نفاق اليسار: حرب 1967 واليهود المشرقيون

نفاق اليسار: حرب 1967 واليهود المشرقيون

نفاق اليسار: حرب 1967 واليهود المشرقيون

By : Omri Ben Yehuda


”كانت له لحية أيضاً وذكريات وقطع السياج وجهه إلى عشرات القطع، قذف اتهامات ثقيلة بوجهي كأخ، وقال غاضباً: إنني صرت منفياً، مثقوباً بكراهية الذات، ومحباً للعرب، وخائناً ومخبراً حول شعبه في القصائد، وأكثر خطراً من المعادين للسامية، زعيم في المافيا، وذكرني بأوصاف وحشية لحارقي أوشفيتز وباليد الممدودة للرب الذي وعد بأن يعيد شعبه إلى أرضه أو أرضه إلى شعبه.  واعتقدتُ لبرهة أنه يمكننا العودة إلى كوننا من أبناء الدين نفسه، يهوديين متعبين من تبادل الاتهامات، فأمسكت يده واقترحتُ الذهاب إلى ضريح شمعون الفاضل، والبكاء برقة على الرجل الورع والجراح التي سببناها لقلبه المكتهل، إلى أن يبكي الرجل الصالح علينا وعلى عمق الشق الذي يهدد بتقويضنا، وعلى أرض إسرائيل بين ألمانيا وفلسطين.»

ألموج بيهار، الشيخ جراح 2010. ترجمة تشانا مورغنتيرن

منذ عدة أسابيع ذكّر القائد العمالي آفي غاباي، الذي يُعتبر الأمل الجديد "لليسار الإسرائيلي"، الإسرائيليين بلحظة خاصة جداً حدثت منذ عشرين سنة وهي أن بنيامين ناتانياهو، الرجل الذي يمتلك حقاً غرائز بدائية لقراءة روح إسرائيل، همس في أذن الحاخام الضعيف قادوري قائلاً:“لقد نسي اليسار ما يعنيه كونك يهودياً“. يُعبّر هذا الشعار بدقة عن مشروع ناتانياهو السياسي، والذي يستند في الحقيقة إلى توليد عداء بين الصهيونية واليهودية.  إن غاباي، والذي هو يهودي مشرقي ترعرع في معسكرات الترانزيت المشهورة بالمعاناة الناجمة عن إهمال الدولة الإسرائيلية، لم يستحضر أيام أوسلو واغتيال إسحاق رابين فحسب، بل أعلن أيضاً أن ناتانياهو كان مصيباً.

سيكون التفسير المشترك لحركة سياسية كهذه هو القول إن غاباي، مثله مثل يائير لابيد، يحاول بشكل انتهازي أن يربح الناخبين المحافظين من أجل الانتخابات القادمة من خلال محاكاة ناتانياهو. لكن تفسير الأمر بشكل مغلوط كهذا يعني إغفالاً كاملاً وصرفاً للنظر عن سياسة ناتانياهو الخاصة، والتي تعكس انقساماً طويلاً متأصلاً على نحو عميق في تاريخ اليهودية الحديثة. وينبغي أن نسلط بعض الضوء على المسألة، ففي إسرائيل يشير مصطلح يسار أو ”يساري“  تقريباً بشكل كامل إلى أصول إثنية واجتماعية-اقتصادية. ذلك أن ”اليساري“ هو شخص من خلفية أشكنازية (أوربية شرقية) لا يحتوي أبداً على أية سمات إثنية أو شتاتية. وقد نشرتُ مرة مقالة أثارت الجدل قلتُ فيها إن ”اليسار“ في إسرائيل هو الآن مسألة سياسة هوية وليس معتقدات سياسية. وأعلنتُ أنه بالرغم من أنني أقرُّ بالنكبة، وأدافع عن حق الفلسطينيين بالعودة، وتخليت عن وجهات النظر الاقتصادية، إلا أنني مع ذلك لا أعتبر نفسي يسارياً. إن اليسار في إسرائيل يعني ما يفهمه كثيرون في مكان آخر من مصطلح ”ليبرالي“ وفضلاً عن ذلك يعكس مواقف المؤسسة الإسرائيلية القديمة، لهذا السبب، إنه بالتالي مشكَّل من الخلاف بين اليهود المشارقة واليهود من أصل أوربي شرقي.

بعد نشر كتابها المشهور عن محاكمة أدولف أيخمان في القدس في 1961 شرعت حنا آرنت في مراسلات مع صديقها جيرشوم شولم صارت مشهورة جداً بعد أن اتهمها الأخير بأنها تفتقر إلى ”حب إسرائيل“. وكان نقد شولم موجهاً إلى تصوير آرنت للموظفين اليهود الذين ساعدوا في تدمير شعبهم أثناء الهولوكوست. وبالنسة لشولم، افتقر التصوير إلى ”فعل القلب“، وهذا عيب قال إنه موجود لدى اليسار اليهودي الألماني كله. إن هذا التوتر بين حب اليهود كمجموعة إثنية وكشعب، وبين الموقف الأكثر بعداً عن اليهودية كدين فقط، اتخذ أشكالاً كثيرة  مع مرور الأعوام واعتمد على ثنائية في الديانة اليهودية  نفسها. فمن ناحية، إن اليهودية موروثة عن الأم، هي علاقة بيولوجية، ومن ناحية أخرى، أن تكون يهودياً فإن هذا يرتبط بأداء الوصايا.  وشدد على الفرق بين اليهود الألمان زاعماً أنهم  براجوزيون منفتحون بقيم كونية، وبين أخوانهم من الشرق، زاعماً أنهم أكثر ارتباطاً بالخصوصية والطقوس اليهودية، وهذا ناجم عن وضعهم كأقلية بين الأقليات في الوفرة الإثنية والواقعية العنيفة لأوربا الشرقية. ويتغاير هذا مع  الدول القومية في غرب القارة حيث كان اليهود أقلية تم التسامح معها، بالمعنى الدقيق للكملة. ويعتنق وجهة النظر هذه، مثلاً، الباحث البارز في التصوف اليهودي موشيه آدل. ويلعب اليساريون اليهود دوراً مهماً في هذا. ففي إسرائيل تم لوم اليساريين الإسرائليين المحليين على شيء آخر مختلف وهو حب العرب.

إن هذا الاتهام الخطير مهم لأنه ينطوي على سخف فحسب. ذلك أن معظم اليساريين الإسرائيليين لا يتحدثون العربية، ونادراً ما يتحدثون مع العرب، إن حصل هذا. وكقاعدة، ليست لديهم علاقات ودية أو حميمية معهم. مما يثير السؤال: لماذا يتّهم اليسار بحب العرب؟ في الحقيقة، إن الاتهام هو أيضاً طريقة للقول بأن اليسار غير مخلص، إن فعل ”يحب“ هنا يعني ”لا يكره بما يكفي“. لكن الجواب الكامل سيعالج فجوة داخل الخطاب الإسرائيلي وفي خارجه في آن واحد معاً. هنا، يشير الدخان المتصاعد إلى نوع مختلف جداً من الحب:حب اليهودي المشرقي. وهذا يعني، حب كل اليهود، بصرف النظر عن أصولهم.

هذا ما فهمه ناتانياهو حين كان يهمس لقادوري. فقد أشار بدقة إلى الشق الذي ربما كُتبت عنه حتى الآن ملايين الكلمات. إن الصهيونية، التي تدعم نفي الشتات، تعزّز العلمنة، والتي هي في حد ذاتها غريبة على اليهودية. وهي بالتالي تسعى إلى تحرير اليهود من يهوديتهم وتحويلهم إلى أوروبيين (”مثل كل الأمم“). وفي حملته الأولى في 1996 كان ناتانياهو هو الذي استخدم  شعار ”ناتانياهو جيد لليهود“.

