أرتورو أونوفري
Arturo Onofri 1885-1928
أرتورو أونوفري في سطور:
شاعرٌ ومؤلِّفٌ إيطاليٌّ، وُلِدَ في روما في 15 أيلول/ سبتمبر 1885، وعاش فيها حتَّى وفاته في الخامس والعشرين من كانون الثَّاني/ ديسمبر 1928. ينحدرُ أونوفري من عائلةٍ برجوازيَّةٍ، وقد عاش على الدَّوام حياةً راغدةً كرَّسها لنشاطه الأدبيِّ الذي بدأه باكراً إلى جانب عمله في الصَّليب الأحمر. ويمكن القول إنَّ الهويَّة الثَّقافيَّة لأونوفري قد تشكَّلتْ عبرَ قراءاتِه هنري برجسون وويليام جيمس وتأثُّرِه بشعراء الحركتين الرَّمزيَّة والغروبيَّة وتعاليمهم.
بدأ بنشر قصائده الأولى في عام 1904 في مجلَّة "الحياة الأدبيَّة"، أتبعَها بعد ثلاثة أعوامٍ بمجموعاته الشِّعريَّة الثَّلاث الأولى: "أغنيات" 1907؛ و"أشعارٌ تراجيديَّة" 1908؛ و"أغاني الواحات" 1909. وقد جُمِعَتْ المجموعات الثَّلاث فيما بعد في مجموعةٍ واحدةٍ صدرتْ في عام 1914 تحت عنوان "أغنيات". استمرَّ في نشر قصائده في العديد من الصُّحُف والمجلَّات، وفي عام 1913 بدأ نشاطه كناقدٍ أدبيٍّ في يوميَّة "الشَّعب الرُّوماني" بمقالاتٍ عن الشُّعراء الأجانب مثل جِيد ومالارميه وكلوديل وفاغنر.
بعد صدور مجموعتيه "جُوَيقات" 1917، و"أريوزو" 1921، تباطأت وتيرةُ إنتاجه الشِّعريِّ، وانغمسَ في قراءة أعمال رودلف شتاينر الفيلسوف والمفكِّر النِّمساويِّ ليكتبَ مِن ثَمَّ، في عام 1924، مقدِّمةَ التَّرجمة الإيطاليَّة لكتاب شتاينر "العلمُ الغيبيُّ بخطوطهِ العامَّة"، وفي العام نفسه أصدرَ مجموعته الشِّعريَّة "أبواق الفضَّة". في عام 1927 صدرت مجموعته "شمسٌ تُرابيَّة"، تلتها المجموعات التَّالية: "مَحْقُ التِّنِّين!" 1928؛ و"على غرار ألحانٍ تخثَّرَتْ كوكباً" 1929؛ و"حديقةٌ تَؤولُ كَوناً" 1930؛ و"رنينُ الكأس المقدَّسة" 1932؛ و"أن تتفتَّحَ كزهرة" 1935.
في مرحلته الشِّعريَّة الأولى، بين عامي 1900 و1914، تأثَّرتْ قصيدةُ أونوفري بباسكولي ودانُّونتسو، وبالمستقبليَّة والغروبيَّة. أمَّا في المرحلة الثَّانية، بين عامي 1914 و1921، فنجدُ أنَّ أونوفري قد نحا بقصيدته منحىً أكثر بساطةً، حيث القصيدةُ صورةٌ نقيَّةٌ ومتحرِّرةٌ من كلِّ العلائق الخارجيَّة، وحيث الشَّاعرُ مبتكرُ أكوانٍ وفضاءات. من ناحيةٍ أخرى، تنشغلُ التَّجربة الشِّعريَّة لأونوفري، في مرحلتها الثَّالثة والأخيرة، في وصف صيرورة الإنسان، متأثِّراً بأفكار ونظريَّات شتاينر، ومع أنَّ منتقدي قصيدةِ أونوفري في هذه المرحلة كانوا أكثرَ من مؤيِّديها، فإنَّ أحداً لا يستطيع أن يُنكر أنَّ أونوفري كان واحداً من كبار شعراء القرن العشرين في إيطاليا، إذا لم نقل في أوروبَّا بأسْرِها.
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "أشعارٌ تراجيديَّة (1908)"]
فراشةُ الليل
من النَّافذة، المفتوحةِ على شميمِ الشُّرفةِ العابق،
دخلَتْ فراشةُ ليلٍ دائخةٌ وخَدِرَةٌ من البرد،
جسدُها الهشُّ يرنُّ على مصباحِ الزَّيت
إذْ تُناطِحُ زجاجتَه بقوَّةٍ وكأنَّها جُنَّتْ.
حنوٌّ جارفٌ يكتسحُني إزاءَها، فيما أراها
غضبَى لأنَّها لا تقدرُ على إتلافِ أجنحتها
باللَّهبِ الحبيس... فأرفعُ الزُّجاجةَ... مفكِّراً في أنَّها ليست
سوى الرُّوح البشريَّة التي تبحث عن السَّعادة.
*
[من مجموعة "أغاني الواحات (1909)"]
أن أكون حيَّاً، فحسب
أيَّتها الأرض، يا أمِّي، امنحيني ألَّا أفكِّرَ بعدَ الآن،
بل أن أكون حيَّاً فحسب؛ حيَّاً مثلما تكون حيَّةً، في آب،
أعشاشُ السُّنونو بعد أن تغادرُها طيورُها صوبَ البحر:
أعشاشٌ ما يزال يرتعشُ فيها، خبيئاً، إزاءَ الرِّيحِ،
الرِّيشُ الرَّهيفُ للفراخِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ
تحضُّها أُمَّاتُها على التَّحليق، قبلَ بضعةِ أيَّامٍ
من هجرتها فوق البحار. ها أمِّي، أصغي إليَّ، أصغي:
امنحيني أن ترتعشَ في روحي، من تلقاءِ نفسِها،
بقيَّةُ ريشٍ تضيقُ عليَّ كلَّما اتَّخذتُ تحليقتي الأولى.
فإذا أبيتِ أن أصيرَ عُشَّاً، امنحيني على الأقلِّ
أن أكون كذلك المجنون الذي، وحيداً في منتصفِ النَّهار،
يقودُ بقصبةٍ، وسطَ الطَّريق الملتهبة،
وهو يحرِّك ذراعيه خبطَ عشواء، أوركسترا زيزِ الحصاد.
امنحيني أن أنسى الكلمات، كلَّ الكلمات،
أن أحسَّ برئتيَّ تنتفخان من طراواتِ أنفاسِك
وأن أعجزَ عن تمجيدِ هاتِه الأنفاس إلَّا بتنهيدةٍ طويلة.
امنحيني أن أتلوَّى كنهرٍ فضِّيٍّ هادئٍ
في ليالي اكتمال القمر؛ وألَّا يملكَ انسيابيَ المتراخي،
في قلب الهمهمات، غيرَ الصَّمت.
امنحيني أن أفرحَ فرحَ المصبَّاتِ بالبحر.
ولكن إن كنتِ هيَّأتِني، أيَّتها الأرضُ، بمشقَّةٍ كبيرة،
لكي أذكِّرَ المقهورين بينابيع الحياة العذبة التي
توقظينها لنا: فلتصنعي بي، أيَّتها الأمُّ العظيمة والوَقور،
ما تشائين، ما دامت حياتي بأسرِها مُلكاً لكِ.
*
[من مجموعة "جُوَيقات (1917)"]
ارتحال
مع حَمَامِهِ النَّاصعِ البياض، اتَّخذ البيتُ تحليقتَهُ صوبَ البحر.
في الفجر، باهتزازةٍ خفيفةٍ، طقطقَ بجذورِه الحجريَّة وأطلَقَها رويداً رويداً من أجزاء التَّلِّ الليِّنة.
تفلَّتَ على حين غرَّةٍ، وسطَ خفقان الأجنحة، من محاليق الوردِ الآسرِ المعرِّشِ على امتدادِ جدرانه السَّماويَّة، هذه التي عبثاً حاولَتْ إمساكَه، وتهاوتْ في قيعان الأساساتِ الرَّطبة.
لم يبق سوى السِّياج الأخضر مع شجر البُوقِيْصَا المتحلِّقِ في ارتقابٍ، وخلايا نحلٍ يتقطَّرُ عسلُها على مسكبةِ السَّوسن الفيروزيِّ،-
وشحرورٍ يسقسقُ لِماماً على حصى الحديقةِ البركانيِّ النَّاعم.
*
[من مجموعة "أريوزو(1) (1921)"]
صُبْحِيَّةٌ
أتشمُّ رائحةَ الهواء، هذا الصَّباح؟!
