استهلال مفاهيمي
لا تزال أحد أهم الأفكار التي أضاءها الحراك الثوري (المستمر، والمتراكم إلى الآن) في بلادنا، وفي بنية العقل العربي، في شأن المسافة بين المجتمع والدولة/ المؤسسة، هي أنّ تغوُّل وتنامي حجم المؤسسة وثقافتها لا يمكن مقاربته إلا باعتباره ردة لفعل، أيّ أنّ المجتمع (والفرد/ المواطن في قلبه) هما دومًا "الفعل". وبقدر زخم هذا الفعل وفعاليته على الأرض، تتحدد دومًا "ردة الفعل"، باعتبارها معاكسة له في الاتجاه، وتكاد تقاربه في المقدار. وصولًا إلى مراحل انتصر فيها المجتمع على المؤسسة (كما حدث في مصر وتونس، مرحليًّا)، وأعاد إنتاج نفسه –كظاهرة خطابية، ورمزية وإلى درجة ما مادية- بشكلٍ ما، في وقت استغلته المؤسسة لإعادة إنتاج نفسها، هي أيضًا، كموجة تالية من "ردة الفعل". ما يعني أنّ الخطوة الأولى للتغيير والبناء والتحرر والثورة هي من المجتمع، وليست من الدولة/ المؤسسة.
إذا جاز لنا اعتبار "المؤسسة" بنية ممارسة (كالانتخابات، الاستفتاءات، والتقييمات، وإصدار المناهج المدرسية، تخطيط المدن والفضاء العام، والتصريح للأحزاب وغير ذلك) فالمجتمع هو بنية إنتاج أفكار تستطيع أن تسبغ على كل أنماط الممارسات تلك –كإجراءات- شرعيّة اجتماعيّة، وبالتالي قبولًا جمعيًا لدى أفراد المجتمع. (يقول زيغمونت باومان في كتابه "الحداثة السائلة" (2000)، إن "السلطة هي القدرة على فعل الشيء، بينما السياسة هي القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها، وإعطاؤها أولويّة)(1).
إلا أن القطيعة بين المجتمع والمؤسسة ليست الأصل في العلاقة بينهما، فكلاهما فضاءان متقاطعان، ومتشابكان ومتعاضدان، والقطيعة بينهما، كما الصدام، في أفضل حالاتها هي حالة ثوريّة لا تمتلك ديمومة تاريخيّة، بل هي طارئة. لذا، فثمة ممارسات مؤسساتيّة، يقوم بها المجتمع لإعادة تعريف نفسه من ناحية، ولاحتواء الزخم الفكري فيه من ناحية أخرى، ما قد تستفيد منه المؤسسة/ الدولة في بعض المرات لإعادة إنتاج سلطتها على المجتمع، مثال ذلك ما أنتجته الحَراكات الإسلاميّة مما سُمّي "أسلمة المعرفة"، وهو أقرب لـ"أدلجة المعرفة". ولأن كل منظومة أيديولوجية، مهما ادعت لنفسها من قيم كالحق والخير والعدالة والتنوير والتحرر وغيرها، هي في النهاية لا تستوِ من دون مأسسة لمفهوم الذات والآخر، على أساس هذه القيم، فسرعان ما تتحول إلى مؤسسة، باسم التحرر من مؤسسة ما، وبالتالي، فلها سلوكياتها وآليات إنتاج رموزها وأفكارها، بل حتى أفرادها. وهذا الادعاء ينطبق على "أسلمة المعرفة" كما ينطبق على "الدولة الوطنيّة" عربيًا، والتي تحولت إلى آلهة متوحشة ومعسكرة باسم التحرر من الأنظمة الاستعماريّة.
لم تنج الحداثة من هذه الآفة، فمركزية العقل فيها كذات وكعملية عقلانيّة (هكذا تدّعي) عانت من إشكاليّتين من أمراض المأسسة، هما:
1. معارضة التعدد في المعنى، وبالتالي صعوبة قبول الآخر أفقيًا، باعتباره كيانًا خارجًا عن رأسيّة الأنا والهوَّ، وهذان الأخيران أساسيَّان في مبدأ الهويّة، الذي تتحدد على أساسه فاعلية الوجود ومعناه.
2. التغاضي عن إشكاليات بنيوية في بناء المعرفة من ناحيّة، وفي تاريخ الممارسة المعرفيّة من ناحيّة أخرى.
أولًا: معارضة التعدد
يقول عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان: "إنّ التعدد الذي تجده الهويّة الحديثة عبئًا، والذي تبذل المؤسسات الحديثة جهدًا للقضاء عليه (حيث يجني كلاهما طاقته الإبداعيّة المريعة من هذا المقصد بالذات) يبدو مجددًا هو القوة الوحيدة القادرة على الحدّ من القوة التدميريّة للحداثة ونزع فتيلها"(2). فيما يقول المستشرق الألماني توماس باور عن التعدد في كتابه "ثقافة الالتباس" (2011) أنا أتحدث عن التعدد الحضاري الذي يضم اللغة وكذلك الأفعال غير اللغويّة، فإذا أردنا أن نوّسع من مفهوم التعدد ليتخطى الحدث اللغوي، فعلينا أن نستمر لندرك مفهوم المعنى أيضًا المرتبط بالحدث. ]...[ تصبح القدرة على تعدد المعنى أكبر إذا ما راقبنا الحدث اللغوي وغير اللغوي على المستوى الحضاري. كما أنّ التعدد ينشأ إذا ما فُسر حدثٌ ما بطرق متعددة، أو إذا ما فُسر طبقًا لنماذج تفسير حضاريّة مختلفة مثل المعايير الاجتماعيّة المختلفة، ولذلك فتعريفي للتعدد الحضاري أقدمه كما يلي:
تنشأ ظاهرة التعدد الحضاري إذا كان لمفهوم ما أو طريقة فعل أو شيء ما عبر فترة طويلة من الزمن معنيان متناقضان، أو على الأقل مستويان مختلفان عن بعضهما بوضوح في نفس الوقت إذا اتخذت مجموعة اجتماعيّة بعض المعايير وعمليات فهم المعنى في مجالات الحياة المختلفة مواقف متناقضة ومختلفة عن بعضها البعض بشدة، أو إذا تم داخل الجماعة الواحدة قبول تفسيرات مختلفة لظاهرة واحدة حيث لا يمكن لأي منها الإقرار بامتلاك الحقيقة المطلقة"(3).
ينطلق باور هنا، من قاعدة أساسية في علم الاجتماع وعلم الإناسة، تشير –ببساطة- إلى أنه لا وجود لظاهرة غير مركبة، أو بسيطة، أو حتى ظاهرة تحمل تفسيرًا واحدًا فقط، فمثلًا لا يمكننا القول بأن 1+1=2 رياضيًا، ولا لغويًا، إذ أنه وبحسب علم الرياضيات نفسه، فإن الرقم واحد، هو تقريب لحالة من اللاتناهي من الـ0.999999، وبالتالي فمن المستحيل رياضيًا أن تكون محصلة 0.9999+0.9999999 تساوي 2. أيمكننا الانطلاق من هذا الادعاء بالقول إنه لا وجود للأرقام، وإن الصفر/ العدم هو الوجود الفعلي للكليات؟ لا طبعًا، ولكن على الأقل يمكننا بالتعدد أن ننفتح على إمكانات لا نهائية من "تعدد معنى" الظاهرة، وبالتالي منح الممارسة الفكريّة (العقلانيّة، إن جازت التسميّة) بعدًا حضاريًّا قادرًا على الاتساع للذات والآخر معًا.
يُكمل باور في كتابه "ثقافة الالتباس":
"يتأكد أنّ الأدب الأوروبي في ما قبل الحداثة، قد وصل إلى ذروته في التسامح مع التعدد في حينه، واقترب أخيرًا في تعامله الخلّاق مع القدرة على التأويل اللغوي من المستوى الذي كان بديهيًّا في الأدب العربي منذ قرون. فيما تسببت حقبة التنوير في نهاية سريعة لهذا الازدهار، فالرغبة في التعدد لا تتفق مع مشروع خلق لغة واضحة وضوحًا صارمًا يمكن بمساعدتها التعرف أكثر على أيِّ حقيقة عامة وواضحة ووصف تلك الحقيقة. كان كوندوريست يحلم بلغة عالميّة يمكن لدقتها محو كل خطأ "تساعد على خلق صرامة ودقة في كل الأشياء التي يعيها العقل الإنساني، والتي تجعل معرفة الحقيقة سهلًا وتجعل الخطأ مستحيلًا. ثم يكتسب مسار أي علم تلك الثقة مثلما في الرياضيات، وتصبح الجمل، التي تشكل نظامها أكيدة مثل قواعد الهندسة، أي تصبح أكيدة مثلما تسمح طبيعة موضوع ومنهجية هذا العلم"(4).
يقول عالم اللاهوت جون د. كابوتو في كتابه "مديح التعدد" (2001) "كل ما هو هام وقيِّم وذو معنى، مليء بالتعدد: الحب والموت، الله والألم، الصواب والخطأ، الماضي والحاضر. وعلى العكس من ذلك، إذا كان أمرٌ ما واضحًا وضوحًا لا تعدد فيه وشفاف في بساطته، فإن هذا لا يكمن إلا في أن جوهره قد استهلك وأنّ مستقبله قد انتهى"(5).
ممن عملوا على تفكيك واحديّة المعنى والفكرة كممارسة مركزيّة في الحداثة الغربيّة كان الفيلسوف الألماني، فريدريتش نيتشه، الذي زعزع الاعتقاد بوضوح العالم، ودمر الثقة الحداثيّة في إنتاج معنى واحدًا للظاهرة و/ أو الفكرة، حتى أنّ مارلو بونتي استطاع في تأمله للوجود الإنساني ومعناه أن يقول: "إن ازدواجيّة المعنى هي سمة من سمات الوجود الإنساني، وكل ما نعيشه ونفكر فيه له دائمًا عديد من المعاني"(6).
عربيًا، يحدثنا عالم الرياضيّات الفلسطيني منير فاشه عن تجربته مع عنف الحداثة، من خلال نموذجها الرياضي، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة هارفارد وشارك في وضع أسئلة امتحانات الثانوية العامة الفلسطينيّة، وفي مناقشة بحثه للدكتوراه في هارفارد عام 1984، كان قد وضع ضمن "مراجع المعرفة" في بحثه "والدته" و"الدجاجة الفلسطينيّة"، إلا أن مؤسسة حداثيّة، عقلانيّة كهارفارد لم تكن لتقبل معنى متعددًا للرياضيّات بالنسبة لبنيّة البحث وصولًا إلى والدة فاشه، التي لم تتعلم الرياضيّات، حتى أنها لم تدخل المدرسة من الأساس، وكذلك –طبعًا- الدجاجة الفلسطينيّة، فألغت هارفارد اعتماد بحث الدكتوراه خاصته، إلى أن يلغي من المراجع "الدجاجة الفلسطينيّة" و"والدته"، واستمر تعطيل البحث لمدة عام كامل، قبل أن يلغي فاشه "الدجاجة" ويبقي على والدته ضمن المراجع. يقول فاشه في لقاء مفتوح معه(7) عن تلك التجربة بأنه دَرَسَ ودَرَّس الرياضيّات، وعلم مدرسي الرياضيّات كيفية تدريسها، ووضع أسئلة امتحانات الرياضيّات للمراحل المختلفة، ولمرحلة "التوجيهي" تحديدًا، و"غير ذلك من الخرافات والخزعبلات"، في حين أن والدته "الأميّة تمامًا" والتي كانت تعمل خيّاطة، كانت تمارس الرياضيّات بشكل يومي، وأحسن منه، هو الذي دَرَسَ ودرّس الهندسة و"أشكالها الغير موجودة في الحياة"، كانت أمه هي القادرة على منحها حياة. يتحدث فاشه عن نوع مغاير من المعرفة الحرة، التي لا (ولن) تنتجها المؤسسات، سواءً مؤسسات الأكاديميا (الجامعتين اللتيِّن درس فيهما؛ بير زيت وبيت لحم، والجامعة التي تخرج فيها؛ هارفارد) أو المؤسسات الأيديولوجيّة –بحسب لوكاتش- كالمدارس.
المعرفة التي يصبو إليها التعدد هي معرفة أفقيّة، لامركزيّة، تنفتح فيها الفكرة وبناءها على كمٍ من التعدد، يعمق فاعلية الوجود الإنساني تجاهها، كممارسة ماديّة ورمزيّة، ولعل هذا ما يوضحه حديث فاشه، إذ يقول بأن والدته تملك معرفة أمدّتها بالقدرة على ممارسة فاعليّة اجتماعية مع محيطها، أيّ أنها انتقلت من مرحلة الفرد المتذرر(8) إلى الفرد المندمج لمجموعة ما، وبمحيط مادي ورمزي، في حين أن المعرفة التي أكسبته –نعني منير فاشه- إياها المعرفة الممأسسة من خلال الجامعات والمدارس، إنما هي معرفة تساعد في تذرّره ضمن مجتمعه، بل كما يصفها هي نمط من أنماط الاحتلال المعرفي، الذي يهدم حدود "الأهالي" كوحدة مجتمعيّة، ويخلق منهم أفرادًا متذرّرين.
ثانيًا: الإشكال البنيوي في تاريخ المعرفة الممأسسة وممارستها
مأسسة المعرفة بنيويًّا وممارساتيًا، مع ظهور الثورة الصناعيّة، أدى إلى قطيعة ما بين الفرد وحاجته من ناحية، والمعرفة في شأن هذه الحاجة من ناحيّة أخرى. فمنير فاشه مثلًا لا يملك المعرفة اللازمة لهندسة بناء ثوب، كما ملكتها والدته، وبالتالي فالمعرفة الممأسسة التي يمتلكها لم تُشبع الحاجة لدى من هي بحاجة إلى ثوب، أيّ أنها معرفة منقطعة عن مجتمعها وأفرادها، بلفظٍ أدق، هي معرفة لا تحيا ولا تكون إلا داخل الفضاءات الممأسسة، وبالتالي فهي حاجة مبنيّة رأسيًا، غير تبادليّة. هذا التبادل الذي رفضته لجنة بحث التخرج لشهادة الدكتوراه لفاشه، إذ لم يقبلوا تبادلًا معرفيًا مع والدة فاشه، ودجاجته الفلسطينيّة.
لنتناول مثالًا آخر؛ يوضح المعماري العراقي رفعة الجادرجي في كتابه "في سببيّة وجدليّة العمارة" (2006) ارتباط المحيط المادي والرمزي وتأثيرهما في العمارة كفنٍ وتعبير وجودييّن، ويعود ليُفَصِّل الفكرة في كتابٍ تالٍ، بعنوان دور المعمار في حضارة الإنسان" (2014)، فيقول إن مُركّب الحاجة الإنسانيّة للشيء/ المنتج/ مُصنّع، يتكون من ثلاثة أوجه:
- الحاجة النفعيّة: والتي ترضي المتطلبات الأساسيّة لتأمين الوجود، كالملجأ والنقل والحماية وغيرها، ويتجسد في شكليّة وظيفة الدار، أو الغرفة أو القلعة.
- الحاجة الرمزيّة: ترضي هذه الحاجة متطلبات هويّة الفرد والمجموعة، كما ترضي حاجة الذات الواعيّة بذاتها، لتؤمن موقعًا مناسبًا لذاتها بين الأشياء المختلف. وتتجسد هذه العلاقة عن طريق تصنيع أجسام مادية ملموسة تحمل رموزًا تُحيل إلى موقع الفرد وعلاقته بنفسه والآخر والعالم، كفخامة الدار والقصر أو شكله، أو اللباس الإثني للفرد، وغير ذلك.
- الحاجة الإستطيقيّة: وسبب ظهورها في السيكولوجيا الإنسانيّة، بحسب ما يرى الجادرجي ظرفان اثنان؛ البيولوجيا والإنتاجيّة. الأولى قفزت قفزات نوعيّة في كل مرة تزداد بها سيطرة الإنسان على محيطه والطبيعة والزمان والمكان. والثانية أسست للمزيد من القدرة على مركزة الإنسان في كل ما سبق.
بتحليل أبسط –ولو قليلًا-؛ قبل أن تنتِج المؤسسة المعرفيّة المعماري، الذي يضع نفسه وسيطًا بين الإنسان والمحيط والطبيعة والحاجة، كان الإنسان/ الفرد (كجزء من الجماعة العضويّة) هو الأقدر على بناء مسكنه وفضاءه وفراغاته، بما يشبع مكوّنات مُركب الحاجة السابقة، فكان ابن الصحراء بدرايته بمناخه ومحيطه هو الأقدر على فهم كيفية معرفة السكن والبناء وممارسة تلك المعرفة، وابن البيئة البحريّة كذلك، وابن البيئة الجبليّة أيضًا، وغير ذلك.
فجاءت الحداثة وجعلت تناقضًا بين المُصنّع (الحرفي/ المعماري) ابن البيئة وصاحب مُركّب الحاجة ومتلقّي المنتج النهائي في الوقت نفسه، وبين عملية الصناعة والبناء والعمارة كممارسة معرفيّة أولًا، وماديّة (عمليّة) ثانيًا. فنتج عن تلك القطيعة الحاجة للمعماري باعتباره وحده مالكًا للمعرفة والممارسة.
يمكن رؤية هذه القطيعة واضحة وجليّة بين نماذج معماريّة مثل أعمال المعماريّة العراقيّة الراحلة ("الحداثيّة"، كما دأبت على الدوام على تسمية نفسها) زها حديد، والمحيط التاريخي/ الزماني والجغرافيا/ المكاني، فتبدو تلك الأعمال وكأنها سقطت من السماء على الزمان والمكان، دون أن ينبني بينهما وبين العمل المعماري أي رابط، بل وأكثر من ذلك، يمكن موضعتها في أيِّ زمان ومكان آخرينِ، دون أي مشكلة موضوعيّة، فالمنتج النهائي يمثل الحداثة والمعماري معًا، قبل أن يمثل علاقته بمركّب الحاجة وزمانه ومكانه ومتلقيه.
"في ما يتعلق بمستقبل العمارة كأول الفنون، الفن الإنساني بامتياز، عليها لتعود كذلك وتتحرر من المؤسسة. حينها سيكون المعماري هو الكاتب الرسّام الفلاح. ستعود العمارة عمارة بالمعنى الاجتماعي، متى ألغينا تدريسها!" المعماري والفنان الأردني عمّار خمّاش(9).
إعادة التفكير في التربية النقديّة
أدى الحَراك الثوري العربي في بعض مراحله، إلى استعادة المجتمع لحقه في المعرفة والممارسة، وممارسة نقد للمعرفة الممأسسة التي أنتجتها الدولة/ المؤسسة، وأنماط الممارسة التي تفرضها الدولة، ما أعاد الزخم إلى المجتمع كمبادر ومُحرّك للفعل الجمعي. نتج عن ذلك، من ضمن ما نتج، مبادرات مجتمعيّة لإعادة بناء المعرفة وإعادة تحرير ممارستها، ووجهت تلك المبادرات قواها إلى نطاقات كثير، يهمنا منها التعليم.
نظّر المفكر الماركسي جورج لوكاتش (1885 – 1971) عن العلاقة بين التعليم والأيديولوجيا، باعتبار المدرسة جهازًا خطابيًا ممأسسًا قبل أيَّ شيء، أي أنها تنتج خطابًا معرفيًا متحيزًا للمؤسسة، ولا نعني التحيز للمؤسسة السياسية فحسب، ولكن للمؤسسة المعرفيّة الحداثيّة ككل، وبالتالي فإن أي محاولة مجتمعيّة لتصويب العمليّة التعليميّة، عليها أن تتعامل معها كآلية خطابية سلطويّة وليس كنموذج معرفي فحسب، نختلف أو نتفق إزاء نتائجه. بشكل أبسط، لتفكيك مأسسة ومركزيّة العمليّة التعليميّة كممارسة وكمنتج معرفي، علينا ألا نطرح مأسسة ومركزيّة قيميّة بديلة، بل علينا أن نفكك المفاهيم ونعيد بناءها كممارسة نقدية، وليس كشكل مختلف عن النتيجة، وإلا في هذه الحالة فنحن "محلّك سر". يقول المفكر المغربي عبد الله العروي: "فحينما نعي حقّ الوعي أنّ تحليل المفاهيم هو وسيلة لتنوير الذهن وتقويم المنطق، نكون قد قطعنا شوطًا بعيدًا نحو التقريب بين الفكر والعمل" (10)، وهو ما يطرحه منير فاشه، وقبله الخبير التربوي البرازيلي، باولو فريري، بديلًا للتعليم، بأن يكون تعلُّمًا.
عند تحليل المناهج المدرسيّة في بلادنا، وتحت بند "الهويّة والانتماء للوطن"(11)، علينا أن نتأمل مفهوم الهويّة، قبل أن نفرض نمطًا معينًا لها، بشكل مقابل لنمط آخر، ونطالب هذا الشكل أو ذاك بأشكال محددة سلفًا "للانتماء". إذا كانت المشكلة هي الأنماط المختلفة للهوية، فطرح بديل صلب ومباشر لا يؤسس للإجابة عن سؤال الهويّة، إنما يبدل هويّة بهويّة أخرى، من خلال مؤسسة أبويّة وممارسة مركزيّة رأسيّة، لا تقل قمعًا عن سابقتها، ولن تختلف من حيث النتيجة إلا للأسوأ.
الهويّة كممارسة فرديّة وجمعيّة لها مركباتها الحيّة والديناميكيّة، كالذاكراتي منها، والديني، الثقافي والجغرافي والسردي، الاجتماعي والسياسي والشخصي والقيمي –والذي سنعود إليه لاحقًا كممارسة قمعيّة- وغير ذلك الكثير، وكل هذه المركبات متغيّرة بتغير الزخم المحايث للسياق الحضاري للجماعة العضويّة من ناحية، ومن أخرى، بالحوار الذاتي الفردي بين تلك المركبات والذات الإنسانيّة بين مشترك ومتفرد ضمن تجربة فرديّة وجمعيّة.
إن أي محاولة لفرض نموذج هوياتي معين، ضمن معايير أدائيّة معينة، تجعل من تلك الهوية إما أبيض أو أسود، ضمن قيم ممأسسة، لا تقبل التعدد ولا التنوع، إنما تجعل "الانتماء" و"الوطن" فضاءات مصمتة وصلبة، على الأفراد وهوياتهم أن تناسبها بمعاييرها، في حين أن الهويّة لا معايير لها، إنما هي حالة من الإمكان المستمر. كما أن مفهوم الآخر، يتحدد ويتأثر بفكرة الذات، أي ذات مقموعة الهويّة، لن تجد في آخرها إلا قامعًا لها أو تهديدًا لوجودها.
لدى تحليل المناهج المدرسيّة، طُرح بند ُسمي "دور المرأة"، تناول "المرأة"، لا باعتبارها "ذاتًا" لها حريّة الوجود وأنماط كتابة نفسها بنفسها، إنما باعتبارها "موضوعة" تخضع لبنية خطابيّة ممأسسة وخارجة عنها في الوقت نفسه، وتكاد تكون وحدها في فضاء التحليل، معروضة لمشارط الجراحين والمُقيِّمين (الذكور طبعًا، فلا موضوعة دون مَن يموضعها ويكتبها).
"تُلقن" "أهمية دور المرأة في المجتمع" لا لذاتها، إنما لمن يوزع الأدوار، هذا الدور الذي لم يطرح مانحه وموزعه للتحليل في فضاء المناهج خطابيًا، حينها تصبح "المرأة" كائنًا طرفيًا في مجتمع تتحكم فيه ذكورة وأبويّة، قررت أن تلقن الطلاب "مكانة" "المرأة"، تلقينًا. ولعل هذا هو السبب في غياب أي تحليل منهجي للمضامين الجندريّة في المناهج، والاكتفاء برتوش ممارساتية، لا تفكك أصل ظاهرة توزيع الفضاء العام في الخطاب والممارسة والمعرفة، ولا تقترب قيد أنملة من البنى السلوكيّة والقيمية والسيكولوجيّة في المناهج والمدارس، وتوزيعها الجندري.
كانت أحد محاولات المؤسسة/ الدولة لامتصاص زخم الحَراك الثوري في مصر في عام2011، أن تستحوذ حق منح القيم، كمحاولة منها لإجهاد الزخم الثوري، ممارساتيًّا وخطابيًا. فالثورة التي طرحت "الحريّة" و"العدالة" كمنظومة قيم جمعيّة، فرضت مقابلها المؤسسة/ الدولة قيمًا أخرى، متحايلة على الفارق بين القيمة والممارسة، فسرعان ما طرحت الديمقراطيّة كأنها قيمة ثوريّة، في حين أن الحريّة تختلف تمام الاختلاف عن الديمقراطيّة (هتلر وترامب نجحوا ديمقراطيًا!).
محاولة فرض قيم واستحواذ الحق في تسميتها هي محاولة قمعيّة، تمارسها المؤسسة منذ قديم الأزل. حصر مفهوم القيمة في الحق والخير والجمال، دون غيرها لا يختلف شيئًا عن تلك الممارسات السلطويّة، لسبب بسيط، أن هذا الادعاء إنما يتجاهل ويتعمد التغاضي عن بناء مفهوم القيمة، وسنحصر في تحديدها، ما الذي يجعل الحق قيمة؟ ما الذي لا يجعل العدالة أو الصدق قيمة؟ أسئلة كهذه، ببساطة، تفكك المؤسسة واستحواذاتها القمعيّة على الأفكار والمعاني.
إذا أعدنا التذكير بمقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 – 1976) بأننا كائنات لغويّة، وأشرنا إلى اللغة باعتبارها آليّة خطابية في ذاتها، تمارس عنفًا إدراكيًّا على الظواهر ضمن ثنائيّات متحيزة، فتُخرس ما/ من تريد وتُنطق ما/ من تريد، ألا يجعل كل ذلك –وغيره- من سؤال "اللغة" عن تحيزاتها ومضامينها ونحوها وصرفها وبلاغتها وسيرورتها، ضمن الخطاب المدرسي سؤالًا نقديًا لا بد منه لبحث أثر اللغة و/ في المناهج على إدراك الطلبة وتعلّمهم، وكيفية تمظهر العالم والظواهر لهم/ ن؟!
يقول الفيلسوف التربوي باولو فيريري: "هناك علاقة أكيدة بين الفكر واللغة كتعبير عن فعل التفكير نفسه وسيرورته. لغتي وتفكيري هما وحدة واحدة، لكنها دايالكتيكيّة ومتحولة ]...[ إنّ إحدى المهمات الرئيسيّة للتربيّة النقديّة والتربيّة الراديكاليّة في اعتقادي أن تساعد التفكير النقدي لكي يخلق نفسه من جديد في كل مرة، مع تبدل السيّاق الذي يتحرك فيه"(13).
ما معنى أن يكون "تحليل المناهج"، ببساطة، هو عملية تمجيد للممارسة الممأسسة والمركزيّة في الدولة؟ فتصبح حينها المدينة أفضل من القرية، بمقياس رأسي، وعلينا أن نحارب هجرة أهل القرى إلى المدن باسم "رفض هجرة القرى إلى المدن"(12). كيف يمكن التعامل مع مثل تلك الظواهر من دون تفكيك الجانب الثقافي لظاهرة المدينة والقرية وعلاقته بالدولة الوطنية التي تسمي نفسها "ما بعد استعماريّة"، ودون التعريج على صيرورة القرية والمدينة في بلادنا؟ وإذا كانت الثيمة الأساسيّة لرسم حدود الجماعة الوطنية المتخيلة هي التحرر من الاستعمار، أليس من الواجب إبراز التاريخ القروي والمديني في مواجهة الاستعمار؟ أم أن الحداثة في صورة الدولة الحديثة، هي محاولة للانتقام من القرية وموقفها؟
يتجلى التحيز والممارسة الممأسسة في هذا التحليل للمناهج التعليمية، على هوى ما يفيدنا لوكاتش في شأن الأدلجة في الخطاب التعليمي، في الانتصار لصالح المؤسسة/ الدولة على حساب المجتمع، فتصبح أي مبادرات مجتمعية، يمارس الفرد و/ أو المجتمع من خلالها مواجهته مع زمانه ومكانه، لا موقع ولا فائدة منها/ لها ما لم تمر من خلال مؤسسة الدولة، هو تمامًا سلوك يتمرأى مع فكرة أنّ المعرفة لا تمر إلا من خلال المؤسسة لتصبح فاعلة وذات قيمة، وبالتالي فتصبح المعرفة والممارسة المجتمعية لا قيمة لها ما لن تمر من خلال مؤسسة المدرسة والدولة.
كل هذه الممارسات –وإن كانت- باسم "تحليل المناهج المدرسيّة" و"تفعيل التفكير النقدي"، هي في حقيقتها البنيويّة ما هي إلا تنويعات على عمليات متطابقة –أو متوازيّة- من مأسسة المعرفة، وإلغاء فرادة الوجود الذاتي، والعلاقة الاجتماعية الأفقيّة للفرد والفكرة والمجتمع بذاته وهويته ومحيطه وسياقه، لصالح رأسية هيراركيّة تستبطنها تلك الآليات لتشرعن التعليم، لا باعتباره آلية ممارسة نقدية واكتشاف، إنما باعتباره آليّة تنميط وأدلجة، تنبني في داخلها على مركزية المؤسسة كمصدر وحيد وأوحد للمعرفة، وبذا يظل التعليم تعليمًا، وليس تعلّمًا.
الهوامش:
1. زيغمونت باومان، "الحداثة السائلة"، ص26.
2: زيغمونت باومان، مقتبس من "ثقافة الالتباس" لتوماس باور، دار الجمل، ص25.
3. توماس باور، "ثقافة الالتباس"، ص33.
4. المصدر نفسه، ص33.
5. J. Capyto, "In Praise of Ambiguity"، ص 15.
6. ,Ullrich, "Philosophische Beriffsgeschichte"، ص 154.
7. https://www.youtube.com/watch?v=D0MVsJhTdSQ&t=3s
8. نعني بكلمة "المتذرر"، أي الفرد الموجود في "الحالة الذريّة"، والاقتباس من "حالة الذرة" في علم الكيمياء، فالذرة هي الحالة الأصلية للعنصر، في أبسط صورها، والذرات المختلفة باجتماعها سوية تكوّن المركبات كما هو الماء مثلّا؛ H2O، والمكوّن من ذرتين هيدروجين، وذرة أكسجين، واجتماع الذرات من نفس العنصر لا يخلق وحدة بينهما، فالهيدروجين مثلًا، مهما اجتمع مع نفسه يظل هيدروجينًا. والأفراد المتذررين هم الأفراد الموزعين فرادى غير قادرين على تقديم جديد، لا يعرفون عن أنفسهم إلا نفسها، باشتباهها مع مثيلاتها، وليس باختلافها. وهذه حالة من الأليغوريا عن ضرورة التعدد والاختلاف معًا. جدير بالذكر أنّ أول من استخدم وصف "التذرر"، هو المفكر العربي د. عزمي بشارة، في كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة" (2003)
9. في حديث شخصي مع الكاتب، على هامش أحد المعارض في مؤسسة خالد شومان، دارّة الفنون في عمان، الأردن، 2017.
10. اقتباس عن مقالة للباحثة اللبنانيّة ريتا فرج، نُشرت في مجلة العربي العدد 704، تموز/ يوليو 2017.
11. من ضمن مبادرة للنهضة التربويّة، طُرحت خطة لتحليل المناهج المدرسية في الأردن، وهذا أحد عناصرها.
12. من ضمن مبادرة للنهضة التربويّة، طُرحت خطة لتحليل المناهج المدرسية في الأردن، وهذا أحد عناصرها.
13. باولو فيريري، "التربية للمقهورين والطريق للتحرير"، معهد الدراسات مدرسة السلام، ص24.