الكاتب/ة: ياسمين ضاهر
الإنتفاضة الأولى هي صوت خالتي ينبسطُ غطاء دافئا خانقا، وهي ترسلني، كل ليلة، بهيبة قائد عسكري لألقي بأكياس القمامة في حاوية الشارع خلال منع التجوّل. مهمة بهيئة قدر يُحتّمها سني الصغير. كانت على يقين أنني أركض أسرع منها بكثير. أنسلّ أسابق رصاصة جندي يجسّ بعين بندقيته نبض خالة، تُعدِّد حسنات ابنة اختها كي تجتاز الأخيرة خوفهما الملتحم الآن، بتفاؤل بقدرة الطفولة على الطيران: ”يالله طيري…بسرعة“. كنت بالفعل أطير، أركض ونظراتها كشّافات تُضيء بعض الطريق المعتِّم. أسمع الرصاصة بكل موجة صوتية تعلو عن أنفاسي المتلاحقة. أَصل الحاوية، تُفلت الأكياس من يديّ التي كانت مهيأة لهذه اللحظة، وأعود جريا إلى نقطة البداية. تشدنيّ نظرات خالتي أعلى الدرج. تقع على رأسي كلمة ”شاطرة“ والتي حبستها طوال هذه المدة لتستقبلني بها. ”شاطرة“ هي لازمة العودة بسلام. لنشكر الجندي الذي لم يعرف أن يصطاد عصفورة. شكرا لك. ويتكرر المشهد حتى إشعار آخر.(1)
كتابة الذكريات فخّ لذيذ. من الصعب مقاومة غواية الماضي وسحره. نظنّ أننا نستعيده متى شئنا ولأي أجل أردنا. ولكن، كلما أمسكت باللحظة المبتغى استحضارها تتلاشى وتُعيدكِ أنتِ، كما أنتِ الآن، إلى هناك، وتسألكِ ببراءة طفولية: ”ها. . . ماذا ترين“؟ ما إن تقع فيها متلبسا، تُدرك استحالة رسم صورة متكاملة ومتماسكة. ثقب الذاكرة أكبر من أن ينصاع إلى رغبتيّ الآنية والأنانية بالتذكّر، والذي يتحوّل مباشرة إلى فائض غضب. فهذا الشريط لا يسير بشكل خطي أو أفقي. وسرقة المشاهد منه تحيل كل العملية إلى اختيار أعمى، والكتابة إلى اشتهاء ما لا تتذكر. أما في سياق فلسطين، فتتعقد مهمة الذاكرة، تحديدا في المناسبات الوطنية، كذكرى الإنتفاضة الأولى، فيصير التذكّر كالتوكيد على موت الميت، وإحياؤه ضربا من دفن المعنى والمغزى. كأن تذّكُرِنا هو في قطيعة مع الحاضر، وما هو إلاّ تدريب في العودة بالزمن إلى الوراء، ليس إلاّ.
الإنتفاضة الأولى هي نابلس. ونابلس هي الطفولة كلّها. الطفولة محصورة في بقعة جغرافيّة وليست زمان. كانت مُنحصرة هناك ومتوقفة على الانتقال من الـ“هلاّ“ إلى الـ“إسّا“، ومن الـ“هُمِّ“ إلى الـ“هِنِّ“، بضع ساعات، هنا أو هناك، تفصل بين لهجتين؛ النابلسيّة والنصراوية. وحاجز الجلمة الذي تمثّل حينها بأكياس إسمنت منتشرة على جانبي الطريق، جندي واحد وعلم، كان بداية الدخول إلى بقعة الطفولة، بقعة تضيق وتتعمّق كلما اقتربت السيارة من جبال نابلس، الأجمل على الإطلاق. الطفولة بحاجة إلى مساحات واسعة لتلعب. كانت تُتيحها هذه المدينة الحقيقية، بعكس المدينة الأخرى (الناصرة) والتي، بغض النظر عن مساحتها الفعليّة وتعداد سكانها، كانت أشبه ببنية قرية كبيرة، أحياؤها متراصّة ومخنوقة، والعلاقات التي تربط بين الناس أشبه بعلاقات أسريّة موّسعة وعموميّة. بنابلس كان هناك طابق عاشر بعمارة يسكنها أفراد غرباء. وهناك أشجار مزروعة في الأماكن العامة، ومتنزهات، وسيرك ومطاعم وسينما، وهناك جامعة. يقع بيت جدتي، بشارع الجامعة. (2) جدتي أرملة قويّة ونشيطة. قد تفوتني الكثير من تفاصيل وجهها وميّزات شخصيتها، ولكني أذكر صوتها. كان يحمل ذبذبات تحشر داخلها توليفة من المشاعر المتناقضة والمتفاعلة، حبّ وغضب وحنان، من الصعب الفصل بينها. انحصرت واجباتي كطفلة بالتواجد على مائدة الطعام، ثلاث مرات. بينها كنا نلعب في كل مكان تطأه أقدامنا والهدف هو المزيد من اللعب، وإلى جانب الأرجوحة وتسلق الشجر، صحن الفتوش والفتوت، هناك الجيش والملثمون ومنع التجوّل المتكرر، كلها متراصة على شريط واحد. تجلس الآن في ذاكرتي وتبتسم لي بسينيكّية.
هل كانت دوريات الجيش تمرّ بهذه الكثافة من شارعنا بالفعل؟ أم أن كل شيء امّحى من ذاكرتي وبقيت هي؟ مرور دوريات عسكريّة بالشوارع كان يعني أن تراها وترى وابلاً من الحجارة ترافقها وتلحق بها وتستقبلها بحفاوة أيضا. لا تمر الدوريات بسلام. مرورها كان كافياّ كي يغضب الناس ويحثها على فعل شيء، أي شيء. (3) وكنا نساهم. لم يقل لنا أحد ما علينا فعله، ولم تكن مفردات الواجب أو الوطن او الاحتلال تعني لأطفال بعمرنا أي شيء. ومع هذا كان التصدي لدبابة او دورية يُشعرنا بالفرح والفخر غير البطولي. غير بطولي؟ نعم، ما كانت جدتي لتنظر إلى فعلتي هذه بعين الإعجاب أبدا، وكنت سأوبخ وسأحتجز رهن نوبة طيبة قلبها. ولكن كانت أفعال المقاومة أكثر عادية، جزء من حياة الناس اليومية وليست خروجا عنها، وبطبعها هذا كانت بطولية أقل، منتشرة على نطاق أوسع، وقد يكون انتشار وسائل الإعلام على نحو محدود ساهم في أن تبقى صورة هذه الممارسات، وممارستها فعليا، وأداء من يمارسها متسّقة. كما أنها كانت تتبع روح شعبية جارفة لم تول الكثير للقيادات والأحزاب، حتى وإن لعبت هذه دورا فيها. الشهادة بمخيلتي ومخيلة من أعرف كانت موتا، كأي موت، وكنا نخافه. والبطولة لم تغط حينها (وقد يكون اليوم أيضا) على فعل الخوف هذا. وبسبب الخوف (وليس رغمه) كانت الناس تفعل ما باستطاعتها.
تتفادى دوريات الجيش التوّقف وسط وابل الحجارة، وإطارات السيارات المشتعلة عادة ما تعود بهم إلى حيث أتوا، بعد أن تسدّ الطريق أمامهم. وهذا ما اعتقدنا أنه حصل في ذاك اليوم، إلاّ أن الحجارة توقفت فجأة فعاد الجنود بدورياتهم، ليوقفوها ويترجلوا منها. بدأوا بالركض نحونا. هربنا أولا إلى الجبل،٤ ومن هناك إلى الشارع الذي كان خاليا سوى منا، أطفال أربعة يركضون فارين من جنديين أو ثلاثة. بعد هبوطنا من الجبل توقفنا عن الإلتفات إلى الخلف. علّه سعينا لاستجداء أمل باختفائهم، أو خوف من مواجهة الرصاصة وجها لوجه. ركضت إلى أن أصبحت أرى لون الهواء الحقيقي، أراه أبيض، وفيما عدا احتكاك أجسادنا ببعض ونحن نركض، تلاشى رفاقي وأصبحوا صوتا ولهاثا يعلو، وكل ما يحيط بنا ما هو إلا غباش يستولي على العالم. توقفنا بجانب جدار الجيران المرتفع جدا، نظرنا بأعين بعضنا متسائلين إذا ما كانت فكرة القفز عن جدار شاهق هي أفضل خيارتنا، هناك منّا من لم ينتظر الإجابة أو التفكّر وقفز، وفعلنا بالمثل، وراوحنا هناك لمدة ساعة على الأقل، ملتصقين بالجدار وصامتين.
أقاوم فقدان الحاضر وأنا أنظر إلى الوميض الصادر عن الذاكرة، وكيف اختصر المهتمون والمشتغلون بالسياسة كل شيء بأسئلة حول النجاعة والتأثير والفاعليّة، وكيف تحوّل هذا الإنشغال مع الوقت إلى امتهان للواقع (وتقزيم الواقع والواقعية لما يرونه الآن أمام أعينهم) واختياره بديلا للخيال. أتخيلّهم يطلبون من أطفال فلسطين أن يقفوا طوابير طويلة ليوبخونا على انعدام فاعليّة أفعالنا الحمقاء وغير المحسوبة. هم ذاتهم تجدهم بالمناسبات الوطنية، تلك التي تقام لدفن الميت مجددا، يبجلّون الأبطال والبطولة لتعيش فينا الأسطورة سجينة استحالة أن يكون الرفض -ببساطاه وليس ببطولته-، أول إبداعات الخيال. البطولة سجينة أسطورتها، هي لا تعيش بيننا ولا فينا. لها حياة موازية خاصة بها. بالضبط كالسياسة، فهي أيضا ”شقاء“ القلة. هكذا يُراد لنا أن نؤمن. أتخيلنا أطفالا يُتهمون بالعنف لحمل حجر. أو أمل. أو ما اعتقدوا أنه اكثر شيء طبيعي لدرجة أنه لا معنى من السؤال حوله. أطفال ينظرون إلى الواقع، يرون دبابة، يتخيّلون جبلا يلعبون به دون دبابة، أو كيف ستخرج هذه الدبابة من هنا؟ بحجر.
نابلس هي الوجوه المُلثمة، تركض في السوق في البلد التحتى. أذهب إلى هناك بصحبة خالتي، تمسك بيدي، ونسير في أزقة ضيقة، متاهة ساحرة تعبق بالألوان والروائح والأصوات التي تأتي من أعلى. كنت مغرمة بدقة خالتي في اختيار ما تريد، وسرعتها في تجاوز كل العقبات المادية والبشرية. وعدم اكتراثها للجنود وهم يحاولون ”اجتياح“ السوق. نفرٌ تائه مرتبك، يتوّجس أكثر مما يبادر. أما رهبتها وانضباطها، هي وكل من حولنا، في اللحظة التي يظهر فيها الملثمون، وكأنهم انبثقوا من أحد الجدران، كانت جديرة بأن تجعلني أهابهم حقا. يجري الملثمون في السوق، يتحدثون إلينا، لا أميّز ما يقولون، يطلبون من الناس ان تغلق محالها، أن تفتح الطريق أو أن تعرقله، يتحركون دون تردد. لحظة مرورهم هي لحظة القلق الحقيقية، الريبة والجدّ. وكنت بالفعل أخافهم. أما الجنود، فكانت خالتي تقول لي بصوت واضح كمن تُكلِّم بالغة، هذا ”هبيلة“، ”تخفيش منه“. كيف يستضعف الناس بهذه الفطرة الجميلة من يحملون الأسلحة بينما تتجمّد الحركة لحظة مرور الملثمين؟
أيستدعي الأبارتهايد دحره؟ أيحمل مشروع الإستعمار حتميّة مقاومته؟ وماذا عن التعوّد والكسل، والخذلان؟ وماذا عن تنميط الضعف والإيمان بعدم قدرتنا على فعل شيء؟ الأمل يُشحذ، تشحذه الممارسة. تلك البسيطة والقريبة إلينا. تلك التي تُضيف قيمة هامة إلى حياتنا اليومية. تضيف معنى للحرية يستحيل أن يصنعه أحد غيرنا. مع كل فعل مقاوم نشعر أن من يقف إلى جانبنا يصبح أجمل، أهم وأقرب، وأكثر إنسانية. نفعل كل شيء لنكون نحن أيضا أكثر إنسانية. ما يهمنا كان هذا الجبل، وهذا الحجر، وهذا الشارع وهذه الدورية. لو كنا فكرنا بتحرير فلسطين ما كنا ألقينا حجرا. وفي نفس الوقت، لو لم تكن فلسطين حاضرة لما مارسنا الأمل.
على رصيف برام الله برفقة خالتي جلسنا نأكل الذرة ونستمع إلى خطاب أبو عمار. خطابه الأول في رام الله بعد عودته إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بعد إتفاقية أوسلو. (5) كان من الصعب سماع ما يقول، صدى الصوت كان يعيد كلمات غير مسموعة أو مفهومة. وكان من المستحيل رؤيته وهو يقف هناك في أعلى عمارة شاهقة، بعيد كل البعد عنا. هتف الناس من هنا، من أسفل، "بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار". وهو هناك، هتف من أعلى "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين." تبادلوا الفداء، لدقائق طويلة، بل تراشقوه، لا أعرف أي الفريقين خرج فائزا. الجموع الغفيرة التي جاءت تمجد القائد-البطل-الشهيد، أم القلة القليلة التي كانت تصرخ من أعلى العمارة بمكبرات الصوت ولا يسمعها أحد. لا يهم. ما يهم الآن أنّ ماضينا ما زال أمامنا، ماذا سنفعل به؟
هوامش:
1. منع التجوّل كان دائما مفتوحا، قد يمتد لأيام متتالية. وكان الجيش، عند إعلانه عن منع التجول عبر مكبّرات الصوت المعلّقة على الدوريات، يشدّد علأ أنه "منع تجوّل حتى إشعار آخر."
2. جامعة النجاح أحد أكبر وأهم الجامعات الفلسطينية، تأسست عام ١٩٤١
3. كنت ابنة حمسة أعوام عندما بدأت الانتفاضة وأحد عشر عاماً عندما انتهت
4. جبل جرزيم ومقابله يقع جبل عيبال.
5. عام ١٩٩٥.