الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية

By : Fouad Rayan فؤاد ريان

الجذور التاريخية لبرنامج النيوليبرالية[i]

تأليف: جون ف. هنري[ii]

ترجمة: فؤاد ريان

تعتمد القوة النظرية والإيديولوجية لليبرالية الكلاسيكية على العلاقة بين الملكية الخاصة، و"السوق" والفرد. وقد كتب أحد المؤرخين البارزين لليبرالية أنّ "الملكية الخاصة هي تجسيد للحرية الفردية في شكلها الأكثر بدائية، وحريات السوق هي مكونات لا تقبل التجزئة للحريات الأساسية للشخص". (Gray 1986, 50)

وتقول المحاجّة: مع تطور الملكية الخاصة المنتجة، فإنّ الأفراد يتحررون من الحكم الاعتباطي للسلطة الاستبدادية؛ فتحكم الأفراد بمواردهم الخاصة، يحررهم في عملية اتخاذ القرارات بناء على مصالحهم الخاصة، وفي تعزيز هذه المصالح بفضل جهودهم الخاصة، بالذكاء والدهاء. ويجب إخضاع تلك المصالح للفحص الدقيق من قبل الآخرين، حيث يحاول الجميع تعزيز أهدافهم الخاصة بشيء من المسابقة مع جميع الآخرين. هذه المسابقة يتم لعبها في إطار ما يصطلح عليه بـ"السوق"، والفائزون هم أولئك الذين يتمتعون بذكاء أكبر، وبجهد عمل أفضل، وبفاعلية أكبر. طبعا، سيكون هناك خاسرون، ولكن الجميع لديهم نفس الحرية في البحث عن المكاسب، والكلّ يخوض هذه المسابقة بنفس قواعد اللعب. ولا مكان، في هذه المسابقة، للحكومة أكثر من إرساء قواعد اللعب والفصل في الخلافات بين اللاعبين.

من ناحية تاريخية، لقد كانت هذه هي الرؤية الحاكمة لقرابة مائتي سنة. ويبدو أنّ هذا يفسر الكثير؛ لماذا نجح البعض (العاملون بجد والمقتصدون) وفشل البعض الآخر (الكسالى وعديمو الحكمة)؟ ولماذا أظهر الاقتصاد القائم على السوق نموا اقتصاديا (دافعية الربح حفزت الإنتاج)؟ وهكذا.

لا أريد هنا أن أخضع النظرية للنقد، ولكن أريد فقط أن أثير النقطة الرئيسة حول تعثر الليبرالية في نهاية القرن التاسع عشر. فلكي تحافظ الليبرالية على ذاتها، على الاقتصاد الرأسمالي أن يظهر المنافسة. وعلى جميع اللاعبين التمكن من الوصول إلى الملكية (بغض النظر فيما إذا تمكنوا من الوصول أم لا)، ولا يجب السماح لأحد أن يكون لديه ميزة وضعية احتكارية. فالإطار التنافسي هو شرط ضروري من أجل السماح بعملية الضبط الداخلية التي تنتج المخرجات المثلى المفترضة. وهي ضرورية أيضا من أجل السماح لمحددات الفضائل الأخلاقية للمجتمع الرأسمالي، حيث النتائج الفردية تعتمد على أفعال الفرد نفسه.

 ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ الإطار التنافسي الذي ازدهرت فيه الليبرالية يتبدد. وبشكل متزايد، أصبح الاقتصاد الرأسمالي يُظهر تشكّلات لا تنافسية احتكارية كشكل سائد للتنظيم. فعلماء الاقتصاد من كل المشارب (تقريبا) أخذوا في الحسبان هذا التحول منذ تطوره. فماركس (Marx) وفيبلين (Veblen)، وحتى علماء الاقتصاد النيوكلاسيكيين (neoclassical) انضموا إلى صفوفهم، مع أنّ نظرة التحليلات النيوكلاسيكية كانت أقل تبصرا من تلك التحليلات الماركسية أو تحليلات فيبلن، مشددين على ما يشار إليه الآن بـ"فشل السوق" (market failure). وفي عام 1924، أعلن كينز (Keynes) "نهاية سياسة عدم التدخل الحكومي" (the end of laissez faire) (لمعرفة شبه كاملة عن التطورات ضمن المدارس المختلفة للنظرية الاقتصادية، انظر:هوارد وكينج 2008). أمّا الذي كان يشكل الخطورة الأكبر على النظام الاجتماعي الرأسمالي فهو حركات الطبقة العاملة التي كانت في صعود، فهي نفسها نتيجة لهذا التحول مع ما صاحبه من نمو وتمركز لهذه الطبقة.

وفي المراحل المبكرة لهذا التحول، حصلت بعض الدعاوى الاحتجاجيّة ضد “النزعة الجماعيّة" (collectivism) المفرطة. أمّا ذوو القناعات الليبرالية الأكثر عمقا، فقد حاولوا إنقاذ الليبرالية في حين كانوا يدركون وجود أشكال غير تنافسية (احتكارية). وربما كانت المحاولة الأكثر تقدما بهذا الخصوص هي مقالة جون ستيوارت مل (John Stuart Mill) غير المكتملة، "فصول عن الاشتراكية" (وقد كانت هذه بمثابة نموذج لمقالة مارشال (Marshall) (1907) "الإمكانيات الاجتماعية للفروسية الاقتصادية"). وقد اقترح مل (Mill) في تحليله، بينما أبدى تعاطفا مع مأزق العمال، تعديلات على حقوق الملكية في حينه لاستيعاب التغييرات في بنية الصناعة من أجل الاحتفاظ بالملكية الخاصة، والمنافسة، و"السوق"، بحيث يحوّل مسار التحدي الاشتراكي إلى مسار أكثر أمنا، ويقول باختصار:

تتطلب الحالة المريعة، التي يستطيع الاشتراكيون خلقها ضد النظام الاقتصادي الحالي للمجتمع، دراسة كاملة لكل الوسائل التي يمكن للمؤسسة (للملكية الخاصة) أن يكون لها من خلالها فرصة العمل بطريقة أكثر فائدة للقسم الأكبر من المجتمع، الذي يحظى في الوقت الحالي بأقل حصة من منافعها المباشرة (Mill [1869] 1879, Ch. 4, 11).

 لقد كانت معظم الجهود لإنقاذ الليبرالية الكلاسيكية خلال فترة مطلع القرن العشرين، ببساطة، عبارة عن ردود أفعال، مكرِّرة للمبادئ الأساسية للموقف اللوكي (Lockean)، ومكرِّرة لمحاجّات منظرين من أمثال هيربرت سبنسر (Herbert Spencer)، وتحديدا تلك المعروضة في مؤلفه "الرجل ضد الدولة" (1884)، أو تلك المروّجة لتنبؤات هيلير بيلوك (Hilaire Belloc) الكئيبة في مؤلفه لسنة 1912 "دولة العبودية"، حيث يقول فيه إنّ السّير نحو "النزعة الجماعية" سيقود إلى دولة عبيد جديدة. وقد بذلت بعض المؤسسات، مثل "رابطة الدفاع عن الحرية والملكية"، التي تأسست عام 1882، والمؤسسة الدستورية البريطانية (1907)، والاتحاد المناهض للاشتراكية (1908)، جهودا ضد النظريات والممارسات المناهضة للفردانية. حيث ظهرت الليبرالية كبرنامج فاقد للصلاحية ومسفّه.

