الكاتب/ة: زهير كريم
- قصة قصيرة -
كان نعيم، الابن الأكبر للأستاذ فاخر، مدرس الرياضيات في ثانوية بغداد، يحلم كثيرا. حسنا، كلنا نحلم، بعضنا يحلم أكثر من غيره بوقائع يمكن تفسيرها حسب كتاب ابن سيرين، وبعضنا لا تنتج مناماته سوى عجينة من الأحداث المضطربة التي لا يمكن تفكيك عناصرها عند الاستيقاظ، لكن الذي يحصل لنعيم رومانتيكا الذي حاز على هذا اللقب المتداول بين اصدقائه بسبب خياله الطليعي في اجتراح كل ما لا ينتمي إلى بركة الواقع الضحلة، ليس مجرد نشاط عصبيّ يحدث أثناء النوم وينتهي كل شيء عند الدقيقة الأولى بعد اليقظة، أبدا، فأن الوجه الحقيقي لتجاربه الحلمية من النوع الذي يترك أثرا على وظائف الجسد، وترطيبا للعقل وانحرافا في مسار المستقبل أيضا، إنه نشاط يعبّر عن القوة التي تنبع من العالم الداخليّ، عندما تسحب هذه القوة الحالم إلى الينابيع البعيدة، فتفتح الرغبة فمها وتشرب، تشرب حتى ترتوي.
وكان انتقاله يحدث بسلاسة في معظم الأحيان، حيث يكون ثمة تماثل، بل تطابق كامل في المكان والزمان ولا وجود في أية واقعة حلمية مرت به، لعلامة فاصلة بين عالمين، ولقد كانت المرة الأولى، عندما سافر الى بوخارست، كان هذا حلمه الأول الذي أدى إلى تغييرات عنيفة أثرت بشكل أو بآخر في تجاربه اللاحقة، وفي الواقع، كان هذا الحلم في الأصل مخصصا لأبيه، لكنه استيقظ لسقوط أوان وأكواب في المطبخ، أحدث ذلك صخبا، ففز ولم يستطع بعدها إكمال حلمه، لهذا تمنى فاخر الذي أصبح مدرس رياضيات عكس ما توقعه المحيطين، أن يتخذ ابنه مهنة الطب وبإصرار لامثيل له، متخليّا عن القاعدة التي يتمنى بها الآباء أن يسلك الأبناء الطريق نفسه للحصول على الوظائف نفسها، وأصل القصة يتعلق بكون الأستاذ فاخر قد حلم بدراسة الطب، لكن أبيه أراده أن يكون محاسبا أو موظفا في بنك.
وعلى كل حال، وجد نعيم نفسه بعد ستة أشهر في الهند، كيف حدث ذلك؟ خاصة وأنه ارتبط بعلاقة غرامية مع زميلة له اسمها آندي ريا والتي يلقبها الاصدقاء بفراشة بوخارست وله اصدقاء رائعون قضى معهم وقتا طيبا، واحد كان يعمل في التجارة اسمه حسن دوح ، والآخر كان يعمل في مجال المطاعم اسمه وليد إبراهيم. على كل حال، الأوضاع كانت غير مريحة إطلاقا، إذ ظهر في تلك الأيام شريط فديو، شاهده الجميع وكان خيط الدم الذي سال من تحت جثة نيكولاي شاوشيسكو مربكا ومثيرا لاضطرابات كثيرة . حسنا، اشتغل نعيم أولا سائق تكتوكة في دلهي بمجرد وصوله إلى هناك، رغم أنه لم ينس حلمه القصير الذي كان يتضمن دراسة الطب، وثلوج رومانيا وآندي ريا والأصدقاء، لكنه حاول من أجل التأقلم مع الجو الجديد أن لايفكر بهذه السيرة التي انفرطت خطوطها بسرعة. على كل حال، تزوج بعد فترة قصيرة من شابة جميلة تشبه هيما ماليني، أعجبته فيها تلك الحلقة الفضية التي تضعها في أنفها، وأثاره جسدها الممتلئ الملفوف بالساري كأنه حبة مانجو، وقد استعجل كثيرا لتقشيرها، وكان قد تابع محبوبته في طريقها إلى عملها في محلّ للملابس التقليدية، ثم استوقفها في أحد الأيام، حياها بالطريقة المعروفة المليئة بالاحترام، حيث وضع كفيه ملتصقين باتجاه راحة اليد، ثم اعترف لها بحبه، ابتسمت، واعترفت له بحبها، وكانت تقول له: أنت هديتي العظيمة التي لن أحتاج بعدها لشيء. كانت تنطق كل ذلك بانكليزية مكسرة، الكلمات تخرج من فمها مطحونة كأنها غبار يشتته الهواء الخفيف، فيركض نعيم رومانتيكا خلف الكلمات، يقفز في كل الإتجاهات، ويطير أحيانا ليجمعها، يصفها معا ليكون الجملة التي يفهم من خلالها الرسالة العاطفية التي نطقتها هيما ماليني. بالطبع كان ذلك قبل أن يتعلم اللغة الأوردية والمغنيين الهنود، بالنسبة له كان يحب الغناء جدا، ولم يمنع نفسه من تجريب أداء حنجرته كلما سنحت له الفرصة، ثم إنه اكتشف بالفعل أن صوته يصلح الغناء الهندي الكلاسيكي بتشجيع من بعض الأوغاد، فكان يغني للركاب وهو يقود تكتوكته، يغني في السوق، وفي الليل كذلك، لكن بشغف مضاعف عندما تكون زوجته التي تشبه هيما ماليني مصغية لصوته الذي لا يبدو للآخرين في الحقيقة سوى صوت غراب ينعق يستحق الكثير من المجاملات الفارغة، أو الضحك أحيانا، وكانت الأغاني جميلة كما تقول زوجته، رغم أنها لم تسمعها من قبل، قال لها إنه حفظها منذ زمن بعيد، بالضبط عندما كان شابا صغيرا، وكان له أصدقاء هنود ضمن كادر الشركة الهندية التي نفذت مجاري المياه الثقيلة في مدينة الثورة، وهم نفسهم، أولئك الأوغاد، من ونوا له ذائقة تتعلق بأكل الرز المخلوط بالكاري، وفي الحقيقة، لم يكن نعيم رومانتيكا في أوقات العاطفة المتأججة حيث يتردد في مشاركتها الرقص، بالطبع بتلك الطريقة التي كان يشاهد بها الراقصين في الافلام التي تعرضها سينما النجوم في شارع السعدون.
على كل حال، كانت حياته تسير بوتيرة هادئة وتنمو باستمرار باتجاه الأفضل طبعا، فلقد استأجر بعد عام واحد فقط مخزنا كبيرا، ثم بدأ يصدّر البهارات إلى الخارج، ثم انتقل إلى حيّ كروكاو في شمال المدينة. حسنا، كان بيتا يشبه القصر، ولم يعد في تلك الفترة يلتقي بأصدقائه سائقي التكتوكات الذين نام مثلهم في الشهر الأول من وصوله في الكراجات، أو في الشوارع. و بالطبع تعلم خلال هذا الحلم الطويل اللغة الأردية والانكليزية بلكنة كما ينطقها الهنود تماما، وتعلم كيف يهزّ رأسه مثلهم. وبالفعل كان سريع التعلم، وبالقدر الذي مكنه حتى من حفظ مقاطع طويلة من الملحمة الشعرية مهابهارتا، ثم جاء اليوم الذي أنجبت فيه زوجته طفلة نحيفة وسمراء، كان سعيدا بها وسماها كافيتا، ولم يخرج من هذا الحلم إلا بعد خمس سنوات. في ذلك الوقت كانت فيه كافيتا قد أصبحت كبيرة، تتحدث الأوردية والعربية بطلاقة، ولم يكن يمنعها من الذهاب مع أمها للمعبد فتقدمان النذور وتنثران الأزهار بين يديّ المعبود، والحقيقة أن نعيم، لم يكن يهتم لطبيعة عقيدة زوجته، والتي كانت تمارسها كمن يستهلك شيئا ما بنهم، لم يعترض على أنها تنفق الكثير على الازهار وأشياء أخرى تقدمها للمعبد، وهي نفسها لم تفكر بطرح سؤال عن معتقده، لا قبل الزواج ولا بعده، ولم تطلب منه قط مرافقتها لإحياء طقوس أو زيارات تتعلق بهذا الشيء. حسنا، هذا الحلم حدث قبل الخامسة والنصف صباحا، وكانت أمه قد نهضت كالعادة في ذلك الصباح، دخلت غرفته كي توقظه لتناول الفطور قبل الخروج إلى عمله كمدير تجاري في شركة كبيرة لاستيراد وتوزيع التوابل، ولم يكن في فراشه بالطبع. عندما مرّ النهار الأول على غيابه، انطلقوا للبحث عنه، ولقد فعلوا ذلك بقلق وإخلاص قبل أن يندحر سعيهم ويغمرهم اليأس. على كلّ حال، وبعد شهر من غيابه، كانوا قد نبشوا الأمكنة نبشا، نشروا صورته في الجرائد وعلقوها في الشوارع، زاروا المستشفيات في البلاد كلها، وتصفحوا أرشيف الوفيات وسجلات السجون حتى السرية منها، في النهاية لم يبق لأمه سوى بعض النحيب الذي هبطت وتيرته شيئا فشيئا، أما الأب فكان يشغل نفسه بحل المعادلات، والحقيقة كان الرجل وبشكل صامت يضرب أخماسا بأسداس في البداية، لكن محاولاته كلها فشلت في الوصول لنتيجة جيدة، لهذا، لم يعد يقوم بعملية الضرب، واكتفى بحل المعادلات التافهة وحسب.
