صناعة صورة الموت؛ اغتيال السفير

By : Abdullah AlBayyari عبد الله البياري

فكرة "الذات" الفلسفيّة، هي فكرة حديثة، جاءت مع عصر التنوير الأوروبي والنزعة الإنسانيّة، فالذات المفكرة والواعيّة تجد تعبيرها الوجودي الميلادي الأول في بيان ديكارت الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، أو ماعُرف بـ"الكوجيطو"، وبالتالي فوجودية الذات تتحدد بكونها "ذاتًا" ذات تصور ابستمولوجي، أي بوصفها ذاتًا "مفكرة عارفة"، في مقابل "موضوع" معروف ومحكوم، فيما نسميه ازدواجيّة/ثنائيّة "الذات والموضوع". وإذا كان النقد ما بعد البنيويّ وما بعد الحداثيّ يقول بأن نهايّة "الذات" دلالة على نهايّة العصر الحديث أو دلالة على خاتمته، فثمة حاجة إلى تأمل الذات وعمليّة التفكير (الكوجيطو)، والموضوع المفكّر فيه. أيّ أنّ عمليّة "التفكير" عمليّة ليست فقط وجوديّة، ولكنها كذلك تنتج "ذاتًا" مُهيّمنة ("ذات" ذات هيّمنة)، وأنّ أيّ عمليّة تفكيك لتلك الذات أو حتى تأملها توقع عليّها نوعًا من القلق الوجودي، لكل الأطراف المشاركة في الخطاب: الذات والآخر، وما بينهما وما يجمعهما من ذاكرة، وغيرها.

"الذات"، والتي هي وحدة قانونيّة وفلسفيّة ومفاهيميّة ونفسيّة وسياسيّة، تجد معناها الكامل في فرضيّة الاستقلال، والتي تمنح "الذات" (أو الـ"أنا") منزلة الوجود، تُنتجها –أو تساهم في إنتاجها- المركزيّات ما بين شرقيّة وغربيّة. وهذه الاستقلاليّة –المُدّعاة- تُنتج وِفق استراتيجيّة خطابيّة استطراديّة معقدة وتراكميّة. لكن، ما يهمنا في تلك الاستراتيجيّة (وفي مثال التأمل والتفكيك ها هنا وهو صورة قاتل السفير الروسي في أنقرة 19/12/2016) أن آليّة إنتاج "الذات" تتطلب طرفًا آخر أو شرطًا آخر تُميّز الذات نفسها من خلاله، وبالتالي فإن عمليّة نقد هذا "الآخر"، بقدر ما تنتج "الذات"، هي أيضًا، (قد) تقوض هيّمنتها وسلطتها، وتمارس نقدًا ما عليها، ما يوقعها في قلق وجوديّ، لا ينجُ منه أحد.

لعل مشهد اغتيال السفير الروسي في أنقرة (19/12/2016)، يُكثف تلك العلاقة المركزيّة والبينيّة بين الذات والآخر، وديناميّاتها المهيّمنة وكيف تُفكّك في المقابل (بالرصاصة)، ليُعاد إنتاجها، وهكذا دواليك. فهي صورة بالغة التراكبيّة، فالقتيل الذي يمثل مؤسسة الدولة "روسيا الاتحاديّة"، الشريك الأساسي للنظام السوري، في قتل وتشريد واعتقال وتجويع الشعب السوري، كان يلقي كلمته بصفته الرسميّة ممثلًا لدولته، محاطًا بكل رموز القوة المعنويّة والماديّة، في معرض فوتوغرافي بعنوان "روسيا في عيون الأتراك"، وبالتالي فالكلمة والمعرض جزءان أساسيّان من الصورة ونتيجة لتحوّل خطابي شهدته العلاقات الروسيّة التركيّة في الأشهر الأخيرة حول المسألة السوريّة، وبالتالي تسقط فكرة "مدنيّة" القتيل والمواجهة، وفكرة صورة "روسيا في عيون الأتراك" الفنيّة المتعاليّة على "الآن" و"الهُنا"، كما يدعي متثاقفوا/متثاقفات الإنسانويّة، ما استلزم حدثًا كهذا للتعبير والإجابة عن سؤال "الرؤية": ماذا نرى من روسيا في تركيا ومن تركيا في روسيا؟ أيّ آخر تراه الذات فيها وأيّ ذاتٍ يراها الآخر فيها؟

وأمّا القاتل المتأنق في ملبسه، الشبيه بشخصيّة "جيمس بوند" (للحظات فقط قبل إطلاقه للنار والتكبير)، فحين صدح بالتكبير، ورفع سبّابة يساره، وفي يمينه مسدسه، فأنه بذلك يكسر صلابة "صورة" "الآخر" الإسلامي/المتأسلم التي تنتجها وتنحتها مركزية الذات الغربيّة/غير المُسلمة، ضمن تعريفها السلبي لذاتها (أي عن طريق استحواذ الحق في تعريف الآخر)، وتصديرها ضمن تعليب فوتوغرافي صلب تستبطنه أنماطنا الخطابيّة العربيّة/الإسلاميّة دونما تفكيك (على المستوى الإعلامي والسياسي، وكثيرًا على المستوى الثقافي)، حتى ولو على مستوى "الملبس" و"المظهر"، سيميائيًا. وهو يترك الناظر/مستهلك الصورة في حالة من القلق التفكيكي، في تناوله للصورة ودلالاتها، لأنه يسائل نفسه حينها ويسائل آخره : من أنت؟ ومن أنا؟