وكما بين المؤرخون والباحثون الثقافيون أمنون راز كراكوتزكين وجيل النجار وجيل هوخبرغ، فإن النموذج الذي قدمه الفصل الأوربي بين العلمنة والتنوير من ناحية وبين الدين من ناحية أخرى أشار بشكل واضح إلى اليهودية.  ففي الوقت الذي كان الأوربيون يرسخون فيه انفصالاً كهذا في أوربا، نظرت الثقافة المسيحية إلى اليهود كغير عقلانيين وغامضين ومعذبين. وأعيد بناء التمييز بين الغرب والشرق وسار متوازياً مع تمييز كهذا.  وبدورها، بدأت الثقافة العلمانية السائدة بالنظر إلى الدين (أي الدين اليهودي) كجزء من العالم غير الأوربي.  وقَبِلَ اليهودُ المتحررون والمتعلمون والعلمانيون والصهاينة والإصلاحيون وبعض الشيوعيين بمبدأ نفي الشتات في معناه الأعمق، أي نفي كل شيء غير مشمول في الدولة العلمانية التقدمية، نفي الدين والشرق، الدين الذي بُني كجزء لا يتجزأ من ذلك الشرق نفسه. وبطرق كثيرة فإن اليهودية (ذلك الدين الغامض والمشرقي) هي التي صاغت علمانية أوربا منذ البداية.

ربما كان اعتناق الصهيونية لأدبيات العهد القديم ورفضها للنصوص اليهودية الحاخامية المقدسة المثال الأوضح على هذه الظاهرة. وفي الحقيقة، فإن ميلاً كهذا هو بروتستانتي بشكل قاطع. بدأ مع مارتن لوثر كينغ وتتوج في النازيين، الذين اعتبروا أن العقيدة اليهودية الأساسية هي التلمود، النص الأكثر أهمية للروح الدينية اليهودية الشتاتية (أي غير الإسرائيلية). وكان اختيار العهد القديم أيضاً خياراً لا يبعد المرء كثيراً جداً عن المسيحية. إنه كتاب مرجعي وقانوني عرّفت اليهودية والمسيحية نفسيهما على أساسه فقط بعد أن قبلتْه اليهودية الحاخامية وآباء الكنيسة، على التعاقب. فضلاً عن ذلك، إن اختيار العهد القديم هو فعل كلاسيكي من الاقتلاع المشرقي، كما فهمه إدوارد سعيد. ففي هذا الفهم، فإن القدماء سواء كانوا مصريين أو عبرانيين أو كنعانيين أو مؤابيين، إلخ هم مبجلون كمُثُل لكل اجتياح استعماري، بينما المقيمون المعاصرون في الأراضي نفسها (المصريون والفلسطينيون) ”غير مرئيين“ أو حتى موضوع للاحتقار. كان هذا النوع من الاقتلاع السيكولوجي مهماً بشكل جوهري للاستيلاء على الأرض، ويمكّن من تأصيل المستوطنين الاستعماريين بين السكان الأصليين. ويتلاءم هذا بشكل مذهل مع فكرة أن الأمة جماعة متخيلة، لأن الماضي هو دوماً نتاج الخيال، وفي الحاضر، يمكن أن يُقْمع الماضي (كماضي الفلسطينيين اليوم).

حين وصلوا إلى فلسطين، حاول اليهود أن يطيحوا بالشرق: سواء كان الشرق الأوربي لليهودية، والتي كانت قد بهتت جداً بسبب الهولوكوست، أو بشكل أكثر تكرراً، الشرق الذي كان يتحدث العربية، اللغة العدو. وعليه، إن النفي الأوربي (واليهودي) لليهودية استبدل في إسرائيل بنفي العرب، وكان هذا هو الموقف حتى 1967، ولكن بعد أن أصبح دور اليهود المشرقيين بارزاً، ذُكّر اليهود الإسرائيليون بأصولهم المشرقية، كما نُظر إليهم في أوربا. بدوره انقسم الاقتلاع في اتجاهين: كراهية العرب ومحبة العرب.

