كاتب/ة: ياسر عبد اللطيف
كان يتصفّح صورها على "الفيس بوك" إذ وجدها متاحة للجميع. تنقّل في مراحلها العمرية المتتالية نزولاً من خمسينياتها فأربعيناتها فثلاثيناتها فمرحلتها الجامعية وأخيراً صورها المدرسية. تصادقا منذ فترة، على ذلك الفضاء. أضافها لقائمة أصدقائه بعد أن أعجبته تعليقاتها الذكية وحسّها الساخر. لم تقل له صورها شيئًا كثيرًا. لكنه استيقظ ذات صباح في ساعة مبكرة استيقاظاً مباغتاً وقد تذكًر شيئا موغلاً في الماضي. نهض من سريره وشغَّل جهازه متوجها مباشرة إلى صفحتها على الموقع الأزرق ليستعيد تلك الصور. جلس واجماً محدقاً في الشاشة أمام واحدة بعينها من حقبة "الجامعة" كانت فيها بشعر قصير ووجه أسمر يحاكي جميلةً من جميلات ذلك العصر، السبعينيات السعيدة، لمعت كالشهاب وذوت سريعاً كان اسمها "حياة قنديل"، نسخة سمراء أكثر مصرية من سعاد حسني لم تحظ بشهرة تستحقها واختفت سريعاً من عالم السينما، وقيل ماتت... هي نفسها "نورا" القديمة كما عرفها في ذلك الزمان، كيف لم يربط قبل ذلك، سوى في التماعة الحدس هذه بين النوم واليقظة؟
رحلة اصطياف إلى مرسى مطروح صيف عام 1979، كان التلفزيون يذيع مسلسل "بابا عبده" لعبد المنعم مدبولي، والمصطافون في الفندق يتحلّقون حول الشاشة لمتابعته بشغف رهيب... تكبره بنحو الست سنوات، تجلس بينهم بشعرها القصير نفسه وهيئتها تلك تتابع غير مكترثة.
صار يتحيَّن الفرص للاقتراب منها في صالة التلفزيون، وعلى الشاطئ... كانت ترتدي لباس بحر أزرق من قطعة واحدة، وبعد بضعة أيام، وهو زمن كثير من حصّة رحلة المصيف بكاملها، كانا قد صارا متلازمين على الرمال: هو يبني قلاعا وهي تجلس بجانبه تعطيه إرشادات، وتحكي له أشياء عن قوة ألمانيا الاقتصادية على الرغم من خروجها من هزيمة ساحقة من سنوات قلائل. كأنها كانت تستذكر معلومات ستعينها في تفوقها الدراسي. هي انتهت لتوها من الثانوية العامة وتنتوي الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو ذاهب إلى الصفّ الأول الإعدادي يفهم القليل مما تقول. تقول إنها ستتعلم قيادة السيارات، فأبوها الدكتور عماد، سيترك لها عربته القديمة الفولكس فاجن البرتقالية لتذهب بها إلى الجامعة.
كحلم ليلة صيف انقضت إجازة الصيف، وصار هناك واقع جديد. هو يسكن الدقي وتسكن هي في مصر الجديدة، من أقصى شرق المدينة لأقصى غربها، و ست أو سبع سنوات من الفرق بينهما، وخجل عميق منعه من مهاتفتها. هو في مدرسة الأورمان، وهي الآن في جامعة القاهرة، التي لحسن الحظ ليست بعيدة عن مدرسته أو بيته. يخرج من درسه فيما بعد الظهيرة، ويسير بحقيبته المدرسية الثقيلة بضع مئات الأمتار حتى أسوار جامعة القاهرة. يمنعه الحرس من الدخول طبعاً، وكيف يتنكّر بسنواته الإثنتي عشرة في هيئة طالب جامعي؟ يطوف حول الأسوار، وقد عيّن بالسؤال والتقصّي مكان كلية العلوم السياسية، وجعل نقطة مراقبته أمام مبناها الضخم. يقف خلف قضبان السياج ساعة أو ساعتين علّه يلمحها بين الخلق. أسابيع انقضت من العام الدراسي الجديد ولم تظهر ولا مرة في أفقه. أمم من الطلبة والطالبات في حالة من المرح يتمناها ويغبطهم عليها. كأنّهم في نزهة لا تنتهي. يجيء يوميًا بعد المدرسة، ولا يراها...
ذاك اليوم كانت شمس الخريف لا تزال بجرأتها الصيفية. وقف طويلًا بحذاء السور الشهير يتطلّع عبر قضبانه الخضراء للزحام الفتيّ، صار الزحام كتلة صلدة متماهية من البشر بلا رؤوس أو أجساد. ويئس أخيرًا من إمكانية رؤيتها، لكنه لم يرغب في العودة بمثل هذه الهزيمة إلى البيت. لا بأس إن تأخر قليلًا، فاليوم الخميس وغدًا عطلة نهاية الأسبوع. سار في الاتجاه العكسي لبيته بجوار السور نحو جهة يجهلها. لطالما انتهى عالمه عند تلك الحدود، سور حديقة الأورمان، ثم مؤخرًا سور الجامعة الذي صار يتطفل عليه كلّ يوم. ليمش إذن نحو أراض جديدة، يُسمح لنا في الثانية عشرة من العمر أن نمضي لأبعد من أطفال الحادية عشرة. على يساره، عبر السور، ترك مبنى كلية العلوم السياسية، تلته مباني كلية التجارة وحولها زحام رهيب أضعاف طلبة السياسة، ثم يمشي ويمشي ليجد على يساره مبنى أغبر كئيب يبرز خارجًا من سور الجامعة ذاته عند نهايته قبل أن ينحرف يسارًا في شارع السودان:" إصلاحية الأحداث"! هكذا كانت تقول اللافتة على ذاك المبنى. رأى بعين خياله طرقات مظلمة تمتدّ إلى ما لا نهاية، على جانبيها عنابر مليئة بالأسرّة تشبه عنابر المستشفيات، وسمع صراخًا مزعجًا يتصاعد، أصوات لأطفال وصبيان في مثل عمره تختلط في نوتات حادة وغليظة وتتردد أصداؤها وتعلو كأنها تتابعه. ثمة ضوء في نهاية الطرقة وهو يجاهد ليلحق به فارًا من الظلام وصوت الصراخ المرعب. لن يراها بعد الآن، انتهى الصيف وانتهت معه. تتراجع الصرخات وتذوي وتمتزج بضجيج السيارات في شارع السودان مع صدمة الضوء المبهر. لقد انحرف يسارًا مع السور. أول مرة تطأ قدماه هذا الشارع بمفرده. لم اسموه شارع السودان؟ هل لأن قطار الصعيد يمرّ من هنا وامتداده بالتأكيد يقود إلى السودان؟ ولا يزال سور الجامعة بقضبه الخضراء على يساره كما كان مستمرًا بعد تجاوز مبنى الإصلاحية. هو الآن بحذاء السور الغربي لحرم الجامعة. يسير ويسير ويبتعد، صار على مسافة غير معلومة من البيت. ثقلت حقيبته عليه ولا يزال السور ممتدًا وإن اختفت مباني الكليات وإصلاحية الأحداث وبدت خلف قضبان السياج مساحات جرداء شاسعة، عند نهايتها البعيدة في الأفق تبدو النخلات العالية التي تصطفّ بحذاء السور الشرقي على الجهة الأخرى على مبعدة نحو كيلو متر حيث بوابة الجامعة الرئيسة. كانت قبة مبنى إدارة الجامعة الشهيرة تبدو كنهد نحاسي يلتمع تحت الشمس تبرز فوق غمامة خضراء من رؤوس الأشجار. وجد فجأة على يساره بوابة حديدية مفتوحة، تعلوها لافتة تقول: "المزارع التعليمية- كلية الزراعة جامعة القاهرة". لم يتخيّل أبدًا أن الجامعة بهذا الاتساع، بل ولها مزارع "تعليمية" أيضًا. يفهم بالتقريب ما تعنيه الكلمة، فلكلّية الطب مستشفى تعليمي يتعلّم فيه الطلبة على جثث العباد، وهذه إذن المزرعة التعليمية لطلبة الزراعة! بالمنطق. ما من حارس أو عسكري ولا حتى بوّاب يقف بهذا المدخل، على غير عادة بوابات الجامعة الصارمة. انحرف داخلًا دون تفكير في ممشى ظليل على جانبيه أشجار عالية. وكلما تقدم في السير كانت الأشجار تزداد تشابكًا وتخفت حدة ضوء الشمس تدريجيًا، حتى تنفرج السماء فوقه عن فتحة بين التشابك الأخضر فينتقل خطوه على أرض مشمسة دافئة، لكن سرعان ما تبتلعه الظلال برطوبتها ثانيةً. كان يسير مأخوذا كأنه اكتشف غابة إستوائية في قلب المدينة. تنحرف انحرافًا بسيطًا فتخرج من الزمن. يتذكر زمن الحرب. كان الراديو يذيع أغنيات وطنية وحماسية طوال الوقت، كانت إحداها تقول "سكت الكلام والبندقية اتكلمت". وقف مرةً أمام المرآة، طفلا هزيلا في فانلة داخلية وشورت وقد ربط إلى كتفه عصا خشبية صغيرة بخيط سميك، وكأنها بندقية. وأخذ يؤدي تمرين "محلك سر". السير في موضعك ذاته طريق لا ينتهي، والأطفال في هيئة عسكرية أمام المرآة أيقونة عابرة للثقافات والأجيال. يغذّ في السير في محله وتتبادل ركبتاه الإرتفاع والهبوط، ويزيد من سرعته فهو يجري لا يسير ويردد نشيدًا آخر غير البندقية التي تكلّمت "رايحين رايحين شايلين في إيدنا سلاح.. راجعين رافعين رايات النصر".يتصاعد الأيقاع بالنشيد والركض وهو يرى نفسه يبتعد ويبتعد عنها حتى عبر إلى الجهة الأخرى. لم يعرف ما الذي حدث له تحديدًا. لكنه من يومها لم يعد كما كان. تُرهِّب الخرافة الشعبية من التحديق طويلًا في المرآة، ويقولون أن ذلك يُصيب بالجنون. لكنّ التحذير يبدو موجّهًا للفتيات أكثر منه للأولاد، وهو ككثير من الخرافات الشعبية يهدف لإحكام السيطرة الذكورية بضعضعة أي بوادر لنرجسية محتملة لدى نساء المستقبل. من يومها صار اثنين، واحدٌ يلعب وآخر يراقبه ويراه سخيفًا. هناك الطفل العسكري في المرآة، وهناك من يراه يؤدى التمرين في انهماك لكنه لا يستطيع إيقاف حركة جسده ذاته الذي يراه تافها وطفوليًا على السطح الأملس. لاحقًا وبعد نحو ثلاثين سنة سيقرأ لدى جاك لاكان عن "مرحلة المرآة". لكن مرآة الطبيب الفرنسي يكتشف الطفل فيها ذاته بين عمري الستة أشهر والعام والنصف، وهو ما يعتبره العلّامة أول عتبات اغتراب الإنسان قبل اغترابه الكبير مع اكتساب اللغة. اللغة اغتراب! اللفظ منية، اللفظ حجر. يقول الشاعر. لكنه كان فوق الرابعة بقليل وقتها، وكان يلعب بالكلام لعبًا، ويغني أناشيد الحرب. لم يعد طفلًا من يومها، لم يعد يلهو، وحتى قلاع الرمال على شاطئ "روميل" بمطروح، لم تكن تهدف إلا لاصطيادها. كانت فخًا مُحكمًا من زير نساء لم يبلغ الثانية عشرة، وقد سقطت في الشرك فعلًا وجاءت تشاركه اللهوَ والبناء وتعطي إرشاداتها كواحدة تكبره بست سنوات. ترتدي بعد أن تخرج من البحر شورتًا من الساتان الأبيض فوقَ المايوه الأزرق، وللشورت أيضًا حواف زرقاء شرائط رفيعة من الساتان الأزرق مخيطة في الساتان الأبيض. بحركة أنيقة تنفض الرمال البيضاء الناعمة عن قدميها الرقيقتين ثم تحفظهما في الجوربين. يسألها: ما هي أقوى دولة في العالم؟ ترد بعلم مكين لفتاة في الثامنة عشرة: لو بتتكلم عن الاقتصاد هانقول ألمانيا!". تشرح له أن القوات النازية كانت تحتل هذه المدينة نفسها، بل إن مقرّ قيادتهم كان على هذا الشاطئ نفسه، وأنهم كانوا يتقدمون باتجاه الإسكندرية عاصمة مصر الثانية وقتها، عندما أوقفتهم قوات الحلفاء عند العلمين وهزمتهم. لا زال يسير غائبًا كالمخدر في الممشى الطويل الظليل داخل المزرعة التعليمية. ضوء الشمس يسقط مترشحًا من بين الأغصان المشتبكة فوقه ورائحةكلوروفيل ورطوبة قوية تضبب نهار الثالثة ظهرًا لمغرب مُسكر. انتبة فجأة على أصوات غريبة كأنها قوقأة دجاج، فعاد إليه وعيه ورأي يسارًا على جانب الطريق منطقة مسيّجة بأسلاك شبكية خلفها تحتبس مئات الدجاجات والديوك، حمراء وبرتقالية زاهية يلتمع ريشها في الضوء السحري. انتبهت الطيور جميعها في ثانية واحدة لظهور جرم غريب قادم على الممشى أمام حظيرتها. فخرست فجأة وساد صمت مخيف، واشرأبت أعناقها وانتصبت الأعرف الحمراء، وتابعته آلاف الأعين الصغيرة المستديرة ريثما تجاوز حظيرتها، ثم نسيته ذاكراتها السمكية، أو قل الدجاجية وعادت لقوقآتها المكتومة تنقر حبًّا وهميًا في الأرض. غادر منطقة الدواجن وأوغل في الطريق الظليل. كانت تتفرع على جانبيه مسارات ضيقة تقود بالتأكيد لمناطق أخرى داخل المزرعة. وهو يمر القي نظرة داخل أحد هذه الطرق الجانبية، فلمح في البُعد كائنات سوداء تتحرك خلف سياج يشبه سياج الدجاج. انتظر برهة محدقًا حتى انجلى بصره فعرف فيها معيز سمع ثغاءها يأتيه من بعيد خافتًا متقطعا. تذكر أن هناك كشكًا أخضر اللون في شارع الجامعة بجوار المدرسة السعيدية، مكتوب عليه " منتجات كلية الزراعة". يشتري منه أبوه أحيانًا الجبن الأبيض قليل الملح من لبن الماعز، وعسل نحل فاخر من رحيق زهر البرتقال، وليمون بنزهير أخضر، وليمون أضاليا أصفر مخلل ومعصفر، وأقفاص مانجو تيمور وألفونص وسنّارة، ومربى البلح والجزر والمشمش، وزبادي جاموسي شديد الدسامة والبياض، وزبادي بقري يميل إلى الإصفرار، وبيض اليوم الطازج بأسعار أرخص من أسعار السوق. ثمة بورصة للبيض كبورصة الأوراق المالية وبورصة القطن طويل التيلة القديمة، تتارجح معها أسعاره هبوطًا وارتفاعًا كلّ يوم. أما هنا فلا! البيض جيد وسعره ثابت ومدعوم! يقول أبوه بجزم. استنتج، وبحسابات هندسية وجغرافية بسيطة، أن هذا الطريق الذي لا ينتهي يقود في النهاية إلى شارع الجامعة، ربما إلى ذاك الكشك تحديدًا. لكن التفاف الأشجار وكثافتها كانا لا يسمحان برؤية الأفق.
عندما وجد الحجر الملائم كمقعد على جانب الطريق، جلس ليلتقط أنفاسه قليلًا ويفكر متى وكيف سيعود إلى البيت، وكيف يقنع نفسه أنها ضاعت منه للأبد وسط ذلك الزحام. لو كان أكبر قليلًا لكانت معه بالضرورة علبة سجائر ولأخرج واحدة وجلس على هذا الحجر يدخن، في المكان واللحظة الملائمين لهكذا فعل، ولكن التدخين سيأتي لاحقًا، وفي مستقبل قريب. وتحت الأشجار الباسقة أمامه، كان ثمة حوض زهور مسيج أيضًا بنفس الشبك، علقّت على السياج لوحة صغير من المعدن الأبيض كتب عليها بخط أسود "نباتات مخدرة". نبتات مبرعمة متوسطة الارتفاع بأوراق عميقة الخضرة كأوراق النعناع أو الملوخية، وأخرى بأوراق صغيرة وزهور بيضاء ووردية، تحمل بطاقات كتبت عليها فصائلها بالعربية ولاتينية لا تُقرأ لتجاور متحركات وسواكن لا تتجاور فيما يعرفه من بعض الإنجليزية. قام ليطالعها عن قرب ويقرأ أسماء النبتات بالعربية: قرظ جبلي، نبتة اليبروح، نبات أبوجا الغيني، قات يمني، قنَّب هندي، نبات ظلّ الليل، زهرة مجد الصباح المكسيكية. أعجبه الاسمان الأخيران. كان يقف شابكًا أصابعه في فتحات السياج يطالع تلك المحرمات ويفكر لمَ يسمون نباتًا مخدرًا بظلّ الليل وآخر بمجد الصباح؟ وعندما فجأة أفزعه شيء يعبث تحت قدميه أسقط قلبه من الرعب، كانت مجرد واحدة صغيرة من تلك العنزات، لا بد وقد تسرَّبت من الحظيرة غير البعيدة تتحس بخطمها الأرض تحته وتأكل المتاح من عشب وورق ساقط. تركها ترعى وعاد إلى مجلسه على الحجر يفكر فيما سيفعل . هبط فجأة عليه الظلام. ظلام أخضر كذلك الذي يخبطنا عندما نتعرض للكمة قوية في الأنف. لكنه ظلام لا تخامره ريح الدم التي تلازم لكمات الأنف، بل الأريج الحاد والمدوخ للنسغ في أوج نشاطه قبل الشتاء. قضت العنزة على المتاح المبذول من ورق على الأرض، فاستدارت إلى الكنز الفوّاح خلف السياج وراحت تقرض الورق البارز من فتحات الشبك وتجذب الأفرع تقرّبها وتلتهم البراعم والأغصان. وقد يحدث أن تكون جليسةَ أطفال له ولشقيقه الذي يصغره بأربعة اعوام. ليسا طفلين، أو هو تحديدًا ليس طفلًا، كما أن مفهوم جليسة الأطفال لم يكن معروفًا في مصر أو في عائلتهم بشكل أدق. فقط طُلِب مِنها أن تبقى معهما مدة أسبوعين سيغيب فيها الأب والأم في رحلة العُمرة إلى المشاعر المقدسة. قيل لها سيكون ذلك مريحًا لك، لن تضطري لقيادة سيارتك الخنفساء البرتقالية يوميًا من هيليوبوليس حتى جامعة القاهرة في الجيزة، فبيتهم على مرمى حجر من كليتها. في اليوم الأول من مدة الرحلة عاد وشقيقه من المدرسة في نحو الثالثة، كان الأبوان قد انطلقا إلى المطار في سيارة الخال منذ الصباح، ونورا ستعود من الجامعة في السادسة لتبقى معهما كما قد عرفا. هناك متسع من الوقت للعب، وللتخطيط أيضًا. بالطبع لا مذاكرة ولا واجبات مدرسية تؤدى. فكّر أن في بيتهم غرفتي نوم: الكبيرة بسريرها الكبير للوالدين، والصغيرة له ولشقيقه بسريريها الصغيرين. من المرجح أن نورا ستنام خلال الأسبوعين الذين ستقضيهما لديهم في غرفة النوم الكبيرة محل الأبوين، أو على الكنبة الوثيرة أمام التلفزيون في حجرة المعيشة. بعد الغداء الذي تناولاه باردًا من الثلاجة، انخرط وشقيقه في مباراة طويلة من "بنك السعادة" وأثناء اللعب استحضر كل تراث القصص المرعبة عن الجان وأرواح الموتى ليقصه على الصغير. حكى عن "عزيزة مكرونة" القاطنة في سوق الدقي القديمة، المرأة التي تخاوي الجنّ وتسيطر على ابنة جيرانها سيطرةً تامة فتحركها وتجعلها تخلع ملابسها بالكامل في المدرسة، وحكى عن كمّ كبير من البيوت المسكونة التي يعرفها في المنطقة: بيت بائع الدقيق في السوق ذاتها، المليء ببنات عرس تجري وتتقافز في أرجائه ثم تختفي فجأة دون مقدمات، وشقة الدكتور موسى في ميدان المساحة، الأستاذ الجامعي الذي قتله لصّ منذ سنوات ليسرقه، ولا يزال السكان يشاهدونه عبر الشبابيك يتحرك في ظلام الشقة الشاغرة ليلا في روب منزلي. وحكي عن زميله في الفصل الذي قام ليذهب إلى المرحاض ليلًا، فوجد حمارًا أبيض في ظلام صالة الشقة وبجواره رجل يلبس جلبابا ويحمل دفًا يدق عليه، رفعه ووضعه على ظهر الحمار وسار به نحو الشرفة المفتوحة، وكاد أن يخرج به عبرها لولا أن ظهر أبوه فجأة وأشعل النور ، فاختفى الرجل والحمار وسقط هو على الأرض! وعاد وزاد قصصًا أخرى من هذا القبيل مذكرًا أخاه أنّهما سينامان وحدهما تقريبا في البيت، وستكون نورا بعيدةً ولن تهرع لطمأنتهما وقت تلزم الحاجة. وهكذا أوحى له بالفكرة دون أن يصرّح بها. سيتولى شقيقه بإلحاحه الباكي المعروف إقناع نورا، أو بالأحرى إجبارها على النوم معهما في الغرفة دون أي تدخل من جانبه. لكن المنطقي أنها ستنام مع الصغير في سريره لدواعي المساحة والأخلاق. وهنا يجيء الجزء الثاني من الخطة: اقترح على شقيقه أن يحرّكا أحد السريرين، فيلصقاه بالآخر، حتى يناما آمنين متقاربين كأنّهما في سرير واحد كبير! تحمّس الصغير على الفور فاستجمعا كلّ قواهما وزحزحا سريرًا نحو الآخر، فانتفى الممر الصغير بينها وبدا شكل الغرفة غريبًا غير متناسق.
عادت نورا من الجامعة مع هبوط الليل، وكأنها كانت تعود دائمًا إلى هذا البيت. ما من شيء استثنائي أو احتفالي كما تصوّر. فتحتْ الثلاجة بتلقائية، وجهّزت غداءها. سخَّنته ولم تتناوله باردًا مثلهما. ثم جلس ثلاثتهم في غرفة المعيشة يتفرّجون على التلفزيون ويتبادلون الأحاديث الصغيرة. وتمتد الأمسية، ويفوت الوقت بطيئًا، ثم دخلوا في السهرة. اليوم الخميس والتلفزيون يعرض مسرحيةً قديمةً. ويعني هذا أن انتظار اللحظة المرتقبة سيطول ويطول. المسرحيات عادةً أطول بكثير من الأفلام. كان لا بد على أي حال أن يذهب إلى السرير الموحَّد قبلهما. أولاً، ليترك أخاه يمارس ابتزازه الباكي عند لحظة الذهاب إلى النوم فلا يضطر هو للتدخل بأي شكل، وثانيًا كي يحجز الموقع الوحيد الذي يرجوه على الفراش. فرد بطانيةً كبيرةً استعارها من غرفة أبويه، ودخل تحت الغطاء، ونام بالضبط فوق خط التقاء السريرين. هكذا سيؤمّن الجناحين وقد توسط المساحة في مركزها. قبع في الظلام تحت الغطاء ينتظر، والنور يأتيه من غرفة المعيشة في الخارج مع صوت المسرحية وضحكات أخيه ونورا. نافد الاعصاب ولا يريد أن يتقلّب ليداعب قلقه، فتفوته أي نأمة قد تدل على استعدادهما في الخارج للذهاب للنوم، كانت أذناه منتبهتين كأذني خفّاش. ربما غفى قليلًا، ولكنه استيقظ على نور الغرفة يُضاء. كانت نورا في ثوب منزلي تنظر له مندهشةً من وضعه متمركزًا في منتصف السرير وسمعها تقول له ضاحكةً:"إنت نايم كدة ليه؟" لم يرد وتظاهر بالغرق في النوم مجددًا. فهم أن حركته مكشوفة، ولكن ضحكتها لم تشكل اعتراضًا على أي حال. أُطفئ النور، ودخل الاثنان الآخران كلّ في جناحه من الفراش، هي على يمينه وشقيقه على اليسار. لمس كتفُها كتفَه في اطمئنان وطمأنة، وشعر بالدفء يسري في كلّ جسده وأخذ قلبه يدق بقوة