أسئلة الاستشراق الجديد ودوره في صناعة كراهية الإسلام في كتاب جديد لفخري صالح

صورة غلاف كتاب فخري صالح الجديد صورة غلاف كتاب فخري صالح الجديد

أسئلة الاستشراق الجديد ودوره في صناعة كراهية الإسلام في كتاب جديد لفخري صالح

By : Aws Yacoub أوس داوود يعقوب

أسئلة «الاستشراق الجديد» ودوره في صناعة «كراهية الإسلام» في كتاب جديد لفخري صالح

صدر حديثًا عن "الدار العربية للعلوم" في بيروت، كتاب «كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» للناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني فخري صالح، والذي يتناول في محتواه (المقدّمة، وفصوله الثلاثة الأساسية، والملاحق)، كيفية تقديم الخطاب الغربي للإسلام، من خلال ثلاثة نماذج تتمثّل بما كتبه ثلاثة من المفكرين الغربيين عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب، وهم المستشرق البريطاني - الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون (صاحب نظرية صدام الحضارات)، وفيديار سوراجبراساد نيبول (مولود في الكاريبي من أصولٍ هندية) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2001.

وفي هذا الكتاب (192 صفحة، من القطع المتوسط)، يطرح المؤلف أسئلة «الاستشراق» ودوره في رسم صورة غير دقيقة للمسلمين، محاولًا تفكيــــك الأسباب التاريخية والواقعية لما حدث خلال القرن المنصرم، فيفتح الحوار حول تدخل قوى ثقافية وسياسية في عملية حصر الرؤية حول العالم الإسلامي، وتضييق نطاق الحوار خدمة للسياسة. كما يقارب في رؤية نقدية لكتابات هؤلاء الثلاثة، اللحظة الراهنة و«المستشرقين الجدد»، ليبيّن بعد تشريح خطابهم الاستشراقي العدوانيّ تجاه الإسلام والمسلمين والعرب، أنّ صورة الإسلام في كتاباتهم هي جزء من مسعى استراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب. وهي – بحسب صالح - صورة نمطية نتجت من الرؤى الاستشراقية القديمة نفسها عن الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمّه الطغيان، الأدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديمقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان.

ووفقًا لصاحب «عين الطائر» (الحائز جائزة النقد الأدبي في فلسطين عام 1997)، فإن المطلوب تجاه هذا هو أن تقود "المعرفة" التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدوّ وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب، ليخلص إلى أنّ «الاستشراق الجديد» يقطع مع «الاستشراق القديم» بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية؛ ذلك أنّ جوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق المتحوّل في ثنايا دراسات الاهتمامات الإستراتيجية لـ«الإمبريالية الأميركية العولمية المتوحشة»، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها بوصفها قطبًا عالميًا وحيدًا وأوحد. وهذا ما يمكن أن يفسر دور كل من برنارد لويس وصمويل هنتنغتون في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير.

وقد استقبل الكتّاب والنقاد العرب كتاب الناقد والمترجم فخري صالح الأخير، بالترحيب والتقدير لاسهامه في تعزيز الحوار العربي الإسلامي الحضاري مع الغرب، ولكونه يكاد أن يكون ردًّا على سؤال/ صرخة (لماذا يكرهوننا؟)، هذا السؤال الذي جرى إطلاقه إثر تفجير البرجين في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بقوة أكبر من ذي قبل.. وفيه اختصار للإجابة، بضرورة أن يأخذ الغرب وأميركا في حسابهم (قرنين من الاستعمار الغربيّ، وإنشاء إسرائيل في فلسطين وتهجير أهلها.. وإلخ).

وهو كتاب يمكن اعتباره أيضًا شكلا من أشكال (الدفاع) عن الإسلام، الثقافة والحضارة، في مواجهة ما يعتبره صالح، عن حق، هجومًا "استشراقيّا" بغيضًا على الإسلام والمسلمين والعرب. فهو، بكتابه هذا، يخوض معركة ثقافية - فكرية وسياسية، مستخدمًا الدفاع والهجوم.

الغرب وتصاعد الظاهرة الإسلامية ...

