مقطع مترجم عن اللغة الإنجليزية من رواية غوابا للكاتب سليم حداد

مقطع مترجم عن اللغة الإنجليزية من رواية غوابا للكاتب سليم حداد

مقطع مترجم عن اللغة الإنجليزية من رواية غوابا للكاتب سليم حداد

By : Dima Yassine ديمة ياسين

[مقطع رواية غوابا الصادرة بالإنجليزية للكاتب سليم حداد ترجمة ديمة ياسين] 

 

ابتدأ هذا الصباح بالعار. لم يكن هذا بالشيء الجديد، سوى ان إحساسي بالعار هذه المرة يتعمق بشكل مخيف كلما تذكرت أحداث الليلة الماضية. يتجهم وجهي، يتشنج جسدي وأدفن أصابعي في كفيَّ حتى يعكس الألم في يديَّ ما أشعره في داخلي. لكنني لا أستطيع محو ما رأته تيتا، وغيابها اليوم عن جانب سريري يدل على انها لا تنوي، كما كانت تعد، أن تدفن ما شاهدته البارحة في زاوية منسية من ذاكرتها.  

في أي صباح آخر، كان صوت جدتي الأجش الذي يحمل حشرجة مليون سيجارة دخنتها، يثقب أذني ويتخلل أحلامي "يَّلا راسا، يَّلا حبيبي " كانت ستحوم حول سريري، تنحني إليَّ حتى تصل سيجارتها إلى شفتيَّ، فأستنشق دخانها، وأشعر به يسافر إلى رئتي موقظاً كل دواخلي مرة واحدة. 

في أي صباح آخر، ستكون دوريس معها، تفتح الستائر في غرفتي بقوة وبسحبة واحدة عنيفة، كأنها تسحب ضمادة عن جرح بسرعة لتستعجل ضوء الشمس الحارق. "يَّلا" أخيرة، ثم تبدأ تيتا بكشف أغطيتي عني ورميها جانباً. كانت تستمع بفعلها ذاك خاصة في صباحات الشتاء الباردة، فتستلذ برؤية القشعريرة تخترق مسامات جلدي وأنا أقفز محاولاً إيجاد بطانية في أي زاوية من الغرفة.

كان هذا الصباح مختلفاً،  كان عليَّ أن أُصارع شياطينَ أقوى من أي شعور بالكسل. كل ما ارتكبته من أخطاء طول حياتي لا يضاهي هذا الصباح. لقد تخطيت حدود تيتا الحمراء.

يرن هاتفي الجوال. أتدحرج في فراشي لألتقطه، "يلعنك! لك وينك؟"  يأتيني صوت بسمة غاضباً. "كان من المفترض أن تكون هنا منذ عشرين دقيقة مضت. لدي موعد مع صحفي من أفريقيا الجنوبية يود مقابلة بعض النساء اللاجئات، ولا أحد هنا في المكتب."  أحاول إزالة حشرجة النوم من حنجرتي وأدعك عيني " آسف بسمة.."

 "لا تكن آسفاً، كُن في المكتب. وطبعاً أنا من سيتحمل مهمة إيصالك للعرس الليلة، صحيح؟" العرس، العرس، العرس، العرس. "صحيح؟" سألت بسمة مرة أخرى.

"لست على ما يرام" أُردد بأسى "لا أعتقد أن عليَّ الذهاب."

 “راح آجي آخذك على الساعة الثامنة."

 أضع الهاتف جانباً وألتقط سجائري. السيجارة ستحفز أفكاري وتحركها. أشعل واحدة وأسحب نفساً منها. ما زالت حنجرتي مبحوحة من توسلات الليلة الماضية، يحرقها الدخان في طريقه إلى الرئة. "ظننتك تتعاطى ا لمخدرات. لم يخطر في بالي أبداً إنك .... "  