وعندما عاد نعيم في ذلك الصباح، كان اليأس قد غمر الجميع من عودة الابن. كانت أمه قد أعدت الفطور كالعادة للعائلة. جلس أبوه على الكرسيّ منشغلا بتقليب تاب رياضيات جديد اشتراه له صديق من الخارج وأرسله بالبريد. شاهدوا ابنهم الغائب يجلس معهم على الطاولة كأنه كان نائما وحسب، شكله يشبه الهنود، وشعره مدهون بالزيت، ورائحته، كما لو أن كيس بهارات مفتوح إلى جانبهم، وكلامه خليط بين العربية والانكليزية والأوردية، مخلوطة ببعض الكلمات البنجابية التي تعلمها من صديق باكستاني اسمه ايرفان، كان يشتري منه بضائع ويصدرها ثانية إلى تركيا وارمينيا. ثم تناول الجميع الأفطار بصمت في ذلك الصباح، أخذوا وقتا جيدا للتفكير بهذا الشيء الغريب، حيث ظهر بعد ساعة من الصمت والتفكير، أن ما حدث ليس له تفسير، وكان كل منهم يلقي نظرة خاطفة على الآخر للحصول على إجابة ما. الأب أثناء تلك اللحظات، ظهر عاجزا عن حل معادلة صعبة وغامضة جدا، هي معادلة الغياب والحضور، أخوته الثلاثة أيضا، كانوا يستجمعون شجاعتهم لترتيب صيغة مناسبة لطرح سؤال، جملة واحدة تعبر بدقة عن هذا اللغز الذي يواجهه شخص، لايعرف هل هو نائم أم مستيقظ، وفي النهاية لم يتكلم أحد، ثم رفع نعيم رأسه، ابتسم، وهو يحاول كسر هذا الجدار العالي بينه وبين أفراد الأسرة، ولقد تأكد له، أن الحيرة قد عبثت برؤوسهم، ابتسموا كما لو أن هذا الضباب سينقشع وتبزغ شمس الحقيقة، وتكون ثمة فرصة لطاولة نقاش يحصلون خلالها على عرض التفاصيل: في الحقيقة كنت أحلم، هذا كل شيء. قال نعيم رومانتيكا ذلك ورشف من كوب الشاي الذي كان أمامه قبل ان ينهض. ولقد مرت هذه الحادثة بصعوبة، ثم تلاشت الريبة نهائيا مع مرور الوقت.
وفي وقت لاحق، حدث أن تزوج نعيم بنت لطيفة تعمل موظفة في قسم الحسابات، رغم أنه لم ينس قط زوجته الهندية التي تضع حلقة معدنية في أنفها، ومن المؤكد أنه يشتاق كثيرا لابنته كافيتا التي اصبحت الآن شابة صغيرة تلبس الساري وتغني لزوجها الذي يعمل ربما سائق تكتوكة، أو بائع مانجو، وكانت زوجته الجديدة عملية جدا، لهذا، كان ألأستاذ فاخر مدرس الرياضيات، قد وا فق بسرعة على مشروع الزواج ، ولكن أمه التي يصفونها بالرومانسية، كانت قد أفصحت عن ريبتها من هؤلاء الذين يشغلهم دائما حل المعادلات: لا يمكن تفسير العالم أحيانا بالرياضيات، الموسيقى والأحلام كذلك طريقتان ليستا سيئتين للفهم . قالت ذلك، لكنها وافقت في النهاية، وفي الواقع كانت زوجة الأستاذ فاخر طوال حياتها أم حنونة، تقرأ الروايات الرومانسية، وتشاهد الدراما المليئة بالعاطفة والدموع، وتستمع إلى الأغاني الكلاسيكية المشحونة باللوعة، ثم صار فؤاد أبا لصبيّ جميل كان قد تجاوز الشهرين عندما سافر ابوه في حلم جديد. حدث ذلك في فجر أحد الايام الباردة، بكى الصبي فاستيقظت أمه لإرضاعه، لم تجد زوجها، في البداية لم يكن شيء كهذا باعثا على القلق، لكنها عندما نهضت عند الثامنة صباحا، سألت عنه، وسألوها عنه، ثم مر يوم وشهر وسنة وخمس سنوات، وفي عصر أحد الأيام التي كانت الريح تعصف فيها، وجدوا نعيم في الصالة، كان