أولى المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، الذي ترجم له فخري صالح الكثير من الكتب والدراسات، أهمية قصوى لـ«الاستشراق»، وللعلاقة الشائكة بين الإسلام والغرب، خصوصًا في كتابه الشهير «الاستشراق» (1978)، ومن ثم «المسألة الفلسطينية» (1979)، فـ«تغطية الإسلام» (1981).

وقد تطرق صالح من قبل في كتابه «إدوارد سعيد، دراسة وترجمات» (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2015) إلى ملامح المشروع الفكري لسعيد، وكيفية تناوله للمسائل التي أثارت جدلًا واسعًا والمتصلة برؤيته للاستشراق ولقضية فلسطين والنظرة إلى الإسلام، مبينًا أن كتاب «الاستشراق» شكّل المحطة المهمة التي وسمت مشروعه الفكري. ذلك أن هذا الكتاب كان إحدى النوافذ الأساسية لإطلالة سعيد على القضية الفلسطينية ومأساتها، فحلّل استراتيجيات الفكر الغربي في تعامله مع هذه القضية ليصل إلى استنتاج مفاده أن مأساة الفلسطينيين نابعة من المقدرة الهائلة للحركة الصهيونية على بث صور نمطية عن العرب والمسلمين، وهي صور سلبية كليًا، وجعل المواطن الغربي يصدق ما تقول به هذه الصور.

وفي هذا السياق يشير صاحب «دفاعًا عن إدوارد سعيد»، في مقدمة هذا الكتاب إلى أنه "منذ بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح الإسلام، والعرب والمسلمون كذلك، محطَّ اهتمام وسائل الإعلام في الغرب لأسباب تتعلَّقُ، كما لا يخفى، بما حدث عام 1973 من وقف تزويد البلدان الغربية بالنفط من الدول العربية، إثر اندلاع حرب تشرين (أكتوبر) 1973. وعلى هامش هذا الاهتمام السياسي – الاقتصادي – الإعلامي بالإسلام، ومعتنقيه، بدأ تحوُّلٌ ملحوظ في الدراسات التي تهتمُّ بهذه المنطقة من العالم، بحيث بدأ كثيرٌ من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون في الدراسات العربية والإسلامية يهجرون اختصاصاتهم ويلتحقون بما يُسمَّى «دراسات المناطق» Area Studies بسبب صعود أهميَّة الشرق الأوسط وزيادة عدد الأقسام في الجامعات الغربية التي تُدرِّس المساقات الخاصة بالمنطقة، وكذلك زيادة الطلب على الخبراء القادرين على تقديم معرفة خاصة بالعالمين العربي والإسلامي لوزارات الخارجية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث والاستشارات، وبيوت الخبرة، في الغرب عامَّةً وأميركا خاصَّةً".

ويشير صالح إلى أن الأحداث اللاحقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان ضد الوجود السوفييتي، وصولًا إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، قد برهنت على أهميّة الإسلام في التفكير الغربي في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. مبينًا أن تصاعد «الظاهرة الإسلامية»، بأطيافها المختلفة التي تتدرَّج من الإسلام الشعبي البسيط وصولًا إلى طيفها الجهاديِّ العنيف، قد ساهم أيضًا في زيادة الاهتمام بالإسلام، لا كدين أو ظاهرة سياسية، وأيديولوجية، واجتماعية، واقتصادية، وكذلك ديموغرافية تهدد أوروبا بسبب تزايد أعداد المسلمين فيها فقط، بل وبصورة أساسية كظاهرة عولميَّة يمكن من خلالها ابتناء عدو جديد، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهكذا، تمَّ في السياسة والإعلام الغربيين، بناءُ كتلة سياسية – أيديولوجية جديدة في مواجهة الغرب، تتكوَّن من أطياف متباينة، وربما متناحرة، من التيارات والشِّيَع والأحزاب والدول الإسلامية، لتحلَّ محلَّ الكتلة الشيوعيَّة التي تفككت ولم تعد تهدد الديموقراطية الغربية.

العودة إلى إرث إدوارد سعيد الفكري ...

