حقوق المثليين والمثليات محكّ لحقوق الإنسان

[??????? 2008] [??????? 2008]

حقوق المثليين والمثليات محكّ لحقوق الإنسان

By : Gilbert Achcar جلبير الأشقر

[كتبتُ المقال أدناه في إطار سلسلة المقالات القصيرة التي بدأت أكتبها منذ مدة لجريدة «القدس العربي» وتصدر كل يوم أربعاء. غير أن الجريدة اعتذرت عن نشره، وهي المرة الثانية التي يحدث لها أن تعتذر عن نشر أحد مقالاتي. جاء المقال تعليقاً على أحداث القمع التي وقعت في إسطنبول يوم الأحد في 25 حزيران/يونيو الماضي. وهو تعليق سريع بحكم حدود هذا النوع من الكتابة، دفعني إليه ليس الحدث بذاته فحسب بل أيضاً سكوت الصحافة العربية عنه. ولم يتناول المقال بالطبع جملة أمور متصلة، من تحليل الانزلاق السلطوي في تركيا (الذي كتبت عنه مراراً، هنا على سبيل المثال) إلى الاضطهاد الجنسي بوجه عام في منطقتنا العربية والقضية المحورية في تحديد مستقبلها، ألا وهي القضية النسائية.

ويجدر في هذا الصدد التنويه بأن الإعلام العربيّ القرار (وليس العربيّ اللغة والأجنبيّ القرار) يقبل بالكتابة النسوية، ولو بحدود ضيّقة ومن باب رفع العتب، لكنّ الموقف التحرّري من المثلية الجنسية يبقى لديه بوجه عام من المحرّمات التي لا يجرؤ على تحدّيها، حتى إذا كان المشرفون على جهاز الإعلام أنفسهم متعاطفين مع الموقف المذكور. وليس اعتذار «القدس العربي» عن نشر المقال أدناه سوى مثال عن تلك القاعدة، وكأنه تأكيد لما جاء في المقال. لذا رأيت أن أنشره كما كتبته بالأصل بدون إضافة أو تعديل، علماً بأنني حرصت فيه على أن أتجنّب أكثر ما يمكن «استفزاز» المشاعر التي أنتجتها الثقافة السائدة، أملاً مني بأن تقبل الجريدة بنشره. هذا وأشكر مجلة  «جدلية» الإلكترونية على منحها حق اللجوء السياسي لهذا المقال.

جلبير الأشقر، أول تمّوز/يوليو 2017.]

 

تجاهل معظم الإعلام العربي (والمقصود هنا الإعلام العربيّ المصدر وليس أي إعلام باللغة العربية كقنوات BBC وCNN وFrance24 العربية) حظر السلطات التركية لتظاهرة «فخر المثليين والمثليات» (Gay Pride) في تركيا للسنة الثانية على التوالي، وما عقب ذلك من أحداث. وقد أصرّ منظّمو التظاهرة السنوية على إجرائها يوم الأحد الماضي في إسطنبول، فقامت الشرطة التركية بقمع من تجرّأ منهم على الحضور وبعنف شديد شمل استخدام الرصاص المطاطي ومطاردة المتظاهرين بواسطة الكلاب.

جرى ذلك بالرغم من أن القوانين التركية لا تحرّم العلاقات المثلية (بين الراشدين طبعاً وليس بين الراشدين والقاصرين، مثلها مثل كافة أنواع العلاقات الجنسية) وتضمن حق التظاهر. ومن المعلوم أن إسطنبول اعتادت منذ مدّة أن تشهد كل سنة، حتى عام 2015، تظاهرة حاشدة بمناسبة يوم «فخر المثليين والمثليات» العالمي. كما لم يفت أحداً أن الحجة التي تذرّعت بها السلطات التركية في حظر التظاهرة، وهي سلامة المتظاهرين بعد أن هدّدت بالهجوم عليهم جماعةٌ يمينية متطرّفة (منشقّة عن تنظيم «الذئاب الرمادية» الفاشستي)، إنما هي من باب النفاق، إذ كانت حماية التظاهرة أسهل بكثير من قمعها لو أرادت السلطات التركية صون الحريات الديمقراطية.

وتحيط قضية المثليين والمثليات في منطقتنا العربية والشرق أوسطية هالة من الإرهاب الفكري والأخلاقي تردع حتى الكتّاب والمعلّقين الذين يعارضون الحظر القانوني لذلك الصنف من العلاقات الإنسانية عن الإفصاح عن رأيهم، ناهيكم عن العدد العظيم من المثليين والمثليات الذين يردعهم محيطهم القمعي عن إشهار هويتهم الجنسية. والحقيقة أن قضية المثلية الجنسية باتت محكاً بارزاً لتقدّم حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، حتى أن الدول الغربية بالذات لا تزال تخطو خطوات على درب مساواة المثليين والمثليات بالحقوق مع المغايرين والمغايرات، لا سيما في موضوع حق الزواج.