وفي عام 1922 نشر لودفغ فون ميزس (Ludwig von Mises) مؤلّفَه "الاشتراكية: تحليل اقتصادي وسوسيولوجي". وبعيدا عن التدقيق النقدي لمحاجّة فون ميزس، يلاحَظ أنّ عمله كان أول من قدّم تفسيرا مقنعا عن استحالة وجود آلية تسعير منطقية في ظل الاشتراكية، مدافعا عن "السوق" بأنّه العملية الوحيدة الممكنة التي يمكن من خلالها أن تخصّص الموارد بشكل عقلاني وفعّال. ويجدر بنا هنا أن نقتبس من مقدمة الكتاب لنوضح مخاوف الليبراليين في حينه:

إنّ مؤيّدي الاشتراكية...ليسوا محصورين في البلاشفة... أو في أعضاء الأحزاب الاشتراكية العديدة، فكل من يعتبر النظام الاشتراكي للمجتمع متفوقاً اقتصاديا وأخلاقيا على ذلك النظام القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو اشتراكي...وإذا عرّفنا الاشتراكية بشكل عام هكذا، فإنّ الغالبية العظمى من الناس اليوم هم مع الاشتراكية. أمّا أولئك الذين يعترفون بمبادئ الليبرالية، والذين يرون أنّ النظام الوحيد الممكن لاقتصاد المجتمع هو ذلك القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج فهم فئة قليلة. (von Mises [1922] 1932, 26-27).

 لقد لفت دفاع فون ميزس عن "السوق" انتباه الليبراليين الأعمق فكريا في تلك الفترة، مثل ليونيل روبنز (Lionel Robbins) وفريدريش فون هايك (Friedrich von Hayek) على وجه الخصوص. وكلاهما كان عضوا في حلقة النقاش الخاصة بفون ميزس، جنبا إلى جنب مع فريتز ماكلوب (Fritz Machlup)، وفرانك نايت (Frank Knight)، والذين سيكونوا لاحقا من الشخصيات المهمة في تشكيل جمعية مونت بيليرين (Mont Pelerin Society) في عام 1947. ويظهر الآن أنّ الذخائر الفكرية في مساندة الدفاع عن الليبرالية الكلاسيكية لقوى السوق وضد مدّ "النزعة الجماعية"، الذي كان على ما يبدو لا يمكن إيقافه، قد أخذت في التطور منذ ذلك الوقت.

 إنّ نقطة التحول، في كل من أفول الفكر الليبرالي وفي الفهم القائل أنّ على الليبرالية إعادة تشكيل نفسها إن أرادت أن تسترد جاذبيتها السابقة، قد وجدت في المناقشات التي حدثت في المجلس الاستشاري الاقتصادي (Economic Advisory Council)، الذي تم تأسيسه من قبل الحكومة البريطانية في عام 1929 لعقد اجتماع لعلماء اقتصاد بارزين لتقديم نصائح سياساتية حول كيفية التخلص من آثار "الكساد الكبير" (The Great Depression) تحت رئاسة كينز (Keynes)، وقد اشتمل المجلس على علماء اقتصاد بارزين مثل هيوبرت هندرسون (Hubert Henderson)، ودينيس روبرتسون (Dennis Robertson)، وآرثر سيسيل بيجو (A. C. Pigou)، وروبنز (Robbins)، ومن ثم أعضاء هيئة التدريس في كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics) (LSE).

وقد دفع كينز، في النقاشات التي دارت في المجلس، نحو برنامج يدعو فيه إلى الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة. بالإضافة إلى توصيته للإخلال بالتجارة الحرة من خلال زيادة التعرفة الجمركية بنسبة 10% على الواردات و10% إعفاء على الصادرات، وقد أربك هذا روبنز وآخرين بشكل كبير (Howson 2009, 262-63). ومن التهم التي كيلت إلى كينز أنّه لم يتطرق إلى الأسباب الجذرية للركود، وأنّه كان يضع النفعية السياسية فوق المبادئ الاقتصادية، وأنّ التبعات على المدى الطويل لمثل هكذا برنامج تحديدا، وهو التضخم، ستجعل من العلاج أسوأ من المرض. وبالنسبة لروبنز، فإنّ العوامل الأساسية التي سببت الركود تكمن في تلك العناصر الاقتصادية التي وقفت ضد مبادئ الليبرالية الكلاسيكية، وهي: النقابات المهنية التي أنتجت جمود الأجور، وتدخل الحكومة المتزايد، وتحديدا تأمينات البطالة، التي تتداخل مع قواعد عمل السوق "الطبيعية". إذا تم "تحرير الأسواق"؛ فإنّ الاقتصاد سيتكيّف بسرعة وسيخرج العالم من المستنقع الحالي من خلال معجزة "اليد الخفيّة" (the invisible hand). من أجل مناقشة كاملة انظر إلى كتاب "الكساد الكبير" لسنة 1934).

ونلاحظ، عند هذه المرحلة، التلاقي بين التغيير المؤسسي والقلق الأيديولوجي. فقد تآكلت الأسس الاقتصادية لليبرالية الكلاسيكية بسبب التطورات التي ولدت من رحم الديناميات الداخلية للرأسمالية نفسها. فالليبرالية عبارة عن بناء يتطلب هيكلية اقتصادية "تنافسية" صغيرة الحجم في أساسها. لكن التراكم الرأسمالي أنتج هيكليات احتكارية غير تنافسية، وتطورات في النقابات العمالية، وانخراطاً متزايداً للحكومة لمعالجة العديد من القضايا-مثل البطالة المزمنة وما شابه ذلك، والتي كانت نتائج لعملية التراكم هذه. لقد فقدت الليبرالية أساسها المؤسسي. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن لليبراليين اللجوء إليه هو تكرار المبادئ الاقتصادية المرتبطة بالمبادئ القديمة، وهو الآن شكل من أشكال التنظيم الرأسمالي. وبالنسبة لليبراليين كانت هذه حالة مريعة. وبعد كل هذا، فإنّ جوهر "الحرية" (كما هي معرّفة من قبل الليبراليين) كان على المحك، ونظرا لعدم وجود حجة مضادة مقنعة، يبدو أنّ "الاشتراكية" ستفوز كتحصيل حاصل.

 وقد جاء رد روبنز؛ فبالإضافة إلى الإطار النظري الخاص به، وتحديدا كتابه لعام 1937 "التخطيط الاقتصادي والنظام العالمي"، فقد جلب هو وإدوين كانن (Edwin Cannan)، الذي صار لاحقا رئيس دائرة الاقتصاد، هايك (Hayek) إلى كلية لندن للاقتصاد، كبروفيسور للاقتصاد في عام 1931، دامجا النظرية الاقتصادية النمساوية مع الليبرالية البريطانية. وقد صارت كلية لندن للاقتصاد رائدة في الحفاظ على الفكر الليبرالي وتقدمه (Cockett 1994, 25). وبعد روبنز وهيك، برزت بعض الأسماء المرموقة من كلية لندن للاقتصاد خلال السنوات الخمس عشرة اللاحقة، مثل: آرثر سلدون (Arthur Seldon)، وبايزل يامي (Basil Yamey)، ووليام إتش. هوت (William H. Hutt)، وفرانك بايش (Frank Paish)، ورونالد كوز (Ronald Coase)، وبيتر باور (Peter Bauer). ولم يساهم كل هؤلاء فقط في تطوير النيوليبرالية، ولكن ارتبطت أسماؤهم بأول مركز أبحاث منظم خصيصا لتعزيز الإصلاح، والبرنامج الليبرالي المجدد-ممثلا بمعهد الشؤون الاقتصادية (Institute of Economic Affairs)، الذي تأسس عام 1955.

