[ترجمة جعفر العلوني]
ماريو بارغس يوسا
كانت الساعة الثالثة فجراً في موسكو عندما رنَّ الهاتف. اتصلت بي ابنتي مورغانا لكي تخبرني أن ليلا وفرناندو دي زيزلو (1) ماتا بعد أن وقعا على درج المنزل. لم أستطع النوم بعد سماع الخبر. قضيت بقية الليلة مشلولاً بدافع من دهشة غبية وشعور من الرهبة.
لطالما سمعت زيزلو (ندعوه غودي بين الأصدقاء) يقول إنه لا يريد أن يعيش بعد ليلا، وإنها لو ماتت سيقتل نفسه على الفور معها. لعل هذا ما حدث، رحت أفكر بيني وبين نفسي. ولكن بعد بضع دقائق، عندما تمكنت من مهاتفة فيثيني، ابن زيزلو، والذي كان يرتجف إلى جانب الجثتين، أكد لي إنه كان حادثاً بحتاً. أخبرني أحدهم في وقتٍ لاحق أنهما ماتا وهما يمسكان بيد بعضهما، أما الأطباء فقد أكدوا أن الموت كان فورياً سبّبه كسر متطابق في الجمجمة.
ما تبقى لي من حياة أعيشها لن تكون نفسها بعد فقدان غودي، أفضل الأصدقاء. كان فناناً عظيماً، وواحداً من بين أواخر الرسامين الذين تنطبق عليهم هذه الصفة عن جدارة، علاوة على كونه شخصاً رائعاً.
مثقفٌ وحميم ومضحك ومخلص. لطالما أثرى جلساتنا المسائية بحكاياته ونكته عندما يكون في مزاجٍ جيد. كانت أحكامه حادة ومصيبة خصوصاً إذ ما تعلق الأمر بأشخاص تعرّف عليهم وأعُجب بهم، كما هو الحال مع تامايو أو بريتون أو أوكتافيو باث. كان لبقاً جداً عندما يتحدث في السياسية أو عن البيرو، مع غياب تام للانتهازية أو للخوف في حديثه؛ نزاهةٌ حولته في السنوات الأخيرة، رغماً عنه ودون أن يسعى وراء الأمر، إلى مرجعية أخلاقية في بلده، بحيث أصبح الجميع يطلب رأيه في المجالات كافة. أما عندما كان في مزاجٍ سيئ، كان ينغلق على نفسه في صمتٍ متقطع، ويدخل في جمود كما لو أنه تمثال.
وبطبيعة الحال إلى جانب شغفه بالفن، كان شغوفاً بالأدب كذلك. كان يقرأ كثيراً ويعيد قراءة كتّابه المفضلين باستمرار. لعمري إنها لذة للعقل أن يسمعه المرء يتحدث عن بروست أو عن بورخس، أو أن يسمعه يلقي، من الذاكرة، سوناتا باروكية لكيفيدو أو قصيدة حبٍّ ألهمتها دوريس خيبسون للشاعر البيروفي إيميليو أدولفو ويستفالين.
عندما تعرّفت عليه في يوليو أو أغسطس من عام 1958، كان آنذاك متزوجاً من بلانكا فاريلا. كانا يعيشان في دورٍ علوي صغير في سانتا بياتريز وقد استخدماه كمسكنٍ واستديو على السواء. عرفت من اللحظة الأولى أننا سنكون صديقين حميمين. الصداقة غامضة ومكثفة كالحب، وصداقة بلانكا وغودي أحد أفضل الأشياء التي حدثت معي، والتي أدين لها بكثير من التجارب المحفزة والدافئة، أعني التجارب التي تدعمنا في الأوقات الصعبة، وتكشف لنا أن الحياة، بعد بأن نقوم بحساباتنا، جديرة أن نعيشها.
تزوج بلانكا وغودي في عزّ شبابهما. كانا صديقين مخلصين، وقد ساعد كلٌ منهما الآخر على أن يصبحا، هو رسامٌ رائع، وهي شاعرة مرهفة وحساسة. ولكن حبّ زيزلو وشغفه العظيم كان ليلا، تلك المرأة الرائعة التي فهمته أفضل من أي شخص آخر، ومنحته ذلك الشيء الغامض صعب المنال وهو السعادة. أتذكر الآن السعادة الغامرة التي كانت تتلألأ في كل سطرٍ من تلك الرسالة التي كتبها لي يخبرني فيها أنهما أصبحا قادرين على الزواج. الآن، وبعد أن فكرت بالأمر بشكل أفضل، ربما يكون موتهما السريع والمفاجئ والمشترك، أفضل طريقة يمكن أن يموتا فيها. غير أن المشكلة الآن ليست مشكلتهما، إنها مشكلتنا نحن الذين لا نزال هنا: "مشكلة لا يمكن حلّها عندما نتذكرهم"، تماماً كما يقول الشاعر سيزار مورو، أحد الشعراء الذين يحضرون دائماً في ذاكرة غودي.
أعتقد أن غودي كان دائماً قريباً مني، يساعدني في صداقته السخية وفي جميع الأشياء الهامة التي حدثت معي تقريباً. لم أستطع أبداً أن أشكره بما فيه الكفاية أنه في السنوات الثلاث التي دفعتني الظروف فيها لكي أعمل في السياسة، كرّس نفسه جسداً وروحاً لهذه المهمة التي لا تتناسب مع شخصيته، مع صديقين آخرين هما– كرتوشو ميرو كيسادا وبيبو ثورنديك- خصوصاً فيما يتعلق في أكثر المسؤوليات حساسية كنفقات الحملة.
وبالطبع، كان الشخص الأول الذي فكرت فيه عندما ذهبت لاستلام جائزة نوبل للأدب، وهنالك كان موجوداً، رغم مشقة الرحلة الطويلة والاضطرابات الصحية الناجمة عنها. كثيراً ما وعدني أنه، في حال وافقوا على إدراج نصوصي في سلسلة لابلياد الكلاسيكية الشهيرة سيرافقني، وفعلاً كان هنالك في باريس مع فيثينتي، كما أن مداخلته في معهد ثربانتس كان لها وقعٌ شخصيٌّ احتفى به الجميع.
وفي كثير من الأحيان رأيته يواجه، رابط الجأش، خيبات الأمل، المتكررة في الحياة البيروفية. غير أن إحدى هذه الخيبات تمكنت منه ولم يستطع تجاوزها: موت ابنه لورينزو في حادث طائرة. لم يتوقف جرحه هذا عن النزف حتى في الفترات التي عمل فيها بشكل أفضل وبدا أنه مفعمٌ بالحيوية. لن أنسى أبداً تلك الأناقة الاستثنائية التي تعامل فيها مع رسالة بعض الزملاء البيروفيين الذي رفضوا فيها إطلاق اسمه على أحد متاحف الفن الحديث في ليما.
هذا الصباح، أثناء زيارتي لمعرض تريتياكوف، لم تمر دقيقة واحدة دون أن أفكر فيه. رحت أتخيل كم ستكون هذه الجولة الفنية في روسيا عشرينينات القرن المنصرم عظيمة لو كان برفقتي، روسيا كاندينسكي، وشاغال، ومالفيتش، وتالين، وغونشاروفا وغيرهم كثيرين. تذكرت كم كنت أتعلم منه عند زيارة المعارض وأنا أستمع إليه يتحدث عن الفن، وعن رسمه الخاص، وهو شيء نادراً ما يقوم به ولكي يتحسر على كل لوحة خرجت من ورشته فحسب، بغض النظر عن الجهد الذي بذله في رسمها: "إنها خسارة لا يمكن تعويضها".
كان يشعر بالأسى جراء الارتباك الكبير الذي يرسم معالم الفن الحالي، والخديعة التي ترتكب في عالم الفن، ويغذيها النقاد، وأصحاب الصالات، ومقتنيو الأعمال الفنية الجشعون الذين ليس لديهم أي حس، تماماً كما صرح في سيرته الذاتية التي نشرها في يناير من هذا العام (دار ألفاغوارا).
لم يخدع غودي أحداً أبداً، تعب كثيراً لكي يتابع مسيرته نحو الأمام منذ أن ترك دراسته للعمارة وبدأ الرسم، في سن الشباب، حيث ظهرت معالم الحركة التكعيبية في ضربات ريشته. ولكن مع اكتشاف الفن التجريدي، سلّم نفسه له، بانضباطٍ ودأبٍ وإصرار، وبذلك أعاد اكتشاف الواقع تدريجياً، من خلال وطنه، على مر السنين. أصبح فن البيروفيين القدماء هاجساً بالنسبة له في سنوات نضجه وراح يعبّر عنه في لوحاته مازجاً إيّاه مع شيء من الأشكال والألوان الجريئة للحركة الطليعية إلى أن استطاع أخيراً أن يبدع عالمه الخاص الذي تفصح عنه الغرف الغامضة والمنعزلة والهندسية، التي تحتوي على معابد وغرف تعذيب وخدع بصرية غريبة تسكنها أصنام توحي بعالمٍ بربريٍّ موجود قبل العقل، قائم على الغريزة، والسحر والخوف.
ربما من شدة وضوحه، لم يكن بمقدوره هو نفسه أن يفصح عن كل ما مزجه واستحضره في رسمه، غير أن بصيرته وحدسه وحرفيته العالية كانوا بارزين في لوحاته الجميلة، والقلقة والمزعجة والمربكة. أما الآن وقد رحل، تبقى لوحاته، وأنا على يقين تام أنها ستعيش أكثر من جيله، ومن جيلي، وجيل الكثيرين.
يقل العالم من حولي ويصبح أكثر فراغاً كل يوم.
[ترجمة جعفر العلوني]
[المصدر: صحيفة الباييس الأسبانية]
15-10-2017
الهوامش:
1- فرناندو دي زيزلو (Fernando de Szyszlo، 1925-2017): فنان تشكيلي بيروفي برع بالرسم والنحت. يعدُّ أحد أهم الفنانين الذين أدخلوا الفن الجديد إلى البيرو. كان له دورٌ حاسم في تطور حركة الفن التجريدي في أمريكا اللاتينية. أعماله مقتناة في العديد من متاحف العالم، أهمها متحف الفن الحديث في إسبانيا، ومتحف الفن في واشنطن.