كنت قد استيقظت عدة مرات حتى الآن، لكني أشعر بأن الهواء ما زال ثقيلاً. لم أكن مستعداً للاستيقاظ من حلمي بعد فدفنت رأسي في مخدتي وأجبرت نفسي على النوم. بعد ثلاث أو أربع أو ألف مرة أُخرى، لم أعد قادراً على فعل ذلك. كانت عينايَّ مغمضتين إلا إن عقلي كان كامل الاستيقاظ. ها نحن هنا إذن. لا خيار لدي سوى مواجهة اي شيء يلقيه اليوم عليّ. أجلس مستقيماً. كانت دوريس قد وضعت لي كوباً من النسكافيه قرب سريري على الأرض. آخذ منه رشفة كبيرة. القهوة باردة وضعيفة لكنها تطري حنجرتي وممر الدخان في جسدي تاركة وراءها ما تبقى من طعم النيكوتين وحريرية القطران على لساني. “افتح الباب، افتح الباب حالاً ....” ما الذي دفعها لتنظر من ثقب الباب؟!

يذكرني تيمور دائماً بروبرت دينيرو في شبابه. تلك العينين العسيلتين والشفتين الغارقتين في الأفكار. أنا بحاجة لأن أراه مرة أخرى، أن أمرر أصابعي على زغب ذراعيه الناعم. كم كنت أحمقاً لتجاهلي لكل تلك العلامات، لتصديقي بمستقبل لا يمكن أن يتحقق. أنا لوحدي هنا الآن، وحيداً في هذا السرير. لكنني لا أقوى على فراقه بهذه الطريقة، بهذه الشروط. لا يمكن لليلة الماضية أن تكون ليلتنا الأخيرة معاً. أنا بحاجة لإحتضانه، لأن أهمس في أذنه أننا سنتخطى ما حدث. كم أتمنى لو أستطعت الرجوع بالزمن الى الوراء، أدير ذلك المفتاح اللعين في ثقب الباب لأحجب النظر.  

مخالفاً لحدسي، أبعث له برسالة نصية: "نحن بحاجة للكلام عن الليلة الماضية."

 تيمور. الضرب العنيف على الباب، صرخات تيتا. أكاد أسمع كل هذا في أذني ثانية. أشعر كأن معدتي تلتوي لمجرد التفكير بإسمه. مضت ثلاث سنوات على علاقتنا، وهذه هي المرة ا لأولى التي أشعر بأنني لا أتحمل التفكير به. أنا بحاجة لأن أحدثه، لسماع صوته، لكن اسمه يستدعي كل إحساسي بالعار. أنا حيوان، قذر ومقرف. ألاحق رغباتي بجنون بدون تفكير بما هو الصواب وما هو الخطأ. ينتابني شعورٌ بالغثيان فأقفز من فراشي متلفتاً في الغرفة من حولي. أصبحت متهوراً، والآن أدفع ثمن ذلك. عليَّ أن أتخلص من كل الأشياء التي لها علاقة به. أرفع المرتبة، ألتقط دفتر يومياتي وألقيه على سريري. أقلب صفحاته، وأمزق أي صفحة ذكرت إسمه. لكنه يمر في الجمل على كل الصفحات، كأنه فايروس يسري في الدم. أمزق الصفحات، الواحدة تلو الأخرى حتى لم يتبق سوى آخر ما كتبت منذ اسبوع فقط. تقع عيني على الكلمات المكتوبة في الصفحة:  

إنه يرتكب خطأً. أعرف هذا جيداً. يقول لي إنني غير منطقي، وإنني أنتظر المعجزات. ربما أنا غير واقعي، لكنني أعرف أنه يمكن أن يتغير. هل من الصواب إجبار أحد على التغيير في سبيل الأفضل؟

أمزق الصفحة الأخيرة، أجعدها في يدي، وأُكمل عملية التنظيف. تتناثر من حولي في الغرفة أقراص ممغنطة لكوكتيلات أغاني سجلها لي. تمتد خربشة خطه على سطح القرص الفضي مكتوبة بالحبر الأحمر والأسود. كوكتيل أغاني تيمور الصيفي. موسيقى استرخاء، موسيقى جيدة لراسا-على سبيل التغيير. ألقي بها جميعاً فوق دفتر اليوميات. تحت سريري أجد بطاقة بريدية كان قد بعثها لي العام الماضي من إسطنبول. الصورة الأمامية لسماء زرقاء صافية فوق بحر البسفور. بعثها حينها في ظرف بني حتى لا يقرأ أحد ما كتبه خلف الصورة:  

"اليوم ا لأخير. اشتريت زوجاً من الأحذية من الجانب الآسيوي. انقطع رباط الحذاء عندما كنت أجربه، إبتسم البائع وقال: يبدو أنني رجل غضوب. أردت أن أقول له إن هناك الكثير مما يستدعي الغضب، لكنني تذكرتك. كيف لي أن أغضب وأنت معي؟ في الخارج كان المطر شديداً. نظرت من شباك المحل الى الخارج، وإذا بطائر سنونو ينزل سريعاً ليهاجم قطة كانت تجلس على باب المحل ويعود طائراً بقطعة من فروتها بين مخالبه. أكتب لك وأنا على السفينة العبارة. ينزلق المطر من تحت الشباك، تبحر المراكب في بحر هائج، ويجلس رجل عجوز بجانبي يقرأ الجريدة."  

كيف لي التخلص من كل هذا، مَّنا نحن؟ ربما من الأفضل الآن أن أُخبئ كل هذه الأشياء، لا أن أرمي كل شيء، ليس بعد.

أرمي البطاقات البريدية فوق الأغراض المتكدسة على سريري. أجمع أشياء تيمور بين يدي وأضعها في صندوق صغير في أعلى رف في خزانتي. أواريه خلف صف من الكتب فتحجبه تماماً. تيتا لن تستطيع الوصول اليه هنا. ركبتها متعبة، ولن تستطيع التسلق على الكرسي لتصل للصندوق. حتى إن استطاعت الصعود، لن تستطيع ازاحة هذه الكتب بيد واحدة وهي تسند ثقل جسدها باليد الأخرى. أسحبُ تيشرتاً قديماً، بنطلوناً وجوارب من كومة الملابس على الأرض. أتهيأ، أفتح باب الغرفة وأخطو على السجادة القديمة التي تغطي أرضية ا لممر. باب غرفة تيتا مغلق، والبيت صامت. أبدأ بالمشي في ا لممر، وعندما أتأكد من عدم وجود أحد من حولي، أعود لغرفتي، أنحني أمام الباب وأنظر من ثقب المفتاح. أرى منظراً كاملاً لسريري يتوسط الغرفة، كأنه مسرحٌ لجريمة، فوقه خيوط رفيعة من أشعة الشمس، تخترق شقوق الستائر الخشبية وتضيء حُبيبات الغبار الراقصة في الهواء. حيطان الغرفة البيضاء مغطاة ببقايا جثث الناموس. تستطيع تيتا رؤية كل شيء من هنا. قالت لي الليلة الماضية إنها بعد أن نظرت من ثقب الباب، عادت إلى فراشها وحاولت النوم، لكنها ظلت تصارع وتتقلب في فراشها لوهلة قبل نهوضها مرة أخرى لتبدأ بالضرب على باب غرفتي. لكن، ما الذي رأته بالضبط؟ هل رأتنا نُقبل بعضنا أم عندما كنا ملتحمين معاً، أو ربما بعد ذلك؟ ربما رأتنا عندما كنا مستلقيين في السرير، عاريين، جبهتانا ملتصقتان، نهمس لبعضنا البعض.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • «نازل آخذ حقي»: فنانون يساندون الحراك الشعبي في العراق

      «نازل آخذ حقي»: فنانون يساندون الحراك الشعبي في العراق

      دخلت الاحتجاجات الشعبية في العراق أسبوعها الثاني ولا زال القمع الحكومي بكل أشكاله مستمراً ضد المتظاهرين رغم مزاعم حكومية عن فتح تحقيقات لمعرفة المتسببين بالعنف. فحصيلة الضحايا من المتظاهرين تجاوزت ثلاثمئة روح شابة قتلتْ معظمها بنيران قناصة "مجهولين"، إضافة الى آلاف الجرحى والمعتقلين.

    • "كنداكة" الانتفاضة السودانية

      "كنداكة" الانتفاضة السودانية

      وقفت آلاء صالح، الشابة السودانية تغني للانتفاضة في اعتصام القيادة العامة في العاصمة الخرطوم، وهي ترتدي الزي السوداني الأبيض وترسم العلم السوداني على خدها الأيمن بينما ردد المتظاهرون من حولها "ثورة".   

    • “What Do You Want to Become?” Art Against Violence in Iraq

      “What Do You Want to Become?” Art Against Violence in Iraq

      It happened only weeks after the Highway of Death, where the U.S.-led coalition attack claimed the lives of tens of thousands of retreating Iraqi soldiers in the aftermath of the 1991 Gulf War. As the few famished survivors reached Basra, an angry soldier raised his machine gun and began to shoot at a huge portrait of Saddam Hussein, Iraq’s infamous dictator and the West’s close ally up until his invasion of oil-rich Kuwait on 2 August 1990.

Oct 2, 2017 Lebanon

خوليو كورتاثار: عن إحدى الصداقات

عن إحدى الصّداقات...

لم أسعَ يومًا للتعرّف على الكتّاب الذين أكنُّ لهم مشاعر التّقدير والإعجاب، بل كنتُ أفضّل أن تتكفّل الصدفة بترتيب اللقاء بيننا. وعندها كلّ الاحتمالات واردة، الحبّ، الصّداقة، وربّما اللامبالاة أو التَّجاهل. لكن على أن يتجاوز اللقاء نطاق المجاملات وتبادل العناوين والأوتوغراف.

واحدةٌ من أكثر المصادفات السّعيدة كانت لقائي مع صامويل بكيت، والذي هو أيضًا لا يُعرف بكونه "اجتماعيّ"، صباح أحد الأيّام وبينما كنت على وشك الدّخول إلى مكتب البريد الكائن في شارع دانتون في العاصمة الفرنسيّة باريس، قرّر رجلٌ نحيلٌ طويل القامة أن يخرج من باب المكتب في نفس اللحظة، وعندها غرقنا بعناقٍ عفويّ تبعه اعتذارٌ بصوتٍ أشبه بهمهماتٍ من كلينا. كنت على يقينٍ بأنّه لم يكن لدى بكيت أدنى فكرةٍ عن الشّخص الذي عانقه، أمّا أنا فتابعت طريقي وقد غمرتني سعادة عظيمة لدرجة أنّني لم أجد داعٍ لتقديم نفسي إليه أو افتعال أيّ حديثٍ معه، كتلك الأحاديث التي كنت أجريها معه عادةً عبر كتبه ومسرحياته.

لا أبرّر تصرّفي هذا الذي غالبًا كان يدفع بي نحو تفضيل التّركيز على أعمال الكتّاب وليس على شخصهم.

أحيانًا كنت أعاتب نفسي على فرط الحساسيّة الفكرية، وعندما أفكر ببابلو نيرودا أشعر بالندم، وكالعادة بعد فوات الأوان، لأنّه قُدّر لصداقتنا أن تستمرَّ لمدّة قصيرةٍ جدا، وسط أحداث كارثيَّة في أمريكا اللاتينية، ومع ذلك.. كان بابلو مُتعطّشًا للصداقة وللبحث عن أصدقاء جدد، ولأن يُبحث عنه أيضا.
لطالما تبعَتهُ اختياراته الصَّائبة امتداد سنين حياته الغنيّة، كان متعطشًا لعالمٍ من الحوار والتَّواصل البنّاء. كم كان جميلا لو أنّنا التقينا منذ سنواتٍ في أحد المسارح المُفضّلة لديه مثلا، والتي زرتها من فترة وجيزة.

ليس فقط قدرته على التّواصل بل الطّريقة التي يتحدّث بها وأسلوبه في النّقاش أدهشني لدرجة أنّني، وخلال السنوات القليلة التي تكرّر لقاؤنا فيها إن كان في تشيلي أو في فرنسا، شعرت كما لو كان صديق الشباب ذاك الذي بوسع المرء أن يتقاسم معه هواجس الحياة بكلّ ما فيها من شكٍّ وخوف وأمل.

اللقاء الأوّل بيننا، والذي كان بدعوةٍ منه لزيارة منزله الكائن في الجّزيرة السَّوداء عام /ألف وتسعمائة وسبعين/، لم يكن مجرَّد لقاءٍ أوّل، فقد كان كلٌّ منَّا مُطّلعٌ على أعمال الآخر ومعجبٌ بها كذلك، كما كنّا قد اختلفنا حول نقاطٍ معيّنة نتيجة تمسّكنا بصواب وجهات نظرنا والتي ميَّزت كلاً منّا عند طرحنا لها بصراحة. والحقيقة أنّنا عشنا جميع المراحل في ذلك اللقاء، وخرجنا منه أصدقاء الماضي والمستقبل في آنٍ معًا.

في ذلك اللقاء أيضًا تلقَّى الشّاب الأربعينيّ الذي كنت كتاب "مسكن في الأرض" لنيرودا، الصادر عام /ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسون/، كصفعة من نورٍ هزّت كيانه، إذ أن ذلك العمل كان موجة سخاءٍ عارمةٍ قلبت مفاهيم الشّعر في أمريكا اللاتينية رأسًا على عقب.

ولهذا، ورغم قصر أمد صداقتنا إلا أنَّها كانت عظيمةً وغنيّة، قلائلٌ هم من يحظون بمثل هذا النوع من الصداقات، إذ أنّ النظرة كانت كافيةً لكي تُفجّر القصائد فاتحةً أمامنا أبواب التَّواصل اللانهائيَّة والتي كنَّا نجد مفاتيحها من دون اتفاقٍ مسبق، وخارج جميع تلك القواعد البديهيّة والتّساؤلات التي تتفاعل ضمنها مراحل الحوار المدنيّ، فبضع كلماتٍ كفيلةٌ بتوضيح منطلقاتنا الفكريّة وتحديد خياراتنا واهتماماتنا.

في بعض الأحيان كانت مبادرةً صغيرةً أو مجرَّد نكتة أو حتى لعبة تخمين الكلمات يمكن لها أن تضعنا مباشرةً في خضمّ نقاشٍ محتّد حول هنري جيمس مثلاً، أو سيرخي آيزنشتاين أو بيسينتي ويدبرو. وسط حلقة من المعجبين ينصتون باهتمامٍ إلى صوته السّحري الهادئ بينما يلقي أحد قصائده الكلاسيكيَّة القصيرة.

وبعد انصراف الجميع عندما نبقى وحيدين، كان نيرودا يعيد ترتيب أفكاره القيصرية ويفنّدها بشكلٍ جيّدٍ وبذوق ملموسٍ يملكه اتجاه الحوار ليبدأ بالنقاش متناوبًا بين الكلام والاستماع في تجانسٍ متقن. وخلال وقتٍ قياسيّ صرت أتقن التَّعرف على دلالات نظراته وابتساماته التي غالبا ما دلّت على رأيه، إن كان بالرّفض أم الاستحسان.

عندما طلب إلي غاجيمارد كتابة مقدمةٍ للتّرجمة الفرنسية لكتاب نيرودا "إقامة على الأرض"، قمت بكتابتها على شكل رسالةٍ مفتوحة ثم أرسلتها إلى نيرودا. الذي أكدَّ على رفضه الدَّائم لفكرة تصنيف قصائده في هذا الكتاب على أنّهامرحلة متفرّدة ومميّزة عن أعماله التي سبقت القفزة الكبرى، إن صحَّ القول، التي أحدثها كتابه "أغني للجنرال". إلا أنه وبعد قراءته لنص المقدّمة، والذي كرّرت فيه اعجابي بمجموعته تلك، وما يزال يزداد حتى هذا اليوم، خصّص لي نظرةً وابتسامةً منحاني المقياس الدّقيق لمدى سعادته الخفيّة، ووفائه لذلك العمل، الذي تسبّب مسار الأحداث التاريخيّة بالتّنكر له واهماله بشكلٍ واضح.
أعتقد أنّنا أدركنا في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى عمق صداقتنا وقوّتها.

لحظات الصّمت تلك المكتنزة بالفطنة والذكاء ما تزال بالنسبة لي أعظم جائزة أتلقّاها في حياتي على هذه الأرض.

الشّخص الوحيد الذي استطعت وإياه أن ندخل بتجربة تواصل مماثلة، كان خوسيه ليزاما ليما، حيث غالبا وبعد كلّ سؤال، كان الصّمت كما النظرات أيضا تملأ الفراغات الفكريّة بصور ناعمة لم يكن بإمكان الكلام تفسيرها من زوايا معينة.

ولأجل هذا لم يشّكل غياب نيرودا حدثًا تراجيديًّا بالنّسبة لي. فإن تكلّمنا على صعيد التأثير، شخصٌ استطاع أن يملئ العالم كما فعل هو لن يغيب عن الجلسات الحميميّة للذّكريات، ولا عن المؤتمرات وإجتماعات ساعات الذّروة.

لا يؤلمني موته، كبيرةٌ وعميقةٌ كانت سعادتي بالتّعرف عليه في بيته الكبير، وأعني قلوب محبيّه، الذي هو بيتي أيضا.

كلّما شربت نخبًا، أو أحببّت، أو تمتّعت برؤية مشهدٍ جميل، أتذكّر عينيه الواسعتين النّاعستين وتعود إليّ ذاكرة تلك الأيّام التي قضيناها معًا فيحضر شعره قافزًا من بين أفكاري المتلاطمة ليجيبني ويرافقني.
وإلى هذه اللحظة لم يتغيّر شيء، ولن يتغيّر.

هنا في هذه السّطور قد ذكرت كلّ شيء في الزّمان والمكان المناسبين.

1979

 

* * *

 

[ترجمة أمل فارس]

عن خوليو كورتاثار

كاتبٌ وشاعرٌ ومترجمٌ أرجنتينيّ، ولد عام ١٩١٤ في بروسيلا- بلجيكا، ويعرف بكونه أحد أشهر أدباء الحداثة في أمريكا اللاتينية، حيث كسر القوالب الشّائعة عبر اتّباع سردٍ خارجٍ عن المألوف، حيث تتطلّب الشخصيّات عمقًا فلسفيّا وتحكّمًا ذاتيًّا لم يكن مطروحًا في السّابق.

انتقل عام ١٩٥١ إلى باريس وعمل كمترجم في منظّمة اليونسكو العالميّة ممّا ساعده على الحصول على إقامة دائمة في باريس.

خفّة الظّل وحبُّ اللهو صفتين صبغتا أعمال الكاتب، وظهر ذلك في كتابه /قصة الكرونوبيو والفاما/ وهي أسماء لمخلوقات من اختراع الكاتب. من أشهر أعماله /راجويلا- اثنتين وستين طريقة للحبّ- مدار يوم في ثمانين عالم/ من بين أخرى. توفي في باريس عن عمرٍ يناهز السّبعين إثر إصابته بمرض اللوكيميا في فيبراير/ آذار من عام ١٩٨٤ ورد هذا النص بعنوان" عن إحدى الصداقات" في كتاب صدر بعد وفاة الكاتب عملت زوجته السّابقة أورورا بيرنارديز وصديقه المقرّب كارلس ألافاريس على تدقيقه ونشره عام ٢٠٠٩ ويحوي الكتّاب نصوصًا تُنشر لأوّل مرة إلى جانب أخرى مأخوذة من أعماله السّابقة مثل /شخص يدعى لوكاس- كتاب مانويل/ بالإضافة إلى العديد من المقالات الأدبيّة المنشورة والخطابات وبعض القصائد.