في خريف العام ٢٠٠٦، وصلتُ سيراً على الأقدام إلى هنغاريا. كنتُ وحيداً أمشي على غير هدىً بين الغابات، حتى لاح لي من بعيد خيالُ كوخٍ عتيق. كان كوخاً منفرداً قرب حظيرة للحمير، تنبعث منه رائحة شواء غريبة. أقبلتُ عليه بما بقي لي من همّة، فسمعتُ هتافاً من بعيد: "Stop". توقفتُ حينئذ، ورفعتُ يدَيّ إلى الأعلى في إشارة للتسليم. أقبلتْ نحوي عجوز نحيفة، تحمل بندقية صيد محشوّة. رطنتْ معي بالهنغارية. لم أفهم ما قالتْ، ولولا حفنة الكلمات الإنگليزية التي حفظتُها قبل عشرين عاماً في المدرسة الثانوية، لكنتُ الآن في عداد الموتى. أخبرتُها بأنّي تائه وجائع، وأنّي هارب من الموت، فأخفضت العجوز البندقية عندئذٍ وقالت: اتبعْني.
أدخلتني إلى الكوخ، وقدّمتْ لي كبدة دجاج مهروسة بالسمن والشوفان، تناولتُها بنهم، وعيناي تدوران في المكان. كان كوخاً واسعاً من الداخل، مليئاً بقناني النبيذ الفارغة. وكانت رائحة البول تنبعث من الأرض والجدران. أخبرتني السيّدة باربارا فيما بعد بأنّها تمتهن صناعة النبيذ البيتي، لتبيعه إلى صاحب حانةٍ في مدينة بودابست، وأنّها اتفقتْ مع أحدهم قبل خمسين عاماً على صفقة نبيذ مُعتّق، ستجعل منها امرأة غنيّة. قالت بأنّها تملأ القبو ببراميل النبيذ الخشبيّة، وإنّها سعيدة في عملها، ثم طلبت منّي أن أقصّ عليها حكايتي.
أخبرتها الحكاية موجزةً، فأشفقتْ واغرورقتْ عيناها بالدمع، إذ عرفتْ بأنّي هارب من الحرب، وطلبت منّي البقاء. الهاربون من الحرب مثيرون للشفقة. وبلا تردد وافقتُ. عملٌ ومأوى، ماذا يريد الغريب أكثر من ذلك؟! لقد اتّفقنا على أن أعمل سبع ساعات في خدمة الحمير، ورفع الروث من تحتهم مقابل ثلاث وجبات من كبدة الدجاج الساخنة، ونومةٍ في الكوخ. لم يكن عملاً شاقّاً على كل حال.
وذات ليلة، تنامى لسَمْعي صوت من جهة القبو. كانتْ براميل النبيذ تهتزّ بعنف. حذّرتني باربارا سلفاً من الدخول إلى قبو النبيذ، لكنّها كانت تغطّ في نوم عميق، فأزحتُ الغطاء عن جسدي، وتناولتُ ساطورَ اللحم، وهبطتُ السّلّم حافياً. كنتُ أسير على أطراف أصابعي متمتماً بكليشة للحفظ، تعلّمتها من جدّتي سليمة. أوقدتُ مصباح الزيت في الأسفل، وراقبتُ البراميل. كانت ثابتة، وليس من صوت في المكان غير صوت شخير باربارا الذي يتسرّب من الأعلى. اطمأنّ قلبي حينئذٍ، فأطفأت المصباح، وصعدتُ السّلّم على مهل، لكنّ اهتزازاً صدر من أحد براميل النبيذ جعلني أعود أدراجي، لأرى ما يحدث! أوقدتُ مصباح الزيت من جديد، وحملتُه، وتوغّلتُ في القبو أكثر، فكنتُ كلما اقتربتُ، خطوة ازداد الاهتزاز عنفاً حتى وصلتُ عند البرميل الأخير. كان يهتزّ مثل طفل، أصابتْه نوبة صرع. وضعتُ الفانوس جانباً وتناولتُ ذراعاً حديدياً، كان مُلقىً على جنب، حشرتُه في غطاء البرميل، وفتحتُه، فقفز منه قزمٌ عارٍ.
يا إلهي! قزمٌ محشورٌ في برميل نبيذ! أرعبَني المنظر، فبدأتُ بترديد تميمة الحفْظ بصوت مرتفع، لكنّه قاطعني:
"لا داعيَ لها، لا تنفع."
"ما هي؟!"
"التميمة، دعكَ منها، فقد جرّبناها قبلكَ، ولم تنفعنا بشيء."
أدهشني كلام القزم وكدتُ أفقد عقلي. يا ترى من هؤلاء الذي يتكلم بالنيابة عنهم؟! قال: "لا تفزع يا عزيزي، فمصيرك سيكون مثل مصائرنا." سألته ماذا يقصد، فخفّف من نور المصباح في يدي، وجلس على البرميل المجاور، ثم شرع يقصّ عليّ الحكاية. قال بأن ليس ثمّة نبيذ في هذه البراميل، بل أقزامٌ منقّعون في بول الحمير. لقد بَنت السيدة باربارا هذا الكوخ منذ خمسين عاماً، من أجل اصطياد الهاربين من الحروب، وحَشْرهم في براميل النبيذ الخشبية. كانت تطعمهم كل يوم كبدة القنافذ الجبليّة المهروسة بالزيت، التي تحوّلهم تدريجياً إلى أقزام، ثم تحشو بهم براميل النبيذ المملوءة ببول الحمير، وتبيعهم شراباً للعفاريت. ربما يستغرق الأمر سنواتٍ طويلة كي يختمروا، ويتحوّلوا إلى شراب، لكنّها تقبض من السيّد مارك نصف الثمن مقدّماً على كلّ هاربٍ تُمسك به.
"ومن يكون السيّد مارك هذا؟" سألته.
"صاحب حانة يرتادها العفاريت." أجاب ثم أردف:
"هل تناولتَ من ذلك الطعام؟"
"نعم، ثلاث وجبات في اليوم، لكنّها قالت بأنّه كبدة دجاج بالسمن والشوفان!"
"هذا ما تقوله للجميع، لكنّ الحقيقة غير ذلك، إنها كبدة القنافذ الجبليّة المتقزّمة."
أرعبتْني الحكاية، فمرّرتُ يدي على جسدي محاولاً الاطمئنان بأنّه مازال في حجمه الطبيعي، ثم سألتُه عن السرّ وراء ذلك، وما الذي يجعل عجوزاً تُنقّع الهاربين من الحروب في بول الحمير؛ لتبيعهم للعفاريت؟! فقال بأنّه حين صغر حجمه، وجاء اليوم الذي قرّرتْ فيه السيّدة باربارا حشرَه داخل برميل البول، سألها عن ذلك، فضحكتْ بصوت مجلجل، وأجابتْ بجملة واحدة:
"اسمعْ، أيّها القزم: حين تشتعل الحرب في طرف من هذه الأرض، فإنّ سوق التسلية يصبح رائجاً في الطرف الآخر منها."
في الواقع، لم أفهم ما قال ذلك القزم المنقوع، لكنّي سألته أخيراً عن اليوم الذي سأتحوّل فيه إلى نبيذ للعفاريت، فضحك منّي وقال: "أوووه، ما يزال الوقت مبكراً، يا زميلي، فأنا قد هربتُ من حرب تشرين، وما أزال لم أختمر بعد.. أعدني إلى البرميل، أرجوك، فقد اشتقتُ إلى طعم بول الحمير." غطّستُه في البول حينئذٍ، وأحكمت الغطاء عليه، ثم أطفأتُ المصباح، وعدتُ إلى الفراش. وفي الصباح، استيقظتُ على صوت العجوز باربارا:
"سليم، سليم، استيقظ، يا عزيزي، لقد حان موعد الطعام."
* من مجموعة "صانع الحلوى" التي تصدر قريباً للكاتب عن منشورات المتوسط.