عشوائيات ومجتمعات مسوّرة وفضاء عام: عن السياسات الثقافية العالمية والمشهد المعماري المأزوم في مصر

عشوائيات ومجتمعات مسوّرة وفضاء عام: عن السياسات الثقافية العالمية والمشهد المعماري المأزوم في مصر

عشوائيات ومجتمعات مسوّرة وفضاء عام: عن السياسات الثقافية العالمية والمشهد المعماري المأزوم في مصر

By : Adham Selim أدهم سليم

"لربما كان كبح الغضب عبر فهمه وامتصاص أسبابه هو واحد من أهم الضرورات الأخلاقية للفن البرجوازي. لا يهم حقاً إن كانت تلك الخلافات والتناقضات والتقرحات التي أنتجت هذا الغضب قد سويّت مؤقتاً باستخدام آليات اجتماعية معقدة أو تم التنفيس عنها عبر التفكّر المتسامي"

 منفريدو تافوري[1]

من حيث يقف الناظر للعالم العربي في أعقاب ثورات الربيع، بدت كثافة الخطاب الثقافي البديل الصادر آنذاك من مصر، كما من بعض دول المنطقة، كما لو أنها قد أخذت المشهد المعماري المحلّي على حين غرّة. وجد ذلك المشهد، والذي طالما نُظر إليه بوصفه محايد سياسي — إن لم يكن لا سياسي من الأساس— تقني وغير معني بالنقد أو منكفئ على التجميل والأيقنة، نفسه فجأة ضمن مخاضٍ يدفع باتجاه ممارسة معمارية أكثر انخراطاً في الواقع السياسي والاجتماعي. في فترة وجيزة نشأ وتضخم مشهد معماري مستقل في مصر يشمل مدوّنات وحلقات نقاشية وندوات ومعارضاً فنيّة وبرامجاً بحثية في الداخل والخارج ومنشورات ومبادرات عامة تأتي تباعاً مصحوبة بقاعات محاضرات يملأ صفوفها جمهور مختلط من المختصين وغير المختصين، وعروض تقديمية بلغات مختلفة، وسيول من الصور والرسومات البيانية والحكم المعمارية ذات السطر الواحد، تتدفق عبر أجهزة إسقاط ضوئي ربما تم شراؤها بأموال جهة مانحة ما، تحاول جميعها تسجيل وتحليل الواقع الحضري المعاصر في هذا الجزء من العالم.
لسنا فقط إزاء فورة من المسح والدراسة والتوثيق — ربما كنا بأشد الحاجة لها — تشتمل المشهد المعماري المحلّي خلال العقدين الماضيين، بل نحن أيضاً أمام سلالة جديدة من المهنيين والأكاديميين المتصلين بأطر مؤسسية أكبر تعمل على إعادة تعريف الممارسة المعمارية ذاتها. على صعيد أول، تبدو الدعوة لممارسةٍ معماريةٍ بديلة على نطاق مدعوم مؤسسياً — بخلاف الممارسات النقدية الإفرادية التي كانت سائدة من قبل والتي يعتقد بكونها أقل تجذراً في الواقع الاجتماعي— كما لو كانت جزءاً لا يتجزأ من واقعٍ ثقافيٍ محليٍ مشرّعٍ أمام الرسملة، يعمل في ظل حراكٍ دؤوبٍ من قبل حكومات ومؤسسات مالية وثقافية أوروبية لخلق أسواق فنيّة جديدة عبر الدعم الثقافي الموجّه. على سبيل المثال يخبرنا تقرير صادر عن مؤسسة آرتاكتك المدارة من قبل مصرفيين سابقين من مجموعة جي بي مورغان عن ارتفاع ملحوظ في الدعم التمويلي الواصل للمؤسسات الثقافية المستقلة في الشرق الأوسط بالاتساق مع تضاعف حجم سوق الفن المعاصر في المنطقة بين عامي 2006 و 2008، وهو ما يأتي رديفاً لتدفقات تمويلية مشابهة لدعم مشهد معماري مستقل ربما لا تتابعه تقارير المحللين والمؤسسات المصرفية بنفس الشغف.[2]