لا يمكن قراءة كتاب فخري صالح الذي نتناوله بالعرض هنا، دون العودة إلى كتاب إدوارد سعيد «تغطية الإسلام» الذي يحمل عنوانًا فرعيًا هو (كيف تتحكم وسائل الإعلام الغربي في تشكيل إدراك الآخرين وفهمهم)، والذي يعدَّ الكتاب الثالث في سلسلة الكتب التي وضعها سعيد – كما أشرنا سابقاً - (الأول: «الاستشراق»، الثاني: «المسألة الفلسطينية»)؛ في محاولة منه لمعالجة إشكالية العلاقة الجدلية القائمة بين عالم الإسلام والعرب والشرق من جهة، والغرب: فرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة، في الجهة الأخرى. ذلك أنه ومن خلال العنوان الذي أراده سعيد لهذا الكتاب covering Islam نلاحظ أن الدلالة المضمونية لمحتوى الكتاب ترتكز وتشير بشكل رئيس إلى الجانب الإعلامي الصرف في الغرب وتناولاته الإعلامية للإسلام الذي يُعدّ عندهم مجرد خبر مزعج ليس إلاّ. وفي أطروحاته في هذا الكتاب حاول سعيد أيضاً أن يضع صورة تقريبية للكيفية التي يرسمها الإعلامي الغربي للإسلام. مشيرًا إلى أن "هذه التغطية بعيدة كل البعد عن الموضوعية والإنصاف، مضافًا إليها أنشطة الباحثين الأكاديميين ودراسات الإستراتيجيين الجيوسياسيين الذين يتحدثون عن (هلال الأزمة) والفكر الحضاريين، - يندبون انحطاط الغرب وأفول نجمه - هي تغطية كاملة وشاملة ولكن على نحو مُضلل، وخاصةً حينما يكون من ينقل هذه المعلومة ليس لديه أدنى معرفة بلغة هذه الشعوب وعاداتها وتقاليدها، وما دفعه لممارسة هذه المهنة هي قدرته على التقاط الصورة الخبرية لظاهر ما يشاهده دون معرفة بخلفياتها، وهو ما يشبه إلى حد كبير رؤية صاحب العين المفقوءة".

وفي حلقة متصلة بين إدوارد سعيد وفخري صالح، يكشف الأخير في كتابه هذا كيف أن خبراء في السياسة وعلماء اجتماع وعلماء نفس متخصصون في علم نفس الجماعات البشرية، ومستشرقون سابقون، ومختصون في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، وصحافيون...، انخرطوا في التنظير لظاهرة الإسلام، وكتلته الحضاريَّة، كعدو مستقبليٍّ للغرب وكتلته الحضارية، واضعين نُصبَ أعينهم الهدفَ الأساسيَّ للقوة الإمبريالية الأميركية، القطبِ الأوحد المهيمن على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية. ويتمثَّل هذا الهدف في إيجاد بديل لصيغة الحرب الباردة التي ساهمت في تكتيل الغرب، وكذلك الدول التي تدور في فلكه، حول الغرب الديموقراطي القادر على حماية البشرية من خطر الشيوعية.

ومن الواضح أن الأمر ذاته يصحُّ قوله الآن بخصوص إيجاد تحالفٍ عالمي واسع ضد ظاهرة الإرهاب «الإسلامي»، والكتلة الحضارية الإسلامية التي تسعى إلى اجتياح الغرب أولًا، والعالم ثانيًا، في موجة جديدة من حروب الجهاد!.

ويلفت صالح، إلى أنه في ضوء هذا التصور الاستراتيجي لبناء عدوٍّ جديد للغرب، يمكن فهم ما كتبه المستشرق البريطاني- الأميركي برنارد لويس، والباحث الأميركي في العلوم السياسية صمويل هنتنغتون، وكذلك فيديار سوراجبراساد نيبول حائز نوبل للآداب عام 2001، عن العالم الإسلامي وخطر المسلمين وديانتهم على الغرب وعلى العالم، فبالرغم من اختلاف الخلفيات المعرفية، والتخصصات، والدوافع والتحيزات، والأصول العرقية، والانتماءات الحضارية والثقافية، فإن الصورة التي يبنونها للإسلام والمسلمين والعرب متقاربة، وهي صورة نمطية متحدّرة من الرؤى الاستشراقية القديمة ذاتها، صورة الشرق المتخلف، غير العقلاني، العنيف، المستبدّ الذي يَعُمُّه الطغيان، وهو أدنى منزلةً من الغرب العقلاني، المتحضر، الديموقراطي، المتمسك بحقوق الإنسان. يُضافُ إلى هذه الصفات النمطيَّة التي نقع عليها عامَّةً في الميراث الاستشراقي، صفاتُ الحسد والبغض والحقد ورغبة الغرب الذي هزم الإسلام والمسلمين في الانتقام بعد أن كان في الماضي خاضعًا ومهيمَنًا عليه ومحكومًا من العرب والمسلمين.

إن ما ذهب إليه صالح هنا، يذكرنا بما جاء بكتاب سعيد «الاستشراق»، حيث يقوم موضوع على ترادف المعرفة والقوة، و«الاستشراق» وفقًا لادوارد هو "صنع الآخر بما يلائم الذات المتطلعة إلى الهيمنة. ولما كانت الذات المقصودة هي ذات الغرب الأوروبي بين أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، فإن الحديث يمس الاستعمار التقليدي وصولًا إلى المرحلة الإمبريالية التي تهندس نظام العالم حتى تصبح إمبراطورية النفوذ نوعًا من العمل".

فضح الإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة ...

يؤكد صالح في هذا الكتاب أن "الاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، دون السعي إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية (وينطبق هذا الكلام على ما كتبه مؤرخ مثل برنارد لويس خلال العقدين الماضيين على الأقلّ). وجوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق، المتحوّل والمتسرب في ثنايا دراسات المناطق والاهتمامات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية العولميَّة المتوحشة، هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها كقطب عالمي وحيد وأوحد. ويمكن أن نفسر دور كل من هنتنغتون ولويس في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، أي بدءًا من ظهور مقالة لويس «جذور السخط الإسلامي» (1990) في مجلة "الأتلانتيك مَنثلي" الأميركية ومقالة هنتنغتون «صراع الحضارات» في مجلة "الفورين أفيرز" الأميركية (1993)، انطلاقًا من رغبة صانع القرار الأميركي، خصوصًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 وصعود قوة المحافظين الجدد في أميركا أثناء فترة حكم جورج بوش الأب، في التزوُّد بنموذج نظري لبناء استراتيجية صراع جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة.

ويرى صالح أنه "إذا كان المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيديولوجية على المعرفة العلمية والموضوعيَّة، لأن المطلوب هو أن تقود «المعرفة» التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب. ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، كان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروِّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية بين العرب والمسلمين. وهو ما أدى، كما نعرف، إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي.

وفي سياق طرحه هذا يسلط المؤلف الضوء على كتابات (برنارد لويس وصمويل هنتنغتون)، ودورهما في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير، قائلًا: "ونحن نعثر في نموذجي برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، اللذين وُلد النموذج الثاني منهما من صُلب الأول، على الخطوط البارزة لفكرة الحرب على الإرهاب التي تبنتها أميركا، والغرب، ومعظم دول العالم، في زمن حكم الجمهوريين وحتى في زمن الديموقراطيين، وصولًا إلى إدارة أوباما. صحيحٌ أن الآثار الناتجة عن أحداث الربيع العربي، بصعود الإسلام السياسي ثمَّ دخول العالم العربي مرحلةً من الحروب الإثنيّة والطائفية والمذهبية، وصعود ظاهرة الإسلام الجهاديّ العنيف ممثَّلًا بالدولة الإسلامية (داعش)، قد وفَّرت تبريرًا لتجييش العالم من أجل الحرب على الإرهاب، لكن من الواضح أن الآثار العملية للنموذج النظري، الذي بناه كلٌّ من لويس وهنتنغتون لصناعة عدو ديني - حضاري – ثقافي، مستمرةٌ حتى الآن، حتى بعد اضمحلال قوة المحافظين الجدد في السياسة الأميركية. إن كلام رجال السياسة الغربيين، وعلى رأسهم باراك أوباما وزعماء الدول الأوروبية، عن كون الحرب على الإرهاب لا تستهدف الإسلام والمسلمين بل الإرهابيين (الذين يدَّعون أنهم يمثلون الإسلام) هو مجرد مراوغات سياسية وكلام دبلوماسي لا يعكس ما يتمُّ فعله على الأرض في الحقيقة. ما يحدث الآن هو نوعٌ من شَيْطَنَة الإسلام واتهام الدين وأتباعه بالإرهاب".

وبحسب الناقد فخري صالح، فإن "الاستشراق القديم للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بتمثيله الشرق المتخلف غير العقلاني في مقابل صورة الغرب العقلاني المتحضر، قد برر احتلالَ هذا الشرق من أجل تحضيره ونقله من وهدة التخلف إلى ذرى الحضارة الغربية. كما يعطي ما أسميه هنا «الاستشراق الجديد» الإمبراطوريةَ الأميركية الحجةَ بضرورة شنِّ حربٍ عالميةٍ لا هوادة فيها على الإرهاب بغض النظر عن الضحايا الذين يسقطون بالعشرات، والمئات، في كلِّ لحظة". ليؤكد في نهاية تقديمه للكتاب أن "صانع القرار في الماضي، كما في الحاضر، يجد بين يديه المسوغات النظرية التي تمكنه من تبرير ما يفعله على جبهة السياسة وفي ميدان المعركة: أبيدوا المتوحشين جميعًاExterminate All The Brutes ، كما يحدث في رواية «قلب الظلام» للروائي البريطاني، البولندي الأصل، جوزيف كونراد".

ختامًا يمكننا القول أن أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه جاء في الوقت الذي تزداد فيه صورة العالم العربي والإسلامي للتعرض إلى التشويه والتحريف والتضليل، في أغلب وسائل الإعلام الغربية، التي تروج صورًا نمطية عن الإسلام والمسلمين؛ تثير الشك والريبة والخوف، وفي وقت يواجه فيه الإسلام اليوم جملة من التحديات تختلف عن كل الأشكال الأخرى من التحديات التي عرضت له في تاريخه؛ فهي تضع المسلمين أمام اختيار عسير يمس هويتهم وصورتهم ومكانتهم بين الأمم، ويهدد مستقبلهم ويعوق تحقيق أهداف رسالة دينهم ذات الأبعاد الكونية والحضارية.

ويستخلص القارئ لكتابنا هذا أنّ المسألة المركزية التي سعى صالح إلى تأكيدها هي أن «الاستشراق الجديد» يقطع مع «الاستشراق القديم»، نافيًا ادّعاء هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم، أن السبب وراء عداء الإسلام والمسلمين تجاه الغرب، هو شعور المسلمين (بالفقر، والتخلف، والمذلَّة، والجهل)، بسبب ما حدث لهم من تراجعات وانهيارات (حضارية) على يد الغرب، طوال قرون. وفي مقابل نفي ادّعاءات هؤلاء، فإن صالح يحاول التوضيح والإثبات أنّ "جواب سؤال لويس الشهير "لماذا يكرهوننا؟"، مثلًا، لا يكون بالحديث عن شعور المسلمين والعرب تجاه الغرب؛ بل يتمثَّل بالأحرى في القيام بتفكيك سياسة التدخُّل في منطقة الشرق الأوسط". ولكن صالح لا يفوته هنا أن يقدم رأيًا مغايرًا لأطروحات «المستشرقين الجدد» لباحثين ونقّاد غربيّين، في ما يخصّ إمكانية تعايش الإسلام، والحضارة العربية الإسلامية، مع الآخرين، في نموذج ترسمه ماريا مينوكال (Maria Rosa Menocal)، في كتابها «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة التسامح في إسبانيا العصر الوسيط»، صورةً رائعة لحياة ثقافية وحضارية عظيمة مشتركة ومتسامحة. فاللحظة الأندلسية في تاريخ العالم هي مثالٌ ملهمٌ لنا في أزمنتنا الحديثة.. حدث هذا الفصلُ من ثقافة أوروبا، عندما عاش المسلمون واليهود والمسيحيون جنبًا إلى جنب، رغم اختلافاتهم العنيدة وعدائهم الدائم.. ومع ذلك ازدهرت في الأندلس ثقافة التسامح. أما في سياق تركيزه على القضية الفلسطينية، ودورها في ما يجري من صراعات في المنطقة، وفي العالم، نراه يستدعي رأي الكاتب سلمان رشدي، الذي صرح به في مقالة له كتبها بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وهو "أننا بحاجة إلى القيام بحملة سياسية ودبلوماسية عامة، هدفها حلُّ أكثر صراعات العالم صعوبة: وعلى رأسها جميعًا الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني على الأرض، والكرامة، وتقرير المصير والبقاء".

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية