عن المعرفة والمأسسة والتعليم

عن المعرفة والمأسسة والتعليم

عن المعرفة والمأسسة والتعليم

By : Abdullah AlBayyari عبد الله البياري

استهلال مفاهيمي

لا تزال أحد أهم الأفكار التي أضاءها الحراك الثوري (المستمر، والمتراكم إلى الآن) في بلادنا، وفي بنية العقل العربي، في شأن المسافة بين المجتمع والدولة/ المؤسسة، هي أنّ تغوُّل وتنامي حجم المؤسسة وثقافتها لا يمكن مقاربته إلا باعتباره ردة لفعل، أيّ أنّ المجتمع (والفرد/ المواطن في قلبه) هما دومًا "الفعل". وبقدر زخم هذا الفعل وفعاليته على الأرض، تتحدد دومًا "ردة الفعل"، باعتبارها معاكسة له في الاتجاه، وتكاد تقاربه في المقدار. وصولًا إلى مراحل انتصر فيها المجتمع على المؤسسة (كما حدث في مصر وتونس، مرحليًّا)، وأعاد إنتاج نفسه –كظاهرة خطابية، ورمزية وإلى درجة ما مادية- بشكلٍ ما، في وقت استغلته المؤسسة لإعادة إنتاج نفسها، هي أيضًا، كموجة تالية من "ردة الفعل". ما يعني أنّ الخطوة الأولى للتغيير والبناء والتحرر والثورة هي من المجتمع، وليست من الدولة/ المؤسسة.

إذا جاز لنا اعتبار "المؤسسة" بنية ممارسة (كالانتخابات، الاستفتاءات، والتقييمات، وإصدار المناهج المدرسية، تخطيط المدن والفضاء العام، والتصريح للأحزاب وغير ذلك) فالمجتمع هو بنية إنتاج أفكار تستطيع أن تسبغ على كل أنماط الممارسات تلك –كإجراءات- شرعيّة اجتماعيّة، وبالتالي قبولًا جمعيًا لدى أفراد المجتمع. (يقول زيغمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة" (2000)، إن "السلطة هي القدرة على فعل الشيء، بينما السياسة هي القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها، وإعطاؤها أولويّة)(1).

إلا أن القطيعة بين المجتمع والمؤسسة ليست الأصل في العلاقة بينهما، فكلاهما فضاءان متقاطعان، ومتشابكان ومتعاضدان، والقطيعة بينهما، كما الصدام، في أفضل حالاتها هي حالة ثوريّة لا تمتلك ديمومة تاريخيّة، بل هي طارئة. لذا، فثمة ممارسات مؤسساتيّة، يقوم بها المجتمع لإعادة تعريف نفسه من ناحية، ولاحتواء الزخم الفكري فيه من ناحية أخرى، ما قد تستفيد منه المؤسسة/ الدولة في بعض المرات لإعادة إنتاج سلطتها على المجتمع، مثال ذلك ما أنتجته الحَراكات الإسلاميّة مما سُمّي "أسلمة المعرفة"، وهو أقرب لـ"أدلجة المعرفة". ولأن كل منظومة أيديولوجية، مهما ادعت لنفسها من قيم كالحق والخير والعدالة والتنوير والتحرر وغيرها، هي في النهاية لا تستوِ من دون مأسسة لمفهوم الذات والآخر، على أساس هذه القيم، فسرعان ما تتحول إلى مؤسسة، باسم التحرر من مؤسسة ما، وبالتالي، فلها سلوكياتها وآليات إنتاج رموزها وأفكارها، بل حتى أفرادها. وهذا الادعاء ينطبق على "أسلمة المعرفة" كما ينطبق على "الدولة الوطنيّة" عربيًا، والتي تحولت إلى آلهة متوحشة ومعسكرة باسم التحرر من الأنظمة الاستعماريّة.

لم تنج الحداثة من هذه الآفة، فمركزية العقل فيها كذات وكعملية عقلانيّة (هكذا تدّعي) عانت من إشكاليّتين من أمراض المأسسة، هما:

1. معارضة التعدد في المعنى، وبالتالي صعوبة قبول الآخر أفقيًا، باعتباره كيانًا خارجًا عن رأسيّة الأنا والهوَّ، وهذان الأخيران أساسيَّان في مبدأ الهويّة، الذي تتحدد على أساسه فاعلية الوجود ومعناه.

2. التغاضي عن إشكاليات بنيوية في بناء المعرفة من ناحيّة، وفي تاريخ الممارسة المعرفيّة من ناحيّة أخرى.

أولًا: معارضة التعدد

يقول عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان: "إنّ التعدد الذي تجده الهويّة الحديثة عبئًا، والذي تبذل المؤسسات الحديثة جهدًا للقضاء عليه (حيث يجني كلاهما طاقته الإبداعيّة المريعة من هذا المقصد بالذات) يبدو مجددًا هو القوة الوحيدة القادرة على الحدّ من القوة التدميريّة للحداثة ونزع فتيلها"(2). فيما يقول المستشرق الألماني توماس باور عن التعدد في كتابه "ثقافة الالتباس" (2011) أنا أتحدث عن التعدد الحضاري الذي يضم اللغة وكذلك الأفعال غير اللغويّة، فإذا أردنا أن نوّسع من مفهوم التعدد ليتخطى الحدث اللغوي، فعلينا أن نستمر لندرك مفهوم المعنى أيضًا المرتبط بالحدث. ]...[ تصبح القدرة على تعدد المعنى أكبر إذا ما راقبنا الحدث اللغوي وغير اللغوي على المستوى الحضاري. كما أنّ التعدد ينشأ إذا ما فُسر حدثٌ ما بطرق متعددة، أو إذا ما فُسر طبقًا لنماذج تفسير حضاريّة مختلفة مثل المعايير الاجتماعيّة المختلفة، ولذلك فتعريفي للتعدد الحضاري أقدمه كما يلي:

تنشأ ظاهرة التعدد الحضاري إذا كان لمفهوم ما أو طريقة فعل أو شيء ما عبر فترة طويلة من الزمن معنيان متناقضان، أو على الأقل مستويان مختلفان عن بعضهما بوضوح في نفس الوقت إذا اتخذت مجموعة اجتماعيّة بعض المعايير وعمليات فهم المعنى في مجالات الحياة المختلفة مواقف متناقضة ومختلفة عن بعضها البعض بشدة، أو إذا تم داخل الجماعة الواحدة قبول تفسيرات مختلفة لظاهرة واحدة حيث لا يمكن لأي منها الإقرار بامتلاك الحقيقة المطلقة"(3).

ينطلق باور هنا، من قاعدة أساسية في علم الاجتماع وعلم الإناسة، تشير –ببساطة- إلى أنه لا وجود لظاهرة غير مركبة، أو بسيطة، أو حتى ظاهرة تحمل تفسيرًا واحدًا فقط، فمثلًا لا يمكننا القول بأن 1+1=2 رياضيًا، ولا لغويًا، إذ أنه وبحسب علم الرياضيات نفسه، فإن الرقم واحد، هو تقريب لحالة من اللاتناهي من الـ0.999999، وبالتالي فمن المستحيل رياضيًا أن تكون محصلة 0.9999+0.9999999 تساوي 2. أيمكننا الانطلاق من هذا الادعاء بالقول إنه لا وجود للأرقام، وإن الصفر/ العدم هو الوجود الفعلي للكليات؟ لا طبعًا، ولكن على الأقل يمكننا بالتعدد أن ننفتح على إمكانات لا نهائية من "تعدد معنى" الظاهرة، وبالتالي منح الممارسة الفكريّة (العقلانيّة، إن جازت التسميّة) بعدًا حضاريًّا قادرًا على الاتساع للذات والآخر معًا.

يُكمل باور في كتابه "ثقافة الالتباس":
"يتأكد أنّ الأدب الأوروبي في ما قبل الحداثة، قد وصل إلى ذروته في التسامح مع التعدد في حينه، واقترب أخيرًا في تعامله الخلّاق مع القدرة على التأويل اللغوي من المستوى الذي كان بديهيًّا في الأدب العربي منذ قرون. فيما تسببت حقبة التنوير في نهاية سريعة لهذا الازدهار، فالرغبة في التعدد لا تتفق مع مشروع خلق لغة واضحة وضوحًا صارمًا يمكن بمساعدتها التعرف أكثر على أيِّ حقيقة عامة وواضحة ووصف تلك الحقيقة. كان كوندوريست يحلم بلغة عالميّة يمكن لدقتها محو كل خطأ "تساعد على خلق صرامة ودقة في كل الأشياء التي يعيها العقل الإنساني، والتي تجعل معرفة الحقيقة سهلًا وتجعل الخطأ مستحيلًا. ثم يكتسب مسار أي علم تلك الثقة مثلما في الرياضيات، وتصبح الجمل، التي تشكل نظامها أكيدة مثل قواعد الهندسة، أي تصبح أكيدة مثلما تسمح طبيعة موضوع ومنهجية هذا العلم"(4).

يقول عالم اللاهوت جون د. كابوتو في كتابه "مديح التعدد" (2001) "كل ما هو هام وقيِّم وذو معنى، مليء بالتعدد: الحب والموت، الله والألم، الصواب والخطأ، الماضي والحاضر. وعلى العكس من ذلك، إذا كان أمرٌ ما واضحًا وضوحًا لا تعدد فيه وشفاف في بساطته، فإن هذا لا يكمن إلا في أن جوهره قد استهلك وأنّ مستقبله قد انتهى"(5).

ممن عملوا على تفكيك واحديّة المعنى والفكرة كممارسة مركزيّة في الحداثة الغربيّة كان الفيلسوف الألماني، فريدريتش نيتشه، الذي زعزع الاعتقاد بوضوح العالم، ودمر الثقة الحداثيّة في إنتاج معنى واحدًا للظاهرة و/ أو الفكرة، حتى أنّ مارلو بونتي استطاع في تأمله للوجود الإنساني ومعناه أن يقول: "إن ازدواجيّة المعنى هي سمة من سمات الوجود الإنساني، وكل ما نعيشه ونفكر فيه له دائمًا عديد من المعاني"(6).

عربيًا، يحدثنا عالم الرياضيّات الفلسطيني منير فاشه عن تجربته مع عنف الحداثة، من خلال نموذجها الرياضي، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة هارفارد وشارك في وضع أسئلة امتحانات الثانوية العامة الفلسطينيّة، وفي مناقشة بحثه للدكتوراه في هارفارد عام 1984، كان قد وضع ضمن "مراجع المعرفة" في بحثه "والدته" و"الدجاجة الفلسطينيّة"، إلا أن مؤسسة حداثيّة، عقلانيّة كهارفارد لم تكن لتقبل معنى متعددًا للرياضيّات بالنسبة لبنيّة البحث وصولًا إلى والدة فاشه، التي لم تتعلم الرياضيّات، حتى أنها لم تدخل المدرسة من الأساس، وكذلك –طبعًا- الدجاجة الفلسطينيّة، فألغت هارفارد اعتماد بحث الدكتوراه خاصته، إلى أن يلغي من المراجع "الدجاجة الفلسطينيّة" و"والدته"، واستمر تعطيل البحث لمدة عام كامل، قبل أن يلغي فاشه "الدجاجة" ويبقي على والدته ضمن المراجع. يقول فاشه في لقاء مفتوح معه(7) عن تلك التجربة بأنه دَرَسَ ودَرَّس الرياضيّات، وعلم مدرسي الرياضيّات كيفية تدريسها، ووضع أسئلة امتحانات الرياضيّات للمراحل المختلفة، ولمرحلة "التوجيهي" تحديدًا، و"غير ذلك من الخرافات والخزعبلات"، في حين أن والدته "الأميّة تمامًا" والتي كانت تعمل خيّاطة، كانت تمارس الرياضيّات بشكل يومي، وأحسن منه، هو الذي دَرَسَ ودرّس الهندسة و"أشكالها الغير موجودة في الحياة"، كانت أمه هي القادرة على منحها حياة. يتحدث فاشه عن نوع مغاير من المعرفة الحرة، التي لا (ولن) تنتجها المؤسسات، سواءً مؤسسات الأكاديميا (الجامعتين اللتيِّن درس فيهما؛ بير زيت وبيت لحم، والجامعة التي تخرج فيها؛ هارفارد) أو المؤسسات الأيديولوجيّة –بحسب لوكاتش- كالمدارس.

المعرفة التي يصبو إليها التعدد هي معرفة أفقيّة، لامركزيّة، تنفتح فيها الفكرة وبناءها على كمٍ من التعدد، يعمق فاعلية الوجود الإنساني تجاهها، كممارسة ماديّة ورمزيّة، ولعل هذا ما يوضحه حديث فاشه، إذ يقول بأن والدته تملك معرفة أمدّتها بالقدرة على ممارسة فاعليّة اجتماعية مع محيطها، أيّ أنها انتقلت من مرحلة الفرد المتذرر(8) إلى الفرد المندمج لمجموعة ما، وبمحيط مادي ورمزي، في حين أن المعرفة التي أكسبته –نعني منير فاشه- إياها المعرفة الممأسسة من خلال الجامعات والمدارس، إنما هي معرفة تساعد في تذرّره ضمن مجتمعه، بل كما يصفها هي نمط من أنماط الاحتلال المعرفي، الذي يهدم حدود "الأهالي" كوحدة مجتمعيّة، ويخلق منهم أفرادًا متذرّرين.

ثانيًا: الإشكال البنيوي في تاريخ المعرفة الممأسسة وممارستها

مأسسة المعرفة بنيويًّا وممارساتيًا، مع ظهور الثورة الصناعيّة، أدى إلى قطيعة ما بين الفرد وحاجته من ناحية، والمعرفة في شأن هذه الحاجة من ناحيّة أخرى. فمنير فاشه مثلًا لا يملك المعرفة اللازمة لهندسة بناء ثوب، كما ملكتها والدته، وبالتالي فالمعرفة الممأسسة التي يمتلكها لم تُشبع الحاجة لدى من هي بحاجة إلى ثوب، أيّ أنها معرفة منقطعة عن مجتمعها وأفرادها، بلفظٍ أدق، هي معرفة لا تحيا ولا تكون إلا داخل الفضاءات الممأسسة، وبالتالي فهي حاجة مبنيّة رأسيًا، غير تبادليّة. هذا التبادل الذي رفضته لجنة بحث التخرج لشهادة الدكتوراه لفاشه، إذ لم يقبلوا تبادلًا معرفيًا مع والدة فاشه، ودجاجته الفلسطينيّة.

لنتناول مثالًا آخر؛ يوضح المعماري العراقي رفعة الجادرجي في كتابه "في سببيّة وجدليّة العمارة" (2006) ارتباط المحيط المادي والرمزي وتأثيرهما في العمارة كفنٍ وتعبير وجودييّن، ويعود ليُفَصِّل الفكرة في كتابٍ تالٍ، بعنوان دور المعمار في حضارة الإنسان" (2014)، فيقول إن مُركّب الحاجة الإنسانيّة للشيء/ المنتج/ مُصنّع، يتكون من ثلاثة أوجه:

- الحاجة النفعيّة: والتي ترضي المتطلبات الأساسيّة لتأمين الوجود، كالملجأ والنقل والحماية وغيرها، ويتجسد في شكليّة وظيفة الدار، أو الغرفة أو القلعة.

- الحاجة الرمزيّة: ترضي هذه الحاجة متطلبات هويّة الفرد والمجموعة، كما ترضي حاجة الذات الواعيّة بذاتها، لتؤمن موقعًا مناسبًا لذاتها بين الأشياء المختلف. وتتجسد هذه العلاقة عن طريق تصنيع أجسام مادية ملموسة تحمل رموزًا تُحيل إلى موقع الفرد وعلاقته بنفسه والآخر والعالم، كفخامة الدار والقصر أو شكله، أو اللباس الإثني للفرد، وغير ذلك.

- الحاجة الإستطيقيّة: وسبب ظهورها في السيكولوجيا الإنسانيّة، بحسب ما يرى الجادرجي ظرفان اثنان؛ البيولوجيا والإنتاجيّة. الأولى قفزت قفزات نوعيّة في كل مرة تزداد بها سيطرة الإنسان على محيطه والطبيعة والزمان والمكان. والثانية أسست للمزيد من القدرة على مركزة الإنسان في كل ما سبق.

بتحليل أبسط –ولو قليلًا-؛ قبل أن تنتِج المؤسسة المعرفيّة المعماري، الذي يضع نفسه وسيطًا بين الإنسان والمحيط والطبيعة والحاجة، كان الإنسان/ الفرد (كجزء من الجماعة العضويّة) هو الأقدر على بناء مسكنه وفضاءه وفراغاته، بما يشبع مكوّنات مُركب الحاجة السابقة، فكان ابن الصحراء بدرايته بمناخه ومحيطه هو الأقدر على فهم كيفية معرفة السكن والبناء وممارسة تلك المعرفة، وابن البيئة البحريّة كذلك، وابن البيئة الجبليّة أيضًا، وغير ذلك.

فجاءت الحداثة وجعلت تناقضًا بين المُصنّع (الحرفي/ المعماري) ابن البيئة وصاحب مُركّب الحاجة ومتلقّي المنتج النهائي في الوقت نفسه، وبين عملية الصناعة والبناء والعمارة كممارسة معرفيّة أولًا، وماديّة (عمليّة) ثانيًا. فنتج عن تلك القطيعة الحاجة للمعماري باعتباره وحده مالكًا للمعرفة والممارسة.
يمكن رؤية هذه القطيعة واضحة وجليّة بين نماذج معماريّة مثل أعمال المعماريّة العراقيّة الراحلة ("الحداثيّة"، كما دأبت على الدوام على تسمية نفسها) زها حديد، والمحيط التاريخي/ الزماني والجغرافيا/ المكاني، فتبدو تلك الأعمال وكأنها سقطت من السماء على الزمان والمكان، دون أن ينبني بينهما وبين العمل المعماري أي رابط، بل وأكثر من ذلك، يمكن موضعتها في أيِّ زمان ومكان آخرينِ، دون أي مشكلة موضوعيّة، فالمنتج النهائي يمثل الحداثة والمعماري معًا، قبل أن يمثل علاقته بمركّب الحاجة وزمانه ومكانه ومتلقيه.

"في ما يتعلق بمستقبل العمارة كأول الفنون، الفن الإنساني بامتياز، عليها لتعود كذلك وتتحرر من المؤسسة. حينها سيكون المعماري هو الكاتب الرسّام الفلاح. ستعود العمارة عمارة بالمعنى الاجتماعي، متى ألغينا تدريسها!" المعماري والفنان الأردني عمّار خمّاش(9).

إعادة التفكير في التربية النقديّة

أدى الحَراك الثوري العربي في بعض مراحله، إلى استعادة المجتمع لحقه في المعرفة والممارسة، وممارسة نقد للمعرفة الممأسسة التي أنتجتها الدولة/ المؤسسة، وأنماط الممارسة التي تفرضها الدولة، ما أعاد الزخم إلى المجتمع كمبادر ومُحرّك للفعل الجمعي. نتج عن ذلك، من ضمن ما نتج، مبادرات مجتمعيّة لإعادة بناء المعرفة وإعادة تحرير ممارستها، ووجهت تلك المبادرات قواها إلى نطاقات كثير، يهمنا منها التعليم.

نظّر المفكر الماركسي جورج لوكاتش (1885 – 1971) عن العلاقة بين التعليم والأيديولوجيا، باعتبار المدرسة جهازًا خطابيًا ممأسسًا قبل أيَّ شيء، أي أنها تنتج خطابًا معرفيًا متحيزًا للمؤسسة، ولا نعني التحيز للمؤسسة السياسية فحسب، ولكن للمؤسسة المعرفيّة الحداثيّة ككل، وبالتالي فإن أي محاولة مجتمعيّة لتصويب العمليّة التعليميّة، عليها أن تتعامل معها كآلية خطابية سلطويّة وليس كنموذج معرفي فحسب، نختلف أو نتفق إزاء نتائجه. بشكل أبسط، لتفكيك مأسسة ومركزيّة العمليّة التعليميّة كممارسة وكمنتج معرفي، علينا ألا نطرح مأسسة ومركزيّة قيميّة بديلة، بل علينا أن نفكك المفاهيم ونعيد بناءها كممارسة نقدية، وليس كشكل مختلف عن النتيجة، وإلا في هذه الحالة فنحن "محلّك سر". يقول المفكر المغربي عبد الله العروي: "فحينما نعي حقّ الوعي أنّ تحليل المفاهيم هو وسيلة لتنوير الذهن وتقويم المنطق، نكون قد قطعنا شوطًا بعيدًا نحو التقريب بين الفكر والعمل" (10)، وهو ما يطرحه منير فاشه، وقبله الخبير التربوي البرازيلي، باولو فريري، بديلًا للتعليم، بأن يكون تعلُّمًا.

عند تحليل المناهج المدرسيّة في بلادنا، وتحت بند "الهويّة والانتماء للوطن"(11)، علينا أن نتأمل مفهوم الهويّة، قبل أن نفرض نمطًا معينًا لها، بشكل مقابل لنمط آخر، ونطالب هذا الشكل أو ذاك بأشكال محددة سلفًا "للانتماء". إذا كانت المشكلة هي الأنماط المختلفة للهوية، فطرح بديل صلب ومباشر لا يؤسس للإجابة عن سؤال الهويّة، إنما يبدل هويّة بهويّة أخرى، من خلال مؤسسة أبويّة وممارسة مركزيّة رأسيّة، لا تقل قمعًا عن سابقتها، ولن تختلف من حيث النتيجة إلا للأسوأ.

الهويّة كممارسة فرديّة وجمعيّة لها مركباتها الحيّة والديناميكيّة، كالذاكراتي منها، والديني، الثقافي والجغرافي والسردي، الاجتماعي والسياسي والشخصي والقيمي –والذي سنعود إليه لاحقًا كممارسة قمعيّة- وغير ذلك الكثير، وكل هذه المركبات متغيّرة بتغير الزخم المحايث للسياق الحضاري للجماعة العضويّة من ناحية، ومن أخرى، بالحوار الذاتي الفردي بين تلك المركبات والذات الإنسانيّة بين مشترك ومتفرد ضمن تجربة فرديّة وجمعيّة.

إن أي محاولة لفرض نموذج هوياتي معين، ضمن معايير أدائيّة معينة، تجعل من تلك الهوية إما أبيض أو أسود، ضمن قيم ممأسسة، لا تقبل التعدد ولا التنوع، إنما تجعل "الانتماء" و"الوطن" فضاءات مصمتة وصلبة، على الأفراد وهوياتهم أن تناسبها بمعاييرها، في حين أن الهويّة لا معايير لها، إنما هي حالة من الإمكان المستمر. كما أن مفهوم الآخر، يتحدد ويتأثر بفكرة الذات، أي ذات مقموعة الهويّة، لن تجد في آخرها إلا قامعًا لها أو تهديدًا لوجودها.

لدى تحليل المناهج المدرسيّة، طُرح بند ُسمي "دور المرأة"، تناول "المرأة"، لا باعتبارها "ذاتًا" لها حريّة الوجود وأنماط كتابة نفسها بنفسها، إنما باعتبارها "موضوعة" تخضع لبنية خطابيّة ممأسسة وخارجة عنها في الوقت نفسه، وتكاد تكون وحدها في فضاء التحليل، معروضة لمشارط الجراحين والمُقيِّمين (الذكور طبعًا، فلا موضوعة دون مَن يموضعها ويكتبها).

"تُلقن" "أهمية دور المرأة في المجتمع" لا لذاتها، إنما لمن يوزع الأدوار، هذا الدور الذي لم يطرح مانحه وموزعه للتحليل في فضاء المناهج خطابيًا، حينها تصبح "المرأة" كائنًا طرفيًا في مجتمع تتحكم فيه ذكورة وأبويّة، قررت أن تلقن الطلاب "مكانة" "المرأة"، تلقينًا. ولعل هذا هو السبب في غياب أي تحليل منهجي للمضامين الجندريّة في المناهج، والاكتفاء برتوش ممارساتية، لا تفكك أصل ظاهرة توزيع الفضاء العام في الخطاب والممارسة والمعرفة، ولا تقترب قيد أنملة من البنى السلوكيّة والقيمية والسيكولوجيّة في المناهج والمدارس، وتوزيعها الجندري.

كانت أحد محاولات المؤسسة/ الدولة لامتصاص زخم الحَراك الثوري في مصر في عام2011، أن تستحوذ حق منح القيم، كمحاولة منها لإجهاد الزخم الثوري، ممارساتيًّا وخطابيًا. فالثورة التي طرحت "الحريّة" و"العدالة" كمنظومة قيم جمعيّة، فرضت مقابلها المؤسسة/ الدولة قيمًا أخرى، متحايلة على الفارق بين القيمة والممارسة، فسرعان ما طرحت الديمقراطيّة كأنها قيمة ثوريّة، في حين أن الحريّة تختلف تمام الاختلاف عن الديمقراطيّة (هتلر وترامب نجحوا ديمقراطيًا!).

محاولة فرض قيم واستحواذ الحق في تسميتها هي محاولة قمعيّة، تمارسها المؤسسة منذ قديم الأزل. حصر مفهوم القيمة في الحق والخير والجمال، دون غيرها لا يختلف شيئًا عن تلك الممارسات السلطويّة، لسبب بسيط، أن هذا الادعاء إنما يتجاهل ويتعمد التغاضي عن بناء مفهوم القيمة، وسنحصر في تحديدها، ما الذي يجعل الحق قيمة؟ ما الذي لا يجعل العدالة أو الصدق قيمة؟ أسئلة كهذه، ببساطة، تفكك المؤسسة واستحواذاتها القمعيّة على الأفكار والمعاني.

إذا أعدنا التذكير بمقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 – 1976) بأننا كائنات لغويّة، وأشرنا إلى اللغة باعتبارها آليّة خطابية في ذاتها، تمارس عنفًا إدراكيًّا على الظواهر ضمن ثنائيّات متحيزة، فتُخرس ما/ من تريد وتُنطق ما/ من تريد، ألا يجعل كل ذلك –وغيره- من سؤال "اللغة" عن تحيزاتها ومضامينها ونحوها وصرفها وبلاغتها وسيرورتها، ضمن الخطاب المدرسي سؤالًا نقديًا لا بد منه لبحث أثر اللغة و/ في المناهج على إدراك الطلبة وتعلّمهم، وكيفية تمظهر العالم والظواهر لهم/ ن؟!

يقول الفيلسوف التربوي باولو فيريري: "هناك علاقة أكيدة بين الفكر واللغة كتعبير عن فعل التفكير نفسه وسيرورته. لغتي وتفكيري هما وحدة واحدة، لكنها دايالكتيكيّة ومتحولة ]...[ إنّ إحدى المهمات الرئيسيّة للتربيّة النقديّة والتربيّة الراديكاليّة في اعتقادي أن تساعد التفكير النقدي لكي يخلق نفسه من جديد في كل مرة، مع تبدل السيّاق الذي يتحرك فيه"(13).

ما معنى أن يكون "تحليل المناهج"، ببساطة، هو عملية تمجيد للممارسة الممأسسة والمركزيّة في الدولة؟ فتصبح حينها المدينة أفضل من القرية، بمقياس رأسي، وعلينا أن نحارب هجرة أهل القرى إلى المدن باسم "رفض هجرة القرى إلى المدن"(12). كيف يمكن التعامل مع مثل تلك الظواهر من دون تفكيك الجانب الثقافي لظاهرة المدينة والقرية وعلاقته بالدولة الوطنية التي تسمي نفسها "ما بعد استعماريّة"، ودون التعريج على صيرورة القرية والمدينة في بلادنا؟ وإذا كانت الثيمة الأساسيّة لرسم حدود الجماعة الوطنية المتخيلة هي التحرر من الاستعمار، أليس من الواجب إبراز التاريخ القروي والمديني في مواجهة الاستعمار؟ أم أن الحداثة في صورة الدولة الحديثة، هي محاولة للانتقام من القرية وموقفها؟

يتجلى التحيز والممارسة الممأسسة في هذا التحليل للمناهج التعليمية، على هوى ما يفيدنا لوكاتش في شأن الأدلجة في الخطاب التعليمي، في الانتصار لصالح المؤسسة/ الدولة على حساب المجتمع، فتصبح أي مبادرات مجتمعية، يمارس الفرد و/ أو المجتمع من خلالها مواجهته مع زمانه ومكانه، لا موقع ولا فائدة منها/ لها ما لم تمر من خلال مؤسسة الدولة، هو تمامًا سلوك يتمرأى مع فكرة أنّ المعرفة لا تمر إلا من خلال المؤسسة لتصبح فاعلة وذات قيمة، وبالتالي فتصبح المعرفة والممارسة المجتمعية لا قيمة لها ما لن تمر من خلال مؤسسة المدرسة والدولة.

كل هذه الممارسات –وإن كانت- باسم "تحليل المناهج المدرسيّة" و"تفعيل التفكير النقدي"، هي في حقيقتها البنيويّة ما هي إلا تنويعات على عمليات متطابقة –أو متوازيّة- من مأسسة المعرفة، وإلغاء فرادة الوجود الذاتي، والعلاقة الاجتماعية الأفقيّة للفرد والفكرة والمجتمع بذاته وهويته ومحيطه وسياقه، لصالح رأسية هيراركيّة تستبطنها تلك الآليات لتشرعن التعليم، لا باعتباره آلية ممارسة نقدية واكتشاف، إنما باعتباره آليّة تنميط وأدلجة، تنبني في داخلها على مركزية المؤسسة كمصدر وحيد وأوحد للمعرفة، وبذا يظل التعليم تعليمًا، وليس تعلّمًا.

الهوامش:

1. زيغمونت باومان، "الحداثة السائلة"، ص26.

2: زيغمونت باومان، مقتبس من "ثقافة الالتباس" لتوماس باور، دار الجمل، ص25.

3. توماس باور، "ثقافة الالتباس"، ص33.

4. المصدر نفسه، ص33.

5. J. Capyto, "In Praise of Ambiguity"، ص 15.

6. ,Ullrich, "Philosophische Beriffsgeschichte"، ص 154.

7. https://www.youtube.com/watch?v=D0MVsJhTdSQ&t=3s

8. نعني بكلمة "المتذرر"، أي الفرد الموجود في "الحالة الذريّة"، والاقتباس من "حالة الذرة" في علم الكيمياء، فالذرة هي الحالة الأصلية للعنصر، في أبسط صورها، والذرات المختلفة باجتماعها سوية تكوّن المركبات كما هو الماء مثلّا؛ H2O، والمكوّن من ذرتين هيدروجين، وذرة أكسجين، واجتماع الذرات من نفس العنصر لا يخلق وحدة بينهما، فالهيدروجين مثلًا، مهما اجتمع مع نفسه يظل هيدروجينًا. والأفراد المتذررين هم الأفراد الموزعين فرادى غير قادرين على تقديم جديد، لا يعرفون عن أنفسهم إلا نفسها، باشتباهها مع مثيلاتها، وليس باختلافها. وهذه حالة من الأليغوريا عن ضرورة التعدد والاختلاف معًا. جدير بالذكر أنّ أول من استخدم وصف "التذرر"، هو المفكر العربي د. عزمي بشارة، في كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة" (2003)

9. في حديث شخصي مع الكاتب، على هامش أحد المعارض في مؤسسة خالد شومان، دارّة الفنون في عمان، الأردن، 2017.

10. اقتباس عن مقالة للباحثة اللبنانيّة ريتا فرج، نُشرت في مجلة العربي العدد 704، تموز/ يوليو 2017.

11. من ضمن مبادرة للنهضة التربويّة، طُرحت خطة لتحليل المناهج المدرسية في الأردن، وهذا أحد عناصرها.

12. من ضمن مبادرة للنهضة التربويّة، طُرحت خطة لتحليل المناهج المدرسية في الأردن، وهذا أحد عناصرها.

13. باولو فيريري، "التربية للمقهورين والطريق للتحرير"، معهد الدراسات مدرسة السلام، ص24.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • عن أصوات المدينة: مقاربات متداخلة تتوخى الصمت

      عن أصوات المدينة: مقاربات متداخلة تتوخى الصمت

      كُتبت هذه المادة على هامش ورشة بحثية فنية عن موضوعة أصوات المدينة، تتناول المدن التالية: القاهرة، رام الله، نابلس، دمشق، مسقط وأخيرًا عمّان.

    • يولّا وأخواته": قراءة نقديّة في سيرورة الجسد والمدينة"

      يولّا وأخواته": قراءة نقديّة في سيرورة الجسد والمدينة"

      ليست الكتابة عمليّة محايدة، وافتراض عكس ذلك يتجاوز مفهوم الكتابة بصفته مفهومًا وجوديًّا للشيء/ الذات. يقول جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة"، إنّ "هناك رابطة طبيعية تسلسلية بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير". فالعنف في الكتابة، متمثّلًا في "التدمير"، "عنف جسدي كما هو لغوي – عنف دمار العالم، عنف نهاية الوجود"، كما يصفه لوسكرل. "فالتدمير المذكور مصدر ألم ومعافاة في الوقت نفسه، إنّه علاج مؤلم، كما اللغة نفسها، نظيرته، إذ تفعل اللغة وتدمّر أيضًا، للأفضل وللأسوأ".  وكما أنّ "الكتابة جسّدت العالم في مكان ما"، فهي، أيضًا، "موضعة محدّدة لفكرة مجرّدة". و"الكتابة "كسلسلة من الإشارات الصغيرة تسير في خطّ منتظم كجيوش النمل، عبر صفحات وصفحات من الورق الأبيض"، باتّجاه فكرة ما، ومكان ما، وجسد ما.

    • آخر أيّام المدينة - الجزء الثاني

      آخر أيّام المدينة - الجزء الثاني

      في كتابه "المُجتمعات المُتخيّلة" (1983) يناقش "بندكت أندرسن" (1936 - 2015) فكرة الدولة القوميّة باعتبارها ظاهرة حداثيّة، ويرى "الأمّة" فضاءً مُتخيّلًا لأنّ جميع أفرادها غير قادرين/قادرات على خلق تواصل مباشر وعميق في ما بينهم/ن من خلال عمليّة "التخيُّل" ومضامينها ومُحرّكاتها، باعتبارها ما يوحدهم/ن، لتُرسم بناءً على ذلك حدودُ الدولة. عبر المُمارسات اليوميّة –الفرديّة والجمعيّة- يُخلق تسلسل زمني/كرونولوجي يصوغ سرديّة المجتمع ويجعل منها حبكة متماسكة، يتحرك من خلالها أفراده. واستمراريّة الممارسات القوميّة اليوميّة تضفي على سرديّة المجتمع معنًى واضحًا، وذلك عَبْر مَوْضَعتها ضمن خطّ زمنيّ مستمر.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