إنَّها رائحةُ عُشبٍ وبرتقال،
كما في حدائق الحكايات الخياليَّة
التي ما تزال تغفو مُرتاحةً
في أخبيةِ ذاكرتنا الطُّفوليَّة.
لَفتَتُك المنتشية تشبه
ظلَّ صفصافةٍ مُضطرب،
وأنتَ تومئ خفيةً
إلى تموُّجات الجبال البعيدة التي
تحوِّطُها الرِّياح بالزُّرقة.
ولكن لعلَّ نشوتك العذبة إلماحٌ
إلى أنفاس ثلجٍ وهميٍّ
تزفِرُها إلى هنا
بلادٌ محجوبةٌ عنها الشَّمس،
في الأقاصي الجليديَّة.
ما مِن طائرٍ يُسقسِق، ونحن سُعداءُ هكذا!
ها شرارةٌ تسطعُ من قلب حصاةٍ
إذْ تُجاوزُها خطوتُك دونما شرودٍ،
فيما في العشبِ النَّاهضِ
يدورُ ويرتعشُ دون سابقِ إنذارٍ
النَّسيمُ الذي كان قبلَ مرورك نائماً.
أتسمع؟ هذا هو الصَّوتُ
الذي لا تعيه الأذُن
بل إنْ هي إلَّا رعشةُ صمتِك
المنصرفِ إلى حُلمِ موسيقى سماويٍّ.
إنَّه الصَّباح
لونُ قشعريرتي.
وأنا بكلماتٍ بسيطةٍ
أمضي كمَن يقبضُ على
الملامساتِ الهاربةِ بين هذه اللحظات والسَّماء:
ومثل ذلك على تحايا المحبَّة
في هذا المناخِ المستعذَبِ لغبطةٍ خرساء
منعكسةٍ في خطِّ الأفقِ الدَّائر.
*
نُعاسُ غمامات
تكفهرُّ السَّماء
مُضبَّبَةً بحجابٍ ورديٍّ
في النَّسَمِ الخفيفِ
الذي لا يُغلِقُ ورقةَ ميموزا واحدة
وهاكَ
مِن جفون المساءِ المُتعَبة
تستفيقُ مُطِلَّةً برؤوسها الزَّاهرة
أولى النَّجمات، كما لو
من تحت حواجب خفيَّة.
فيما يرتفعُ نحيبُ الجداجد
مهدهِداً نعاسَ العشبِ الأسمر،
على امتدادِ مسالك العوسج التي
تمتلئ هي الأخرى بالسَّقسقات،
لأجل القمر المولود.
*
[من مجموعة "شمسٌ تُرابيَّة (1927)"]
هو ذا إيقاعُ الدَّم الأهوج،
[يندلعُ] إذْ ترعدُ الزُّرقاتُ طويلاً،
ويصيرُ كلُّ لونٍ لهباً
خلفَ صريخِ الصُّدغَين.
هو ذا قلبي في النَّشوةِ الوحشيَّة
إذْ تنفلتُ في دوَّامةِ الرَّقصِ
الأشكالُ اللاواهمةُ للكائنات.
هي ذي الوجوه تنسابُ كخرافاتٍ مذهَّبة
كأعضاءٍ خفيفةٍ مجنَّحة.
هي ذي الأشجارُ بألسنةٍ مخبولةٍ
تتلوَّى، تنهضُ وسطَ اندلاعِ
جُذواتٍ خُضرٍ من الأرض النَّاعقة.
ووسط لوثاتِ منتصفِ النَّهار الأخرى،
هأنذه، متخثِّراً في نجمةٍ ثابتة،
أستفزُّ هواءَ القروحِ المعدنيَّةِ القديم،
فوق عشبٍ كأنَّه المرجان.
(خاصرةُ البحر تنبضُ على الغرانيت
كخببِ حصانٍ لا نهاية له).
*
ها تآلُفُ ألحانٍ فجريَّةٍ باذخةِ الضِّياء!
قوسُ قزح المتناثرةُ ألوانُه
يحلمُ على امتدادِ رِعشاتِ الرِّيح،
في حضنِ الغيمِ والزَّهر،
في أنفاسِ مرجٍ
كأنَّه ذهبٌ منفوث.
الضَّوءُ يُصغي إلى اندفاعِ أجنحته،
إذْ يحوِّلُ خادراتِه فراشاتٍ،
ومن ظلمةِ الشَّرانق الشِّتائيَّة
ينبعثُ ألحاناً زُرقاً وحُمراً وصُفراً،
موقظاً على قصباتِ الزَّهرِ
ألفَ سماءٍ صغيرة.(2)
*
[من مجموعة "مَحْقُ التِّنِّين! (1928)"]
آذارُ، الذي يبعثرُ الغيومَ
ويُراكمُها جبالاً من أثوابٍ مقصَّبة،
قبل أن ينثرها بنفسجاً عطِراً على المروج،
يُشعلُ فجأةً، مثلَ سارقٍ،
لمحةَ شمسٍ،
يبهرُ ضياؤها بِرَكاً وبنفسجات.
بخيطِ عشبٍ مُبكِرِ النُّضج في فمه،
يُحاكي فتىً خاملاً آذارُ هذا، يمتطي الرِّيحَ
التي تفصلُ بين فصلين كالممتطي حصاناً؛
ومُصَفِّراً يفعلُ، على هواه،
بصفاقةٍ لا مُبالية،
كلَّ ما يطيب له فِعْلُه.
هذه الليلة، وسطَ شَعره المجعَّد،
المتساقطِ على نومي رذاذاً وسقسقاتٍ مجنَّحة،
نايُ الصَّمتِ المصوغُ من أنفاسِه النَّباتيَّةِ
يوقظُ زُرقاتٍ وفِضَاضاً
داخلَ حلمي بهِ، وفي الخارج
أزاهرُه التي تفتَّحتْ.(3)
*
الأرضُ تحلمُ آخرَ فراشاتِها
قبلَ أن تنهضَ نهضتَها الخريفيَّة
من بين غلالاتِ نومها الشَّفيف
المتكبكِبةِ في جوفِ الوادي.
يطِرْنَ، مع الوريقاتِ الصُّفر،
فوق المروج، حيث العُشَيباتُ الهزلى
تذوي في ومضةِ عينٍ إذْ
ينمو، في الظِّلِّ، فطرٌ وطحالبُ وعفصات (4).
يخفقن بأجنحةٍ مرتعشةٍ، في مُعتَصَمِهنَّ
الشُّجيريِّ، وهنَّ يلمسْنَ لِماماً،
لا أزهاراً ولَّتْ، بل بضعَ أغصانٍ شوكيَّةٍ مُكرِبة.
ضياءٌ بَليلٌ يظلِّلُ بالبنفسجيِّ
الأرضَ في تهويمتِها، الأرضَ التي أضجرَها
صحوٌ طويلٌ ينحلُّ الآنَ في الهواء.(5)
*
[من مجموعة "حديقةٌ تَؤولُ كَوناً (1930)"]
هذه الرُّوح، روحي التي تطيرُ كلَّ ليلةٍ
من جسدي لتحومَ في مهاوي النَّومِ السَّحيق،
هي في ذاتِها صورةٌ للبروجِ السَّماويَّةِ
الهائلة؛ وهي إذْ تتخيَّلُ، داخلَ فلَكِ
غمامتِها القصيرةِ الأجل، الدَّورانَ السَّماويَّ
لاثني عشر كوكباً أبديَّاً، فإنَّها تعكسُ
في ذاتها نظاماً مماثلاً لنظامِ الأكوان.
ثمَّ عند الفجر، حين تعودُ ملكاً لي
استفاقةُ تلك الرُّوح السَّماويَّة،
أنهضُ حاملاً في الإيقاعِ الدَّوريِّ لدمي
اثنتي عشرة قوَّةً ذهبيَّةً لأجل الحياة،
اثنتي عشرة زمرةً من الأصواتِ العاتية،
حتَّى وإن أُخْرِسَتْ في أراغنِ الأرض.(6)
*
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- "أريوزو": الكلمة تعني حرفيَّاً "هوائي"، وهي في المصطلحات الموسيقيَّة مقطعٌ موسيقيٌّ يقع بين "الرِّسيتاتيف" و"الآريا"، يُغنَّى في الأوبرا أو في الأوراتوريو.
2- هاتان القصيدتان من مجموعة "شمسٌ تُرابيَّة" بلا عنوان.
3- القصيدة بلا عنوان.
4- العفصة هي تورُّمٌ يكون على النَّبات تسبِّبه يرقات بعض الحشرات أو الأمراض الفطريَّة.
5- القصيدة بلا عنوان.
6- القصيدة بلا عنوان.