نحيلا، نظرت اليه أمه، وتخيلته، عندما كان في الخارج، كيف أن الريح تدفعه في كل جهة مثل ريشة أو قصاصة من الورق، لم يقل شيئا سوى أنه كان يحلم، ثم سرد تفاصيل الحلم على شكل دفعات، قال أولا، إنه قضى الوقت كله داخل زنزانة لحالمين مثله، يقولون أنهم كانوا يشتغلون بالمعارضة أثناء اليقظة، فوجدوا أنفسهم هنا اثناء الحلم، في الحقيقة أن بعضهم لم يكن له علاقة لا بالمعارضة ولا بالموالين ولا بالجن الازرق، رغم ذلك دفعتهم عاصفة حلمية إلى هذا المكان. ثم أن نعيم رومانتيكا، توغل في تجارب حلمية عديدة بعد ذلك، فهو كائن غير قادر التعاطف مع فكرة الاستقرار، وغير صالح اطلاقا ليكون مع المستيقظين، كلما كانت يقظته طويلة، شعر بجسده يتعفن، وروحه تنطفئ حتى يذبل مثل زهرة تحت الشمس الحارقة، وكان يخرج من كل هذا الوضع السيء في الحلم، يسافر بعيدا رغم أن أحلامه ليست كلها جيدة وممتعة، لكنه وبكل الاحوال كان يعود في النهاية، حتى عائلته لم تعد تسأله، فهم يعرفون أنه في حلم وحسب، ربما يطول او يقصر، لكنه حلم وهذا كل شيء. وفي المرة الذي يبدو أنها الاخيرة، وجد نفسه في حرب، الحقيقة لم يكن يعرف، هل عليه أن يحارب مع هؤلاء أو مع أولئك. حسنا، كان منزعجا ومسلوب الإرادة تماما، وهذا أسوأ ما مر به من أحلام، حتى حلم السجن، لم يكن قد ضغط على حياته الحلمية بهذا الشكل المروع، ولقد سلموه سلاحا، ثلاثة شواجير للعتاد، وقبعة من معدن ثقيلة، قالوا له: لقد أصبحت الآن مقاتلا ويمكنك أن تطلق النار عليهم، ولم يفهم في البداية:أطلق على من؟ سأل نعيم رومانتيكا بطريقة من جاءته صفعة في الظلام، ظل يبحث عن اليد في جميع الاتجاهات، ويبدو أن الأوامر كانت واضحة ولايمكن رفضها. المشكلة أن نعيم لم يكن لديه المحرض الحقيقي لتسري فيه الحماسة لإطلاق النار، فهو لم يجد سببا واحدا يقنعه بضرورة أن يكون طرفا في هذه الحرب التي وجد نفسه صدفة فيها. ولقد كان حلمه طويلا هذه المرة، طويلا جدا، وبالقدر الذي لم يخرج منه قط. حتى الأستاذ فاخر مدرس الرياضيات مات اخيرا، انتظر عودته ثم اقفل كتاب الرياضيات وتخلى عن عملية ضرب الأخماس بالأسداس أغمض عينيه وغادر، ومن باب التسلية، كانت زوجة نعيم تقوم بعملية الضرب بدلا عنه كنوع من إدامة فكرة الأمل، رغم أنها تركت العمل في قسم الحسابات والتعامل مع الأرقام والتواريخ، ونسيت حتى حل المعادلات. لقد كبر ابنها وصار شابا، وفي يوم رمادي تجمعت في السماء غيوم ثقيلة، قال عنها الابن، إنها غيوم اليأس، أو معاطف الكآبة، قالت زوجة نعيم رومانتيكا لأمه الرومانتيكية: كنت على حق يا عمتي، العالم لا يمكن تفسيره، سوى بالأحلام، رغم أن بعضها غامض وغير عادل اطلاقا، نحن أيضا، أنا وأنت والآخرون، ربما كنا في حلم طويل ولا نعلم، أنه بالفعل مجرد حلم طويل، فنحن في الحقيقة لا نفعل فيه شيئا سوى انتظار وقائع لن تحدث قط، حتى الأستاذ فاخر الذي لم يحلم ولا حتى مرة واحدة، عندما أغمض عينيه، قال إنه ذاهب في حلم، ولكن، قولي لي، هل هناك بالفعل مكان يذهب إليه الموتى، حيث يمكن اختراع أساليب جيدة لإدامة فكرة الانتظار؟