حتى خشي أن يكون صوته مسموعًا فيفضحه. ومرة ثانية، انتظر طويلا في الظلام، ولكن بكتفه في كتفها هذه المرة، وحضورها بجواره يكهرب الفضاء الدافئ تحت البطانية. لمس قدمها برفق، وكانت قدماه مثلجتين من القلق والإثارة، فصدمتها البرودة وأبعدت قدمها لوهلة، ثم أعادتها لتستقر بجوار قدمه تلمسها في براءة. بعد نحو ساعة، مال لإقناع نفسه أنها نامت استنادًا لانتظام صوت تنفسها الذي خاله غطيطًا رقيقًا. فتجرأ، وفي حركة تفتعل التلقائية وترك يده تستريح على فخذها. وازداد وجيب قلبه إذ نزلت يده على لحم فخذها، كان قميص نومها منحسرًا، فرفع كفه لمنطقة أعلى فكان العري مستمرًا أعلى فأعلى. ثوبها مرفوع لما فوق وسطها! وهو منتصب ونفسه ثقيل من الإثارة. وأخيرًا استقرت يده على مثلث القماش الناعم فوق دلتا فينوس، وتركز كلّ وعيه وحساسيته في هذا الكف، يستشعر تحت القماش الدغل الكثيف والتضاريس الناعمة التي تتخلله. كان يتساءل كيف تكون الخطوة القادمة ويفكر بذهن ملتهب في طريقة يتجاوز بها حاجز القماش الرقيق، فإذ بها تنقلب عليه، وتحوطه بفخذها ليستقرّ المثلث نفسه فوق البروز في بنطلون بيجامته. لم يدر كم لبثا، ولا متى ناما، لكنه استيقظ بعد الفجر بقليل مبتلًا للمرة الأولى. وكان عليه أن ينهض مبكرًا ليذهب إلى دروس التقوية التي يحضرها في صباح العطلة بالمدرسة، يسمونها "مجموعة"، وهو يذهب متثاقلا في كلّ مرة لسخافة توقيتها، لكنه نهض هذه المرة بلا تردد حتى يتلافى مواجهة صباحية لا يعرف كيف يتصرف فيها. ارتدى ملابسه على سرواله المبتل. ونزل إلى شوارع الدقي الخاوية في صباح الجمعة المبكر، يسير نحو المدرسة تخامره مشاعر مختلطة بين الفخر والقداسة والاحساس بالانتقال لعصر جديد. وفي الدرس بقى ذاهلا يطالع معادلات الجبر كأشكال مبهمة فوق إبهامها الطبيعي. وعند عودته، كانت المساجد الصغيرة تفرش حصرها في الشوارع ومكبرات الصوت تسلِّك حناجرها استعدادًا لصلاة الجمعة. فتَحَ باب الشقة، ووجدها جالسة على طاولة الطعام تُذاكر في كتبها. رفعت رأسها إليه وابتسمت ابتسامة ماكرة، فارتبك وسألها: "فيه إيه؟". قالت له: "وحشتني!". كانت العنزة تجرجر رجليها الخلفيتين وتسير مترنحةً يمينًا ويسارًا مبتعدة ببطء في الطريق الجانبي المفضي إلى الحظيرة. نورا كانت بأعوامها الستة التي تفوقه بها وكأنها تخاطبه دائمًا من مكان شاهق جماليًا رغم حنانه واحتوائه العطوف. وكان جسدها الأسمر الناحل الجميل أول وثن حسي يعرفه ويلمسه ويتشممه بكامل الوعي الذي يتفتح. أما الآن، فالمسافة بين الخامسة والأربعين والواحدة والخمسين ليست كالمسافة بين الثانية عشرة والثامنة عشرة. والوثن الممدد جانبه في شقة بمدينة الرحاب لم يعد بالحدة والنحول نفسهما. وسيارتها وإن كانت لا تزال فولكس فاجن برتقالية، فهي ليست الخنفساء برازيلية الصنع موديل السبعينات بل جولف طراز 2014. الدكتورة نورا عماد أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة السويسرية في مدينة ستة أكتوبر لم تدخل الخمسين "بكامل مشمشها "كما يقول محمود درويش الذي لن يتبقى منه بعد زوال القضية وقهوة أمه وخبزها، ومعاطف الجبال والمغول وشجر السنديان، سوى هذه الصورة. صار مشمش نورا معتّقًا، ياميشًا، قمر الدين، مربى مشمش من انتاج كلية الزراعة في السبعينيات. ومن قال إن طفلًا أبديًا وكهلا سرمديًا مثله يقيم وزنًا للطزاجة والنضارة على حساب هذه الحلاوة اللاذعة!