أمّا عندما هتاف القاتل بعبارة "الله أكبر... الله أكبر، نحن من بايعنا محمدًا على الجهاد"، تعود الكلمة لتسيطر على التأويل والتلقي، فهذا الهتاف كان معروفًا إبان فترة "الغزوّات" النبويّة، أيّ أنه نابع من جزء أصيل من السرديّة الإسلاميّة الممأسسة، والتي تعتبر جزءًا أصيلًا من الذاكرة التوحيدية لتعريف المسلم و/أو العربي وبناء هويّته. وهي نفس الهويّة التي تستخدم لقتل الآخر المسلم ابن نفس الذاكرة التوحيدية، وقتل الآخر من خارج الظل الإسلامي. وكذلك، لتحرير الأوطان والآلهة وغير ذلك (يُذكر أن المرشد الأعلى في إيران قال بأن حلب انتصرت للإسلام على "الكفر"!!). ومرور المقولة في الصورة المكثفة واللحظيّة كسلعة، يُضطر المتلقي إلى مواجهة لوقف مكثّف – كما هي مكثفة الصورة ومضامينها المعنويّة كالأفكار والرموز والماديّة كالأجساد والأشكال والألوان- إما قبولًا أو رفضًا، من دون عميق تأمّل في الحدث ذاته، وصورته المكثفة ، وتفكيك لتداعياته.

علينا ألا ننسى أن العنف هو ما يمكنه أن ينسينا أننا ضحايا العنف الرمزي الخفيّ للأنظمة والمجتمع. فزخم الصورة وما تعبر عنه من "مُصاب" (بمعنى "ما وقع") ليست "مصيبة" إلا بما تحمله من معنى وأثر مادي مكثّف، وبالتالي فالسلطة أو الخطاب المهيمن هو ما/من سيستخدم هذا التكثيف في الحدث وهذه الصورة لتبرير المزيد من العنف المادي والرمزي.

الموت في هذا الحدث/ المشهد، هو نموذج أعلى من نماذج غياب المقايضة بالمزيد من المقايضات، ولعلّ هذا ما يراه الفيلسوف بوليارد في القول بأن الموت يتحول لأسلوب مقاومة ضدّ الأنظمة عندما يتخطى حاجز المزايدات، بلفظ آخر، فشل السفير وما يمثله من دولة/مؤسسة في خلق ذاتٍ "مفكرة"، والنزوع إلى التقتيل والتشريد لشعب كامل، هو فشلٌ يثابله فشل القاتل في خلق آخر مفكر محايث للآن والهنا (ولعلّ هذا هو السبب في اختيار هذا الهتاف بالعربيّة تحديدًا!).

التداخليّة بين "الإرهاب" (وهو خروج العنف عن حدود اللعبة السياسيّة وقوانينها لا أكثر) والإعلام، لا يختلف سوى في التكثيف، عن العلاقة بين السياسة والقمع الممأسس والإعلام، ولأننا كأفراد أجساد وكيانات "مواطنيّة" (هكذا يجب أن نكون في عصر الدولة الحديثة) بتنا واقعين بشكل ما أو بآخر عن وعي أو لا وعي ضمن إطار الصورة الإعلاميّة للعنف، حيث كلنا دروع بشريّة واقية للمؤسسة، ورهائن للإرهاب، بمجرد وجودنا في خطاب هذه الصورة الاستهلاكيّة، ولعلّ هذا ما يمكن استبيانه في سرعة رد مصور رويترز الذي سرعان ما حملنا كمشاهدين إلى إطار أقرب للقاتل بعد أقل من لحظات على قتله للسفير، وكأن العنف/الصورة/الحدث أولى من الوجود الجسدي للمصور كإنسان وجسد وضحيّة محتملة. يقول غي ديبور (1931 – 1994) في كتابه، "مجتمع الاستعراض" (1967): "لا يمكن فهم الاستعراض/ التمثّل (Representations) على أنّه إساءة استخدام عالم الرؤية، إنّه، بالأحرى، رؤية للعالم صارت فعليّة، وجدت ترجمتها الماديّة. إنّها رؤية للعالم صارت متشيّئة".، ما يحدث من ترابط بين الدولة والإرهاب في صورة القتل، يجعل عمليّة إنتاج الدولة والمؤسسة إنتاج مادي، يتمثّل في الأجساد، والإرهاب كذلك، وبالتالي فلا مكان لتفكيك هذا التمثيل من دون دور مسند للأجساد، وهذا كان ماعنته فكرة تحليل مقتل جسد القاتل واغتياله، ومقارنتها مع جسد السفير في أنساق تآمريّة. ومن هنا نظن أن الصورة بكامل عناصرها عامةً، وبالأجساد الحاضرة فيها خاصة ستشهد الكثير من عمليات التبادل وخلق التمثلات والترميز المخترق لحدث الموت المؤسس في الذاكرة الإنسانية الوجودية ككل، وأجساده، وهذا نسق استهلاكي معولم مسّ قبل ذلك صورًا لحوادث وأجساد ميتة كان أشهرها تشي غيفارا، وليس آخرها ما نشرته مجلة "تشارلي إيبدو" لصورة الطفل السوري الغريق على السواحل الأوروبيّة، وكمّ العنف في تلك النماذج الصوريّة.

