قصائد للشاعر امبرتو سابا، المجلد الثاني

[???? ?????? ???????? ?????? ????] [???? ?????? ???????? ?????? ????]

قصائد للشاعر امبرتو سابا، المجلد الثاني

By : Amarji أمارجي

أُمبرتو سابا، المجلَّد الثَّاني Umberto Saba (1883-1957)

أُمبرتو سابا في سطور:

أمبرتو سابا، الاسمُ المستعارُ لأمبرتو بولي، وُلِدَ في إصطاجانكو (تْريِيْستِه) في 9 آذار/ مارس 1883، لأبٍ من عائلةٍ بندقيَّةٍ نبيلة، كان يعمل وكيلاً تجاريَّاً، وأمٍّ يهوديَّةٍ من إصطاجانكو، هي حفيدة الشَّاعر والمؤرِّخ صموئيل ديفيد لوتزاتو، وقد اعتنق والدُه اليهوديَّة لأجل هذا الزَّواج، ومع ذلك هجرته زوجته عندما وُلِد أمبرتو، فعاش هذا طفولةً حزينة بسبب غياب الأب، وقد أمضى السَّنوات الثَّلاث الأولى من طفولته مع مربِّيةٍ سولفانيَّةٍ تُدعى "بيبَّا ساباز" كانت قد فقدت ابنها فسكبت حبَّها وحنانها في أمبرتو الذي اختار اسمه المستعار "سابا" من كنيتها تكريماً لها، والكلمة تعني بالعبريَّة "الجَد"، وقد شكَّلتْ استعادةُ أمِّه له وهو في عمر الثَّلاث سنوات الصَّدمة الأولى في حياته. في سنة 1903 انتقل إلى "بيزا" ليدرسَ في جامعتها، فتابعَ في البداية محاضراتٍ في الأدب الإيطاليِّ، غير أنَّه ما لبث أن تخلَّى عن ذلك لكي يتمكَّن من حضور دروسٍ في علم الآثار، وفي اللغتين الألمانيَّة واللاتينيَّة. في صيف عام 1904 سقط فريسةً لحالةٍ من الإحباط الشَّديد إثرَ خلافٍ مع صديقٍ له، فعاد إلى إصطاجانكو، وراحَ يكتب القصائد وبعض المقالات لصحفٍ محلِّيَّة. في سنة 1911 نشرَ على نفقته الخاصَّة مجموعته الشِّعريَّة الأولى "أشعار"، تلتها في 1912 مجموعته الثَّانية "بِعينيَّ" التي غيَّر عنوانها لاحقاً إلى "إصطاجانكو وامرأة". في أيَّار/ مايو 1913 انتقل مع العائلة إلى مدينة بولونيا، وفي شباط/ فبراير 1914 انتقلوا إلى ميلانو. عند اندلاع الحرب العالميَّة الأولى استُدعيَ إلى الخدمة، أوَّلاً في حقلٍ للجنود النِّمساويِّين السُّجناء ببلدة "كاسالمادْجورِه"، ومن ثمَّ طبَّاعاً في مكتبٍ عسكريٍّ، وأخيراً، في عام 1917، كفاحصٍ للأخشاب في حقلٍ لصناعة الطَّائرات. وتعود إلى تلك الفترة قراءته لأعمال نيتشه واشتداد حدَّة الأزمات النَّفسيَّة عليه والتي انتهت بإدخاله، في عام 1918، إلى المشفى العسكريِّ بميلانو. عند انتهاء الحرب العالميَّة الأولى عاد إلى إصطاجانكو، ليُصدِرَ سنة 1922 الطَّبعة الأولى من "ديوان شِعر غنائي" الذي ضمَّ كلَّ إنتاجه الشِّعريِّ حتَّى ذلك التَّاريخ. عانى بين 1929 و1931 من أزمةٍ عصبيَّةٍ أقسى من سابقاتها. في عام 1938، قبل وقتٍ قصيرٍ من اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية، ومع صدور القوانين العنصريَّة من قِبَل النِّظام الفاشي آنذاك، اضطرَّ إلى الهجرة مع أسرتِهِ إلى فرنسا. عاد إلى إيطاليا في نهاية عام 1939، فلجأ أوَّلاً إلى روما، حيث حاولَ أونغارِتِّي عبثاً مساعدتَهُ، ليعودَ مرَّةً أخرى إلى إصطاجانكو، ولكنَّه أُرغِمَ على الهرب مع زوجته وطفلته في خريف 1943، ليختبئوا في فلورنسا، وهناك نشأت صداقةٌ قويَّة بينه وبين مونتالِه، كما صدرت له في تلك الفترة مجموعةٌ شعريَّة بعنوان "أشياء أخيرة"، وقد أضيفت فيما بعد إلى الطَّبعة الجديدة من "ديوان شعرٍ غنائي" الصَّادرة في تورينو سنة 1945.