وهنا نصل إلى التهمة المذكورة سابقاً: محبة العرب. ففي زيارته التي تأخرت كثيراً إلى جنوب تل أبيب في أيلول\سبتمبر 2017 سمح ناتانياهو بأن تُلتقط له صورة مع امرأتين يهوديتين من أصل مشرقي أكبر سناً كانتا تقبلان يده، كما لو كان المسيح تقوده أمه مريم ومريم المجدلية. شغل اليسار نفسه بالنقد التشكيكي لزيارته مصرّاً على حقوق اللاجئين الأفارقة البائسين، الذي يسكنون في الجنوب إلى جانب السكان المشرقيين القدامى. وشددوا أيضاً على  انشغال جماعات حقوق الإنسان المعتاد بالأراضي المحتلة. وفي الوقت نفسه، نشرت الصحيفة الإسرائيلية الليبرالية ”هاآريتس“ مقالة حول التوجه المتواصل لأطفال بلدات التطوير، التي كان سكانها حصرياً من أصول شرقية، إلى التعليم المهني. وكانت تلك الاتجاهات الثلاثة: شعبوية ناتانياهو، وتركيز اليسار المنظم على اللاجئين والفلسطينيين، والمشرقيين في بلدات التطوير الذين تُركوا في الخلف كما دوماً، جرعة مركزة  لمدة أسبوع، وهذا ما دفع الروح الإسرائيلية منذ أن تأسست الدولة. ويمكن تلخيص هذا في الحقيقة البسيطة بأن اليسار الإسرائيلي هو ببساطة غير مهتم باليهود الذين من أصل مشرقي.

أشار إلى هذه الحقيقة المرعبة يهودا شينحاف سابقاً في 1996، وقلتُ مؤخراً إنها تقوض حق اليسار بالوجود. وقد حاولتُ في تلك المقالة نفسها أن أظهر أن منظمات مثل ”بيتسيلم“ و"كسر الصمت“، لا حق لها بالتحدث إذا لم تنخرط في الاحتجاج الذي يقر بالعرق والطبقة والحيوات المستقبلية بعد الاستعمار التي تتكشف في المسبق اليهودي الداخلي وتفاوتات السلطة بين اليهود. لكن هذا في الحقيقة يشكل جزءاً من تشكيل اليسار لذاته ولعلاقته مع الآخر.  ومن خلال الاحتجاج على وضع العرب في مكان ما هناك في ”الأراضي“ يتم تمكين اليهودي الليبرالي الجيد.  إنها مسألة تقرير مصير وتأكيد للذات. وحين يثير ناتانياهو اليساريين قائلاً إنهم نسوا كيف يكونون يهوداً، فإنه يلوم ضمنياً اليسار الإسرائيلي على نسيان اليهود المشرقيين. وبالفعل، حتى هذا اليوم لم يتصالح اليسار في إسرائيل مع الفجوة الرضّية في وسطه. وفي الذكرى الخمسين للاحتلال، يجب أن نعبر عن المعنى الأعمق لحرب الأيام الستة. فقد منح احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عمقاً جغرافياً ومعنى للفصل بين اليهود والعرب، وسمح بإنشاء إسرائيل الشرعية المفرغة من العرب بشكل فعال، وضمنياً المفرغة من اليهود. وصوّر اليسار الإسرائيلي دوماً السنوات التسع عشرة الأولى من الدولة كعصر ذهبي، بدون حروب. وكانت حرب الأيام الستة أيضاً الحرب الأولى التي لعب فيها اليهود من أصل مشرقي دوراً فعالاً في اضطهاد  الفلسطينيين. وسمح التركيز على هذا لليسار الصهيوني بأن ينغمس في فكرة أنه لولا اليهود و العرب (اليهود الذين هم عرب، بكل المعاني المرتبطة بالمصطلح، كمثل المشرقي، والمتدين والمتشدد والجاهل) لن يكون هناك احتلال أو عنف. إن اليهودي الصهيوني الجديد، عضو الغرب، مُشكَّل من خلال محو العرب. وتقدم حرب 1967 تطهيراً لذنوب 1948. لكن لا بد من توضيح الأمر هنا، فأنا لا أقول إنه قبل 1967 لم تكن هناك كراهية لليهود الشرقيين أو بعامة للعرب من قبل المؤسسة الإسرائيلية. بالطبع كانت هناك كراهية. لكن حرب الأيام الستة رسمت الانقسام، وعلى جانب منه كانت كراهية العرب، من قبل اليهود المشرقيين، وعلى الجانب الآخر الحب المفترض للعرب من قبل اليساريين. وكانت هذه نتيجة الحرب. ويمكن التعبير عن الموقف كله هكذا: مع وصول اليهود الذين ليسوا من بلدان غربية إلى إسرائيل، وخاصة بعد مشاركتهم في اضطهاد الفلسطينيين، استطاع اليهودي الأوربي أن يكمل ثورته الصهيونية ويصبح يهودياً بلا إله.  للمرة الأولى، استطاع اليهودي الأوربي أن ”يقتلع“ و“يُسْقط“، وهما مصطلحان سيكولوجيان يشرحان كيف تمكّن البيئة الذات المتخيلة. وهذا اليهودي الجديد يستطيع في النهاية أن يحقق المشروع القومي كما عبر عنه راز-كراكوتزكين، شارحاً آرنت في جوابها لشولم:“لا يوجد رب، لكنه وعدنا بالأرض“.

لم تثر تعليقاتي المنشورة سابقاً رد فعل من أصدقائي الناشطين الذين يقومون بعملهم المهم، لكنه مضلل، في منظمات حقوق الإنسان سابقة الذكر. هنا، سأسعى إلى الكشف عن النفاق في قلب اليسار الإسرائيلي، الذي يصيب أيضاً المفكرين الراديكاليين (لم يصب المفكرين الصهاينة و جزءاً من المؤسسة) مثل جدعون ليفي ودانيل بلاتمان أو إلانا هامرمان، الذين يركزون في نقدهم على 1948 لكنهم يواصلون تجاهل اضطهاد اليهود المشرقيين.  إن خطاب حقوق الإنسان في إسرائيل، وخارجها، يتردد في ذكر الإثنية والسلالة والطبقة، وبالتالي يُسْكت المعاني الضمنية الاستعمارية لحكمها كله، في ”أراضيها“ وخارجها. ويقف هذا في تغاير صارخ مع ناشطين مثل عضو الكنيست جمال زحالقة أو المحامي باراك كوهن، أحدهما يهودي عربي، بما أن تجربة المنفى، كما فهم محمود درويش المسألة، تجمع سوية العرب واليهود، والآخر يهودي عاش بين العرب وصادف أيضاً أنه كان متديناً.

يستند المشهد الاستعماري إلى التمييز بين الداخلي وبين الخارجي، بين الدولة الميتروبوليتانية وبين المستعمرة، بين الشرعي وبين اللاشرعي. وتنسخ الصهيونية بشكل فعال المقاربة الاستعمارية حين تميز وتفصل ”الأراضي“ عن الدولة.  وهذا يخدم اليسار لأنه يسمح له بأن يتخيل أن الدولة الاستعمارية توجد فقط هناك، بينما يستقر إنجاز إسرائيل الاستعماري الأكثر وضوحاً  أقرب إلى الوطن: يتحول ”البائع البولوني المتجول إلى مفكر ألماني“، هذا إذا استعرنا عنوان كتاب عالمة الاجتماع عزيزة خزوم، بينما يكون لدينا دوماً شخص يصنع الفلافل والكبة والشاورما ضمن الحدود ”الشرعية“ لتل أبيب.

إن النفاق متضمن في الاستعمار، وربما هو أيضاً شرطه الجوهري. وتتبع الإمبراطورية أسلوب تقديم مظهر حميد بينما بعيداً في ”الأراضي“ تمارس سياسات إبادة جماعية. ولا يقتصر اتهام اليسار الإسرائيلي بالنفاق على إسرائيل. إنه يعكس حقبتنا برمتها، حيث عززت المصالح الذاتية وورثت المكان الذي كان يحتله النفاق سابقاً.  وبطرق كثيرة، هناك تبرير لانتخاب دونالد ترامب: تمتلك الدول الصناعية مصانع مليئة بالعمال المستغلين أيضاً في الوطن، لكنها تتجاهلهم بينما تستورد بسخاء (وفي الغالب من خلال أعمال خيرية) طلاب دكتوراه أجانب من كل مكان آخر في العالم. وبينما ترامب بليونير وُلدَ مالكاً للثروة فإن افتقاره للغة المصقولة رد فعل على النفاق المتضمن للإمبراطورية، النفاق الذي يمكّن الحكم الاستعماري.  وبالرغم من أن ناتانياهو لا تهمه إلا مصالح معينة إلا أنه يحقق على الأقل وعداً واحداً. تستطيع أن تقول أشياء كثيرة عنه، لكنك لا تستطيع أن تتهمه بأنه يحب العرب. وفي الواقع الصهيوني (هذه هي الثورة الأكبر التي أنجزتها هذه الحركة الأوربية) كراهية العرب هي التعبير الشرعي الوحيد عن حب اليهود. وهذا يفسّر، ربما، كيف استقرت تهمة كراهية الذات بين اليهود خارج إسرائيل، ولو بطريقة مشوهة، في الذهن الإسرائيلي. إن الكراهية كتعبير وحيد عن الحب هي السمة الكريهة التي يجسدها ناتانياهو والتي يتماهى كثيرون معها بشكل وثيق. وربما كان ناتانياهو السياسي اليميني الأكثر تمرساً في العالم اليوم، وألهم شخصيات مثل ترامب ومتطرفي أوربا الحاليين.  هذا، مرة ثانية، ما يسم الصهيونية  كلها. ففي إسرائيل 1948 خُلق اليهودي المتطرف من خلال نفي العرب، وفي إسرائيل ما بعد 1967 خُلق من خلال نفي اليهودي المشرقي، والذي يحصل إلى جانب الحب المزعوم للعرب. بالتالي، من يذكّر اليهود بيهوديتهم؟ ليس ناتانياهو، الذي ليس متديناً. ففي الصيف الماضي، في أحد الاحتجاجات الأسبوعية ضد ناتانياهو، صاح أحد المتظاهرين، وهو يهودي علماني، بمتظاهر متدين، قائلاً له ”أخرجْ السجادة من رأسك“ وكان يعني القبعة. سرى الفيديو، الذي وثق تلك الحادثة، كالنار في الهشيم في مواقع الإعلام الاجتماعي، واتُّهم المتظاهر العلماني (بشكل مبرر) بالعداء للسامية. بالطبع، خارج إسرائيل، حصلت حالات كهذه بتواتر أكبر. هناك شيء مقلق حيال رؤية هذا يحصل في إسرائيل لكن المفارقة المرة هي أنه أثناء الحكم الاستعماري، في البلدان اللاغربية هوجم اليهود من قبل جيرانهم العرب الذين أشاروا أيضاً إلى مظهرهم. ولم يكن هذا عداء للسامية بالمعنى الكلاسيكي، على أي حال، لكنه احتجاج ضد التعاون اليهودي مع الغرب. وكما قالت إيلا شوحيط، هاجم العربُ اليهودَ الذين تمسكوا بالعلمانية الأوربية من خلال حلق لحاهم وخصلات شعرهم الجانبية.آنذاك، كان العرب هم الذين وبخوا اليهود الشرقيين بقسوة لأنهم ”نسوا ما يعنيه كونهم يهوداً“. واليوم يعبّر الكثير من اليهود الشرقيين عن احتجاجهم من خلال الجملة التلمودية:”يجب أن تكون الأولوية لفقراء مدينتك“ التي صارت في إسرائيل مؤشراً على الكراهية والانفصال عن مواطنيها الفلسطينيين. لكن في أساس البنية الأخلاقية لليهودية، في التوارة، ثمة كلام عن الحب أيضاً:“أحبب جارك كما تحب نفسك“، تقول الوصية التي صارت حجر أساس الروح الحاخامية، بعد الحاخام أكيفا والحاخام هيليل.وكما بين ألنجار، تتغاير هذه الوصية مع وصية المسيحية البولسية:“أحبب عدوك“، والتي تتضمن جرعة النفاق الضرورية للمشروع الاستعماري.  لا شك أن هناك وصية طاعتها أصعب، ووصية ربما تعبر عن جوهر الحب نفسه، والذي يوجد أولاً وأخيراً معك، أنت نفسك، كيهودي، كعربي:”كنفسك“.

[ترجمة: فريق الترجمة في جدلية]

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • As Thyself: The 1967 War and the Mizrahim

      As Thyself: The 1967 War and the Mizrahim

      The new hope of the Israeli left, Labor leader Avi Gabbai, reminded Israelis several weeks ago of a very special moment that took place twenty years ago. Benjamin Netanyahu, a man of truly primal instincts for reading the Israeli soul, whispered into the ear of the frail Rabbi Kaduri, “The left has forgotten what it’s like to be Jewish.”

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