لكن على صعيد آخر، لا تقتصر الدعوة لممارسة معمارية بديلة على مآلات الرسملة الثقافية وحسب. فأعراضها تتراوح في شدّتها وتنويعاتها من سياق لآخر في العالم العربي، والإحساس الضمني بضرورتها هو حالة عامة لا تقتصر على العالم العربي وحسب. إذ يشيع اعتقاد متنامٍ بين الأجيال الصاعدة من المعماريين في مختلف دول العالم بأن العمارة تنطوي في داخلها على مكونٍ واقعيٍ جليّ، عادة ما يتخذ صورة انخراط سياسي مباشر أو دور اجتماعي ما، يحتم على المعماري التفكير والتعامل مع مهنته كأداة للفعل السياسي.[3] كيف يمكننا فهم فحوى هذه الدعوة وأسبابه إذن؟

في دراسة تعود للعام 2013 أجراها كل من نشاط آوان وجيريمي تل وتاتيانا شنايدر، الباحثون بكلية العمارة بجامعة شيفلد، نطالع توثيقاً لأكثر من 150 حالة دراسية لمعماريين من مختلف أنحاء العالم يمارسون أشكالاً مختلفة من الفعالية السياسية تتراوح بين ممارسات معمارية تتقاطع مع العمل السياسي بالمعنى المباشر بواسطة معماريين في مواقع سياسية متنفّذة، وأخرى تنطوي على مضامين اجتماعية وبيئية غير مباشرة. تهدف الدراسة، بحسب آوان ومعاونيها، إلى تحويل الاهتمام النقدي من "العمارة كمادة، إلى العمارة كشأن عام،" باستبدال الحديث عن التجليّات المادية للفضاءات المعمارية بالحديث عن النشاط الإنساني الجاري فيها. وبالرغم من إصرار الباحثين على أن طرحهم ليس بديلاً أو مضاداً لشيء ما ولا يحاول تسويق منتج فكري جديد، إلا أن العنوان الفرعي الذي اختاروه للدراسة "طرق أخرى لإنتاج العمارة" يأتي بالضرورة ارتكاساً على ممارسة نمطية متخيّلة تحاول الحالات الموثّقة التمايز عنه.

فالرغبة في تصنيف الحالات الموثّقة ضمن إطار الدراسة وتبويبها حتى وإن لم تقدم تبريراً شافياً لحتمية التصنيف على هذا الشكل، تعكس اهتماماً برسم تضاريس تلك "الطرق الأخرى" وتقسيمها في مجموعات وتمييز حدودها عمّا سواها. توضح آوان ومعاوناها أن أزمة الممارسة النقدية المعاصرة تكمن في "سيادة أهمية الجماليات والطراز والشكل والتقانة في النقاشات المتخصصة على حساب عملية إنتاج العمارة ذاتها وكيفية سكناها وزمانيتها وعلاقتها بالمجتمع والطبيعة."[4] وإذا ما تجاوزنا فرضية المحصلة الصفرية لمجموع شكل العمارة ومحتواها التي يفترضها الباحثون، يمكننا أن نستشعر ثمّة خطاب اعتذاري في مجمل الدراسة يستبطن حساسية ما تجاه الجمال كتعبير مباشر عن علاقات الإنتاج الرأسمالي، تلك التي يحاول هذا الخطاب التمايز عنها بالحديث عن "طرق أخرى لإنتاج العمارة" لا يكون للجمال مكان الصدارة فيها. بشكل مماثل، تميل الممارسات المعمارية البديلة في العالم العربي، وفي مصر خصوصاً، إلى ربط الممارسات الجمالية بتبعات أخلاقية غالباً ما تسعى لتكريسها عبر تناول قضايا بعينها، كالإسكان غير الرسمي، والعدالة الاجتماعية، خصوصاً فيما يتعلق بالمجتمعات المسوّرة، والفضاء العام عبر دراسة موازية للأنثروبولوجيا وعلوم السياسة والقانون، أو عبر استخدام لغة قادمة من تقارير منظمات العمل الأهلي تهدف لتحويل العمارة إلى ممارسة اجتماعية مجاوزة للجمال والشكل والتقانة.[5] هذا التجاوز يحيل العمارة إلى تجلٍ فضائي أشمل لما هو سياسي بالأساس؛ تجلٍ شديد التعقيد ومغرق في تفاصيل عارضة لا يمكن دراستها بشكل معماري متخصص. خسارة التخصص الاحترافي هنا عادة ما تُرى بواسطة البعض على أنها "ضرورة حتمية يجب العمل عليها ضمن إطار من الإيجابية، لا التخوف منها كخسارة للمصداقية المهنية."[6] يسعى أصحاب هذه الرؤية إلى تفكيك هيمنة جماليات السوق على الإنتاج المعماري باستخدام آلية دشّنها عدد من الفنانين الأوروبيين في ستينات القرن الماضي تعتمد على حمل الفنّان لنفسه على الجهل العمدي بالحرفة كمنهج لتثوير الممارسة الفنية وعزلها عن التاريخ السلطوي لأدوات وطرق الإنتاج الفنّي.[7]