* * *
في سنوات ما بعد الحرب، عاش سابا لتسعةِ أشهرٍ في روما، ومِن ثمَّ في ميلانو التي أقام فيها لمدَّة عشر سنواتٍ تقريباً، تخلَّلتها بعض الزِّيارات إلى إصطاجانكو. في تلك المرحلة تعاون مع صحيفة "إلْ كورييرِه دِلَّا سِيرا"، ونشرَ المجموعة الأولى من شذراتِه بعنوان "أقصر الطُّرُق". في سنة 1946 تقاسمَ مع "سيلفيو ميكِلِّلي" الفوز بجائزة فيارِدْجُو عن فئة قصيدة ما بعد الحرب، تلتها في سنة 1951 جائزة "أكاديميَّة لينسيان"، وجائزة "تاورمينا"، بينما منحته جامعة روما "لا سابيينتزا" الدكتوراه الفخريَّة سنة 1953. بعد أن نالَ سابا شهرةً واسعةً تحوَّلَ إلى الكاثوليكيَّة، وتعمَّدَ، ولكنَّ زواجه لم يتم تحويله إلى الكنيسة بذريعة غياب الاستعداد الكافي. في عام 1955، مُتعَباً ومريضاً، وفوق ذلك مُضطرِباً لعدم استقرار حالة زوجته الصِّحِّيَّة، دخل إلى إحدى المصحَّات في مدينة "غوريتسيا"، ولم يغادرها إلَّا لحضور جنازة زوجته الحبيبة، التي توفِّيت في الخامس والعشرين من تشرين الثَّاني/ نوفمبر 1956. بعد تسعة أشهرٍ من ذلك، في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس 1957 توفِّي سابا.

* * *
لتسليط الضَّوء على السِّمات الرئيسة لقصيدة سابا، يمكن الرُّجوع إلى النَّصِّ النَّثريِّ الذي كتبه في إصطاجانكو سنة 1912، بعنوان "ما يتعيَّن على الشُّعراء فِعلُه". في هذه الصَّفحات ذكر سابا بإيجازٍ ما ينبغي أن تكون عليه القصيدة، وهو أن تكون قصيدةً قادرةً على التَّعبير بصدقٍ ومن غير مُغالاةٍ عن الحالة الوجوديَّة للإنسان، لتكونَ تمثيلاً للواقعِ اليوميِّ، لا لواقعٍ خارجٍ عن المألوف. وقد ترتَّب على موقفه ذاك بعض النَّتائج الهامَّة على مستوى مضمون القصيدة، مثلما على مستوى شكلِها. على الشَّاعر، في رأي سابا، أن يكون وفيَّاً لروحِه الخاصَّة، ومن هنا تتجلَّى قصيدته، قصيدة سابا، باعتبارها سبراً داخليَّاً مستمرَّاً، وبحثاً متواصلاً في الوعي. من وجهة النَّظر هذه، من المهم أيضاً عدم إغفال العلاقة بين سابا والتَّحليل النَّفسي، تلك العلاقة التي جعلت من قصيدته أداةً لتوضيحِ الذَّات، ولفهمِ الجروح النَّفسيَّة الدَّاخليَّة والصِّراعات التي تمزِّق شخصيَّة الإنسان، وللكشفِ عن أصولِ العصابِ فيه. هكذا، تعرضُ لنا قصيدةُ سابا واقعَ البشرِ جميعاً وأحوالَ أيَّامهم كلِّها، فهي تتحدَّث عن إصطاجانكو، بمقاهيها وشوارعها وأشجارها وبحرها، وتصفُ شخصيَّاتٍ متواضعةً وحيواناتٍ مُستأنَسة. غير أنَّ تلك البساطة والارتباط بالواقع اليوميِّ ينبغي ألَّا يدفعان إلى التَّفكير بأنَّها قصيدةٌ موضوعيَّةٌ مُجرَّدةٌ عن الغرض، فسابا في النِّهاية يصبُّ فيها همومَه الدَّاخليَّة، ويمكن القول إنَّ لغة سابا الشِّعريَّة لغةٌ بسيطةٌ ومألوفة، تميل إلى البُنى التَّقليديَّة مقارنةً بالقصيدة الحرَّة التي جاءت بها الحركة "المستقبليَّة".

 النُّصوص:

[من مجموعة "ديوانُ شِعرٍ غنائيٌّ (1900-1954)" الصَّادر سنة 1961]

II. من المجلَّد الثَّاني

[من "السُّجناء (1924)"]

الشَّهوانيُّ

كنتُ، في طفولتي، الأوَّلَ في كلِّ لعبة؛
ودوماً، كما لو أنَّني حزتُ الأجنحة،
كنتُ أجنحُ إلى أعلى. الآنَ كلَّ الخير والشَّرِّ
أحبسُهُ في فكرةٍ واحدةٍ- لن أبوحَ بها.

كلَّ لذَّةٍ، إلَّا واحدةً، أقصيتُها عنِّي،
في الأرضِ والسَّماء؛ لِصبوتي الفتَّاكة
أعطِيَ الجذعُ عقاباً، إليهِ
كبَّلَني الحبُّ أعزلَ، مُعَرَّى.

أوَّاه، هذه العُقَدُ الوحشيَّةُ المبرِّحة
تخترق بمنتهى العذوبةِ لحميَ الحيَّ، حدَّ أنَّني
سأرفضُ الحرِّيَّة إن هيَ عُرِضَتْ عليَّ.

أشهى من ذلك أنْ يضيِّقَها الحبُّ
بطرقٍ أخرى حول أعضائي، حتَّى يتفجَّرَ
دمُ الغلومةِ منها؛ يا ليتهُ يفعل.

*
المُلهَم

أنا بأجمَعي، إذا لم يطوِّحْ بيَ الخوفُ،
ضوءٌ. كلُّ أشياء الخليقةِ
تجيءُ إليَّ مُلتحِمةً مع بعضها بغرابةٍ، إذْ
يلتقطُ عقلي وُصلاتٍ خفيَّة.

ولكنَّني أخاف. أخافُ حربَ الصُّدَف،
حربَ الإنسان عليَّ، على الأشكال الحبيسةِ
في داخلي، إذْ أحرِّرُها. ما عدا ذلك،
عذبةً جدَّاً ستكون أيَّامي على هذه الأرض.

مفكِّراً إمَّا بصَبواتٍ وحشيَّةٍ، وإمَّا
بالقدَر، أحملُ في داخلي كلَّ أشكالِ الحياة تقريباً.
تلك هي مَثوبتي، ذلك هو عقابي.

لا أودُّ لو أنَّني لم أولَدْ، ولا أن أموتَ
قبل أوانِه؛ أودُّ لو يكتملَ العملُ
الذي هو قدَري: أودُّ لو أنَّني عشتُ.

*
المكتئب

الكآبة كانت دوماً رفيقتي.
منها وحدها اجتنيتُ مسرَّاتيَ الجمَّةَ
والأثيرة؛ ذلك الجمالُ جعلني أهيمُ بها
حدَّ أنَّه بلَّلَ هُدْبي بالدُّموع.

أحِبُّ شاطئَ البحر وعزلةَ
الحقول؛ أنْ أقرأ كلماتٍ قليلةً وخفيفةً
مِن كتاب، وأنْ أتأمَّلَ طويلاً،
مع صوتٍ يتردَّدُ صدى أنينهِ في الهواء،

فيما يُجيبُه نُهَيرٌ يجري بين الحصى
أو بين الزُّهور؛ أحِبُّ الجبينَ مائلاً قليلاً،
والشَّيءَ المسحوقَ بالحزنِ سَحقاً.

وحدهم الرِّعاعُ يُزعجونني، أولئك الذين
يُخرِجونني مِن طِيبَتي، والذين
بأصابعَ خشنةٍ لمسوا جرحيَ الخبيء.

*
[من "قلبٌ مُحتضَر (1925-1930)"]

سوناتةُ الفردوس

رأيتُ في الحلمِ بيتاً أبيضَ،
على المنحدَرِ الصَّعبِ، في قلب السُّكون
المطلَقِ؛ كثيفةً كانت وموحِشةً
خضرةُ التَّلِّ، والسَّاعةُ طافحةً بالنُّعمى.

رأيتُ في الحلمِ عَنْزَةً تقطرُ عذوبةً،
تقف بجانبي، وترمقني بنظرةٍ
بشريَّةٍ وادعة، كأنَّها تعقدُ معي حِلْفاً
أبكمَ. ثمَّ ترعى العشبَ مِن جديد.

تميلُ الشَّمسُ إلى المغيب؛ وميضاً
تنتزعُ من النَّوافذ، بريقاً مُذهَّباً مِن نوافذِ
البيتِ المستوحدِ في أعالي عزلتِه.

وكلُّ عذوباتِ العالَمِ
في تلك النُّقطةِ وحدِها، في ذلك البريقِ وحدِه
تجمَّعتْ، في ذلك الوداعِ الأخير.

*
أغنية الحُبِّ
(ذاتَ أحدٍ بعدَ الظُّهرِ في السِّينما)

أحبُّ هذا الحشدَ الأحديَّ الملتئمَ هنا،
الذي يفيضُ بذاتِه، فإذا وجدَ بالكادِ
موضعاً، لبثَ منبهراً يستمتعُ
قليلاً ببعضِ التَّفاؤل الأمريكي.

أشعرُ بأنَّني لم أحْيَ لأجلها عبثاً،
بأنَّني ما زلتُ أحبُّ النَّاسَ والحياة.
ها إنَّ الدُّموع تصعدُ إلى عينيَّ
وفي قلبي تصدَحُ أغنيةٌ:

«قُلْ لي، ألا تذكرُ كنزةً برتقاليَّة،
وقبَّعةً من ذاتِ اللون،
كانت تبدو بهما شبيهةً ببرتقالة؟
قُلْ لي، ألا تذكرُ "إرْنا" الصَّغيرة؟»

ما تزال حيَّةً "إرْنا" الصَّغيرة؛
بل أكثر حياةً وفرَحاً منها آنذاك.
ظننتُها في مكانٍ آخر؛ ووحيدةً لم أكن
أراها هنا، ومع آخرين لم تكن تبدو لي جميلة.

«كنتُ - قالت لي بعدئذٍ - مع أختي
وعريسِها». ولم أصدِّقكِ.
أبداً أيَّتها الحلوةُ، الغاليةُ، الصَّغيرةُ الكاذبة،
لم أصدِّقك. وقد تظاهرتُ بأنَّني أصدِّقك.

كنَّا، إلى حدٍّ ما، تعساء. لكنَّ القلبَ ما إنْ
تظنَّهُ خبا، حتَّى يعودَ إلى الخفقان.
وأبداً لم يخفق هكذا، مثلما عندما كنتِ
تغنِّين له، هو الميْت، نشيدَ التَّوبة.