أيمكن اعتبار الصورة أولًا، والحدث ثانيًا، التعبير الخطابيّ المناسب لعنوان المعرض الفني الذي كان القتيل ضيفه: روسيا في عيون الأتراك؟! روسيا ممثلة في السفير المتأنق هو أيضًا، في مشهد سوريالي بالغ البياض من حوله، وما يحمله هذا البياض من حياد، هذا التعقيم الغالب على المشهد الأبيض، برغم تورط روسيا وسفيرها في الدم والدمع، هذه البنيّة المخيفة للحياد والبياض، المهددة من حيث هي لا تدري؛ وفي لحظة ما، وفي عزّ استتباب البياض وتأنقه وكأنه لم يفعل شيئًا، يهجم السلاح، ويتطرف البياض الحياد ويتأنّق، حتى الموت والجهاد والشهادة، ويبتلع الحياد جثة السفير بعد أن ينتقل المعنى كاملًا للقاتل (الذي لا نرى مقتله في البياض)، ويتكثف الحيّاد والتحيّز معًا فيتطرف المتلقي في التلقي بين شيطنة ولعن من ناحية، وتأليه وشهادة من أخرى، ويغدو آخرًا لذاته، وذاتًا لآخره، معًا؛ بينه وبين القاتل والقتيل تقاطعات ومشتركات كثيرة في التفكير والتأويل والفعل، كم فرحنا بالقتل وتخوّفنا من التبعات، وكم كرهنا القتل واشتممنا منه عدالة ما، من أجل حلب، ولكن أتكفي العدالة فحسب ولا حياد في الدم؟!

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • عن أصوات المدينة: مقاربات متداخلة تتوخى الصمت

      عن أصوات المدينة: مقاربات متداخلة تتوخى الصمت

      كُتبت هذه المادة على هامش ورشة بحثية فنية عن موضوعة أصوات المدينة، تتناول المدن التالية: القاهرة، رام الله، نابلس، دمشق، مسقط وأخيرًا عمّان.

    • يولّا وأخواته": قراءة نقديّة في سيرورة الجسد والمدينة"

      يولّا وأخواته": قراءة نقديّة في سيرورة الجسد والمدينة"

      ليست الكتابة عمليّة محايدة، وافتراض عكس ذلك يتجاوز مفهوم الكتابة بصفته مفهومًا وجوديًّا للشيء/ الذات. يقول جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة"، إنّ "هناك رابطة طبيعية تسلسلية بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير". فالعنف في الكتابة، متمثّلًا في "التدمير"، "عنف جسدي كما هو لغوي – عنف دمار العالم، عنف نهاية الوجود"، كما يصفه لوسكرل. "فالتدمير المذكور مصدر ألم ومعافاة في الوقت نفسه، إنّه علاج مؤلم، كما اللغة نفسها، نظيرته، إذ تفعل اللغة وتدمّر أيضًا، للأفضل وللأسوأ".  وكما أنّ "الكتابة جسّدت العالم في مكان ما"، فهي، أيضًا، "موضعة محدّدة لفكرة مجرّدة". و"الكتابة "كسلسلة من الإشارات الصغيرة تسير في خطّ منتظم كجيوش النمل، عبر صفحات وصفحات من الورق الأبيض"، باتّجاه فكرة ما، ومكان ما، وجسد ما.

    • آخر أيّام المدينة - الجزء الثاني

      آخر أيّام المدينة - الجزء الثاني

      في كتابه "المُجتمعات المُتخيّلة" (1983) يناقش "بندكت أندرسن" (1936 - 2015) فكرة الدولة القوميّة باعتبارها ظاهرة حداثيّة، ويرى "الأمّة" فضاءً مُتخيّلًا لأنّ جميع أفرادها غير قادرين/قادرات على خلق تواصل مباشر وعميق في ما بينهم/ن من خلال عمليّة "التخيُّل" ومضامينها ومُحرّكاتها، باعتبارها ما يوحدهم/ن، لتُرسم بناءً على ذلك حدودُ الدولة. عبر المُمارسات اليوميّة –الفرديّة والجمعيّة- يُخلق تسلسل زمني/كرونولوجي يصوغ سرديّة المجتمع ويجعل منها حبكة متماسكة، يتحرك من خلالها أفراده. واستمراريّة الممارسات القوميّة اليوميّة تضفي على سرديّة المجتمع معنًى واضحًا، وذلك عَبْر مَوْضَعتها ضمن خطّ زمنيّ مستمر.

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية