حي البتاويين في بغداد: بؤس قاع المدن

[???? ??? ???????? ?? ?????. ?????? ???? ?????? ????????] [???? ??? ???????? ?? ?????. ?????? ???? ?????? ????????]

حي البتاويين في بغداد: بؤس قاع المدن

By : Mohamed Almahmoudy محمد المحمودي

وسط بغداد، على بُعد بضعة أمتار من نصب الحرية، تقع منطقة البتاويين التي تنحصر بين شارع "أبو نواس" الشهير ونهر دجلة غرباً، وتحدها ساحة التحرير شمالاً، ومنطقة الكرادة جنوباً، وتتمركز في وسطها أشهر دور السينما والفنادق والمحال التجارية والشركات الضخمة بمختلف أنواعها، القائمة على جانبي شارع السعدون الذي يقطعها ممتداً من ساحة الفردوس إلى ساحة التحرير، وتتوسطها ساحة النصر التي تمثل أكبر تجمع للاختصاصات الطبية في البلاد.

كان حي البتاويين يمثل أيقونة التنوع السكاني المتعايش في المجتمع العراقي، فاليهود إلى جانب المسيحيين والمسلمين والأكراد شكّلوا ملامحه. لكن سرعان ما أخذ سكانه الأصليون بالهجرة بداية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ الحصار يعصف بالعراق. فتحولت المنطقة إلى سكن للشباب الوافدين من الجنوب بحثاً عن العمل، بعدما لم يتبقّ فيها سوى بعض سكانها الأصليين.

تخضع مباني الحي لرقابة أمانة بغداد التي لا تسمح بالبناء أو بالترميم أو بالبيع كونه منطقة تراثية، إذ تتميز أغلب شوارعه بالشناشيل. ونتيجةً لهجرة السكان، أمست مبانيه مهجورة تملأها النفايات، وتزكم الأنوف بروائحها الكريهة. المشهد يوحي بأن إمكانية العيش في هذه المنطقة شبه مستحيلة، ما ساعد على تحولها تدريجياَ إلى دولة مصغرة يحكمها تجار الممنوعات. كما هي تعرضت في فترة التوتر الطائفي إلى تضييق شديد من الجماعات المسلحة وقتل فيها الكثير من الغجر، فيما هاجر الآخرون خارج العراق، ولم يبق منهم سوى عدد قليل يسكنون في فنادق خاصة.



إن الولوج من شارع السعدون الرئيسي نحو الأزقة الضيقة للبتاوين أمرٌ لا يخلو من المخاطرة إذا كان الزائر غريباً. دورة حياة المنطقة لا تسير بانسيابية، وهناك نظام هرمي لإدارة كل شيء هنا، يمثل الأطفال قاعدته لاستخدامهم كعيون تنقل كل شاردة وواردة. فبيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية ومنازل الدعارة بالإضافة إلى المتاجرة بالأعضاء البشرية.. هي رأس المال للمضاربة في بورصة البتاوين.

دخولك هناك يعني بحثك عن شيء، فيبدأ الجميع بعرض خدماته، بين من لا يجد حرجاً في أن يعرض عليك الدخول لبيوت البغاء مقدماً إغراءاته بعمر ومواصفات العاملات اللواتي بمعيته، وبين من ينتظر للتأكد من هويتك، فالحذر قائم بحسب خطورة ضالتك. الحصول على كمية كبيرة من المخدرات أو طلب أعضاء بشرية يتطلب مُعرِّفاً يضمنك وسلسلة من الإجراءات البوليسية. ولا سلطة تعلو سلطة تجارها، فلكل شيء ثمن وفق دستور هؤلاء، حتى القانون يصبح مطاطياً بوجود المال والسلاح. على الرغم من مداهمات الشرطة المستمرة، لكنها لا تسيطر على الوضع، وتُعد تلك المنطقة الأخطر ضمن تصنيف قيادة عمليات بغداد، التي تعتمد على الجهد ألاستخباري الضئيل مقارنةً بمستوى الجريمة فيها.

مستقبل مقتول

موجات سديمية من الأطفال منطلقة من فندق بانياس وسط المنطقة تغزو تقاطعات وشوارع العاصمة بغداد للتسول بشتى الطرق، بين بيع العلكة وتنظيف زجاج السيارات وصبغ الأحذية. يحلِّقون كأسراب نحل كل مجموعة من ثلاثة إلى أربعة أطفال تتأرجح أعمارهم بين أربع وست سنوات مع يافع يقودهم. يعودون إلى الفندق مع عودة الشمس إلى مخدعها، فيما تتنوع أعمال الأمهات بين الدعارة والتسول والعمل في المقاهي والنوادي الليلية. الكثير من الأطفال مجهولو الأب. العامل المشترك لأولئك النسوة هوالنزوح من المحافظات العراقية بسبب الفقر أوالبحث عن عمل، بالإضافة إلى من هربن بسبب "غسل العار" الذي يؤدي إلى قتلهنّ وفق العرف الاجتماعي لتلك المحافظات. فالهروب والوصول إلى بغداد ــ تلك المدينة المخيفة في متخيّل من لم يطأها من قبل ــ يجعل الهارب فريسة سائغة لسماسرة النساء المنتشرين في مرائب السيارات والباصات الرئيسية، حيث يُستدرجن إلى أماكن البغاء. ويُجبرن على العمل مع "مستقبليهن" بعد أن يسحب هؤلاء أوراقهن الثبوتية ويعرفوا عناوينهن الحقيقية، فيقعن تحت التهديد خوفاً من الاتصال بذويهن.

حياة مظلمة

يقول طعمة ناصر، وهو سوداني الجنسية ويسكن المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي، أن أغلب القوادين مطلوب قانونياً أو عشائرياً، وهم يتنقلون بأوراق ثبوتية مزورة.. يتحدث طعمة عن تنوع أعمال النساء حيث إن لكل عمل مقومات وضوابط يجب إتباعها، فعملهن في بيع الجنس يتطلب وجود شخص محدد يتمتع بنوع من السلطة والنفوذ وسط هذا السعير. طعمة صاحب دار يؤجر الغرف للوافدين من محافظات أخرى، ويمتلك مطعماً شعبياً وسط المنطقة، ومعروف بشخصيته العصامية واتزانه، إذ لم يشرب الخمر ولم يقرب بيوت الدعارة قط، ما أضفى عليه نوعاً من الوقار والمقبولية، حتى بات صديق الجميع، خازناً للمالِ والأسرار في بيئة قاسية. في مطعمه تكتسي حياة زبائنه بلونٍ آخر، فيبدون فحسب فقراء وطيبون، يتحدثون بشكل يعكس الحزن والحرمان الذي يؤطّر ذاتهم. هم لا يُجيدون الحديث في السياسة والدين والطائفية، همومهم مشتركة وأيامهم متشابهة، وأحلامهم بسيطة تتلاشى مع دخان سجائرهم. يبدأون يومهم باحثين عن "العلاگه" (تعني باللهجة العراقية القُوت اليومي)، والكحول ملاذهم الوحيد لتخفيف ألمهم. لكل منهم حقيقة لا يود سردها، يستعيرون قصص بعضهم حين تسألهم عن موطنهم الأصلي، فيذكرون موت ذويهم في الحروب أو إبان "أيام الطائفية".. وهي وجه الشبه بينهم.

حكايات من عمق الأزقة

حيدر الأسمر البصري ذوالـ26 عاماً، ثملٌ طوال الوقت، لكنه يجيد الحديث باتزان وصدق "فالسكر مرآة الحقيقة" كما يقول. يروي هجرته من البصرة بعد غرق والده في شط العرب وزواج أمه وهو ابن الـ 12 ربيعاً، ثم هجرته إلى بغداد وتَنقله في العمل بين المطاعم والفنادق. تنهّدَ قائلاً "أنتم المترفون تستلذون بمآسينا لتشعروا بقيمة حياتكم"، وطلب الأركيلة مقابل إكمال حديثه، ثم استطرد مستذكراً حبه لفتاةٍ كرخية لم تسمح الطبقية لهما أن يُتوجا حبهما بالزواج، ما دفعه إلى اليأس حتى وصل لمنطقة البتاويين باعتبارها سكناً رخيصاٌ، لكن سرعان ما أدمن الخمر وحبوب الهلوسة. حيدر يمتلك كاريزما وهدوءاً جعلاه محبوباً من الجميع، ما حدا بأصحاب محال بيع المشروبات الكحولية والمقاهي جمع مبلغ يومي له مقابل تنسيقه مع الجهات الأمنية في حالة وجود مداهمة، أو لتخليص من يقع في أيديها ممن لا يمتلك أوراقاً ثبوتية، أوترتيب أمور أخرى تخص ساكني المنطقة، متسائلاً "لولا نشوة الخمر والسكر أيستطيع إنسان العيش في هذه المنطقة"؟

في ركن المطعم يجلس شاب هو الآخر غريباً في هذا المكان، يبحث منذ أسبوع عن بائع كلية لوالده الراقد في إحدى مستشفيات شمال العراق، وقد توصل إلى اتفاق مع أحدِهم وتم تحديد المبلغ والبائع. لكنه للمرة الثالثة يعتذر عن الحضور. وقد أُبلغَ أن ذلك سياقٌ طبيعي للتأكد، ومن الممكن أن يكون ثمّة من يجلس ضمن الموجودين لمراقبتك والتأكد من جديتك في الموضوع، وبالفعل بعد نصف ساعة تم الاتصال به وطُلبِ منه الحضور إلى مكان محدد.