أوَليستْ جدُّ عذبةً وخالصةً هذه الأشياء
التي أرويها؟ أوَلَستُ عاشقاً للعزلة؟
أوَلَستُ شاعراً؟ أوَلَستُ شيئاً آخرَ وأفضلَ
فوق ذلك؟ فالآن ماذا يساوي ذلك عندي؟

إذا صار هذا الحشدُ الأحديُّ الملتئمُ هنا
غريباً عليَّ، إذا صارَ قصيَّاً،
فسأصيرُ صنجاً، صنجاً بلا سِحْرٍ
يتصادى، سأصيرُ صدىً خفيفاً وأتلاشى.

*
خزانةُ البلَّور

أنا في السَّرير، مريضٌ. أجيلُ
عينيَّ في أنحاء الغرفة. في ما وراء البلَّور المشعِّ
قطعةُ أثاثٍ عتيقةٌ تشدُّهما إليها،
إلى الأشياء المعروضةِ فيها.
خزفيَّاتٌ بيضٌ، عليها رُسِمَ بالأزرق الدَّاكن
سفنٌ، مرسىً، وأناسٌ من حولها
مستغرقون في أعمالهم. وثمَّة أشياء أخرى
كانت موجودةً مِن قبلُ في بيت أمِّي(1)،
أنظرُ إليها اليومَ بحسرةٍ وألم،
وكنتُ في أيَّامٍ خلتْ بفرحٍ كبيرٍ أرمقها،
وبي شهوةٌ إلى اقتناء المزيد منها.
كلُّ شيءٍ منها يُعيدُني إلى زمنٍ كان
يفيض عذوبةً، زمنٍ لم يكن بالنِّسبة إليَّ
زمناً، لأنَّني لم أكن قد وُلِدتُ بعدُ، ومِن ثَمَّ
لم يكن عليَّ أن أموت. لكنَّ جزءاً منِّي
كان قد وُلِد، ففي أرواح أسلافي حاضراً كانَ
ألمي الحاضرُ اليومَ. وبهاجسٍ غريبٍ يمزِّقُ
ذلك الألمُ قلبي، هاجسٍ يقولُ: آهِ أيُّ سكينةٍ
كانت تملأ العالَمَ قبلَ ولادتي؛ وأنا وحدي
مَن كدَّرَ انسجامَها. هذا هو الوهمُ الكَذوب؛
هذا هو الهذيان، يا صديقاتيَ الأشياء.

كم أحببتكِ، أيَّتها الأشياء المدهِشة،
أنتِ المكنونة في خزانةِ البلَّور، وفي حِواءٍ آخر،
في الظِّلِّ وفي الشَّمس، وأيُّ حنينٍ يُغرِقني
من فكرة هجرانك! إنَّها العتمةُ ما أطلبُ،
أطلبُ عتمةَ الجوف الأمومي،
السُّباتَ الصَّلدَ، حيث لا شيء يتحرَّك،
ولا حتَّى الحبُّ، وحيث الألمُ عذبٌ
حدَّ أنَّني لا أستطيعُ احتمالَه. إنَّه السَّريرُ الذي
عليه جئتُ من تلك العتمةِ الآسرة،
باكياً، إلى الضَّوء، إلى الأشياء التي كان مرآها
لذَّةً للنَّظر. وبولادتي فانياً صرتُ،
ألعنُ ذلك اليومَ بكلِّ كلماتِ التَّعزيم. ولا ألمَ بي
أخشى منه، أو لعلَّه مبطونٌ فحسب.
مثلما في كلِّ ليلةٍ، حين أطفئُ المصباحَ،
لأنَّ نورَه يزعجُ عينيَّ المثقلَتَين بالنُّعاس،
وأضعُ رأسي تحت اللِّحاف،
عائداً من جديدٍ إلى نفسي،
منطوياً من جديدٍ على نفسي، أشتهي الآن
أن أفعلَ الشَّيء نفسَه، وألَّا يطلعَ عليَّ نهار!
فتبتسمُ الأشياءُ لي. والمجدُ أيضاً
يُدركُني؛ قبلتُهُ، وإنْ متأخِّرةً، أحسُّها على فمي.