إلا أنه في حالات أخرى، كمشروع "وجهة نظر" (إل سيد، 2016) في عزبة الزبالين بالقاهرة، يتم عزل الممارسة المعمارية كليّاً عن طريق تحويلها إلى مكوّن تزييني مكمّل يمكن تعهيده بشكل مستقل دون الحاجة لمعماريين متخصصين، وبطريقة ربما لا تختلف كثيراً عن منهج عمل المطورين العقاريين التجاريين. عادةً ما يتم الاحتفاء بهذه الأنماط من الممارسات المعمارية من قبل المؤسسات الثقافية المحلية والدولية على السواء، على خلفية كون العمارة الصادرة عنها بالضرورة نقدية ومتموضعة في سياقها المكاني وبالتبعية أكثر تعبيراً عن المحلّية وتجذّراً في الواقع، ما يؤهلها لاستحقاق الدعم المادي والأدبي. ما يسترعي الانتباه هنا، هو أنه في أغلب الأمثلة التي اضطلعت فيها تلك الممارسات بأعمال معمارية فعلية، في حالة مصر خصوصاً، أظهرت تلك الأمثلة ميلاً عاماً نحو الفقر التصميمي والسطحية— وإن وُجدت بالتأكيد حالات تعكس غير ذلك — بل إن بعضاً من تلك الأمثلة يحيلنا إلى جماليات تجارية لا تدّعي لنفسها ذات المسؤولية الاجتماعية. واقع الحال، أن هذا الولع المحموم بالواقع والمحليّة لم يسفر فعلياً عن مشروع نقدي نحو ممارسة "واقعية" أو "محليّة،" فيم تحوّل اسهام قطاع كبير من تلك الممارسات إلى التوثيق والإنتاج المعرفي بالأساس.

استقى هذا التحول زخمه على خلفية رواج المساعي الداعية لمجابهة التسطيحات الأوروبية الشائعة عن الإنتاج الثقافي في دول الجنوب، خصوصاً في دوائر دراسات الشرق الأوسط إبان العقد الأول من الألفية الثالثة، فانبرى آنذاك عدد من الممارسين المعماريين والأكاديميين والنشطاء ليشكلوا معاً ظاهرة أكبر، عُرفت عند البعض لاحقاً باسم "مدرسة القاهرة". سعت الدائرة الأكاديمية الناشئة حينها إلى التنظير للمدينة استناداً إلى البحث الميداني الذي يتحرك فيما وراء المنتجات الفكرية السائدة، كي يتسنى للباحثين "الأخذ بالاعتبار والانصات بأذن ناقدة لرؤية التابع، والذي قد ينزوي صوته أو تضيع ممارساته بين دفات السجلات الرسمية والعامة. وفي طريقها نحو صياغة "حكمة ميدانية مبنية على دراسة السياق ومتجذرة في الواقع وغير منفصلة عن العالم،" سعت مدرسة القاهرة لتبرير وتمرير ممارسات نقدية بديلة، لكن ذلك لم يتم سوى على حساب ممارسات محليّة أخرى.[8]

فالتحول نحو ما بات يُعرف بـ"الممارسات البديلة" أو "الطرق الأخرى لإنتاج العمارة" استدعى بالضرورة تحولاً في العمارة المحليّة، من التثوير النقدي لممارسات التصميم والبناء إلى التوثيق والعمل الخيري. وفي حين تطلب التصميم والبناء حداً أدنى من المعرفة التقنية لمواجهة المنافسة المهنية، اعتاش المشتغلون بالممارسات البديلة في أحوال كثر من رواتبهم الأكاديمية أو من تمويل الجهات المانحة، كما أن الممارسات البديلة تطلبت إجمالاً مهارات في حقول غير العمارة، لم تُجد فيها المهارة المعمارية نفعاً لصاحبها. لم يسهم اختزال دور المعماري المتخصص إلى دور المراقب أو المعلق السياسي في خفض قيمة المهارة المعمارية التقليدية وحسب، بل أسهم أيضاً في خفض قيمة أي نوع من المهارات قد يكتسبه المعماري الناشئ عبر التمرّس المهني. ما يسقط من الحسبان عادةً، هو أن تلك المهارات التقليدية ليست فقط مظهراً من مظاهر الاقتدار الفنّي، بل هي أيضاً شكلٌ من المعرفة المتجذرة في الواقع. تبديد هذه المعرفة ينطوي حتماً على غض الطرف عن أشكال بعينها من الممارسات النقدية المحلية، وبالتالي ينطوي إجمالاً على تعطيل تطور الممارسات المعمارية المحلية عوضاً عن دعمها.

وفي حين يمكن النظر لهذا التحوّل كميل عام في عدد من الدوائر الأكاديمية التي تقلل من أهمية الفعالية السياسية للجمال والشكل والتقانة، كما في حالة الباحثين من جامعة شيفلد، يتفرّد المشهد المعماري العربي بانصراف نفر معتبر من نخبته عن مساءلة تأثير هذا التحوّل من الناحية المؤسسية. بشكل ما، أصبح هذا الانصراف علامة على جذرية النقد، فلا شيء يبدو أكثر رجعية اليوم من حديث المعماريين عن العمارة ذاتها. وما هذا النزوح الجماعي للمعماريين المحليين نحو مجالات مجاورة كالفنون والإنسانيات والإدارة الثقافية إلا دليل آخر على فقدان ثقة هؤلاء في قدرة مهنتهم على مجابهة استحقاقاتها النقدية، إن لم يكن انهزام في مواجهة فعاليتها الزائلة. يوضح المعماري والباحث الألماني ماركوس ميسن في كتابه كابوس العمل التشاركي، أن عدداً غير قليل من المكاتب المعمارية التي تحسب نفسها على معسكر الممارسات البديلة قد طوّرت نماذجاً مهنيةً للعمل، "أقل تخصصاً وأكثر تركيزاً على البحث، لأنها في واقع الحال قد أصبحت بلا عمل معماري حقيقي." [9]

على صعيد آخر فتح ذلك التحول نحو إنتاج المعرفة مصراعي الباب أمام تسليع الممارسات المعمارية التلقائية وغير الرسمية في مجتمعات الجنوب عبر تحويلها إلى أبحاث وجوائز ومعارض فنيّة ودرجات علمية ودورات تدريبية من قبل المنظمات العاملة بالحقل الثقافي في دول الشمال. في مقاله بالأركتكشرال ريفيو ينتقد دان هانكوكس مشروع توثيق برج توري دافيد في كراكاس ومعرضه المقام ضمن فعاليات بينالي البندقية في دورته الثالثة عشر للعام 2012. يقول هانكوكس "صُمم المعرض الحائز على جائزة الأسد الذهبي في بينالي البندقية ليحاكي مطاعم كراكاس الشعبية صاخبة الأضواء. يصف المعرض ما قام به المعماريون النمساويون من مكتب إربان ثينك تانك (يو تي تي) لتوثيق توري دافيد ’كبحث تصميمي’ إلا أننا لا نعرف حقاً من يقف وراء التصميم هنا؟" لا شك في أن توثيق آليات التكيف مع المعاناة اليومية التي يقوم بها السكان بتوري دافيد ونشرها هو أمر مفيد للغاية، إلا أنه من الصعب رؤية ذلك التوثيق، بحسب هانكوكس، خارج كونه عملاً "استعمارياً طفيلياً" تعتاش فيه مؤسسة أوروبية على المعاناة اليومية لآلاف من السكان غير المسجلين رسمياً وتكتم أصواتهم لصالح موضوعية التوثيق الأكاديمي وحقوق نشره المحمية. يسائل هانكوكس طبيعة اللغة التي يعلن بها هؤلاء المعماريون امتلاكهم الحصري لحقوق البحث في هذا الموضوع مسجلّين بموجبها اسم البرج "توري دافيد" كعلامة تجارية لموقع إلكتروني يحمل نفس الاسم.[10]

--------------------------------------------------------------------------

بالرغم من انخراط عدد كبير من المعماريين في العمل الاجتماعي والسياسي والممارسات البحثية والفنيّة في سياقات مختلفة في العالم العربي حيث تتطلب أوضاع العمران هناك تطوير فعالية نقدية غير نمطية كما في حالة توري دافيد، قليلاً ما يتعرّض منتجو الثقافة المحليّون لتناقضات السياسات الثقافية العالمية التي تنضوي ممارساتهم تحت لوائها، ما يجعلهم عادةً أسرى لمراوحة ما بعد حداثية بين إزاحةٍ راديكالية للمركز بالحديث عن ممارسات "أخرى" أو "بديلة" تتحدث باسم التابع ثم لا تلبث وأن تخرس هذا التابع عبر آليات البحث والتوثيق لتعيد إنتاج المركز من جديد. في المقابل من ذلك، وفي حين ينظر الأكاديميون والمشتغلون بالحقل الفنّي بعين ناقدة لطبيعة الدور الذي تلعبه رأسمالية التمويل الثقافي تلك، لا يحظى تمويل الممارسات المعمارية البديلة بذات الاهتمام النقدي. وبالتبعية لا تكمن المشكلة فيما فعله أو لم يفعله هذا المعماري \\ الفنان \\ الباحث أو ذاك، المشكلة كامنة بالأساس في التوجه العام نحو نمط مسبق الصبّ من الممارسة النقدية، يلتمس فيه هؤلاء بريق الراديكالية الجاهزة بقدر اقترابهم من فلك أطر ومؤسسات ثقافية بعينها، والتي نادراً ما يسائلون احتكارها لسلطة "تكريس منتجين ثقافيين بعينهم ومنتجات ثقافية بعينها،" على حدّ وصف بيير بورديو. [11]

يمكننا أن نرى تلك السلطة قيد العمل في تصنيف وضعته ماري آن دي فليغ، رئيسة مجموعة الفن والحقوق والعدالة— وهي مجموعة تتألف من أكثر من 30 منظمة أهلية وحكومية أوروبية تعمل على الساحتين الحقوقية والفنيّة وتمثّل لاعباً أساسياً في توجيه السياسات الثقافية للاتحاد الأوروبي تجاه منطقة الشرق الأوسط وجنوب البحر المتوسط. تميّز دي فليغ بين نوعين من الفن المعاصر في العالم العربي، الأول هو الفن ذو القيمة المالية الضخمة والذي يصل إلى صالات المزادات الفنيّة الكبرى كسوثبي وكريستيز، أما الآخر فهو ذاك الذي يطرح أسئلة نقدية تجعله، بحسب دي فليغ، عصيّاً على التسويق. ترى دي فليغ في هذا النوع الآخر سوقاً جديداً لا يقع فقط على رادار المؤسسات المالية السويسرية وصالات المزادات الكبرى والغالريات وأصحاب المجموعات الفنيّة وحسب، بل والحكومات الأوروبية نفسها أيضاً. بحسب هذا التصنيف، ترى دي فليغ أرجحية توجيه الدعم المالي الأوروبي للممارسات الفنيّة التي "تنظر للمجتمع؛ تراقبه؛ تعكس قضاياه المعاصرة؛ تعلّق؛ تستحث الفكر؛ تنظر من زوايا بديلة."[12] ما لا يظهر في تحليل دي فليغ هو أنه بفضل تلك المحاباة المؤسسية تحديداً يزول الخط الفاصل بين نوعي الفن اللذين يستند إليهما التحليل بالأساس، ويتحول دور الدعم المالي إلى إزاحة مؤسسية مستمرة للخط الفاصل بين النوعين بهدف اكتشاف فنانين محليين واستلحاقهم ضمن النوع الأول ذو القيمة المالية الضخمة. وهو ما يثير التساؤل حول مدى جذرية تلك "الزاويا البديلة" التي يمكن أن تطرحها ممارسات فنّية تحاول أن تميَز نفسها عن رأسمالية السوق المحلي من حيث كون تلك الزوايا البديلة في الوقت ذاته آليات تسويق تعمل ضمن ظروف رأسمالية عالمية أكبر — على الأقل من وجهة نظر من يضعون سياسات التمويل. لا يفوتنا هنا الإشارة إلى تحليل باحثة الاجتماع، ساسكيا ساسن، المهم عن ميل النظام الرأسمالي العالمي لا لتجريف الأنظمة الاجتماعية وعلاقات الإنتاج والتعبير الفنّي في مجتمعات ما قبل الرأسمالية وحسب، بل لتجريف الرأسماليات المحليّة أيضاً، والتي قد تشكل بعلاقات إنتاجها التقليدية عقبة أمام منتجات ثقافية جديدة تنتمي لاقتصاد عالمي أكثر تعقيداً وشمولاً. من هذه الوجهة قد تكون المحاباة النقدية لطرح أسئلة وموضوعات بعينها هي في الوقت ذاته أدوات لتجريف أسواق محلية بديلة للإنتاج الثقافي.[13]

