(1)
يوجد سؤال واحد رئيسي غائب عن النقاش العام في الوضع الفلسطيني الراهن. وهو سؤال يبرز بوضوح وبقوة بفعل الإجابة السلبية على عدد من القضايا الملحة،أو على مطالبات هي قيد التداول في الحيز العام منذ سنوات عدة. وسأعود إلى السؤال الغائب بعد قليل، لكن دعوني، في البداية، أوضح كيف ينشأ هذا السؤال.
ينشأ السؤال الغائب بفعل الإجابة السلبية، راهناً على الأقل، عن جملة من الأسئلة تتعلق بقضايا أساسية. وأشير، تحديداً وابتداء، إلى ثلاث منها: الحاجة إلى إنهاء الانقسام ورأب الصدع، الحاجة إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الحاجة إلى فصل السلطة الفلسطينية عن منظمة التحرير، لأن إعادة بنائها سيتضمن تمثيلاً فعلياً للخارج الفلسطيني، والسلطة الفلسطينية لها علاقة بالداخل، أو بالأحرى، داخل الداخل، أي الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولإيضاح ما هو المقصود بإجابة سلبية عن هذه القضايا، أسأل ابتداء: ما هو المقصود بإنهاء الانقسام؟ وإذا كان المقصود تطبيق الوثيقة الرسمية التي وقع عليها الطرفان لإنهاء الانقسام؛ أي اتفاقية القاهرة في أيار 2011، وهي آخر اتفاقية في سلسلة من الاتفاقيات بدأت باتفاقية القاهرة الأولى في آذار من العام 2005، فإن بنوداً أساسية منها غير قابلة للتنفيذ. وأشير هنا إلى ثلاثة منها، وهي أهمها:
1. إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تنضم إليها حماس وربما الجهاد أيضاً. فحتى لو وجدت طريقة لإجراء انتخابات في الخارج، أو تم التوافق على صيغة للتمثيل، أو بالأحرى، وللأسف، للمحاصصة، ماذا سيكون موقف إسرائيل والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية والعربية أيضاً من منظمة التحرير عندئذ؟ سيعتبر أن المنظمة عادت لتكون "إرهابية"، ومن غير المستبعد أن تسحب إسرائيل اعترافها بها. ويمكن أن نتوقع أن يقوم الكونغرس الأمريكي بطلب إقفال مكتب المنظمة في واشنطن، وإيقاف الدعم للسلطة الفلسطينية، إضافة إلى تبعات أخرى غير مقبولة لقيادة المنظمة حالياً.
2. إعادة بناء الأجهزة الأمنية ودمج عناصر من حماس فيها. من الجلي أن هذا غير ممكن في الضفة، ولن تقبل حماس أن يتم ذلك في غزة فقط.
3. إجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التشريعي. هل يوجد أي ضمان أن لا تقوم إسرائيل باعتقال مرشحي حماس في الضفة قبل الانتخابات أو بعدها، كما حصل تماماً في انتخابات العام 2006؟ هذا إضافة إلى الحاجة لسماح إسرائيل بعقد انتخابات في القدس كما تم سابقاً في ظروف سياسية مختلفة، ولا يوجد أي ضمانة لذلك. وهذا بحد ذاته كفيل بعدم إجراء مثل هذه الانتخابات دون القدس.
لا أريد الاستطراد هنا في الحديث عن تفاصيل أخرى تعيق إنهاء الانقسام، ولكن أشير إلى أنه في اتفاقية سابقة من اتفاقيات القاهرة، في العام 2009، أضيف إلى الاتفاقية "ميثاق شرف" ينص أحد بنوده على عدم جواز "التخابر مع العدو وإعطائه معلومات، واعتبار ذلك خيانة كبرى". وقدأزيل هذا البند من اتفاقية 2011، ولأسباب غير واضحة تماماً!
في كل الأحوال، بالرغم من الحاجة لعدم رفع سقف التوقعات من ما اصطلح على تسميته مؤخرا بالمصالحة، توجد عدة أمور إن أنجزت بفعل وجود حكومة واحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ستحدث فرقا لا يجب الاستهانة به في الحياة اليومية لمواطني غزة المنكوبة، منها حل مشكلة الكهرباء وفتح معبر رفح والعمل على حل مشكلة المياه غير الصالحة للشرب. وأخيرا وليس آخرا إعادة إعمار غزة التي ما زالت أجزاء كبيرة منها مدمرة بفعل آخر عدوان إسرائيلي عليها. وإذا قامت "حكومة الوحدة" بكل هذا فيجب إعتباره إنجاز غير قليل حتى لو لم يتم تطبيق معظم بنود اتفاقية القاهرة الأخيرة.
(2)
لا أقصد من ملاحظاتي السابقة بخصوص آخر اتفاقيات القاهرة البدء بنبرة تشاؤمية؛ بتاتاً. ذلك أن جوهر ادّعائي هو أنه على الرغم من أهمية إنهاء الانقسام والنوايا الطيبة والمخلصة التي تقف وراء المطالبات المتكررة بذلك، فإن إنهاء الانقسام ليس هو الموضوع الذي يجب أن يحظى بالأولوية الآن. وفي كل الأحوال، أعتقد أن إنهاء الانقسام سيتم في حالتين فقط: الأولى، إن تطور الوضع إلى صراع ميداني أو برنامج مقاومة مستمر أيَّاً كان شكله، فسنرى هناك وحدة ميدانية على الأقل، أي إنهاء الانقسام ضمن إطار هذا البرنامج المقاوم. والحالة الثانية هي إن كنا على أبواب حل أو حتى تسوية سياسية مقبولة للطرفين، سيبدأ هناك حوار جدي حول مكان كلٍّ من الطرفين ودوره ما بعد التسوية.
أعود إلى السؤال الغائب. توجد قضايا أخرى تثير هذا السؤال، وتتعلق بالمشهد الفلسطيني الراهن، أو ببعض عناصره، منها التالية:
أولاً. بعد ما يزيد على ربع قرن من المفاوضات، منذ مؤتمر مدريد في نهاية العام 1991، لا يوجد لدينا ربع قرن آخر لإضاعته في انتظار مسار تفاوضي آخر. في الأثناء يسير المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية على قدم وساق، والآن في الضفة الغربية، بعد أن تم المشروع من ناحية الأرض في مناطق 1948. فالاستيطان مستمر، وسرقة الأرض والمياه والمصادر الطبيعية مستمرة، ويترافق هذا على الصعيد العام، ما يبان أنه استكانة تجاه هذا الوضع، ليس على صعيد القيادة فحسب، وإنما أيضاً على صعيد الجمهور العام. إن أعمال المقاومة الفردية التي بدأت في صيف 2014؛ أي منذ ارتكاب الجريمة النكراء بحق الشهيد محمد أبو خضير التي ما زالت مستمرة بوتيرة متقطعة، هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة كما يقال. أي إن غياب الفعل المقاوم الجماعي هو الذي يفتح المجال للتعبير الفردي عن الغضب العارم، الكامن، والموجه باتجاه أكثر من طرف، وقد يستمر باستمرار الظرف العام الحالي، سياسياً ومعيشياً.
وقد يبان أن هناك تناقضات في هذا المشهد، إذ ليس من قبيل المصادفة في مناسبات معينة أن يتحول هذا الغضب الكامن والمركب باتجاه آخر. ففي رام الله على الأقل، أو بخاصة في رام الله، شاهدنا في بضع مناسبات استهدافاً ومسعىً لتحطيم المطاعم، وبخاصة الفاخرة منها. نعم، صراع طبقي مستتر مرادف للمقاومة الفردية، وموجه في هذه الحالة نحو الخصم في الداخل. فالوطن ليس حفنة من تراب. ربما يجب أن نقرأ "فانون" مرة أخرى.
ثانياً.هذا الصراع المستتر مضاف إليه المقاومة الفردية، ليس في الغالب مشهد الطبقة الوسطى فما فوق. في هذا المشهد نجد المباني تُشيد، والأبراج ترتفع، والبنوك تقرض لامتلاك الشقق، ونزعات استهلاكية واضحة. طريقة حياة جديدة لم توجد قبل عقدين من الزمن: أن تعيش الطبقة الوسطي فما فوق على الدين، تقريباً مدى الحياة. يقولون إن الناس مرتهنون للبنوك، ويخشون أي "عدم استقرار" بفعل أي انتفاضة ثالثة، أو هذا أحد أسباب عدم وقوعها. استثمارات برؤوس أموال كبيرة تريد "الاستقرار" أيضاً. مبانٍ كبيرة واجهاتها كلها من زجاج، لا يساورها أي شك على ما يظهر أن حجراً ما أو رصاصة طائشة ستخدش كل هذا الزجاج. ثقة كبيرة في المستقبل وكأننا على أبواب دولة مستقلة ذات سيادة. مشهد سوريالي حقاً.
ثالثاً. يضاف إلى كل هذا ما يعتقده الكثيرون أن حل الدولتين انتهى، أو أنه شارف على ذلك، وهو قيد الانتهاء أمام أعيننا. يضاف إلى هذا ما يعلنه عدد من الوزراء في الحكومة الإسرائيلية من أنهم لن يتخلوا عن 60% من الضفة الغربية، أي مناطق جيم، وأن الوضع الراهن هو الأمثل من وجهة نظرهم، ولا يريدون حلاً سياسياً الآن، أي ليس قبل استكمال المشروع الصهيوني من ناحية الأرض في الضفة الغربية. نظام فصل عنصري، "أبارتهايد"، يترسخ يوماً بعد يوم: طرق مستقلة للمستوطنين، نظام قانوني مستقل عن الأوامر العسكرية، حصص في المياه أضعافَ ما يحصل عليها الفلسطينيون، فصل جغرافي وعدم تواصل بين مناطق التجمع السكانية الفلسطينية، حرية حركة وتواصل بالطرق بين المستوطنات ومناطق الـ48، ... وهكذا.
كل هذا المشهد بعناصره المختلفة ماثل أمامنا، وأغلبية من الجمهور مضاف إليها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في حالة انتظار على ما يظهر. انتظار ماذا، بعد ربع قرن من المفاوضات الفاشلة؟ أن يأتي الحل على يد الرئيس "ترمب" بعد أن أفشلت إسرائيل أسلافه؟ وأي "حل" هذا سيكون حتى لو أتى؟ في الأثناء، تزدهر المشاريع الفردية والشخصية في غياب مشروع جماعي أو تصور ما حول المستقبل. ومن الملاحظ أنه، أيضاً، لم تعد هناك مطالبات بحل السلطة كما كانت تعلو سابقاً في ظروف شبيهة، بما في ذلك عند بعض الأوساط في فتح، عندما لم يعد هناك ما يبرر وجودها في مراحلَ انسد فيها أفق الحل، بوجود افتراض فلسطيني أن مسار أوسلو سينتهي بدولة مستقلة. وهذا أيضاً من إمارات الاستكانة للوضع الراهن.
لقد قال لي أحد الشبان، مؤخراً، في العشرينات من عمره، قال: أنتم جيل مهزوم. لم يصدمني هذا الكلام على الرغم من قسوته. لكن ما حيرني هو أن 70 في المائة من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، هم دون الثلاثين من العمر، ولم يوجد سابقة في تاريخ فلسطين أو تاريخ الشعوب العربية أن تصبح الاستكانة للهزيمة، أو للظلم والهوان مشروعاً لهم للمستقبل، بدليل الانتفاضات الشبابية العربية الأخيرة، وليس هذه فقط. فهل نحن بين مرحلتين الآن؟ هذا سؤال وارد.
(3)
ربما لست في حاجة الآن إلى قول ما هو السؤال الغائب. فإنهاء الانقسام ليس هو الأولوية الآن على أهميته على المدى الأطول. وسيأتي دوره بعد الإجابة عن السؤال الغائب الذي سيوفر أرضية جديدة للنقاش وللعمل المشترك غير كيفية تقاسم السلطة، هذا "المغنم" الكبير تحت الاحتلال. إنه مغنم جيل منهزم لا إجابة لديه حول ماذا نفعل وإلى أين نحن ذاهبون، وهل يوجد لدينا أي خطة أو تصور عن برنامج جديد في مثل هذا الظرف؟ ولماذا لا يوجد نقاش علني لمثل هذه الأسئلة؛ نقاش جماعي في الحيز العام في الضفة وفي غزة وفي الشتات أيضاً، كموضوع حيوي حول المستقبل الفلسطيني تحت الاحتلال وما يمكن عمله غير الانتظار، عوضاً عن دعوات لرأب الصدع، وإن كانت صادقة وأمينة، لكن هذا لن يتم إلا على أساس برنامج جديد.
ولا تكفي الدعوة إلى مثل هذا البرنامج، بل يجب الحديث عن تفاصيله، على الأقل في خطوطها العريضة، وتحميل الجيل الشاب دون الثلاثين وغير المنهزمين منهم، الذين في تقديري هم الأغلبية، مسؤوليتهم في هذا المسعى. صحيح أنه جيل في الغالب غير منظم أو مؤطر ومغترب عن الأحزاب التقليدية، لكنه لن ينظم في عمل مشترك دون وجود فكرة، دون تصور حول أولويات المرحلة الجديدة هذه غير الانتظار، دون إجابة ما حول الأسئلة الغائبة.