أنتنَّ يا بنات القرن الإلهيِّ العظيم،
يا بنات القرن التَّاسع عشر اللاتي أحبُّ، الآتيات
من أرض إنجلترا القصيَّة، عنكنَّ أتحدَّث،
أيَّتها الأقداحُ المرقَّشة، يا خزفيَّاتٍ شربَ منها
أسلافيَ الكادحون، في زمنٍ
كانت الحياةُ فيه أكثر طُهراً وإنسانيَّة،
وأعرفُ تاريخكنَّ الذي تلقَّفه شاعرٌ
يوقِّر الماضي حدَّ العبادة
من أفواه القدماء، قبلَ أن أولدَ بدهور.
كلَّ شهرٍ كانت سفينةٌ ترسو
في هذا الميناء المهيَّأ لنقل البضائع، حاملةً
من جنسكنَّ عديدَ الحصى والثَّرى، فكان الفقير
والغنيُّ ينالُ منكنَّ حظَّاً. كان الزَّمن
قد نفض عنه للتَّوِّ حرباً بغيضة، والسَّلامُ
نشرَ أجنحته على البحر، ولكنْ هيهات ينشرها
في قلب الإنسان. والآن ها أنتنَّ في الخزانة
التي من عمركنَّ، البسيطة، والمكتنِفة
أشكالاً أخرى كثيرةً وجميلة. وأنا إذْ أنظر إليكنَّ،
من قلب آلامي، لا أحسِنُ سوى أن
أبتهلَ إلى الموت. لا أنَّني عشتُ سُدىً،
بل أنَّني وُلِدتُ، هو ما أندمُ عليه.

[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • ثلاثُ قصائد للشَّاعرة الإيطاليَّة ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه

      ثلاثُ قصائد للشَّاعرة الإيطاليَّة ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه

      ماريَّا غراتسيا كالاندْرونِه شاعرة وكاتبة مسرحيَّة إيطاليَّة من مواليد ميلانو 1964، مقيمةٌ في روما، وتعمل مؤدِّيةً مسرحيَّةً، كما أنَّها مُعدِّة ومقدِّمة برامج ثقافيَّة في إذاعة RAI Radio 3،

    • حوارٌ مع الكاتب الأرجنتينيِّ أدريان ن. براﭬـي

      حوارٌ مع الكاتب الأرجنتينيِّ أدريان ن. براﭬـي

      "أنا مقتنعٌ بأنَّ اللغات تحدِّد شكل وجودنا وإقامتنا في هذا العالم. أفكارنا تتشكَّل وفقاً للُّغة التي نتبنَّاها. والحياة، بالتَّالي، تضعنا أمام خيارات: في حالتي، اخترت أن أغادر بلدي، الأرجنتين، وأنتقل إلى إيطاليا لمواصلة دراستي."

    • قصائد مختارة للشَّاعرة الإيطاليَّة سيبيلَّا ألِرامو Sibilla Aleramo (1876-1960)

      قصائد مختارة للشَّاعرة الإيطاليَّة سيبيلَّا ألِرامو Sibilla Aleramo  (1876-1960)

      سيبيلَّا ألِرامو هو الاسمُ المستعار لِرينا فاتْشو Rina Faccio، شاعرة وكاتبة إيطاليَّة وُلِدَتْ بمدينة ألِسَّاندريا في 14 آب/ أغسطس 1876، وتوفِّيَتْ بروما في 13 كانون الثَّاني/ يناير 1960. نادَتْ ألِرامو بالمساواة بين الجنسين، وانطبعَتْ أشعارُها بآلامِ ومعاناةِ المرأة، وكانت ناشطةً في المنظَّمات النَّسويَّة، وقد تطوَّعَتْ في مرحلةٍ من حياتها للعمل في ملجأٍ للفقراء في روما يديرُه الاتِّحادُ النِّسائيُّ. منذ صغرِها عانتْ ألِرامو آلاماً وخسائرَ جِساماً، فقد كانت والدتها مريضةً عقليَّاً، وحاولَتِ الانتحارَ، وفي الخامسة عشرة من عمرها تعرَّضَتْ ألِرامو للاغتصاب وأجبرتها عائلتُها في سنة 1893 على الزَّواج.

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية