اللغة هي البيت

اللغة هي البيت

اللغة هي البيت

By : Sinan Antoon سنان انطون

الكاتب: سنان أنطون

لا بد من الاعتراف بأن الحديث عن موضوع كتابة الأدب خارج المكان الأصلي/الأوّل يبدو، الآن بالذات، ترفاً، لأن هناك بالتأكيد من غرقوا في اليومين الأخيرين وهم يحاولون عبور المتوسط إلى حياة أفضل وأقل موتاًّ. لكنهم ماتوا بصمت، بعيداً عن أعين الكاميرات وافترسهم ذلك الوحش الهائل والذي اسمه النسيان الجمعي. وهو وحش تزداد شراسته ونهمه مع أعراق وأقوام وطبقات دون غيرها.

ليس ما سأقوله اليومَ وصفةَ، بأي شكل من الأشكال، بل هو وصفٌ لتجربتي الشخصية وهي محكومة، بالطبع، بسياقها وبالصدف، وبالحظ أيضاً، إضافة إلى القناعات.

سألني صديقي، السينمائي العراقيّ المقيم في نيويورك، ذات مرة، ونحن نجلس في ساحة «واشنطن سكوير»: «لماذا لا تكتب رواياتك بالإنگليزية مباشرة؟» فأجبته بسؤال عكس استغرابي: «ولماذا لا أكتبها بالعربية؟»

قال:«كم نسخة تبيع رواياتك، مهما كانت ناجحة؟ ١٠ آلاف؟» قد تضمن لك  الكتابة بالإنكليزية مباشرة أضعاف هذا العدد وتفتح آفاقاً كثيرة أمامك. أستعيد سؤال صديقي، ونسخة أطول من إجابتي عليه يومها، كمنطلق لمداخلتي القصيرة اليوم لطرح أسئلة عن خيارات أو ضرورات الكتابة باللغة الأم، أو بغيرها، وعن تبعات ذلك ومعانيه.

كانت إجابتي الأولى هي أنّني، وبكل بساطة، أحب اللغة العربية، بل أشعر أنني محظوظ لأنها لغتي الأمّ. واستعدت كلمات مظفّر النوّاب: «كم أنت تحبّ الخمرة واللغة العربية والدنيا». وليس هذا انتقاصاً من الإنگليزيّة، التي تربطني بها علاقة خاصّة، والتي أستخدمها بالطبع بشكل يومي قراءة وكتابة ومحادثة. لكن مهما تمكنت منها، فإن طبيعة علاقتي باللغة العربية تختلف. فمعها أجدني أمام محيط، أغرف منه وأغوص في أعماقه وأكتشف كنوزه كل يوم و«أرى ما أريد.» كما أنّني، بالقراءة والكتابة بالعربية، أنتمي إلى سلالة، ورثتها، واخترتها في ذات الوقت، لا يمكن أن أفرّط بها. وذكرت له منها، على سبيل المثال، اسمين، وكأنّني استنجد بروحهما وبمثالهما. سرگون بولص، الذي عاش في كركوك، وبغداد، ومن ثمّ بيروت، قبل أن يستقرّ في سان فرانسسكو والذي كان يزور برلين كثيراً ومات فيها. وظل يكتب بالعربية (وعن العراق، لأن السؤال الآخر الذي يُطرح، أحياناً، هو لماذا تكتب عن بغداد ولا تكتب عن نيويورك؟) حتى بعد أكثر من أربعة عقود قضّاها في الولايات المتحدة وكان قد أتقن الانكليزيّة. وأضفت إليه واحداً من كتّابي المفضّلين، العراقي سمير نقّاش، الذي هُجِّرَ من بغداد، مع غيره من آلاف اليهود العراقيين، عام ١٩٥٠، إلى فلسطين، عندما كان في الثانية عشرة. والذي كتب كل أعماله بالعربيّة ورفض أن يجرّب، أو حتّى يفكّر بالكتابة بالعبريّة، كما فعل سامي ميخائيل مثلاً، والتي كانت ستضمن له، بكل تأكيد، جمهوراً أوسع واعترافاً أكبر من المؤسسة الأدبية والثقافية ودعماً رسمياً وفرصا أكبر للترجمة إلى اللغات الأوربية. وأسباب رفضه تعود لموقفه من الصهيونية بالطبع وهوسّه بالعربية وبمحكيّات بغداد التي تطفح بها رواياته.

قلت لصديقي، الذي كان حديث العهد بالإقامة في الولايات المتحدة، إنّه وبالرغم من إطّلاعه الجيد على ثقافتها السينمائية والأدبية، حتى قبل خروجه من العراق، فقد لا يعرف تضاريس سوق النشر الأدبي وخرائطه. وأنه ربما كان يقيس الأمور بمسطرة تعتمد على تجربته ومعرفته بسوق السينما. قد يكون النص السينمائي الأجنبي، نسبياً، أكثر مرونة وقدرة على المناورة وعلى عبور الحواجز. حدّثته عن الضرائب الرمزيّة التي يتم جبيها، والتي يتعيّن على الكاتب، في معظم الأحيان دفعها، من دمّ نصّه، حين يكون النص وكاتبته أو كاتبه قادماً من منطقتنا ومناطق أخرى من جنوب الكوكب. وما أعنيه هو الثيمات المفضّلة.

ليس سرّاً أن أحداث الحادي عشر من أيلول وطريقة التعامل معها ومع تبعاتها وتداعياتها اعتمدت وأعادت ترسيخ الأرشيف الاستشراقي والمقاربة الثقافوية أو ما يسميه محمود ممداني ”كلام الثقافة.“ وما يعنيه هذا أن الاهتمام المتزايد بالثقافة العربية، وهذا يشمل الأدب، بالطبع، كان من صنف ما أسميه أنا "forensic interest" أي اهتمام وبحث الطب الشرعي الذي يسعى إلى اكتشاف تفاصيل الجريمة.

وهذا يضاف إلى المقاربة المختلفة أصلاً التي كانت تعامل الأدب العربي الحديث بشكل لا يخلو من استشراقية وتهميش واختزال. وأنتم تعرفون مقالة إدوارد سعيد الشهيرة «الأدب المحظور» التي يتحدّث فيها عن رد فعل إحدى دور النشر الأمريكيّة على اقتراحه بنشر نجيب محفوظ، وذلك قبل فوزه بنوبل، وكان ردّها أن اللغة العربية «مثيرة للجدل».

وهناك من بدأت أسمّيهم، شخصيّاً، قرّاء الصفوف الأولى. هؤلاء الذين أكتب لهم وعنهم، بوعي أو بدونه. هؤلاء هم الذين أخاطبهم بشكل رئيسي. وهم القراء في العراق وفي شتاته، وفي المنطقة، ولغتهم الأولى هي العربية. الروايات بالنسبة للكثير من هؤلاء أكثر بكثير من أن تكون نصوصاً أدبية للتسلية وحسب. وسأغامر بالقول إن علاقتهم بها، في هذه الحقبة الكارثية من تاريخ المنطقة، التي يعمّ فيها الخراب والتي تحولت فيها مدن بأكملها إلى مقابر وتم تدمير النسيج الاجتماعي وتشريد الملايين، علاقة أعمق وأكثر تعقيداً.

مع أن المقالة نشرت عام ١٩٩٠ وأن الكثير تغيّر وازدادت وتيرة الترجمة والنشر وساهمت دور النشر الصغيرة والجامعية، في الولايات المتّحدة، في إغناء المكتبة الإنگليزية بالترجمات، إلا أنّ الإشكالية ما زالت قائمة. كما أن اللغة العربية أصبحت، بعد كل الأحداث التي عصفت بالعالم مذّاك، أكثر جدلاً، بل أضحت، في حالات كثيرة، مذنبة وينظر إليها على أنّها مرتبطة عضوياً بالعنف وبثقافته. وهذا ينسحب، في كثير من الأحيان، وبدرجات مختلفة وبشكل غير مباشر، على تلقي الثقافة التي تكتب بها.

لا يُقرأ النص الأدبي المترجم عن العربيّة، في معظم الأحوال، كغيره من النصوص الأدبية، بل كبحث أنثروبولوجي أو حيّزاً يحفل بالغرائبي الذي يعاد إنتاجه وعرضه وتعليبه بشكل يسهل الاستهلاك لإرضاء غرائر ورغبات وترسيخ سلسلة تصوّرات تهيمن على المخيال الجمعي.

بالعودة إلى سؤال صديقي، ذكّرته أن الذات لن تكون نفسها عندما تستخدم وتكتب لغة أخرى. والأهم أن الشخصيّات التي تعاودني أطيافها وأشباحها، والتي أرغب في تقمّصها، تفكّر بالعربية وتتحدّث محكيتها البغدادية أو الموصليّة. طوابير الموتى والأحياء الذين يريدون ألا تموت حكاياتهم والذين أحاورهم بصمت يتحدّثون العربيّة دائماً. ومع أنّي قادر على الترجمة، إلا أنني لا أريد أن أترجم رواياتهم إلى الانگليزية. فـ «هناك أحزان لا تترجم» كما تقول شخصية نمير في روايتي الأخيرة «فهرس».

أعادني سؤاله إلى سؤال مهم آخر: هل ما يكتبه المرء من أدب موجّه للجميع؟ وللآخرين بلا تعيين أو تحديد؟ يدّعي معظم الكتاب ذلك كثيراً. نظرياً، نعم، لا يكتب المرء لقارئ أو قارئة ما، أو مجموعة معّينة، حين يكون في عرض النص وأمواجه المتلاطمة، وقد لا يفكّر إلا بالنص. وإن تمثّلت له أو لها صورة القارئ فإنه ذلك القارئ الذي لا اسم له ولا معالم واضحة، أو علامات فارقة أو هوية. ومن الطبيعي أن نحلم بأن تصل كتبنا إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء وأن تترجم إلى كل اللغات.

لكنّ هناك علاقة جدليّة أيضاً وتفاعلية بين الكاتب والقارئ الحقيقي الذي يتفاعل مع النص ويعبّر عن رأيه فيه. وتؤثر ردود أفعال القرّاء على علاقة الكاتب بنصوصه. هناك تراتبية ما، بالنسبة لي على الأقل، وبدأت أعيها أو أتخيّلها بشكل أوضح في السنين الأخيرة. فالقرّاء طبقات، لا بالمعنى الاقتصادي، أو لعلهم قبائل وأمم. وهناك من بدأت أسمّيهم، شخصيّاً، قرّاء الصفوف الأولى. هؤلاء الذين أكتب لهم وعنهم، بوعي أو بدونه. هؤلاء هم الذين أخاطبهم بشكل رئيسي. وهم القراء في العراق وفي شتاته، وفي المنطقة، ولغتهم الأولى هي العربية. الروايات بالنسبة للكثير من هؤلاء أكثر بكثير من أن تكون نصوصاً أدبية للتسلية وحسب. وسأغامر بالقول إن علاقتهم بها، في هذه الحقبة الكارثية من تاريخ المنطقة، التي يعمّ فيها الخراب والتي تحولت فيها مدن بأكملها إلى مقابر وتم تدمير النسيج الاجتماعي وتشريد الملايين، علاقة أعمق وأكثر تعقيداً.

المخاطبون، القرّاء، يتقمّصون، معي، ذوات أخرى ويعيشون حيوات أخرى، ويقيمون مؤقتاً ويتجوّلون في مكان اسمه العراق، أصطحبهم إلى ماضيه ومدنه وعالمه السفلي.

يقودني هذا إلى ثنائية العالميّة والمحليّة، والأولى تُذكرُ بكثير من الإيجابية ويراد بها أن تكون مديحاً. لكنها قد تكون عكس ذلك. لكن لا مجال هنا للحديث عن إشكاليات «العالميّة» وطبيعة النصوص التي توضع في هذه الخانة. يكفي أن أقول إنني أفضّل أن أكون كاتباً محلياً!

سُئِل سرگون بولص في واحد من آخر الحوارات التي أجراها (مع مجلة «پارناسوس» الأمريكيّة عن علاقته بالوطن فقال:

«أمريكا بالنسبة لي هي مكان عيش وإقامة وليست وطناً، فأنت لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت ليس بمستطاعك أن تعود إلى وطنك ثانية. اللغة العربية، وهي الحبل السرّي الذي يربطني بشعبي وتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملكه.»

قد أسافر من هذا الوطن، بالترجمة، أو بالكتابة وممارسات أخرى، (وأسجّل هنا أنّني، بالرغم من كل ما قلته، أحتفظ بحقّي بكتابة رواية بالانگليزية في المستقبل) لكنّني سأعود إليه وأظل فيه.

اللغة هي البيت. 

[مداخلة ألقيت في ملتقى «كتابة (في) المنفى»، برلين، ١٠ تموز. الذي نظمته مؤسة آفاق، بالتعاون مع مؤسسة هينرش بول و EUME]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • استقالة نعمت شفيق: الجامعات الأمريكية والاستثمار في الإبادة

      استقالة نعمت شفيق: الجامعات الأمريكية والاستثمار في الإبادة

      ترى هل تعد حرب الإبادة الشاملة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة، من بين أكثر مشاكل العالم تعقيداً بنظر من يحتلّون مناصبهم في مجالس أمناء الجامعات المرموقة، والرؤساء الذين واللواتي يقع اختيارهم عليهم، وعليهن؟ وما الدور الذي لعبته جامعة كولومبيا ورئيستها في التعامل مع مشكلة بالغة التعقيد كهذه؟

    • نتنياهو والتصفيق للبربرية

      نتنياهو والتصفيق للبربرية

      حَفِل الخطاب، كما هي عادة نتنياهو، بالأكاذيب الغوبلزيّة (نسبة إلى جوزف غوبلز، وزير دعاية هتلر)، والسُعار وتأجيج العصبيات العنصريّة.

    • إنكار العنف السياسي في أمريكا

      إنكار العنف السياسي في أمريكا

      «لا مكان للعنف السياسي في بلادنا» هذه هي الجملة التي ردّدها، أو ردّد تنويعات عليها، عشرات السياسيين والمعلّقين الأمريكيين في الساعات والأيام التي أعقبت قيام شاب أمريكي بمحاولة فاشلة لاغتيال الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.

معجم «فرهاد دفتري» الاسماعيلي، اللغة تمتحن المؤرخ

الكاتب/ة: أنس الأسعد
i.             

يعدّ اسمُ المؤرخ الإيراني والأكاديمي الرصين فرهاد دفتري (1938،...) ملازماً لكل حديث أكاديمي حول التأريخ المعاصر للحركات الشيعية، فهو حصر مجمل حياته الفكرية للخوض والنقاش في موضوع تاريخي واحد تقريباً، محاولاً خلال رحلته الطويلة عدم الاقتصار على الإنتاجات المعرفية والمكتبة الضخمة، بل تعدّاها إلى العمل الوظيفي كمدير مساعد ورئيس قسم البحث والمطبوعات الأكاديمية في معهد الدراسات الإسماعيلية (لندن).

ما يلفت الانتباه في مسيرة دفتري بالإجمال هي قدرة التركيز على موضوعه وإشباعه بحثاً كل هذه السنوات، فمن "الإسماعيليون تاريخهم وعقائدهم"، كامبردج 1990، إلى "خرافات الحشاشين: أساطير الإسماعيليين"، لندن 1994. إلى "مختصر تاريخ الإسماعيليين"، إدنبرة 1998. ثم "الأدب الإسماعيلي"، لندن 2004  .كل هذه الأعمال صدرت عربياً عن دار الساقي وترجمها سيف الدين القصير، بيد أنّ ما يميز "معجم التاريخ الاسماعيلي" (الطبعة العربية الأولى 2016) هو الجمع بين أمرين: أولهما الاستمرارية في الاشتغال على ذات الموضوع التاريخي، والأمر الثاني ما يمكن تسميته بحُسُن تخلّص إلى تقنيات جديدة لمعالجة موضوعه الأثير. إذن التقنية، هذه المرة، هي الهمّ الرئيس الذي أسَّس عليه المؤرّخ كتابه.

ii.             

يتأطّرُ عمل المؤرخ -أي مؤرخ – وفقاً لصيغة مدرسية كرونولوجية تَتْبَعُ آثار المادة المدروسة بجداولها الزمنية الثابتة، وتقاطعُها على أرضية تقاويم زمنية معتمدة، اللهم إلا بعض الاستثناءات التي لا تمس جوهرية هذه النظرة (التعاقبية) إلى التاريخ، فابن خلدون مثلاً لم يكن ليرى أنّ التاريخ خطٌّ مستقيم وكفى، بقدر ما رآه مدوّراً تنتابه قوى جاذبة لحركة العمران وأخرى طاردة لها، لكنها بالتأكيد لا تكرّر نفسها على الطريقة (التزامنية) العدمية التي فهم نيتشه بها التاريخ.  فكرة ابن خلدون تلك ستنمو وتثبت صوابيتها عندما يتابعها أوربياً في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني هيغل، وذلك بتأسيسه لما بات يعرف بفلسفة التاريخ، ومن بعد هيغل سيأتي الماركسيون بمفهومهم عن المادية التاريخية، حيث لا تقف الخطيّة كقراءة للتاريخ وحسب، بل تستحيلُ إلى مُعادِلاتٍ اجتماعية وسياسية سيتم التعارف عليها ب"التقدمية". ثم إلى آخر هذه التنويعات الفكرية التي يكمّل بعضها بعضاً.

لكنّ السؤال الذي يظهر بالمقابل، هو كيف يمكن للمؤرخ الاستغناء عن الكرونولوجيا؟، وأي تقنية بديلة سيعتمد؟. قد تكون الفيلولوجيا هي أشهر هذه البدائل، أو لنقل بصيغة أبسط: إنّ البحوث اللغوية والألسنية هي التقنية البديلة الأكثر شيوعاً؛ حيث تعزّزت بسبب رواج الأفكار البنيوية في أواسط القرن العشرين، والتي تنظرُ إلى التاريخ من زاوية التزامن وليس التعاقب، بل إنّ هذه النظرة لم تتمّ تنحيتها حتى مع بروز التيارات الناقدة للبنيوية، والمتناسلة منها في آن، كحفريات ميشيل فوكو، أو المُراوحة في الحواضن الدلالية للّغة، كتفكيكية جاك دريدا، وليس انتهاء بمفهوم التاريخ الجديد عند جاك لوغوف.

يتَّضحُ ممّا سبق أنّ تغييرَ التقنية لا يترتب عليه غرضٌ شكليٌّ لتصدير الكتاب، بل هو في صلب التناول الأيديولوجي الذي يوجّه الكاتب، وفي سياق مقارن يمكن الاستعانة بمثال بارز هو المؤرخ والمستشرق برنارد لويس، فمن حيث اهتمامه المنصبّ على موضوع الإسلاميات أيضاً، وتركيزه على الفيلولوجيا بشكل منقطع دون غيرها، (انظر عمله الأشهر في هذا الصدد: لغة السياسة في الإسلام) نستطيع أن نترسّم معالم المقارنة بينه وبين دفتري، مع أهمية التذكير بفوارق خطيرة إذ لا يُعرف عن دفتري أنه اشتغل لمصلحة دوائر سياسية من أوساط المحافظين الجدد كما يحفل بذلك التاريخ العنصري والمحافظ للويس.

iii.             

يمكن بعد هذا عرضُ مضامين معجم دفتري الإسماعيلي، وبسط القول فيه. إذ يبدو العمل (365 صفحة) تتويجاً لمسيرة دفتري البحثية، ويقسَمُ إلى قسمين: فقبل الشروع بالمتن المعجمي (أي القسم الثاني والرئيس في الكتاب) هناك ثلاث مقدمات للمحرر أوّلاً، فالكاتب ثانياً، فالمترجم ثالثاً، بالإضافة إلى اختصارات ورموز، لنتفاجأ بعدها بأنّ مسرداً كرنولوجيّاً يستعين به الكاتب كعتبة تحدّدُ الإطار العام للفترة الزمنية التي يتحدث عنها الكتاب، وتمتدّ من مولد النبي محمّد 570م، أي ما يسمّى بعام الفيل، وينتهي بعام 2007!، أو بمناسبة اليوبيل الذهبي لإمامة الآغا خان الإسماعيلي الرابع!. وبالرغم من المشكلة الفادحة بالنظر إلى هذه الفترات الزمنية، والمحاولة الشاقة في بناء تسلسل بين مراحلها يعتمد على النّسب والوراثة العائلية ذات البعد الديني والغيبي الفج (حيث لا يسائل صاحب العمل أو يدقّق عقلانياً في هذه السُّلالات بقدر ما يعتمدُها كمحددات تاريخية)، تبقى الإشكالية التي لا تقلّ فداحة هي ما تقدّمُه هذه التوطئة الكرونولجية على مدار 16 صفحة، لعمل يعرّف عن نفسه على أنّه معجم!.    

يبدأ المتن المعجمي عند الصفحة 63، وفقاً للترتيب الهجائي للحروف العربية من الألف إلى الياء، ولو أُخذ الحرف الأول (الألف) كنموذج، وتمّ التدقيق بمواده لاتّضح أنّ التقنية عرقلت بسط الموضوع، ودفتري متميّز في كتاباته السابقة بسلاسة أسلوبية وشموليّة تاريخية، لكنّه في معجمه هذا مرتبكٌ يضع العربة أمام الحصان بما لا يمكن نكرانه. بالعودة إلى التدقيق مع الحرف الأول من حروف معجمه المترجم إلى العربية، كي لا ننسى أثر الترجمة في نقل مواد من حروف إلى أخرى، فإننا نجد تراصفاً في المواد المعروضة، حيث الجغرافيا وما تتضمنه من أسماء لمناطق كأذربيجان وأفريقيا، تتجاور مع أسماء دعاة دينيين وقادة كابن عطاش والأفضل الجمالي، أو أسماء كتب مثل اتعاظ الحنفا، أو مفاهيم وطقوس كالإمامة والآمرية. هنا العامل الزمني الجامع قد تمّ تحييده لصالح عملية بحثية (متخيّلة) سوف تجري مُستقبلاً، خدمةً لها أو من أجل إنجازها بشكل مُيسّر وسريع صنع دفتري معجمه.

أخيراً، فإنه لا يمكن اعتبار العمل تطابقاً بحتاً مع المنهجية الفيلولوجية بحدودها الصارمة كما عند لويس، ولا هو استغناء تام عن الكرونولوجيا، إنما جاء ليسد ثغرة شكلانية في مسيرة دفتري الطويلة.