 أما في جنيف، فقد رعى المعهد العالي للدراسات الدولية (Institut Universitaire des Hautes Etudes Internationales)، الذي أنشئ عام 1927، مؤتمرين في عامي 1935 و1937 يركزان على تبعات الكينزية (Keynesianism). وبتمويل من مؤسسة روكفيلر (Rockefeller Foundation) (والتي ساهمت أيضا في الثروة المالية لكلية لندن للاقتصاد LSE) ضمّ المعهد في هيئة التدريس كل من فون ميزس (Von Mises)، وفيلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وجاكوب فاينر (Jacob Viner). وقد جاءت فكرة تجميع المدافعين عن الليبرالية معا في مؤتمر عام 1935 من أجل تطوير نقد متماسك للتخطيط والنظرية الاقتصادية الكينزية. وقد أدى هذا إلى ندوة والتر لبمان (Le Colluque Walter Lippmann) لسنة 1938.

 وفي عام 1937، نشر لبمان، وهو متمسك بالأيديولوجية الليبرالية، كتابه "المجتمع الصالح". وفي تفسيره، بعد أن اعترف أولا بأسبقية موقف "النزعة الجماعية"، كتب لبمان:

بعد مئة عام على نشر آدم سميث لكتابه "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations) فإنّ الفلسفة الليبرالية في تدهور...وقد أصبحت عبارة عن مجموعة من الشعارات دائمة التذمر يتّكل عليها أصحاب الأملاك عند التعدّي على مصالحهم الخاصة...

يبدو (أنّها) تشير إلى أنّه في مرحلة ما من مراحل تطورها، فإنّ الفلسفة لليبرالية أصبحت غير قابلة للدفاع عنها علميا، وأنّه بعد ذلك توقفت عن إحراز الاحترام الفكري أو أن تلبي الضمير الأخلاقي لقادة الفكر. 1937, 183-84)).

ثم وضع بعدها برنامج عمل ينادي فيه كل ذوي القناعة الليبرالية بالهجوم المضاد، من خلال تنقيح الفكر الليبرالي وتجديده، واستعادة الليبرالية باعتبارها المنظور النظري الوحيد الذي يتفق مع المصلحة البشرية العميقة الملزمة بأن تكون "حرة". ويجب الإشارة إلى أنّ لبمان ردّ على الفارق المتنامي الذي لوحظ في القسم الأول من القرن مع الدعوة لضرورة السيطرة على "الناس" (العمال). وفي كتابه "الانحراف والبراعة" لعام 1914، وضع تصوره للخطر الذي يلوح في الأفق على النظام الرأسمالي، وأعلن لأول مرة نداءه لـ"العِلم" ليهندس اجتماعيا وسائل تخرج النظام مما اعتبره فوضى (انظر Ewen 1996, 60-64, passim).

وفي عام 1938، عقد لوي روجيه (Louis Rougier)، فيلسوف ومؤرخ مؤتمرات جنيف، اجتماعا لتبني أطروحات لبمان. وكان من بين الحضور الستة والعشرين كل من: لبمان، وريمون آرون (Raymond Aaron)، وجاك روف (Jacques Rueff)، ومايكل بولاني (Michael Polanyi)، وهايك، وفون ميزس، وويلهلم روبكه (Wilhelm Ropke)، وذلك من أجل أن يقوموا بدور بارز في إحياء الليبرالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحسب كوكيت (Cockett) (1994, 12)، فإنّ تركيز نقاشاتهم كان موجها نحو شخص واحد كانوا يعتقدون أنه المسؤول عن الحالة المؤسفة لليبرالية-ألا وهو كينز. وحسب كوكيت أيضا، لقد كان في هذا المؤتمر تحديدا أن فكّر هيك (Hayek) في كتابة "الطريق إلى العبودية" (The Road to Serfdom) (56)، وكانت هنا أيضا البذرة الأولى لما سيصبح لاحقا "جمعية مونت بيليرين". بالإضافة إلى ذلك، كان في هذا المؤتمر أيضا أن اختيرت "النيوليبرالية" كمصطلح أنسب للبرنامج الذي سيتم إنشاؤه (Plehwe 2009, 13).

من الواضح أنّ الحرب العالمية الثانية قد عطّلت أي انتقال سلس لمستوى أعلى من التنظيم، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ الحجج الأساسية لمناهضة الكينزية كانت موجودة في أواخر الثلاثينات. وما كانت بحاجة له هو هيكل تنظيمي، سيكون بمثابة نقطة مركزية، بحيث يمكن للبرنامج النظري أن يُنسّق، والآليات التي يمكن من خلالها نشر البرنامج على نطاق واسع، والعلاقات التي تشكلت مع "المصالح الثابتة" للذين لديهم الوسائل لنشر هذا البرنامج. كانت تلك هي جمعية مونت بيليرين، التي تأسست عام 1947.

لا يسعني في هذه الورقة أن أتفحص تاريخ النيوليبرالية فيما بعد عام 1947 (انظر:Cockett 1994; Hartwell 1995; Hoover 2003; Mirowski and Plehwe 2009). على كل حال، يجب الإشارة إلى بعض النقاط المهمة من منظور مؤسسي:

أولا، كان التشديد بين أولئك الذين شاركوا في تلك الاجتماعات المبكرة على تطوير ليبرالية "جديدة" ("new" liberalism). وقد تم الاعتراف (تقريبا) من قبل الجميع أنّ الليبرالية الكلاسيكية في شكلها الأصلي لم تعد تمتلك القوة النظرية والأيديولوجية. ومع ذك، فإنّ العناصر الجوهرية في الليبرالية الكلاسيكية- السوق، والملكية الخاصة، والفردانية- يجب الاحتفاظ بها.

 ثانيا، بينما كان هناك توافق على مبادئ محددة، فقد كانت محددات برنامج النيوليبرالية مفتوحة للنقاش. وبشكل خاص، فقد كان دور "الدولة" محل نزاع شديد. وعلى العكس من الفهم السائد حول النيوليبرالية، لم يتم، ببساطة، التصويت على الدولة كشيء مكروه جدا (بعبع) في مقابل "السوق". في الواقع، فإنّ النسخة الألمانية من النيوليبرالية، "الأوردوليبرالية" (Ordoliberalism) [أو الليبرالية الانتظامية]، تطالب بدولة قوية "لتأمين نظام اجتماعي راسخ، ويعمل بشكل جيد" لتسيير عمل "اقتصاد سوق اجتماعي" (Ptak 2009, 101). حتى التخطيط لم يكن مستبعدا، و"التخطيط الارشادي" الفرنسي يدين كثيرا للنيوليبراليين الذين شاركوا في فبركة الاقتصاد الفرنسي لما بعد الحرب العالمية الثانية (انظر Denord 2009). وبالتالي، بينما كانت الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وسياسة عدم التدخل الحكومي بارزة في كثير من الأجندات النيوليبرالية، لكن لم يكن هذا هو الحال عند الجميع.

ثالثا، لقد أسّس الأكاديميون النيوليبراليون مؤسسات مع رجال أعمال، وصحفيين وسياسيين. في حين أننا عموما نرى الصعود النيوليبرالي مرتبطا بانتخاب مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) ورونالد ريغان (Ronald Reagan) كل في منصبه، لكن التنفيذ الجزئي لبرنامج النيوليبرالية بدأ مباشرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في فرنسا وألمانيا. وكمثال على ذلك، فقد عين لودفيغ إيرهارد (Ludwig Erhard)، وهو من الأعضاء المبكرين في جمعية مونت بيليرين، وزيرا للاقتصاد في مجلس الوزراء الأول الذي شكلته حكومة أديناور (Adenauer) (1949). وكان إيرهارد مسؤولا إلى حد كبير عن إدخال "السوق الاجتماعي" في ألمانيا الغربية. وهذه المؤسسات لم تقدم فقط تمويلا ماديا للأكاديميين النيوليبراليين (مؤسسة روكفيلر)، وصندوق وليام فولكر (William Volker Fund)، ومؤسسة أولين (Olin Foundation)، بل عملت أيضا كقنوات يتم من خلالها الترويج للأيديولوجيا النيوليبرالية. ومن الأمثلة البارزة على الطريقة التي تم من خلالها نشر هذه الأيديولوجية كان الترتيب الذي قامت به ريدرز دايجست (Readers Digest) بنشر واسع النطاق لكتاب "الطريق إلى العبودية" بنسخة موجزة. وقد تم هذا الترتيب من قبل هنري هازلت (Henry Hazlitt)، وهو صحفي أعمال مؤثر في صحيفة نيوزويك (Newsweek) وعضو في جمعية مونت بيليرين منذ تأسيسها.

وأخيرا، فقد أنشأ النيوليبراليون أو استطاعوا السيطرة على مختلف "مراكز البحوث". وكانت أول مؤسسة من هذا القبيل هي معهد الشؤون الاقتصادية (the Institute of Economic Affairs) الذي تأسس عام 1955. وقد تبعه بعد ذلك: مركز دراسة السياسات (Centre for Policy Studies)، ومعهد آدم سميث (Adam Smith Institute)، ومؤسسة هيريتيج (Heritage Foundation)، وغيرها. (انظر Cockett 1994). وأصبح العديد من مراكز الدراسات هذه مرتبطا في شبكة الحرية (Freedom Network) ومؤسسة أطلس للدراسات (Atlas Research Foundation). وكلاهما مؤسسات مظلة من تصميم (السير) آنتوني فيشر ((Sir) Anthony Fisher) والذي كان القوة المحركة خلف إنشاء معهد الشؤون الاقتصادية (Mudge 2008, 10-12). وتوفر هذه المؤسسات مظهرا خادعا لكن مرموقا للعقلانية الفكرية، وتشتمل على منشورات داخلية يمكن من خلالها نشر البرنامج السياسي النيوليبرالي.


خلاصة

لقد وضعت أسس البرنامج النيوليبرالي في القرن التاسع عشر مع نمو النزعات "الجماعية" في النشاطات الاقتصادية، مثل: صعود الشركات الكبرى، وتنامي التدخل الحكومي في الاقتصاد، والأهم، تطور الحركة العمالية، و"التهديد" المصاحب للاشتراكية. وبينما ولد الرد النيوليبرالي قبل عمل جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes)، لقد كان الإطار النظري لعمل كينز، بهدف خلاص الرأسمالية من خلال تدخل حكومي نشط، هو الذي عجّل في برنامج النيوليبرالية المنظم، وكان الهدف هو الحفاظ على نظام اجتماعي رأسمالي لمصالح الملاك الكبار (عموما). وقد حقق هذا البرنامج نجاحا ضخما بهذا الخصوص، بالرغم أنّ العديد من التوصيات المحددة- مثل الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، الخ- أثبتت كارثيتها. ومع ذلك، وفي حال انتعاش الاقتصاد، على الأقل بمقياس كبير، فستبقى النيوليبرالية على الأجندة السياسية. وبالنظر إلى القوة التنظيمية للنيوليبراليين، وصلتهم بمصادر التمويل الأساسية، ومع الوسط الأكاديمي، ومع الجهات الحكومية، والتزامهم ببرنامجهم، إلا أنني أشك بشدة أنّ النيوليبرالية ستصمد في وجه العاصفة الحالية.

المراجع

 

Cockett, Richard. Thinking the Unthinkable: Think-Tanks and the Economic Counter-Revolution, 1931-1983. London: HarperCollins Publishers, 1994.

 Denord, Francois. "French Neoliberalism and Its Divisions: From the Colloque Walter Lippmann to the Fifth Republic." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 45-67. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Ewen, Stuart. PR! A Social History of Spin. New York: Basic Books, 1996.

Gray, John. Liberalism. Milton Keynes, England: Open University Press, 1986.

 Hartwell, Ronald. A History of the Mont Pelerin Society. Indianapolis: Liberty Fund, 1995.

Hoover, Kenneth. Economics as Ideology: Keynes, Laski, Hayek, and the Creation of Contemporary Politics. New York: Rowman & Littlefield, 2003.

Howard, Michael and John King. The Rise of Neoliberalism in Advanced Capitalist Economies: A Materialist Analysis. New York: Palgrave Macmillan, 2008.

Howson, Susan. "Keynes and the LSE Economists." Journal of the History of Economic Thought 31, 3 (2009): 257-280.

Keynes, John Maynard. "The End of Laissez-Faire." In The Collected Writings of John Maynard Keynes, volume 9, edited by Donald Moggridge, pp. 272-94. London: Macmillan and Saint Martin's Press, 11926] 1972.

Lippmann, Walter. An Inquiry into the Principles of The Good Society. Boston: Little, Brown and Company, 1937.

Mill, John Stuart. Chapters on Socialism, [1869] 1879. Available at http://www.laits.utexas.edu/poltheory/ jsmill/cos/cos.cOl.html. Accessed February 16, 2010.

Mirowski, Philip and Dieter Plehwe. The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Mudge, Stephanie. "What is Neo-Liberalism?" Socio-Economic Review 6, 4 (2008): 703-71.

Plehwe, Dieter. "Introduction." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 1-42. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

Ptak, Ralf. "Neoliberalism in German: Revisiting the Ordoliberal Foundations of the Social Market Economy." In The Road from Mont Pelerin: the Making of the Neoliberal Thought Collective, edited by Philip Mirowski and Dieter Plehwe, pp. 98-138. Cambridge: Harvard University Press, 2009.

von Mises, Ludwig. Socialism: An Economic and Sociological Analysis, 2nd edition. Translated by ]. Kahane. New York: The Macmillan Co., [1922] 1932.



[i] Henry, John F. "The Historic Roots of the Neoliberal Program." Journal of Economic Issues 44, no. 2 (2010): 543-550.

[ii] بروفيسور اقتصاد امريكي، درّس في العديد من الجامعات الأمريكية وله العديد من المؤلفات، حاليا من كبار الباحثين في معهد ليفي للاقتصاد-كلية بارد.

 

يوتوبيا "اختلاف حيفا" ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

 [هذه المادة ضمن ملف خاص تنشره"جدلية" بالتعاون مع مؤسسة "القوس" الفلسطينية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا


الكاتبة: يارا سعدي

يوم خميس - يعج شارع يافا في مدينة حيفا المحتلة عام 1948، بشباب وشابات فلسطينيين. وتتوزع على جانبيه مقاهٍ وحانات ذات أسماء عربيّة وعروض موسيقيّة وثقافيّة بعضها لفرق وعازفين فلسطينيين. ولو دققنا في المباني لاكتشفنا ملامحها العربيّة أيضًا. في أعقاب ترميمات شاملة قد يبدو شارع يافا للبعض كمشهد "يوتوبي"؛ حيّز مدني فلسطيني شبابي. أما البعض الآخر فقد يصفه بالنقيض؛ مشهد ديستوبي، مفصول عن ماضيه، يفرض مزاجا واحدا ووحيدا من التصرف فيه. في كلا المشهدين، تعود أهمية البحث في مشهد شارع يافا "الجديد" لنتائج العلاقة الجدليّة بين تخطيط الحيّز وبين ممارساتنا وتصرفاتنا فيه، بالإضافة لتأثيراته على هويتنا وذاكرتنا الفلسطينيّة الجماعيّة والفرديّة. لفهم هذه العلاقة، سيتم تعقّب التغيرات في المكان وسيرورة المخططات. كما سأستعرض وأحلل أصوات ومواقف روّاد المكان، وأخيرا مناقشة شكل الجسد والأدائية الناجمة عنه.

تعود كلمة "يوتوبيا" إلى اليونانيّة ومعناها الحرفي "لا مكان"، وتعني تصور واقع مثاليّ يكون مشروطا بالخياليّة. في مجال التخطيط الهندسي، أطلقت كرستين بوير (1) وصف "اللامكانيّة" على الترميمات التي تقوم بها البلديات للحارات التاريخيّة فتجعلها متشابهة. تدّعي بوير أن الترميم، والذي يدّعي المحافظة على الطابع التاريخي للمكان، يهدف بالواقع الى خلق مكان بلا هوية وبلا تاريخ، سِمَتَهُ الخاصة تتلخص بكونه معدّا ليعزّز رحلة الاستهلاك، وإقصاء كل ما قد يعرقل هذا الهدف. هذه السمة تشكل جزءا أساسيًا في مشاريع تصميم المكان والتخطيط النيوليبرالي. فالنيوليبراليّة عامة تسعى إلى إنشاء سوق اقتصادي عالمي مبني على تقليص دور الدولة في المجال الاقتصادي-الاجتماعي عبر خصخصة القطاعات الحكومية وإدخال ميكانيكيات السوق إلى كافة المجالات (بما في ذلك الخدمات العامة) وتقليص التقييدات القانونيّة والدستوريّة وجعلها أكثر مرونة للمبادرات الاقتصاديّة ( (2. كما ترتكز النيوليبراليّة على خطاب الحريات الفردانيّة (3). تتجسد هذه السياسة في مجال تخطيط المدن، في تحوّل البلديات وأقسامها من جسم مخطِّط الى جسم مُنسِّق، مفاوض ومسوِّق يعمل على جذب المستثمرين وشركات العقارات (4). هذه المعادلة الجديدة غيّرت، وبشكل جذري، هيئة وإيقاع وتجربة العديد من مدن العالم، وطرق "استهلاكها" واستيعابنا لها. تعتبر مشاريع "التجديد الحضري" على أشكالها من أبرز الظواهر النيوليبراليّة في تخطيط المدن، إذ تهدف علنا إلى تحسين أوضاع حارات "فقيرة" ذات ميزات خاصة (أي صفات قد تجعلها "جذابة" في السوق مثل الهندسة المعمارية للبنايات أو الموقع الجغرافي للحي) بواسطة شركات من القطاع الخاص، وذلك بهدف رفع أسعار العقارات فيها. إلا أن النتائج المباشِرة المضمرة، هي عملية الاستطباق (السراوة أو التطهير الطبقي(Gentrification  – تغيير الطابع السكاني للحي وذلك من خلال إدخال مشاريع ثقافيّة وترفيهيّة، تطوير البنية التحتيّة وجذب المستثمرين والسماسرة، مما يرفع أسعار العقارات وبالتالي يؤدي الى ترحيل سكانه المُهمَّشين (5). فبينما يُعرض التجديد الحضري كمشروع لا سياسي، تكنقراطي، فهو يوفّر في الواقع امتيازات للطبقة العليا على نحو بنيوي ويعمق الفجوة بين فئات المجتمع. أما عمليّة تهجير الطبقة الفقيرة فتحدث من خلال ممارسات قمع مختلفة، من رفع أسعار الإيجار وحتى تجريم أفرادها من أجل دفعهم إلى الخروج من "النظام الحضري" وذلك من خلال تكثيف المراقبة عليهم وتواجد الشرطة (6).

رغم اقتران عمليّة ترميم شارع يافا مع ميزات "التجديد الحضري" النيوليبرالي كما سيتضح في الفقرات التالية، إلا أنها تتعدّى ذلك، حيث تهدف إلى محو المعالم الفلسطينيّة للمكان. وهنا لا بد من طرح سؤال حول هوية المكان الجديد وكيفية تأثيره على رواده: هل شارع يافا "الجديد" مكان ذو هوية عربية؟ هل تبقى بناياته العربيّة التاريخيّة المرممة بمعزل عن سياقها فلسطينيّة؟ ماذا تعني الهوية بمفهوم الممارسة في هذا المكان؟ وما هي حدوده؟ هل المكان العام "عربي" على الرغم من، أم بواسطة السياسات الإسرائيلية؟ ولعل السؤال الأهم لا بدّ أن ينعكس بالأنقاض التي بني عليها هذا المشهد الجديد، فماذا حل بسكانها؟ وكيف يؤثّر ذلك على روادها في الحاضر؟

شارع يافا،  مدينة حيفا

بينما تسوّق بلدية حيفا اليوم منطقة شارع يافا على أنها "البلدة التحتى" الترفيهيّة، تحت الاسم الدعائي "مساحة 21" فلا بد من عرض السياق التاريخي للمكان، وذلك بهدف كسر محدوديّة تصنيفه كمشروع تجديد حضري نيوليبرالي آخر، ولمتابعة زمانيته الطبيعية وما فرض على مجراها من تغيرات تحت سيطرة الاستعمار الاستيطاني.

 

[خريطة لجزء من مدينة حيفا، عام 1943، في الخط الأزرق جزء من شارع يافا والذي يتطرق اليه المقال]

بنيت منطقة شارع يافا بعد منتصف القرن التاسع عشر مع بدايات الانطلاق من أسوار حيفا الجديدة - حيفا التي أسسها ظاهر العمر. وذلك بعدما ضاقت بأهل حيفا وبعدما سمحت الامبراطورية العثمانية بالسكن خارج أسوارها (7). بُني الحي من ساحة الخمرة أو ساحة الحناطير باتجاه مدينة يافا – أي غرب جنوب "حيفا الجديدة". منذ بداياته احتوى شارع يافا على أماكن تجاريّة وسكنيّة لعائلات حيفاوية. وتعاظم دوره الاقتصادي مع بناء السكة الحديديّة عام 1905 بالقرب منه، ومن ثمّ، بناء ميناء حيفا من خلال تجفيف الشاطئ الجنوبي لشارع يافا – شارع الملوك عام 1933. خلال النكبة تم تهجير سكّان شارع يافا مع غالبية سكّان المدينة العرب، حيث بقي في حيفا 3500 نسمة من أصل الــ 75000 فلسطيني الذين عاشوا في المدينة. وفي السنوات التي تلت النكبة، وخلال فترة الحكم العسكري، تم هدم معظم حيفا العربية. أما اليوم فيسكن غالبية العرب في حيفا في أحياء وادي النسناس وعباس والحليصة والبلدة التحتى التي تعاني جميعها من إهمال البلدية ومن اكتظاظ سكاني ومن سياسات استعمارية متجذرة في كافة نواحي الحياة: الاقتصاديّة، التربويّة وغيرها[1].

يعتبر شارع يافا من المناطق القليلة المتبقية بعد النكبة من حيفا العربية. وقد استمر يشكل مكانا تجاريا-سكانيا أساسيا حتى سنوات السبعينات، عندما أنشأت بلدية حيفا مراكز تجاريّة بديلة على أطراف المدينة، الأمر الذي أدى إلى تدهور تدريجي في مكانته الاقتصاديّة على مرّ السنين. ووفق إحصائيات عام 2007 فقد بلغ تعداد سكان "البلدة التحتى" ما يقارب 11،500 نسمة، أكثر من 70% منهم فلسطينيون، أي ما يقارب 28٪ من سكان حيفا العرب. وفي "غرب البلدة التحتى" والتي تحدّ شارع الألمانيّة وتمتدّ حتى وادي الصليب، أي منطقة شارع يافا، بلغ تعداد السكان ما يقارب 3000 نسمة، 63% منهم عرب. وتجدر الإشارة إلى أن الإحصائيات تشير أيضا إلى كون سكان الحي من أفقر الفئات في حيفا وأقلّها تحصيلا علميا وأصغرها عمرا.

اشتكى سكان الحي على مر السنين وخاصة مع بداية تنفيذ مخطط التجديد الحضري من إهمال البلدية المزمن للمكان وعدم توفيرها للخدمات الأساسية للعائلات المقيمة فيه، مما ساهم في تحويله إلى منطقة تدرج على أنها "عنيفة" و"خطرة". الأنكى من الإهمال، هو تصوير البلديّة في سردها لسيرورة "الترميمات" التي تخطط القيام بها في شارع يافا على أنه حيز غير مأهول.

بدأ مشروع "الترميمات" بنداء أطلقته بلديّة حيفا لفنانين لافتتاح صالات معارض في منطقة شارع يافا، مانحة إياهم تخفيضات وتسهيلات استثنائيّة، إضافة إلى استثمار 25 مليون شيكل في ترميم البنية التحتيّة. وقد أبرزت هذه "اللفتة" من قبل البلديّة الفجوة الشاسعة بين الخدمات والتسهيلات والتخفيضات التي تمنحها "للفنانين" مقابل الإهمال تجاه سكان الحي. وبهذا عكست توعية السكان المرغوب فيهم من ناحية وغير المرغوب فيهم من الناحية الأخرى.

 

[بناية عربيّة في شارع يافا، قبل وبعد ترميم التجديد الحضري. البناية ملك لعائلة صيقلي قبل النكبة]

تعدّ "المشاريع الفنيّة" خطوة كلاسيكيّة في مشاريع "التجديد الحضري النيوليبرالي" عالميا ومحليا. من خلالها تطرح البلديّة الصورة التي تطمح لتسويقها للشركات العقاريّة: حي ّتقطنه مجموعة سكانية "متحضرة" و"جذابة" اقتصاديا، إضافة الى الأموال التي ستستثمرها لترميم البنية التحتيّة. وحول الأهداف الربحيّة من المشروع قال مركّز مشروع "البلدة التحتى" في البلديّة: "(الهدف) أن تصبح أسعار البيوت في حارات "البلدة التحتى" أعلى بـ15 % من البيوت في باقي أنحاء المدينة، حتى من تلك التي في الحارات الغنيّة كالكرمل، وهذا سيحدث"[2]. وقد تزامن الارتفاع في أسعار العقارات[3] مع بداية عمل الشركات العقارية، وخاصة مع افتتاح حرم جامعي في المنطقة وإقامة مساكن للطلبة. أما من حيث السكان، فتتضمن رؤية الشركة العقارية الإسرائيلية "يوسف وأخويه" والتي قامت بترميم عدد من البنايات في منطقة شارع يافا، مجموعة سكانيّة شابة، تسعى للعيش وفق "المسار السريع" التي توفره المدينة الكبيرة، في جو "أصيل ومميّز". ووفق إحصائيات البلدية، فالتغيير في المجموعة القاطنة في الحي يحدث سريعا وخاصة في المناطق التي استٌهل التجديد الحضري فيها .[4]

الحيّز الجديد: بعيد عن اليوتوبيا والديستوبيا

"بحس بالانتماء داخل الأماكن اللي بحبها، ولكن ليس في المكان عامة، أي بالشارع (يافا)... فجأة صارت (المنطقة) سوبر (كثير) حلوة وسوبر أوروبية وسوبر تجذب. فالإحساس إنني رايحة مشوار لغاد ومش في بلدي" (من حوار مع شابة فلسطينيّة حيفاويّة).

 

[خريطة من موقع البلدية الرسمي لمنطقة "البلدة التحتى"، الخط الأزرق يشير الى شارع يافا والدوائر تشير الى الأماكن التجاريّة والترفيهيّة.]   

من شأن التجديد الحضري إنتاج تغيير شامل للمكان من خلال تشكيل قاعدة قانونية وبنية تحتية للمشاريع. فمنطقة شارع يافا تحتوي اليوم على عشرات المقاهي والبارات والحوانيت والأماكن الثقافية الجديدة والتي يعود عدد لا بأس منها الى أصحاب عرب تعتمد بالأساس على جمهور عربي. في مقابلات أجريتها مع رواد فلسطينيين حول شعورهم في المكان، وصفوه على أنه حيّز يشعرون فيه بالأمان، نظيف ويقدم العديد من البرامج الترفيهيّة وذلك خلافا لما كان عليه سابقا. أما بالنسبة لهويته، فوصفته إحدى الشابات على أنه كـ"أوروبا" كـ"خارج البلاد"، وادعى شاب آخر أن المنطقة تحولت إلى "بلدة تحتى" أخرى وحارة "عالميّة"، أسوة بمدن عديدة في العالم. الى جانب "العالميّة"، عبرا عن اختفاء الهوية العربيّة للمكان: "اللغة العربيّة محصورة باستخدامها التقني وليس بهوية المكان - المكان خسر هويته الأصلانيّة وتحول الى منتزه آخر". ما وصفه الرواد، يذكّر بـــ "اللا – مكانيّة" بتعبير بوير. هذا بينما في مواطن أخرى من الحوار، تعلو محدودية المشهد الا- مكاني بكونه هش ومتوتر. ويظهر ذلك جليّا في نقاشات دارت في المواقع الاجتماعيّة الالكترونيّة وفي كتابات صحفية حول مشاركة رواد الحيّز الفلسطينيين والأماكن التجاريّة العربية في مشاريع البلديّة كمهرجان الطعام (العربي) - مهرجان الشام[5]. فقد خصصت البلديّة في السنتين الاخيرتين، بضعة أسابيع، ضمن مهرجان "عيد الأعياد"، تستقبل فيها الأماكن التجارية في "البلدة التحتى" طهاة ومحاضرات وفعاليات حول "المطبخ العربي - الشامي". من أبرز الشخصيات المشاركة في المهرجان عام 2016، كانت الطاهية العربية نوف عثامنة، والتي شاركت وفازت في البرنامج التلفزيوني الإسرائيلي "ماستر شيف". في مقابلة أجرتها معها جريدة إسرائيلية تقول عثامنة: "لقد شهدنا السنة رقما قياسيا في التعاون العربي - اليهودي في مجال الطبخ، على الرغم من الوضع الأمني الراهن... وظيفتنا كطهاة أن نظهر أنه بوسعنا أن نعيش على نحو آخر. يمكننا أن نستعمل السكاكين من أجل تحقيق المتعة وصنع الذكريات الإيجابية". [6] تصريحات عثامنة تكشف عن السياسة غير المعلنة لتصميم "شارع يافا الجديد" والنظيف، فهو مكان دون سياق سياسي، العربي فيه مسلوخ عن مجتمعه ويسعى لخلق "الذكريات الايجابية" مع المحتل. مثال آخر يكشف عن محدوديّة المشهد "اللّا مكاني" النقاش الذي أثير حول مقالة نشرت في جريدة "النيويورك تايمز" تحت عنوان "في مدينة إسرائيلية: تزدهر ثقافة عربية ليبرالية"،[7]  تصف فيها بعض مقاهي وبارات حيفا (من ضمنها أماكن في منطقة شارع يافا) بنبرة استغراب - كون الرواد "الكول" هم فلسطينيون يستمتعون في بيئة "علمانيّة، نسويّة وودية للمثليين". في رد على هذه المقالة[8] نشر في جريدة "السفير"، تشير الصحفيّة إلى تغييب السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في حيفا وما يعانيه السكان الفلسطينيون في المدينة. كما وتنتقد التنميط الذي اعتاد عليه الغرب وتغييب التحديات التي تواجهها الحياة الثقافيّة العربية في حيفا، الأمر الذي يجعلها قائمة "بالرغم" من السياسات الإسرائيليّة وليس "بواسطتها"، حيث وصف أحد أصحاب الأماكن في شارع يافا كتمثيل لــ"ثقافة مقاومة".

 

[صورة للموقع الرسمي لمهرجان الطعام (العربي) - مهرجان الشام.]

ولكن إذا تخلينا عن الحدود الزمنيّة والجغرافيّة التي كونها التجديد الحضري، ونظرنا إلى شارع يافا بواقعه – بعيدا عن خيالية ومثاليّة اليوتوبيا والدستوبيا - فماذا يعني التجديد الحضري للرواد؟ ماذا بعد المشهد "السوبر جميل" و"النظيف"؟ وهل يمكن الحديث عن "مقاومة" دون مناقشة معنى المكان المبني على أسس ومعايير نيوليبرالية؟

في المقابلات التي أجريتها، تم، بين الحين والآخر لمس الحدود الهشة للمشهد المسوّق في شارع يافا، حيث قالت واحدة من الزائرات– أن مثل هذه المشاريع (التجديد الحضري) تظهر لها كـ"طرق إسكات": "هينا معطينكم تصاريح تفتحوا محلات وتعملوا مهرجانات"، أي انها تجد أن إعطاء البلدية تصاريح لافتتاح أماكن تجاريّة عربيّة مشروطة بدفع ثمن – الخمول السياسي. "الإسكات" ودفع الثمن، ليس محصورا على أصحاب المحلات، بل أيضا تشعر به هي كزائرة، حيث تقول: "شعوري عند المرور في المكان مركب من عاملين: الأول هناك كل القصص المربوطة بالمكان، وأتذكرها منذ كنت طفلة... أما من ناحية ثانية يمكن -اتجاهل التاريخ شوي صعبة - بس باللحظة الي بقدر أفصل فيها وأمشي كصبية، بدها تعيش اللحظة، بتمتع من الترميمات اللي صارت ومن الجو الشبابي الي انخلق. بس بكون عارفة إني عم بنبسط ولكن عم بتجاهل وجع كثير كبير". ما تصفه الزائرة هو فرض نوعيّة التجربة والذاكرة والشعور والتصرّف في المكان الجديد والمنوط بالفصل ما بين حاضر المكان وتاريخه، لكونهما متناقضين وغير متواصلين. هذا الفصل الذي تعيشه الزائرة يمثّل الفصل المفروض ما بين ماضي المكان وحاضره والذي يمثّل لب الفكر الصهيوني فيما يخص محو التاريخ الفلسطيني وخلق مرجعيّة جديدة قائمة على الحاضر الإسرائيلي اليهودي الصهيوني. فتصميم المكان في الحاضر عبارة عن مكان عام شبابي وحضري من الممكن الاستمتاع به مقابل تلبية شرط فصل المكان عن ماهيته الفلسطينية وتقبّله وفق مخطط البلديّة. إلّا أنّ الزائرة تنوه إلى كون هذا الفصل مجدول بـ"وجع" كبير. أما حول مقاومة المشروع، فقد قال زائر آخر: "مشروع البلديّة أكبر من بعض النشطاء، مستحيل إفشاله، كما ولا تلتقي مصالح الفئات الفقيرة في الحي مع اهتمامات المجموعات السياسية (الفلسطينيّة)." وحول الأماكن العربيّة قال: "رغم اختلاف نوعيّة الأماكن ومواقفها السياسيّة، جميعها تشارك بمشاريع البلديّة لأنها لا تملك أيّة امكانيّة أخرى". هذا الإدعاء والذي يصف علاقات القوة في المكان، يموضع المشاريع الثقافية والمجموعات السياسية الفلسطينية في المدينة ضمن معادلة التجديد الحضري، مؤشرا على خمولها أو حتى غيابها في التأثير على عمليات تصميم المكان.

الشظايا المتبقية من شارع يافا "القديم" تشي أولا بالعنف المجدول في "يوتيوبيّة" المكان. فبعد العنف المباشر لأهالي الحي من خلال عمليّة الاستطباق، توفّر البلديّة حيّزا عاما وحضريا يرحب بالشباب العرب، إلّا أنّه مصمّم وفق الأهداف النيوليبراليّة ويرتكز على الأيديولوجية الصهيونية. فالحيّز الجديد مشروط بتلبية حاجاته – أن يكون رواده مستهلكين جيدين، وأن تبقى الهوية سطحيّة وفرديّة تُمارس فقط في السياق الاستهلاكي. وأن يتمّ الفصل بين ماضيه الفلسطيني ومعانيه في الحاضر الجديد "الإسرائيلي". كما ويتم إعادة تعريف "العربي" المسموح والمشرّع به في الحيّز "المتحضر" من أشخاص وثقافة، ويتحول "العربي" من كونه لبّ هوية المكان إلى صفة تٌستخدم لإنجاح المشروع الاستهلاكي المسمى بـ"البلدة التحتى". هذه من ناحية ومن ناحية أخرى، فرغم "إعجابهم" بالمكان، يعبرّ رواده عن شعورهم بالاغتراب فيه. كما تصبّ محدودية الممارسات في إطار الـ"وجع" وضمن "المستحيل" والمشاعر التي "نرغب بنسيانها" حسب تعبير الرواد. أما قدرة الرواد أو الزبائن على التأثير على الحيّز فتصبح مصطنعة. إذ كيف يحدث تغيير أو "مقاومة ثقافية" في إطار وعي مبني على "النسيان" وممارسة محدودة بالاستهلاك وهوية مشروطة بالفردانيّة؟

كيف نمارس المكان الجديد

رغم النقاشات التي دارت حول ماهية المكان الجديد، هناك إجماع في جميع المقابلات وتوجّهات الكتّاب حول شارع يافا، على أنّه مرّ بتغيير، وعلى أنه اليوم مكان مختلف. حتى الآن، تمّت محاولة تفكيك مفهوم هذا المكان الجديد من زوايا عدّة لتعقّب مركباته، خاصة غير المرئية كالأسس التي بنيت عليها الأماكن التجارية الجديدة، والجمهور المرغوب به والمستبعد، كما الوعي، الذاكرة، الهوية والزمانية المرغوب بها وتلك التي يٌراد محوها. هذا الخطاب ومشتقاته يتجسّد في إداء الجسد. ولعلّ أبرز الأمثلة هي ما يستحضره ميشيل فوكو(8) من طرق عقاب وتهذيب للجسد وأدائه من خلال خطاب ميكانيكيات السيطرة، خاصة فيما يتعلق بالجنسانية، حيث تم علمنتها لخدمة المشروع السياسي وجعلها أداة ضبط في المجتمع الحديث. يظهر النقاش حول سياسات الجنسانية في "الحيّز الجديد" بشكل مستمرّ ولكن مراوغ. فعلى سبيل المثال، في مقالة "النيويورك تايمز" كما في الردّ عليها، يتمحور النقاش حول تصنيفات الجسد الحضري والعصري وأدائه في الحيّز الجديد مقابل الجسد "الرجعي"؛ فالجسد المحتفى به يمارس المكان وفق الأدائية "العالمية" المعترف بها (من خلال الملابس، والمشروب والتدخين. . . الخ) وبالتالي يتمّ التعامل معه على أنّه "حرّ" وأن الحيّز من حوله مكان يتيح ممارسة هذه الحرية. وعليه يتلخص النقاش حول من قام بتأسيس الحيّز: أصحاب المكان العرب، أم بلدية حيفا؟ وهل هذه الأدائية محصورة في هذا المشهد أم أنها إدائية شائعة؟ هذا، بينما تظهر السياسات الجنسانية في هذا النقاش على أنها تتداول "التحرّر" بدلا من القمع، إلّا أنه "تحرّرها" في الواقع ما زال تسمية لتصنيف الجنسانية لخدمة مشروع سياسي إقتصادي (كما هو الحال في قضية الـ Pinkwashing والاستعمار الإسرائيلي[9]). على ضوء إدعاء جوديث بتلر (9) أن الأدائية مستوحاة من الخطاب المتداول يبرز سؤال استنكاري حول الأدائية التي تنتج من مكان معرّف كـ"بلدة تحتى" ومكان معولم غير فلسطيني يتمّ محوه من خلال تجديد حضري نيوليبرالي مجدول بالعنف والقمع. كذلك يبرز السؤال حول التعامل مع "أدائية متحرّرة" لكن ذات هوية فلسطينية جماعية في المجال السياسي.  

الواقع الاخر

"انتم هنا تأتون في الليل للترفيه، ولكنكم لا تسكنون هنا" (أحد سكان الحي).

خارج خطاب "المكان الجديد"، وكما يدّعي أحد سكان الحي في الاقتباس أعلاه، لا يستوعب البعض - وفي هذه الحالة العائلات العربية القاطنة في الحي قبل التجديد الحضري النيوليبرالي - المكان كما يأمل مصمموه والشركات العقاريّة، ولا يعيشه في ساعات الليل والترفيه فقط. هذه التجربة للمكان خارج إطار الزمن والاستهلاك والادائية المطلوبة والحدود الجغرافية النيوليبراليّة، قد تشكّل دعوة لنا أيضا، لخوض المكان دون التصورات المسبقة لاستخدامه ومن خلال مواجهة العنف المجدول في التجديد الحضري والمخططات الصهيونية. فلو أسقطنا الخيال و"اللا- مكانيّة" لوجدنا أن شارع يافا ومشروع التجديد الحضري فيه هو بمثابة امتداد للهدم والمحو المستمر في وادي الصليب وفي حي المحطة وفي أحياء فلسطينيّة عديدة أخرى. إسقاط هذه الحدود لا يقتصر على استيعاب المكان والشعور فيه والذاكرة فحسب، لا بل يشمل أيضا إسقاط شروط ممارسة هويتنا وترويض أجسادنا وإعادة تعريف "الأمان" والتجربة الجماعيّة التي ننتجها.

 

هوامش

[1]  للمزيد من المعلومات حول وضع التخطيط الهندسي في الأحياء العربية في حيفا

[2]  من موقع كالكاليست: 22.5.13.

[3] فبينما كان المتر المربع يباع ب1700  شيكل عام 2011، وصل سعره بعد عام واحد فقط إلى 6800 شيكل للمتر المربع. من مقالة القناة الاسرائيلية الثانية 12.9.12.

[4]  فعلى سبيل المثال وفقًا لإحصائيات البلديّة بين السنوات 1995-2003، كانت "نسبة التبديل السنوي للسكان" في كل أجزاء البلدة التحتى تشكل ما بين 1.4- وحتى 0.5، وهي أدنى نسبة في التبديل وأقل من المعدل (0.6). اما في الإحصائيات التي تخص السنوات ما بين 2009-2013 فجزء الميناء، الذي أستهل به مشروع التجديد الحضري، شكّل فيه التغيير أعلى نسبة، بين 9.4 - 11، هذا بينما بقي معدل التغير في حيفا على حاله.

[5]  الصفحة الرسميّة لمهرجان الشام.

[6]  مصدر الاقتباس

[8] مقالة "بعدسة «نيويورك تايمز»: كأس البيرة التي اختزلت انتفاضتنا الثقافيّة "

[9]  PINKWATCHING Israel website

 

مصادر


 (1) Boyer, M. C. (1992). 'Cities for sale: Merchandising history at South Street Seaport'. In Michael Sorkin (ed.), Variations on a Theme Park: The new American city and the end of public space. Pp.:181-204.

 (2) Peck, J. and Tickell, A. (2002). Neoliberalizing space. Antipode, 34(3):380-404.

(3) Hickel, J. (2014). 'The ‘girl effect’: liberalism, empowerment and the contradictions of development', Third World Quarterly35(8).

(4) Harvey, D. (2007). Neoliberalism as creative destruction. The annals of the American academy of political and social science, 610(1), 21-44.

(5) Zukin, S. (2010). Naked City: The death and life of authentic urban places. Oxford University Press.

(6) Mayer, M. (2016). Whose city? from Ray Pahl's critique of the Keynesian city to the contestations around neoliberal urbanism, The Sociological Review, 65(2): 168-183

 (7)منصور، ج. (2014). حيفا - الكلمة التي صارت مدينة. عمان: الآن ناشرون وموزعون.

(8) Butler, J. (1993). Bodies that matter: On the limits of “sex.”. London: Roudedge

(9) Foucault, M. (2012). The history of sexuality, Vol. 3: The care of the self. Vintage.