إذن، كيف يمكن للممارسات المعمارية البديلة، كجزء من حراك رأسمالي عالمي ربما يقع أحياناً على حافة الاستشراق الذاتي، أن تتحول إلى مشروعٍ جاد للممارسة النقدية المحليّة؟ إلى أي مدى يختلف، أو يتشابه، الانعتاق الصادر عن هذا الإنتاج المعرفي الكثيف مع ذاك الصادر عن الفن البرجوازي الذي كتب عنه المعماري والمؤرخ الإيطالي منفريدو تافوري في سبعينات القرن الماضي: مجرد عرَض جانبي لسياسات ثقافية عالمية، غير معنية حقاً بتحليل التناقضات الرأسمالية الأساسية التي ينطوي عليها عمران المدينة، بل هي بالأحرى مكرّسة لتأطير هذه التناقضات كمنتجات فكرية للبحث الجمالي والنظري، وبالتبعية تحديد الوجهة السديدة والأكثر ربحية للإنتاج الثقافي ضمن سوق عالمي.

تشير حنان طوقان، الباحثة بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (سواس)، إلى أن ازدهار الإنتاج الثقافي المعاصر في عدد من دول العالم العربي يعود بشكل كبير إلى دورالدبلوماسية الثقافية الأوروبية التي تعمل في المساحة الواقعة بين مراكز تسويق إقليمية كدبي والشارقة وبين منظمات المجتمع الأهلي كقنوات اتصال محليّة لها. حيث عملت تلك الدبلوماسية على إعادة بناء وهندسة المشهد الثقافي في العالم العربي عبر دعم الفنانين وابتعاثهم إلى الخارج وتمويل المؤسسات والمشاريع الثقافية وتدريب العاملين بها وتوفير الموارد اللازمة لإقامة المهرجانات والمعارض وإنتاج الأعمال الفنيّة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي ما سمح اليوم بوجود ما يملأ قاعات العرض في دبي والشارقة. بحسب طوقان فإن نشأة ونمو المؤسسات الثقافية المستقلة في عدد من الحواضر العربية كان بالأساس مدفوعاً بجهود حكومات غربية ومؤسسات ثقافية مثل فورد وأوبن سوسايتي، هيأت عبر شركائها المحليين مساحة لإنتاج ثقافي "بديل" عن إنتاج آخر، اعتقدت بكونه أقل نقدية أو أقل جودة. فاقتران تلك المساحة بتصنيف دي فليغ، يفترض ضمناً صعوبة وجود إنتاج ثقافي جدير بالاعتبار خارج مظلة دعمها، ويحتم على المنتجين الثقافيين الطليعيين الالتحاق بها. [14]

ينطبق الأمر ذاته على عدد كبير من المعماريين المحليين المتحولين لمجال الممارسات البديلة والذين تتقفى ممارساتهم، عن قصد أو بدون، السياسات الثقافية الأوروبية في المنطقة. بشكل مشابه، وبفضل الدعم التمويلي والمحاباة من قِبل بعض الدوائر الأكاديمية والثقافية في دول الشمال، ينجذب عدد كبير من المعماريين الشباب من العالم العربي للعمل بالبحث العمراني، سواء أكانوا حقاً من المهتمين به أم لا.
وعلى تكرار محتوى عدد كبير من الأبحاث والمشاريع الفنيّة التي يقوم بها هؤلاء، والتي ربما لا تحرز تقدماً حقيقياً، فيما خلا الترقي المهني للعاملين بتلك الدوائر، كما في حالة توري دافيد مثلاً، فإن ترسّخ التمييز الناتج عن تلك المحاباة يتحول يوماً بعد يوم إلى آلية نمطية يستبطنها العمل الثقافي المحلّي، بشكل يضع أي صوت ناقد في مجابهة منظومة الإنتاج الثقافي برمّتها. فانحسار الأبحاث والأعمال المنتجة بدعم من هذه المؤسسات والصناديق والمنح الدراسية ضمن عدد من التيمات المكررة عادة ما كان سبباً في تقليص المساحة المتاحة أمام عدد غير قليل من المعماريين والباحثين النابهين، وإهمال طيف واسع من مسارات البحث الأخرى التي كان يمكن أن تُتخذ في حال توزيع هذا الدعم بشكل مغاير. لا نملك إحصاءات واضحة يمكننا الحكم على أساسها، إلا أن الأمر يبدو جليّاً بملاحظة أن هذا النمو المنتظم في الإنتاج المعرفي، بفضل الزيادة المطردة في عدد المعماريين المتحولين حديثاً للممارسات البديلة، لم يأت مصحوباً بنمو مقابل في عدد المشاريع المعمارية ذات الجودة العالية. الواقع العمراني يُدرس ويُمسح باستمرار من أجل إنتاج لا يتوقف من المعرفة، إلا ان أحداً لم يتساءل لمن و لأي غرض تُنتج هذه المعرفة؟ يظهر هذا الإحساس من حين لآخر في حديث وكتابات بعض المشتغلين بالممارسات البديلة الذين يتساءلون عن مصير تلك المعرفة وفيم ستستخدم. فإن لم تسهم المعرفة المعمارية في تحسين الواقع المبني، أو على الأقل في تحسين الواقع المهني، فما هو تحديداً الهدف منها؟[15]

في مناخ من ملانخوليا ما بعد الثورات، يبدو إنتاج المعرفة كبديل أخير لا تتطلب ممارسته الاعتراف ضمنياً بفشل المشروع الجمالي البديل الذي انطوت عليه ثورات الربيع — مصر مثالاً — ما قد يترتب عليه خسارة موطئ قدم هام على خريطة التمويل الأجنبي. تجاوز هذا الاعتراف دفع بالكثير من المعماريين إلى حالة من الرهبنة الأكاديمية، بل وصل الأمر بالبعض بدافع من الضغوط الاقتصادية التي استلحقتها الثورات، وتحطم أي أمل في عمارة أفضل كان من المنتظر أن تأتي، إلى هجران العمارة بالكامل والتحول لمهن أخرى.[16]

بالتأكيد لا جديد في القول بأن قطاعاً كبيراً من المشهد المعماري و الفنّي في العالم العربي يعتاش بشكل مباشر وغير مباشر على أنماط غابرة ومعاصرة من التبعية الكولونيالية لدول ومؤسسات تقوم نيابة عن الفاعلين المحليين بتحديد أولويات العمل الثقافي— والتي تأتي في غالبها كصدىً متأخر للسياسات الثقافية الأوروبية المتعلقة بدعم التنوع الثقافي لاحتواء الآخر في أوروبا نفسها. إلا أنه لم يعد من المقبول النظر بعين البراءة لهذا الاحتفاء الزائد بالعمارة التقليدية وجماليات الإسكان غير الرسمي ضمن تصور جامد عن الخصوصية الثقافية، أو إعادة كتابة تاريخ الحداثات المحليّة لمغازلة نوستالجيا بورجوازية تعتاش على اجترار ماضٍ طليعيٍ مفترض، أو حتى الحديث الحالم عن فاعلية المعماري والفنان في مواجهة العسف السلطوي. عادة ما تتسم تلك التيمات في أوساط الفاعلين الثقافيين المحليين بزخم نقدي يفترض ضمناً ثوريتها كما يؤمن بحتمية أن يفضي الاشتغال بها إلى تقدم نقدي ما كما لو كانت تعمل في معزل طوباوي عن الأيديولوجيا. واقع الحال، أنه في ظل الانتصار الحالي لقوى الدكتاتورية في دول الربيع تبدو تلك التيمات كبديل راديكالي فعّال للمقاومة؛ تكتسب قيمة في ذاتها، وتصبح شكلاً من الفعل السياسي. إلا أن تلك الممارسات يمكنها أيضاً في أحيان كثيرة أن تدفع عديداً من الفاعلين المحليين عفوياً للانخراط ضمن حقل للإنتاج الثقافي تم هندسته مسبقاً بوعي أو دون وعي، والاشتراك في إنتاج نقد قصير النظر عن الواقع، ما يفقد المشهد المحلي قدرته على إنتاج عمارة ثورية بحق.