سارة وأحمد ونور أطفال بملابس رثة نُقشت في مخيلتهم فنون التسول والتذلل والخداع، أمانيهم لا تتجاوز أكلةً شهية ويداً كريمة ترفع من محصولهم اليومي لينالوا رضا الأم، وقوة تبعدهم عن المنافسين ومالكي التقاطعات من عصابات التسول. فيما لا تجد غفران عملاً غير البغاء، وهي تنحدر من عائلة غجرية تسكن مع أمها وأخويها في فندق وسط البتاوين، تمارس البغاء بمساعدة أخيها. هوالآخر يعتبر الأمر مهنة العائلة وأن قدرهم جعلهم هكذا، فيما تعمل الأم شيخة قوادين، وتتمتع بعلاقات واسعة مع الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة "التي هي الأخرى ليست بعيدة عن حِراك البتاوين، ولها نسب مقابل الحماية التي توفرها لهم". تحت أمر الشيخة مجموعة من الشباب ممن تتكفل بسكنهم وتعطيهم بعض الأموال ومعظمهم مطلوبون للدولة، وهم اليد الضاربة لها. فمن تحاول الخروج عن طاعة عمتها "الشيخة" من البنات اللواتي يعملن معها، أو من يعترض طريقهن، فمهمة هؤلاء الشباب الوقوف بوجهه. فيما تستدرك غفران لتؤكد أن أمها تُعدّ شيخة على نطاق محدود، ف"هناك من هُن بمستوى السياسيين" حسب تعبيرها، حيث السيارات الفارهة والنفوذ، مؤكدةً أن الكثيرات ممن يعملن في البغاء هن ضحية الظروف كفقدهن لعوائلهن جراء الحروب، أو الفقر أو لأنهن هربن من أهلهن.. و"الشيخة" تقوم بإيوائهن وتوفر الأوراق الثبوتية لهنّ مقابل العمل معها.

محنة أهل الدار

المعاناة لا تقتصر على من فقدوا السيطرة على حياتهم وتماهوا مع هذه المنطقة، هناك سواهم ممن يعاني بشدة. فالسكان الأصليون المتبقون هم عوائل مسيحية لا تملك المال الذي يمكِّنها من الانتقال إلى منطقة أخرى، ولاسيما أن منازلهم لا تُباع وبدلات إيجارها بسيطة جداً. يقاتلون للعيش وتربية أولادهم بعيداً عن تلك الأجواء. ومع أنهم يحظون باحترام وتقدير الباقين، إلا أنهم لا يشعرون بالأمان. تروي "مورين" طالبة الحقوق في السنة الثالثة معاناتها في الكلية بسبب سكنها في البتاوين، باعتبارها المنطقة الأسوأ سمعة في العراق، ويستغرب "يوسف" إهمال الأجهزة الأمنية للمنطقة التي تمثل الحاضنة الأكبر للمجرمين والهاربين من القانون، حيث مختلف أنواع الجريمة تمارس في وضح النهار، فيما تتخذ الأجهزة الأمنية موقف المتفرج.. لتبقى علامات الاستفهام قائمة حول من يقف خلف ذلك كله، مغيباً دور السلطة والقانون جاعلاً الدولةً محكومة بشريعة الغاب.

[ينشر بالاتّفاق مع السفير العربي ]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • حوار: سنان أنطون: صفاء السراي من أسماء العراق الحُسنى

      حوار: سنان أنطون: صفاء السراي من أسماء العراق الحُسنى

      وثقت سردياته حياة العراقيين وهو في المهجر كأنه يعيش في شوارع بغداد، الكاتب سنان أنطون أرّخ سنوات الطائفية من خلال جواد، عامل المغتسل في رواية "وحدها شجرة الرمان"، فيما كانت رواية "يا مريم" شاهد على حادثة اقتحام كنيسة سيدة النجاة، لكن مشغله الأدبي لم يبعده عن الشأن العام والتفاعل مع الوضع السياسي

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية