قصائد للشَّاعر الإيطالي فاوستو ماريَّا مارتيني Fausto Maria Martini (1886-1931)
فاوستو ماريَّا مارتيني في سطور:
شاعرٌ ومسرحيٌّ وناقدٌ أدبيٌّ، وُلِدَ في 18 آب/ أغسطس 1886 في روما. درسَ في كلِّيَّة الحقوق، غير أنَّ ميوله انعطفتْ بهِ نحوَ الأدب والصَّحافة والمسرح، وقبل كلِّ شيءٍ نحوَ الشِّعر، فانضمَّ إلى جماعة "شعراء روما الشَّباب" التي كان من أبرز أعضائها الشَّاعر سِرجيو كوراتسيني. افتُتِن فاوستو ماريَّا مارتيني بالشِّعريَّةِ الغروبيَّة فكانت سماتُها جليَّةً في مجموعتيه الشِّعريَّتين الأولى والثَّانية: "ميِّتاتٌ صغيرات" 1906، و"خبزُنا" 1907، كما كان تأثُّره بباسكولي وكاردوتشي واضحاً فيهما. سافرَ إلى أميركا، وبعد عودته إلى إيطاليا سنة 1908، شعر بالحاجة إلى العزلة فاعتزل لمدَّةِ عامٍ في ديرٍ للرُّهبان الكبوشيِّين في بلدة تشيتَّادوكالِه، ثمَّ حلَّ ضيفاً على بعض الأقرباء في أحد أرياف إقليم أبروتسو، فكانت ثمرة هذه الفترة مجموعته "قصائد ريفيَّة" التي صدرت سنة 1910. لدى عودته إلى روما سنة 1909 بدأ بالعمل كناقدٍ مسرحيٍّ في مجلَّة "لاتْريبونا"، واستمرَّ هذا التَّعاون حتَّى سنة 1925 عندما انتقل إلى العمل في صحيفة "إيطاليا". في هذه الفترة صدرَ له في المسرح: "صلوات الفجر" 1910؛ "وكر القمار" 1911؛ "ثلاثيَّة إبريل" 1913؛ "الزَّنبق الأسود" 1914، ومسرحيَّاتٌ أخرى. في سنة 1915 ذهبَ طوعاً إلى القتال على الجبهة، وفي تشرين الثَّاني/ نوفمبر 1916 أصيب في الخنادق بطلقٍ ناريٍّ في الرَّأس أجبره على التَّنقُّل لثلاث سنواتٍ بين مشفىً وأخرى. وبرغمِ كلِّ أشكال الاكتئاب التي أضيفَتْ إلى ما كان يعانيه من مشاكل جسديَّة خطيرة لم يمنعه ذلك من معاودة نشاطه الصَّحفيِّ والأدبيِّ، بل إنَّ إنتاجه الأدبيَّ في ذلك العقد، بين سنة 1921 و1931، كان غنيَّاً جدَّاً، وعلى وجه الخصوص الإنتاج الرِّوائيِّ، ومن رواياته: "البكارة" 1921، وهي رواية عن مأساة الحرب الكبرى، و"القلب الذي أعطيتِنيه" 1925، و"وجوه الابن" 1928، و"النُّزول في نيويورك" 1930 والتي تُعَدُّ أشهر رواياته. وكما في شِعرِه، كذلك في مسرحيَّاتِه ورواياته، يُحافظ مارتيني على الخلفيَّة السَّوداويَّة وعلى أجواء الحزن والخوف نفسِها، فالشِّعرُ عندَه، على حدِّ قولِه، هو "الشُّعورُ بالموت". في عام 1929 غادرَ هيئة تحرير صحيفة "إيطاليا"، ولكنَّه استمرَّ في نشر القصص القصيرة والمقالات في كُبريات الصُّحف والمجلَّات. كان قد أرسلَ لتوِّه للطِّباعة عملَه الرِّوائيَّ الأخير "الصَّمت" عندما وافته المنيَّة ليلة الثَّاني عشر من نيسان/ إبريل 1931، ونُشِرَ العمل بعد وفاتِه، سنة 1932.
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "مَيِّتاتٌ صغيرات" 1906]
أغنيةٌ خريفيَّة
معكَ، أخي، الجبلَ ارتقيتُه
برعشةِ فاتحٍ؛
معكَ، أخي، لم يؤذِ عينيَّ الضَّوءُ
في قلبِ الشَّاسعِ المشهود.
اليومَ، في الخريف الحزين الذي يُحتضَر،
نمضي، متَّحدَين، عِبْرَ دربٍ واحدة...
ما عدتُ أذكرُ الأبسنتَ المرَّ
الذي جرعتُه، ولا دمَ السَّيفِ الأخير...
لا، لا أذكر: أمضي بلا حُبٍّ،
(هو ذا: جناحُ الصَّمتِ يتمزَّق،
ومن حولي تتساقط أوراقٌ صُفرٌ وحُمر،
مثلَ فراشاتٍ مَيْتة)
منزوعَ الأملِ، وخريفٌ من حولِه، ينتأ قلبي
مثلَ هيكلٍ قديم،
هيكلٍ قديمٍ بلا شموعٍ مُضاءة.....
*
غافية
غافيةٌ آنِّي: ضوءٌ خافتٌ رصين
يطوي كمثل سرٍّ
الرَّأسَ الأسمر، الرَّأسَ المائلَ
على مكتبٍ من خشب الماهوغاني.
في الظُّلمة، ذراعُها العارية
ما تزال تلامسُ كتاباً مفتوحاً:
حول ذلك العُري
الورديِّ، يرتعشُ الظَّلام...
ها آنِّي، نحو أيِّ الأقاصي
تتقدَّمُ روحُكِ العذبة،
وأنتِ ترتاحين هنا، مائلةً
على مكتبٍ من خشب الماهوغاني؟
*
نقاهة (إلى أختي)
إنَّها أوَّل شمسٍ بعد طولِ انتظار!
أوه، ما أعذبها، ما أنقاها! لها طعمُ
الطُّفولة... عذوبتها تنزلُ حتَّى
تدركَ سريري، وتبثُّ أريجَ نعناع...
أريدُ أن أنهض... ولكن، تعلمين: الهواءُ
ثقيلٌ عليَّ وأمُّنا لا تأذن...
أوه، يا لِفَيضِ الضِّياء! روحي مأخوذةٌ به،
ولكنَّ الشَّمسَ زائدةٌ على احتمالِ النَّاقِه!
أغلقي الأبجور، حاجبَ النُّورِ الأخضرِ
الصَّغيرَ، علَّه يسلبُ الشَّمسَ، الطِّفلةَ الشَّقراءَ
الهائلة، خصلةَ شعرٍ، ويقدِّمُها إليَّ؛
فألهو بها، ويدي لا تدري أنَّها
تضفرُ الذَّهب، فيما عيناي في السَّرير الغائر
تحرسان الظِّلال المبهمةَ الحزينة...
* * *
[من مجموعة "خبزُنا" 1907]
مِسبحةُ الرُّوح
يَدمى، بين القرميدِ، المساءُ.
أيَّتها الرُّوح، لا تنظري:
الحياةُ، اليومَ، مُسربلةٌ بالسَّوسن.
تفكَّري في الذي كان: ستقرئين
ماضيكِ في كتب القدَّاس المذهَّبة!
الأثاث يمدُّ ظلالاً أطول...
أيَّتها الرُّوح، لا تنظري:
عزاؤكِ
القدِّيسةُ حَنَّة التي تصلِّي مع مريم،
وملوكٌ مجوسٌ مُصغَّرون مِن ورق...
العثُّ يبدأ أعمالَه الليليَّة.
إنَّك أبداً وحيدٌ،
أيُّها الشَّاعرُ الرومانطيقيُّ، ولسوف تمرض!
أيَّتها الرُّوح، لا تصغي، إذا ما نادتكِ
الحياة، الحياةُ المسربلةُ بالسَّوسن.
الطِّفلُ المريضُ عندَ النَّافذة.
أيَّتها الرُّوح، لا تنظري:
بين الأشجارِ، كاهناتِ الظِّلالِ
الوادعات، ستقرئين، مع أختي،
ماضيكِ في كتب القدَّاس المذهَّبة!
فوق الطِّفل المريضِ خُفَّاشٌ...
أيَّتها الرُّوح البائسة،
أعلمُ لماذا تندُبين الفجرَ...
لأنَّه ناصعاً كان مثلَ قمريَّةٍ:
أيَّتها الرُّوح، ماضيكِ هو قدَرُك!
الليلُ، منزوعَ الجفون، ينظر إليكِ!
لكن في الظُّلمة، تنكفئ
القدِّيسة حَنَّة الآنَ عن الصَّلاة...
ومع هداياهم الملوكيَّة يرحل، في موكبٍ،
ملوكُ المجوسِ الورقيُّون.
سِراجٌ منيرٌ يُطفأ الآن.
صوبَ مِذوَدٍ آخر
يرحل ملوكُ المجوسِ الورقيُّون:
مريم وحيدةٌ الآن
دون حَنَّة، القدِّيسة حَنَّة، جدَّة يسوع...
*
أغنيةٌ قصيرة
يدٌ لامستْ آلةَ البِيان:
كان النَّغمُ، في الظَّهيرةِ النَّاعسة،
يتوسَّلُ الانسجامَ، وقد انطفأ الآن...
أيُّ يدٍ تُرى لامستْ آلةَ البِيان؟
هو حتماً طفلٌ لم تبلغْ يدُه،
وإن استقامَ على قدميه، المفاتيحَ السَّوداء:
عزفَ، لأنَّ خاطراً مفرطَ العذوبة ربَّما،
من بين خواطره الأُخَر، مرَّ...
في غرفتك، يا إلهي! أيُّ خرابٍ!
أيُّ رغبةٍ في النِّسيان!
بالكادِ يسقطُ، مخافةَ إيقاظِ
الأثاثِ، رمادُ السَّاعات...
على الأريكةِ حرَّكتُ الوسادتين؛
آهِ ما أثقلهما! لكأنَّهما
مملوءتان بالنِّسيان، نسيان تلك التي وعدتْ
بالرُّجوع... يا لِبؤسِ الوسادتين!
الأغنية القصيرة التي من فمكِ
هطلتْ آخرَ مرَّةٍ على روحي،
بقيتْ عطراً بين نعناعِ
النَّافذةِ ومع البنفسج...
إذا عدتِ (ولن تعودي!)
افتحي الغرفةَ بمفتاحِ الذَّهب:
فإنْ كنتِ تحملين إليَّ حياتي، تصادَي
في مدفني الغنائيِّ الصَّغير!
أمَّا إنْ كنتِ تحملين إليَّ موتي،
ففي اللازمةِ الغنائيَّةِ لأغنيةٍ قصيرة؛
أوه! تعالي ثانيةً! فلأجل أغنيةِ موتي
القصيرة آلةُ البِيان مُعَدَّة!
*
صلاةٌ قصيرةٌ إلى الشَّمس
كما لو من حمَّى، ترتعشُ الجدران،
جدرانُ القلعةِ الرَّماديَّةِ، إذْ تمسُّها الشَّمس:
البوَّابة، تلك المترنِّحة منذ عصورٍ،
تغتبط معمَّاةً بالرَّبيع،
وتعيد إلى الأرض، بين أوراق وضُمَّاتِ
الياسمين، إزارَها الخفيف...
"قلبي البائسُ معتلٌّ،
يبكي ويقول إنَّه أضاع أجنحته!...
في سجنِه ينتظركِ مبتهلاً،
يا ملكةَ القلاعِ وملكةَ المستشفيات!"
* * *
[من مجموعة "قصائد ريفيَّة" 1910]
أغنيةُ حنينٍ قصيرة
استجمعتُ المطرَ في يديَّ
لأغترفَ كما لو مِن شرابِ النِّسيان:
مطراً من سماواتٍ هامدةٍ، وبعيدة...
استذكرتُهُ ذلك الوداع البعيد،
استذكرتُ وبي شيءٌ من الموت...
سألتُ فقيراً عن بيتِك،
فقيراً إلى الخبز ربَّما، لكنْ ليسَ إلى الإيمان...
جوَّابٌ شريدٌ فتحَ لي بابَك،
استذكرتُ مَن يبكي ولا يسأل شيئاً،
استذكرتُ وبي شيءٌ من الموت...
ناديتُ مِراراً عندَ بابك،
علَّكَ تحملُني على الإيمان يوماً؛
استذكرتُها تلك النَّظرة المستغرِقة،
وتلك الابتسامة يومَ جفَّت مدامعي...
استذكرتُ وبي شيءٌ من الموت...
جمعتُ أوراق الشَّجر عن عتبةِ كلِّ بيتٍ
من البيوت، وصنعتُ منها على الطَّريق مِحرَقة،
حزناً، على آخر حلمٍ من الأحلام،
أخمدتُ في قلبي سَكْرَةَ الموتِ الأخيرة،
ولم أعد أنادي عندَ بابكَ أبداً...
*
ذكرى سنويَّة
السَّابعُ من نيسان! يومُ الرَّحيل،
صبيحةٌ مُوحِشةٌ وطافحةٌ بالشَّمس،
توديعاتٌ مُكَرَّرةٌ بلا كلمات
يبدأ من بَعْدِها عهدُ نقاهتي الطَّويل!
مريضاً كنتُ بكِ! وأيُّ مرضٍ!
لكي تُعَزِّي مسائيَ الأخير
عزفتِ على آلةِ البِيانِ موسيقى صلاةٍ
لِجونو(1)... وبالكادِ أجدتِ العزفَ!
ولكنَّكِ لم تنفعلي مثلي!
اليومَ، لم أعدْ أحبُّكِ، ولا أنتِ، يقيناً، تُحبِّينني،
أنتِ التي لم تعد رسائلُكِ تدعو
الرِّيفيَّ إلى بلدِك، إليكِ...
مع ذلك بقيَتْ في قلبي الأمواجُ، أمواجُ
أغنياتِك، والذِّكرياتُ يُضبِّبُها
حجابُ الزَّمن... "عدَدَ النُّجومِ التي في السَّماء
أريدُ أن أقبِّلَكِ!" يا لِلَيالي الغبطة!
ليالٍ نجميَّةٌ، حين يفوحُ الصَّعتر،
ويمضي العشَّاقُ متلاصقين، لأنَّ الطَّقسَ
باردٌ قليلاً، فإذا غنَّى العاشقُ، فهو
يعرف أنَّ وجه المعشوق سيتورَّدُ خجلاً...
"يا طفلتي الشَّقراء" يغنُّون عِبْرَ الدَّرب،
ويمضون متلاصقين خِيفةً
من كلِّ ظلٍّ مُريبٍ وسطَ الحشودِ المُظلِمة.
"ماذا أصنع لأخلِّصَ روحي؟"
الرُّوحُ التي لي تُشبهُ، تأمَّلي هذا، خورسَ
كنيسةٍ صغيرة، حتَّى إنَّها عندما تصمت، تظلُّ
ملأى بالأغنيات في سكونِها الصُّوفيِّ،
فيما تُطِلُّ العذراءُ مريم من ذهبِ الخلفيَّة!
لكنْ، وليس ذلك حُبَّاً بكِ! لو كان
في مُكْنَتي، لآثرتُ الرُّجوعَ
إلى بلدِك، ربَّما لكي أحدِّثكِ
عن أمورٍ لا هزلَ فيها لئلَّا تهزئي بي...
لأنَّكِ إذا ما ضحكتِ، على ركبتيَّ
سأركعُ لكي أستجدي منكِ غبطةً قصيرة: لا شيء
سوى أن أقبِّلَكِ قبلةً واحدةً خفيفةً،
كتلك القُبَل التي تمنحُها الأجفانُ للعيون.
* * *
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
هوامش:
1- شارل جونو، مؤلِّفٌ موسيقيٌّ فرنسيٌّ اشتهر بأوبرا "فاوست"