ويشير هذا الواقع إلى بطلان الحجة القائلة إن حظر المثلية الجنسية (التي لا يزال الكثيرون في منطقتنا يصنّفونها في فئة «الشذوذ الجنسي» بتعارض مع ما أثبته البحث العلمي في كون المثلية نزعة من النزعات الجنسية الطبيعية لدى قسم من الجنس البشري) هو مبرّرٌ في بلداننا بسبب كون الإسلام هو الدين السائد فيها. ويغفل هذا الرأي أو يتغافل عن أن جميع الديانات الرئيسية الأخرى، سواء أكانت أدياناً إلهيّة توحيدية كاليهودية والمسيحية أم غيرها من الأديان كالبوذية والهندوسية، حرّمت المثلية الجنسية.

فلا تكمن المسألة في نوع الدين الغالب في كل بلد، بل في درجة دخول ذلك البلد في العصر الحديث الذي يشكّل فصل الدين عن الدولة والقانون إحدى أبرز سماته، لا بل شرط أساسي من شروطه. ويحتاج المرء لدرجة عالية من التعامي كي لا يرى أن معظم البلدان الأكثر قمعية وانتهاكاً لحقوق الإنسان على وجه الأرض بلدانٌ تدّعي تأسيس مؤسسات حكمها وقوانينها على الدين. أما القسم الآخر من الدول القمعية فتلك التي تحظّر الدين، إذ أن حرية اعتناق الأديان (كافة الأديان) وممارستها هي أيضاً من حقوق الإنسان البديهية.

وكم هي ذات دلالة تلك الخريطة الواردة على صفحة موقع ويكيبيديا حول «حقوق المثليين حسب الدولة أو الإقليم» التي تبرز في وسطها، بين نوادر الدول التي لا تزال تُفرض فيها عقوبة الإعدام على المثليين وهي بلون بنّي، ثلاثة دول شرق أوسطية هي «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» و«المملكة العربية السعودية» وبينهما «الدولة الإسلامية» المزعومة (داعش).

والحقيقة أن حظر المثلية الجنسية يقوم دائماً وفي أي مكان على النفاق إذ أنه ليس من مجتمع بشري إلّا وفيه، من قاعدته إلى قمّته، نسبة من المثليين والمثليات (ومن المعلوم أن تلك النسبة أكثر ارتفاعاً في الحقيقة كلّما كان كبت العلاقات بين الجنسين أشدّ كما هو في منطقتنا). ومن أبرز أمثلة النفاق التاريخية معاقبة النازيين الألمان للمثليين إلى درجة الزج بهم في معسكرات الإبادة مع اليهود والغجر واليساريين وسواهم في حين شملت صفوف النازيين وقياداتهم نسبة من المثليين لا تقل عن نسبتهم في أي جماعة بشرية.

وقد اشتهر في هذا الصدد قول محمود أحمدي نجاد، في ندوة له في جامعة كولومبيا الأمريكية في عام 2007، عندما أجاب عن سؤال حول مصير المثليين في بلاده زاعماً: «ليس لدينا مثليين في إيران مثلما لديكم هنا. في بلدنا لا وجود لمثل ذلك». وأمام عاصفة التهكّم التي أثارها آنذاك كلام الرئيس الإيراني، أدلى مستشاره الإعلامي بتصريح لوكالة رويترز قال فيه إن ما قصده أحمدي نجاد هو أنه «ليس في إيران الكثير من المثليين مقارنة بالولايات المتحدة»، وهو تصريح زاد في الطين بلّة. وكلّ قارئ غير ساذج على يقين في قرارة نفسه من حقيقة الأمر في منطقتنا.

*كاتب وأكاديمي من لبنان


 

 

كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة


"ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة. وفاجأته: "أنظر يا حبيبي، وجدت كرة أرضية خرافية! تلعب بها بالقلم الإلكتروني، فيقول لك القلم اسم البلد وعاصمته، ويقول لك "مرحباً" بلغة البلاد. سيحييك بـ "بونجور" في فرنسا، و"هِلو" في إنجلترا، وتحييك بـ” كونيتشيوا" في اليابان. ما رأيك؟".. انفُرجت أساريره وسأل بلهفة: "متى تشتريها لي؟" فقلت: "إنها هدية قيّمة وخاصة جداً، لن تحصل عليها إلا في عيد ميلادك أو بعد إنجاز كبير..". لم يدم إحباطه طويلاً، لكنه عاد كل بضع ساعات يسأل: "متى تأتي الأرض المتحدثة؟"

وجدت متجراً إلكترونياً يعرض الكرة المتحدثة بسعر مخفّض، فوضعتها في سلة المشتريات الافتراضية حتى لا أضطر للبحث عنها مجدداً عندما يحين موعد "الهدية القيمة". كنت وأنا اتصفح العروض فخورة بأن ابني يريد أن يتعلم أسماء البلدان. "أريد أن أذهب إلي أفريقيا" قال. وفي مرة أخرى سأل: "هل يمكن لنا أن نزور الصحراء في يوم من الأيام؟" فقلت: "سنزور الأردن، فيه صحراء جميلة، والنجوم في ليلها قريبة. إن السماء تمطر نجوماً على الساهرين فيها."...كنت سعيدة بفضول ابني واهتمامه المبكر باستكشاف العالم، إلى أن لسعتني فكرة مفاجئة.. ستكون فلسطين مدفونة تحت خارطة إسرائيل التوسعية، وإذا كان حظي سيئاً ستمتد خريطة العدو لتبلع قطاع غزة والضفة الغربية، وقد يتكرم مصنِع الكرة على إسرائيل بتنصيب القدس عاصمة لها، فما علاقة المصنع الألماني بالقرارات الدولية، وما الضرر في ذلك؟ وإن كان هناك ضرر فهل من مشتكٍ؟

لن أجد إسم (پالستينا) على الخريطة إن سألني عنه سامي، وفي المقابل سيكون إسم إسرائيل كبيراً واضحاً، لأن المنتِج ألماني، وحاجة الألمان والصناعة الألمانية إلى توثيق وجود الدولة اليهودية كبيرة جداً. إذا نقر إبني بقلمه البرتقالي على الخريطة سيطلق الصوت المسجل تحية "شالوم" من فلسطين.

لم يتعلم ابني القراءة بعد، لكنه يميز بعض الأحرف الكبيرة في أول الكلمات. سيعرف أن الكلمة المكتوبة على بلدي تبدأ بالـ (آي) وليس بالـ (پي) مثل پالستينا. فماذا أقول له إن سألني أين (پالستينا)؟ كيف أشرح له الاحتلال؟

"لماذا لم يُكتب على فلسطين أنها محتلة إذن؟ لماذا لا توجد فلسطين أصلاً على الخارطة؟" سيتساءل إبني.. "هل تدعي أمي وجود أماكن غير موجودة؟" هل سيظن أنني كاذبة أم أنه سيشفق علي لكوني مختلة عقلياً وأرى ما لا وجود له.

ترددت. . .هل أؤجل شراء الكرة الأرضية والحديث عن الوجود إلى حين يكبر إبني؟ وما جدوى التأجيل إذا درسته المدرسة في أول سنواته ما اتهرب منه أنا - جبناً من المواجهة؟

هل أشرح له أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأن العالم ملئ بالمؤامرات، وأن الأقوى هو الذي يكتب التاريخ ويرسم خطوط الخرائط وحدودها، وأن بلاداً وشعوباً قد وقعت من الخريطة بقوة السلاح...ما هو دليلي على ما أزعمه؟ عندما تتحدى بمقولتك الخارطة المرسومة، عليك أن تتسلح بما هو أقوى في عين الطفل من الألوان والخطوط والأحرف الأولى. ماذا لدي لأبرهن لإبني على وجود ما لا يراه؟

اغرورقت عيناي بدمع المغلوب على أمره. إن عمره خمس سنوات أيها الظُلّام! كيف أشرح له أن أمه أتت من اللا مكان، كيف أقول له إن عائلتها تقطن في مكان تغطيه إسرائيل عن أعين العالم، لتفعل بهم ما يخدش الحياء والقانون والإنسانية؟ كيف أعلمه الثقة في الكتاب وما يقوله، بعد أن كَذَبتُه أنا في أول الطريق؟ كيف أزعم أمامه أن فلسطين حقيقة وليست من صنع خيالي، وأنها ليست كبلد الجنيات والعجائب التي يراها في الرسوم المتحركة؟

أدركت أنني بعد أن خسرت معارك الأرض في فلسطين، ومعارك الجو في بيروت، وبعد قبولي بجنسية أخرى في ألمانيا، ها هو تاريخي كله مطروح للزوال عن الخريطة.

بكيت بحرقة على مائدة الطعام، حتى شعرت بيد صغيرة دافئة على كتفي. "ماذا بك يا ماما؟" سأل ببراءة. قلت له بيأس: فلسطين موجودة، لكنهم لا يكتبون إسمها على الخريطة!"، فرد: "لا يهمك ولا تبكين! فأنا أصدقك!"

 

هينيف، ٢٣ مارس ٢٠١٧