لن أقدم هنا برنامجاً مفصلاً، وهو ليس شأن فرد واحد من الأفراد. لكن سأقترح نقطة متواضعة قد تصلح لبدء النقاش والحوار حول الموضوع. وأبدا بسؤال: في غياب حل مقبول فلسطينياً، وبانسداد الأفق في المدى المرئي، ما هو الرصيد الاستراتيجي للفلسطينيين تحت الاحتلال؟ وكيف يمكن تعزيزه وتحويله إلى مصدر قوة لها أثر ما على الأرض؟
إن الرصيد الاستراتيجي للفلسطينيين تحت الاحتلال هو وجود شعب على أرضه. هو الآن نصف عدد السكان في فلسطين التاريخية. لولا هذا لانتهت القضية، لأن المشروع الصهيوني يريد الأرض دون السكان. وهذه معضلة لهم لا حل لديهم لها الآن. قد يطمحون بتنفيذ نكبة أخرى؛ قد يتمنونها، لكن ليس من السهل إنجاز ذلك لأسباب عدة، منها عِبَرُ النكبة التي استوعبت فلسطينياً، والتبعات الإقليمية لنكبة أخرى قد تعيد المقاومة على محاور مختلفة مجاورة من جديد مع امتداد جغرافي على دول عربية عدة. هذا بعد أن تم تدجين منظمة التحرير ووضعها تحت الاحتلال كسلطة حكم ذاتي محدودة الصلاحيات.
ماذا يمكن فعله بهذا الرصيد الساكن الآن؟ للخروج من حالة الاستكانة هذه، لا بد من البدء بقضايا تمس مصالح الناس مباشرة في حياتهم اليومية، بعض منها له بعد سياسي غير مباشر، وبعض منها له بعد سياسي مباشر، مثلاً أزمة المياه الخانقة التي ما فتئت تستفحل عاماً بعد عام؛ المياه المسروقة من الآبار الجوفية للضفة الغربية. توجد قضايا أخرى تمس حياة المواطنين، منها التأمين الصحي، والأخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية، والضمان الاجتماعي، وعدم إدراك الحكومة لمسؤوليتها عن دعم رسوم الدراسة في الجامعات، على سبيل المثال لا الحصر. لقد شاهدنا كيف أن إضراب المعلمين وموضوع الضمان الاجتماعي حصل فيهما بعض الإنجاز بفعل وجود قدر من التنظيم الذي قد يأخذ أكثر من شكل. لكن إعادة بناء النقابات باختلاف أنواعها، وهي عديدة، إضافة إلى أي أطر لها قاعدة جماهيرية، هي العصب الحساس لتحقيق أي مطالب. وتوجد حاجة إلى فصل عدد من النقابات عن منظمة التحرير إذا كان الأمر يتعلق بمطالب من السلطة، إذ لا يسع المنظمة أن تُضرِب ضد نفسها، كما بان بوضوح في إضراب المعلمين، كون قيادة نقابة المعلمين ترى نفسها ممثلة لمنظمة التحرير الفلسطينية ضمن نطاق "الأطر الشعبية" في المنظمة، التي الآن أصبحت غير مستقلة عن السلطة الفلسطينية. وقد تجد بعض الأحزاب السياسية، المتقاعدة الآن، فرصة لإعادة بناء ذاتها حول مثل هذه القضايا، وبقيادات جديدة شابة ما زال المستقبل أمامها وليس خلفها.
هذه جميعها مهام مجتمعية سيلقى الكثير منها صدى خارجياً كحقوق إنسانية، لأن الكثير منها ستصطدم عاجلا أم آجلا بقيود الاحتلال بما فيها تلك المقيدة للسلطة الفلسطينية. وسيعزز هذا عمل الحملة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS)، التي تضغط على حكوماتها وممثليها في البرلمان لغرض مقاطعة إسرائيل، والتي تعتبرها إسرائيل خطراً استراتيجياً عليها، وخصصت وزارة كاملة للتصدي لها. لكن، لن يحصل شيء، ولن يتم الخروج من حالة الانتظار هذه، ما لم نقرع جدار الخزان أولاً. هنا أيضا سؤال آخر غائب: هل سيُقرَع جدران الخزان؟ هل سيُقرع؟
* ورقة قدمت في مؤتمر معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان السنوي الثالث والعشرين، 6 و 7 تشرين أول/أكتوبر 2017، في جامعة بيرزيت