مصادر

[1] Tafuri, M. (1976). Architecture and Utopia: Design and Capitalist Development. Cambridge, MA: MIT Press. p.1.

[2] Gleadell, C. (2008, October, 7). Art sales: Art blossoms in the desert. Retrieved December 15, 2016, from http://www.telegraph.co.uk/culture/art/artsales/3561776/Art-sales-Art-blossoms-in-the-desert.html

[3] أنظر نص البيان الصحفي لمقيمي الجناح الوطني المصري في الدورة الخامسة عشر من بينالي البندقية للعمارة لعام 2016
Egyptian Pavilion, La Biennale di Venezia - 15th International Architecture Exhibition. (2016). Reframing Back: Imperative Confrontations [Press release]. Cairo, Egypt: Ministry of Culture Arab Republic of Egypt: Ahmed Hilal.

[4] Awan, N., Schneider, T., & Till, J. (2011). Spatial agency: Other ways of doing architecture. Abingdon, Oxon: Routledge. p. 27-28

[5] راجع على سبيل المثال النصوص التعريفية للممارسات المعمارية الواردة على قائمة موقع منصة المبادرات العمرانية بالقاهرة 

[6] Awan, N., Schneider, T., & Till, J. (2011). Spatial agency: Other ways of doing architecture. Abingdon, Oxon: Routledge. p. 27-28

[7] تتم ترجمة مصطلح deskilling على محركات الترجمة الإلكترونية لتعابير غير ذات دلالة محددة مثل "تخفيض المهارة" لذا رأينا عدم ذكر المصطلح والاكتفاء بشرح فحواه. للمزيد:
Burn, I. (1981). The Sixties: Crisis and Aftermath (Or the Memoirs of an Ex-Conceptual Artist). (P. Taylor, Ed.). In Art & Text (pp. 49-65). Visual Arts Board Prahran College of Advanced Education.

[8] Singerman, D., & Amar, P. (2006). Cairo cosmopolitan: Politics, culture, and urban space in the new globalized Middle East. Cairo: American University in Cairo Press. p.26

[9]Miessen, M. (2010). The Nightmare Of Participation: Crossbench Practice As A Mode of Criticality. New York: Sternberg Press. p. 46.

[10] Hancox, D. (2014, August 12). Enough Slum Porn: The Global North`s Fetishisation of Poverty Architecture must End. Retrieved December 15, 2016 

[11] Bourdieu, P. (1993). The field of cultural production: Essays on art and literature (R. Johnson, Ed.). New York: Columbia University Press. pp. 40-42

[12] De Vlieg, M. (2008, May 23). Http://eng.babelmed.net/cultura-e-societa/36-mediterraneo/3223-why-does-the-euro-med-need-to-support-and-develop-contemporary-art-and-exchange.html. Retrieved December 15, 2016 

[13] Sassen, S. (2010). Expanding the Terrain for Global Capital: When Local Housing Becomes an Electronic Instrument. In M. B. Albers (Ed.), Subprime Cities: The Political Economy of Mortgage Markets (1st ed., pp. 74-96). Blackwell Publishing Ltd.

[14] Toukan, H. (2010). On being the other in post-civil war Lebanon: Aid and the politics of art in processes of contemporary cultural production. Arab Studies Journal, XVIII(1), 118-161.

[15] Moursi, M. (2016, September 26). What happens to the knowledge produced? On Egypt at this year`s Venice Architecture Biennale. Retrieved December 15, 2016, 

[16] Higazy, I. (2016, September 29). Shahira Fahmy: A career that responded to a revolution. Retrieved December 15, 2016 

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية