-القهوة مُنْطَلَقاً-
القهوة منطَلَقٌ لذبابةِ ذكرياتي القلقة. إنها، على عادتها، تحومُ حولي بحثاً عن مَدْرجٍ محتمَل لطيرانها. عبقتِ القهوة متقافزةً على الغاز بلهيبهِ المتألّق، فراحتِ الذبابةُ في البدء تحومُ حول الفنجان الأبيض: فوق نقوش البورسلان المذهَّبة الممحوة في بعض مواضعها، في دوائر بديعةٍ متناظرة، دوائر ذبابة لا تترنّح سُكْراً، ثقتُها أكبرُ بجناحيها الضئيلين اللذين قد تقتلعُهما نفخةٌ واحدة. في الهواء الذي سوف تجتازه، يتصاعدُ عبقُ الأعشاب تحت الشمس. تواصِلُ الأشجار بريقَها الخافت، تكاد تشفُّ في الضوء الذي يبيَضُّ شيئاً فشيئاً. هديرُ الذبابة يقوى أكثر فأكثر، مأخوذة بالمحرّك الذي يحرِقُ كلَّ دموعها في حريقٍ مُسْتعِر، بطقطقةٍ يابسة تُعيد دواليبَها الخلفية إلى الداخل، بينما جناحاها الهشّان يصلدان ويمتدّان قويين، تأهُّباً للحظةِ التي ستتخلّى عنها الأرضُ بغتة.
-تعيشين الآن في فورباك-
أسرابُ عصافير ترفرفُ بمستوى العشب حول السكن الاجتماعي،
أخرج الرجالُ التلفزيون ليتفرّجوا على كأسِ العالم،
تجلسين بينهم في مَطرْحٍ ليس لك،
لا تحبّين أن تتردّدَ بناتُك على الغجرية الصغيرة التي تتنزّه وحدها،
وتأتي إليهنّ في مطبخكم لتصحبهنّ إلى اللعب.
قدّام نافذةِ مطبخكم
تأذَنُ الأرضُ لبضع شقائق نعمان أن تطلَّ برؤوسها،
الأرض المتروكة والأعشاب التي اصفرّت في الشمس، والصيف لا يزال في مطلعه،
تجعلكِ تفكرين بمكانٍ تسميّانه أنتِ وجارتكِ بالشاطئ.
عند طرفِ هذه الأرضِ الصغيرة،
بعد رؤوسِ شقائق النعمان،
ينتهي شاطئكما، هناك حيث يقع محلُّ أنصار، السوبرماركت التركي الذي عثرتِ فيه
على جبنةٍ تكاد تضاهي اللبنةَ بمذاقها.
وراء التلة المشجَّرة ألمانيا، تركيا،
هنا فرنسا، الجزائر.
طلَبةُ ثانوية في صالةٍ متعدِّدة الاستعمالات مثّلوا مسرحيةً عن الحرب،
عن لاجئين يعبرون حدوداً، جميعهم بتصريحِ العبور نفسه.
اللُّورين برئتيها المتفحّمتين، بطبقاتِ ذكرياتها،
أنفاقِها، خنادقها، إجازاتها المدفوعة،
لم يفزعْها وصولك.
في متحفِ المناجم رأيتُ الأمداء بكماءَ ومعدنية،
وفي أرشيف الأفلام رأيتُ عمالَ المناجم يصلون إلى محطةِ قطارات مِسْ
ويغادرون جنوباً إلى العطلة.
رُفِض طلبُ لجوءِ جارتك.
هذا الصباح ستأخذُ ابنتها إلى طبيبِ الأسنان،
وهذا المساء كلتاكما ستعودان إلى شاطئكما لتتبادلا الأحاديثَ بالإنكليزية.
يدفّئ الصيفُ لورينك
التي تساورها همومٌ غير همومكم،
التلالُ المشجَّرة، الحدودية،
تُصغي إلى لغاتِكم من دون أن تفهمها،
ولا تتذمّرُ من عدمِ الفهم.
حزنُ الغرباء الأليف،
نارُ قدّاحة وسيجارة
تُقدَّم إلى مبنى المسكن الاجتماعي المطليّ بأزرق سماويّ وبالغيوم
التي تتّخذ تحت الشمس سحنةً ذاهلة ومتأمّلة،
المبنى المركون هناك، أزرق مع الغيوم
مسرْبَلاً بدخانك،
ولا يعرفُ أكثر منك
كيف وصل إلى هنا.
-منعطَفُ الرُّون-
هذه انعطافةُ معلّم-
منعطفٌ واسع وكريم كمثل كمِّ
قاطعِ طريق في سالفِ العصور
يدورُ هذا الدورانَ الجَسور على صهوةِ حصان،
يمرُّ ولا يزيحُ عن السماء نظرته
الزرقاءَ مثلَها
مجرىً من الهواءِ البارد كينبوعٍ
صارَ ثوراً يَعْدو إلى مصبّه.
أرخِ العِنان، أيُّها الفارس،
أنتَ في مطلعِ المنعطف
حيث يوتَّرُ نضوجُكَ النهري ُّكلُّه،
تحمحمُ بهيجانٍ مكبوح
مثل فحلٍ في أبهى أيامه،
أعمدةُ الجسرِ المدمَّر
حيث تنبتُ الأشجار،
تجمّدتْ أمام نُبلك،
الأسودُ الحجريّة العالية التي تحرسُك
لا تستمدُّ وقفتَها القيصريّة إلا منك.
-بِييْمانسون-
الموقفُ الأخير للكرَفانات،
صالةُ انتظار البحر،
مَدْرجٌ لا يُعرَفُ إلى أين،
لن ينتهي الساحلُ أبداً،
مثله مثلُ البحر.
ساحلٌ عارٍ ومُنطلِقٌ في مطاردةِ الزمن،
وكرفاناتٌ متراصفة
لكأنها قد أتتْ للحجّ
عند عذراءِ الغجر السوداء،
لكنّ البحر، عارياً مثله مثلَ الساحل،
لا يحملُ عذراء ولا زهوراً
والحجّ صامت.
ثمة عوائلُ على البحر منذ ثلاثة شهور
كمَن يؤدّون الشعائرَ للهواء، للشمسِ والملح،
للرملِ حرّاً.
لكثرةِ الناس على هذا الساحل،
لكثرةِ الكرفانات المجتمعة،
نخال سماعَ ألحانِ الربيع الكردي
ونخال إننا نرى فساتينَ الفتيات واهتزازَ الرقصات.
نكاد نسمعُ تسبيحاً للهواء الذي يسيلُ بين الأصابع،
لجهاتِ البحر وجهاتِ الأرض،
لمقودِ الكرفان نصفِ الغائص في الرمل
والمتحوّلِ إلى كوخٍ صيفيٍّ صغير،
لكنْ ما مِن جلَبةٍ وما مِن عيد،
بل صمتٌ يقبضُ اللسانَ الشاسع للرمل
داخل شِباكهِ المكسوَّة ببخارٍ ذهبي،
صمتٌ ينسجهُ بطءُ الصيفِ الرتيب،
مهيباً كانزلاقٍ عظيم من الأحجار،
وفيه يتداعى القلب
كسمكةٍ شبعَتْ،
وما مِن ملتقى، ما مِن حرية
إلا حريةُ الصيف،
الصيف الذي يجرُّ انتصارَهُ الحالم إلى حواشي الأرض.
-الدنوُّ من النار-
تركضُ الطفلةُ الصغيرة،
كما لو كان العالُم المشتعلُ كرةً على مقاسِها في دوّامةِ الخيل.
تركضُ نحوه في استغراقٍ كامل.
العالمُ يشتعلُ على دوّامةِ الخيل.
ألسنةُ لهيبهِ في انثناءاتٍ جميلة، كما في المنمنمات الفارسية،
تبهرُ كلَّ مَن يراها.
طفلةٌ أخرى أكبرُ سناً تسألُ الأطفالَ الآخرين: "كم عمرك؟"
إنْ كان عمركِ أربعَ سنين فستدورين أربع دورات،
إنْ كان عمرك سبعَ سنين فستدورُ سبعَ دورات،
أما أنتِ فقد زدتِ عمركِ. تكذبين لتدوري وقتاً أطول.
كلُّ طفل يدورُ مع العالم الذي يشتعل،
يحسُّ بالحَرّ، بالعطش،
حرارةُ النار المتلظّية تنعكسُ على وجهه،
بينما الأمّهاتُ، الحائراتِ لقُربِ النار،
يتحوّلْنَ إلى أقمار.
-عَبّارة الجزائر-
يصِلُ هذا المركب كمَن كان يمشي وراءك على مهل.
صامتاً، ينسابُ، يظهرُ ويختفي في هدوء
في البحر وخلَلَ السطوح،
بنايةً وسط الأبنية.
في الشريطِ الضيق لمياه الميناء، يرجعُ بحركةٍ دقيقة إلى الوراء
قبل سكونه.
في النهارِ ذاته،
يشرعُ بالتحرُّك من جديد.
كما لو لم يكُنْ ملحوظاً
فنخالهُ للوهلة الأولى وهماً سببهُ رَقرقاتُ الحَرّ،
يُقلِعُ من ضِيقِ مكانه الذي صُفَّ فيه.
دونما استعجال، يبزغ،
بطيئاً، أنيقاً، خبيراً،
كمثل كوكبٍ أزرقَ وأبيض
يقوم بدورةٍ كاملة حول نفسه،
عملاقاً، يدورُ بدقّة في الميناءِ الضيق،
وبعد إتمام المناورة الحاذقة،
محنَّكاً ومستهتراً
كمثل سائقٍ يقود الباص بيدٍ واحدة في زقاقٍ مُكْتظّ
ويرمي من النافذة عقبَ سيجارته بعد أن مجَّ نفَسَها الأخير،
يتّخذُ طريقَهُ مرة أخرى،
خطَّ سيرِه،
في صمتٍ، في تواضع،
كمَن لم تسمعهُ ماشياً وراءك،
يعاوِدُ الانسياب.
-بمستطاعي تمضيةُ حياتي على حافّةِ الزرقة-
بمستطاعي تمضيةُ حياتي على حافّةِ الزرقة
المشدودةِ إلى حدِّ التشقُّق،
الزرقة كطياتِ قماش،
حواجب بيضاء يعقدُها الزبد.
زرقةٌ تتعذَّب
صخورٌ على الساحل خفيفةٌ كالمرسومةِ بالقلم
مدينةٌ-طنجرة تهدّدُ بأن تدلقَ في البحر
طبخَها المستحيل،
مدينةٌ وُضِعتْ على النار
غطاؤُها لم يُحكَمْ جيداً،
مركبٌ ينفخُ في بوقِ المغادرة
دافعاً بصرختهِ الغريبة
الآتيةِ من أقاليمِ الملح والدموع
الآتيةِ من قاعِ المركب ومن الأفق،
جزُرُ الفريول حارسةُ عبوره
وحارسةُ اللحظة التي سيتوارى فيها.
ما مِن أحدٍ يعرف هذا مثل القطار
المقيَّدِ إلى سككه،
حين ينبثقُ من النفق ويرى كلَّ هذه الفوضى:
صخور الساحل، البحر الجالس على قلقٍ، المراكب الباهتة كالمذنَّبات،
الجزُر المسنَّنة، المدينة التي تلتهمُ نفسها،
واجهات المباني التي تعتلي طوابقَها،
مكسورةَ الرُّكَب عنيدةَ النظرات،
يفوقها في الارتفاع طَوقُ التلال
الذي يلفُّ حول عنقِها ذراعاً مُعطَّرة.
الريحُ تهشّمُ النوافذ مثل زوجٍ مخمور
قادمٍ ليُذيقَ زوجتَهُ ضرباً،
قرميدُ السطوح نحْلٌ أقفلَ راجعاً من بلادِ الشام.
القطارُ المسكين الذي ليس حُرّاً
مقدار ميليمتر واحد،
أمام الجحيمِ الجليل للغضب،
جحيم الذهابِ والإياب في كلِّ الاتجاهات،
القطارُ المعدنيُّ ذو النوافذ المغلقة
بأيِّ كلامٍ سيُواسى؟
-قصر آفيز-
مناخُ عطلاتِ الصيف ترامى إلى أيلول.
أوراقٌ تقصَّفتْ.
ضوءٌ يَعْذُب عند الساعة الخامسة، حصةٌ إضافية من الصيف.
وراء القصرِ الذي ترقِّطهُ الشمس
متلقّياً في غرَّتهِ ضياءَها،
كرسيّان، من ناحيةِ الحديقة
في فَوْحِ الصنوبرات،
في الصمتِ المغسول،
في عزلةٍ أثمرَتْ.
التلّةُ العالية المضاءة
تنظرُ إليهما كأنها جارةٌ تسكنُ فوقهما.
لا يُستدَلُّ بالسياجِ الصدئ الذي ليس مفتوحاً ولا مُوصَداً،
عذراءُ الصخرة كأنها تعْلمُ كيف تلبّي الأمنيات،
إبرُ الصنوبر تدثّرُ الأرض،
الكرسيّان يتحدَّثان عن طفولاتٍ قديمة
أو عن أطفالٍ تركوهما للتوّ ليرجعوا إلى المدرسة،
الروحُ تتكتّم،
القصرُ مغلق
مثل قطٍّ توارى ليتذوّقَ فريسته،
الحديقةُ وحدها تحسو من الصيف جُرعةً أخرى.
-ساحل عند طرف العالم-
بقايا المنازل التي هُدِّمَتْ قبل إكمال بنائها، على أطراف المحيط الشاسع، تشي ببداية، تشي بنهاية. أحجارُ البناء، التي تهشّمت بُعَيدَ البدء بالتشييد، تتصادى، بطريقتها، مع دورةِ الأشياء، عَوْداً على بدء. تمتزج، وقد فتَّتَتْها جرّافة، مع الحصى البحريّ في تمامهِ واستداراته. يُسمع هديرُ الحضور الهائل للمحيط، فتُجيب الأرضُ إلى جانبه بزحفٍ أبيض يعلوه الغبار. أرض حصباء تنسى، دربٌ منوَّمٌ. الفضاء مهجور ومأخوذٌ بمطاردةِ نفسه، ساكنٌ ومتأهّب في آنٍ، كمثل الدربِ الأبيض المشرِف على البحر. على الساحل المفتوح يجلس رجال، مسافاتٌ كافية تفصل بعضهم عن بعض. أولوا ظهورَهم لليابسة. مستغرقون في غيابٍ طويل. أو أنظارُهم معلَّقة إلى الخيطِ الشفّاف لصنّارةِ صيد تقيسُ عُمْقَ انتظارهم. أو امرأة تجلس إلى جوارهم، ناضجةً في مثل عمرهم، ساكنة، تعكسُ جلالةَ المحيط وتقدّمُ، من دون أن تدري، أجلى صورة للمثابرة. هنا تجولُ الكلاب الودودة والوحيدة، ليست منزليةً ولا برّيةً، تقتفي العابرين بأملٍ صريح في العثورِ على الدفء والمأوى. هناك، عند أطرافِ الساحل، بحرٌ من القصب يتماوجُ ويتخلّلُ المنازلَ المبعثرة: كائناتُ القصب هؤلاء، كأحجارِ البناء، هم القاطنون العفويُّون لهذه الهوامش؛ حركتُهم المروحيّة الدؤوبة، هزُّهم للرؤوس، الساهم والعذب، يصاحبُ كلَّ الأحداث، الوحشيةَ أو النافلة، التي تقعُ عند سِباخهم. خيراً من القصبِ الرهيف ذي الرأس كثّ الشعر والمثقلِ بالأفكار، مَن يسعهُ الإحساسُ بالعَطْف تجاه المخلوقات؟ إنّه يرى الجرّافة تقضُّ أملَ الشابّةِ التي اعتقدت بأنها أخيراً سوف تمتلك بيتاً. كما لا يفوته أن يرى التقاطيعَ المجْهَدة للعامل الذي يُدير الآلةَ ذات الفكوك الضخمة. إنه يرى النساء في عبورهنّ الطريقَ، ذاهباتٍ إلى الاحتفال حيث يأملن العثورَ على زوج. دَغْلُ القصب يعاودُ الصعودَ باتجاه الأراضي، نحو المباني الحمراء المبعثَرة حيث تبدو المنارة وحدها قادرة على رصّ الصفوف من حولها. لولا هذه المنارةُ الرشيقة وخفيفة الزرقة، لتفرّقوا كلٌّ إلى خاصّته، مقتفياً نداءَ المحيط ونداءَ الأرض التي تمشي وراءه، مبسوطةً كراحةِ الله.
-سان دُني بوّابة باريس-
صامتاً ينسابُ الباص في الليل،
مُناراً كفانوس،
واثباً فوق القناة في تلألؤ المطر،
مارّاً قرب أكواخِ الغجر،
الجيران الصامتين، الذين يجرُّون على الدوام عربةَ تسوُّق،
الجيران أصحابَ الأصوات الجميلة الطليقة عند بوّابة المترو
أو المسجَّلة على هاتفٍ جوّال،
الجارات الجالسات أمام المغسلة،
آلات التجفيف الكبيرة تدور بالغسيل الذي لن تمسَّه أيُّ شمس
شرشف أحمر كبير يُطوى، بأناقةٍ، عشرَ مرات،
بمساعدة من رجلٍ مجهول خجول،
ينسابُ الباص تحت المطر.
تحت الجسر ِالكبير للأوتوستراد،
يلعب هنودٌ الكريكت يوم الأحد
تنبجس زهورُ الختميّة من رصيفِ القناة
كأنها هي مَن سيُمسك بكُرتِهم.
بين رصيف القناة والأوتوستراد، شجرةٌ كبيرة
صلبة، كأنها شجرةُ ساحةِ القرية،
شجرةٌ لملتقى مسنّين حُكماء.
وكانت هناك قريةٌ حقاً
شرّدَتْها الجرّافات
قلبتِ الترابَ عاليَه سافلَه
لكيلا يتذكّر أحدٌ هذه الزاويةَ بعد الآن
بين القناةِ والأوتوستراد.
تُركتِ الشجرةُ المسنّة وشأنها
الشجرة ذات القامةِ الوارفة، قوية الذاكرة،
تكاد تكون وحدها وسط الحقل مقلوبِ التراب،
إنها ترى الآن، من الجانب الآخر للأوتوستراد،
المبانيَ تطلع من الأرض
ومدخلاً جديداً للمترو، مدشَّناً للتوّ، وفسيحاً
ليستوعب الزحامَ الذي سيعبره،
وبقاليةً ملمَّعة للخضار.
صادف رمضان شهر تموز،
حوالى الساعة العاشرة مساءً والشمس لا تزال تتردّدُ في الأفول،
في خيمةِ المعونات الإسلامية
المنصوبة غير بعيدٍ عن الطريق،
شابٌّ يؤذِّن للصلاة آذاناً
رقراقاً كالنبع
وما مِن أثرٍ للميكروفون
وجميع الحاضرين، جالسين كلٌّ أمام صينيّتهِ،
وكأنهم يتأهَّبون لوجبة في استراحةٍ على الطريق،
ينصتون
القناة، الأوتوستراد،
هُما تلك الحدود
حيث تُسمَع أحياناً الأصواتُ الجميلة،
مباغتةً كغزالةٍ تُلمَحُ من نافذةِ قطارِ الضواحي.
قناةٌ وطريق، زهورٌ بنفسجية، محطةُ قطار الضواحي، ذُرةٌ مشويّة، ذهابٌ وإياب، قساةٌ ومعتدُّون بأنفسهم.
نفقٌ وصالةُ أعراس يستعجلُ الخروجَ منها
متهوّرٌ راكضاً ليستمني على حافةِ الماء،
بطقمهِ الليلكيّ،
ضفةٌ حيث أفلتتِ من الجرّافاتِ البيوتُ المتنقّلة.
صمودٌ قاسٍ ومزهوّ-
حلّاقون أفارقة،
موسيقى من جزُرِ الرأسِ الأخضر،
مطرٌ منهمر على كلِّ هذا وكأن الله قد شاء إغراقَ عالمهِ مرة أخرى،
مطرٌ طائش، مغتبطٌ ومُضجِر،
يسيرُ في الأرجاء كلِّها قادِحاً أقواسَ قزح صغيرة بين الأشجار،
مطارق صغيرة لتهشيمِ الزجاج
شجارات لتهشيمِ الحياة.
-زيارة، الدائرة الباريسية الخامسة-
قالت لي: "أمضينا في بيروت الغربية سنواتِ الحرب كلَّها تقريباً. وعندما التجأنا عند صديقة في بيروت الشرقية، من جماعتنا إذا جاز لي القول، أحسسنا هناك بأننا في أسوأ حال. ذهبنا إلى سهرة. كان المطار يُقصَفُ أثناءها. كنا نرى من الترّاس ألسنةَ اللهيب تتعالى. كان الجميع مبتهجين. غادرنا، أنا وأختي التي قالت لي: "إنها البلَدُ تحترق، فما الذي يُفرِحهم؟" كان هناك خليطٌ من الناس في بيروت الغربية. أما الأحياء شرقاً فذاتُ لون واحد، هذا فظيع. ومَن يُطِلِ البقاءَ هناك، يجازفْ بأن تصيبه العدوى".
رحلتِ الأختان تالياً عن بيروت، رحيلاً لا عودةَ عنه. صار اسمهما "السيدتان كوبي"، الجارتان اللتان تسكنان أسفل بيت والديّ. لديهما شرفة كبيرة مليئة بالنباتات وشتلات الورد، مثل الشرفاتِ البيروتية، حيث تتناولان فطورهما في الصيف. كنتُ أوقِعُ على تلك الشرفة الكراتِ والألعاب، فتتلقّفُها كلَّها.
إحدى السيدتين كوبي فقدتْ أختها. زار الموتُ المبنى والشرفة. أرغمني على التخلي عن نقود الوقت المعلَّقة إلى خيط صنّارته التي لا تكفُّ عن الحراك. الموتُ مناسبة كبرى. ما عدتُ أرغب في عضّ الشَّصّ الذي يلتمِعُ فوقي. أودُّ الغوصَ عميقاً في الماء، والبقاء هناك طويلاً.
في ماءِ وقتٍ لا يُبالي، في ماءِ تلك المحادثة، قالت لي مدام كوبي: "خسارةٌ أنّ يزَن ابنَ أختك، قد تألّمَ فور ولادته، لأنه خضع لعمليةٍ جراحية. عند ولادتكما أنتِ وأختك، كان أبوكما قلقاً للغاية". ثم أردَفَتْ، "تأثّرَ كثيراً"، وكأن ولادتنا قد جرتْ بالأمس. يزن، خلال هذا الوقت، في الطابق الثالث، هو السمكةُ الأجمل التي سبحتْ في هدوءِ البحر.
-عمّان 2006-
عمّان، شرشفٌ أبيض منشورٌ على التلال، بين جبلٍ عجوز وراء الحدودِ الشمالية، وشمسٍ على الأرض وراء نهر الأردن.
في دمشق، جبلُ قاسيون وحده، ما مِن جبل آخر سواه. لذا، يرزحُ بكاملِ ثِقله على المدينة.
القدس، حيث تشرق شمسٌ ذهبية طوال النهار، ممنوعة.
بين قاسيون العجوز، الكالح والمستبدّ، وبين بريقِ القبّةِ المطوَّقة بالحواجز، يترامى شرشفٌ أبيض طويل.
بين جمودِ الجبل، الجاثم على غليانِ الأرض، وبين الشمسِ الحبيسة في متاهةِ الحواجز، يترامى شرشفٌ أبيض طويل.
عمّان، شرشفٌ منشور على التلال، مشكّلاً قوساً خفيفاً بين هذا الصمتِ وتلك الحرب،
عمّان، ألستِ إلا هدهدةً، نوْماً لهذه الأرض ههنا؟
نومٌ تحت الشرشفِ الأبيض، حيث تحلمُ المدينةُ بأنها تستردُّ أوصالَها التي قطَّعتْها الحدود،
حيث تحلمُ بأنّ يدَها تطالُ الجبلَ السليط
فينصاعُ لها
وأنّ يدَها تطالُ الشمسَ الحبيسة
فتُعينها على النهوض
وأنها تطالهما كالنائم، في نومه، يحكُّ قدمه.
عمّان المتخفّفة من التاريخ، الجديدة، المشدودة والمسترخية بين عُقدٍ عصيّةٍ على الحل،
عمّان، الوداعةُ، هل يغطّي شرشفُك الأبيض رقادَ أرض هانئة، بين يديك، في يقظتها تحلمُ بالاستيقاظِ حقاً ذات يوم؟
أم تُراه يغطّي الوجهَ الجميل لميتٍ
لم يمنحْهُ الفرصةَ جبلٌ قديم...
ولا دبابةٌ راهنة.
أم تُراكِ كلُّ هذا في الوقتِ إيّاه؟
-لا بدَّ من الريح-
(عمّان، جبل الويبدة، 2012)
من أجل شجرِ اللوز، شجرِ البرتقال، شجرِ الليمون، من أجل رهافةِ أسلوبها في مصاحبةِ الحجر ومادّتهِ المضيئة.
من أجل الجسدِ الحيّ، الأرض، الحجر، من أجل الثمرةِ التي تظهر وتفتحُ عيناً كمثل طفلٍ بعد قيلولة.
من أجل الثمرةِ المعلَّقة، لكأنّها هناك بالصدفة،
من أجل شجرةِ اللوز الغارقة وحدها في نشوتِها البيضاء عند ناصيةِ المنزل المغلق، أعلى الدرَج،
من أجل حضوركم الرقيق المذهل، أيُّها الرّفاقُ الساكتون للمنازلِ الأشبه بساعاتٍ شمسية، التي تشرب الضوءَ طوال النهار وتُبدّل الكؤوس، مثلما تفعلُ مسيحيّتان عجوزان من القدس جالستان في حديقتهما،
من أجل الياسمين الذي لا يسمعُ المعاركَ في الشمال،
أو إذ يفتحُ دروبَهُ الألف مفتّشاً عن ياسميناتٍ أخرى يتفتّحنَ هناك في الجلبةِ والصليل، غير منقطعاتٍ عن بثّ فوحهنّ،
من أجل زهور المجنونةِ القلقةِ التي تودُّ لو فاضَتْ أكثر، وتسعى لتنحني أكثر كمثل طفلٍ يشدّهُ الفراغ، لونها يفلق الحجر المطمئنّ الذي يدعها تجرحه،
على السطح تكاد تطير الشراشفُ التي ترفعها النسمة، لولا ملاقطُ الغسيل التي تثبِّتها،
قماشها يطفو، شفيفاً، يمتصُّ الضوءَ والهواء ليُرجِعَهما عند النومِ في الليلِ الخفيف،
عندما تدقُّ الساعةُ الخامسة، حين تفتحُ بُقعةٌ متروكةٌ الأرضَ على السماء، تلوحُ الطائراتُ الورقية في أعالي المدينة.
نسمةٌ مباغتة ترفعُها وتمنحُها العلوّ، فتُقلِعُ من حيث تخلّتِ الشراشفُ عن التحليق،
ثم تنطلقُ بحثاً عن هذا الهواء في الأعالي، هذا الصمتِ المفعَمِ ببخورِ العزلة، صمت يصلُ إلى الأطفال عبر الخيطِ الرقيق الذي يوجِّهون به طائراتِهم،
هؤلاء الصيّادين الحاذقين.
-حاملة الشموع-
كانت كُوزاً منحوتاً من الحديد، مشترى من سوق دمشق. فيه توضَعُ شمعةٌ، وعبر فتحاتٍ دائرية، حيث تتأرجح قطعٌ صغيرة من الزجاج الملوَّن، كانت الشمعةُ تبثُّ في العتمة أشعَّتَها الرجراجة. أو الأحرى، ستشعّ هكذا إنِ استأجرتُ غرفةً هنا. غرفة في الطابق الأرضي، سميكة الجدران، مطلَّة على باحة داخلية صغيرة. ستشعُّ إنْ وضعتُها على طاولة قابلة للطيّ أمام النافذة حيث سأرى الباحة. الشمعةُ خامدة آناء النهار، والباحةُ بيضاء فيُسْتَشفُّ قِدمُها. شجرة كينا هزيلة ستطلع من حوض تراب كبير ملاصق للحائط. هبّاتُ ريح تنضو عنها على الدوام أوراقاً فتتبعثرُ على الأرض. آناء الليل، الشمعة تبثُّ أشعتها، وأنا أشرب زهورات من الورود المجفّفة، آتيةً بدورها من السُّوق، لا أضيفُ إليها سكّراً ولا أتساءل حول طيب المذاق. كما بمقدوري وضعُ الشمعة داخل التجويف الأبيض في الجدار، الغائر عميقاً بحيث يمكنني ترتيبُ الثياب والكتب، وتثبيتُ مصباحٍ للنوم. في السرير، سيموتُ قطٌّ صغير، مخنوقاً بثِقلِ اللحاف. سأمضي لأدفنه تحت العشب، عند موضعٍ مما تبقّى من سور المدينة. سأضعُ كلَّ الشراشف في الغسّالة التي تتلقّى الشمس على ترّاس البيت. شراشف سماويةُ الزرقة سأشتريها من مدحت باشا، وعليها أشكالٌ بنيّة أو برتقالية. كما سأشتري هناك بطانية بنيةً ناعمةَ الملمس، بالغةً النعومة، واحدة من تلك البطانيات المصنوعة في الصين والمسمَّاة جلد النمر. بطانيتي من دون خطوط، لا يجمعها بالنمر إلا لونٌ ضاربٌ إلى الذهبي. حاملة الشموع أتاحت لي أن أرى كلَّ ذلك، ولكن آنذاك لم يكن لديّ بعدُ باحةٌ ولا غرفة ولا مفتاح. كنتُ عابرةً فحسب، وكنتُ أسألُ نفسي إذا ما كانت الصورُ التي تلقّفَتْها نظرتي ليست إلا كليشيهات خاطفة، أو هي بالأحرى الوجهُ الأول لشخصٍ كنتُ سأعيش معه طوال السنين الثماني اللاحقة. المدنُ كالناس تغيّر وجهَها كلما تعرّفنا عليها أكثر. كانت دمشق هي السقف المقبَّبَ المثقَّبَ لسوق الحميدية، وكانت جبلَ قاسيون الذي استقام ليرى على أحسنِ نحو. كانت بحراً من سيارات التاكسي الصفراء وجسور المشاة فوق الطرقات السريعة. كانت قباباً كبيرة مزركشة بقبابٍ صغيرة من الزجاجِ الملوَّن، ومحلاتِ العاديّات. كانت حاملةَ الشموع التي أهدتني إياها أختي، وكانت وحدها تدري فيما إذا كانت همهماتُ الشارع والناس ستنسابُ فوقي من دون أن تترك أيَّ أثر، أم ستلبث وقتاً طويلاً.
**********
علمت نتالي بونتان، أثناء زيارتها تونس سنة 2009، إن كلمة "السوري" هناك تعني "الفرنسي". كانت نتالي قد استهلّت ارتحالها إلى العالم العربي بزيارة اليمن تلتها إقامة قصيرة في الإسكندرية ضمن ملتقى للترجمة الأدبية سنة 2003، ثم انتقلت إلى دمشق حيث عاشت من عام 2003 حتى نهاية 2011 حين أرغمتها الظروف السياسية على الرجوع إلى باريس، المدينة التي ولدت فيها. في مسقط رأسها، عملت، مع صديقاتٍ سوريات وفرنسيات، على تأسيس جمعية "شمس" للتضامن مع السوريين في سوريا وفرنسا. لا تنسى نتالي الحياة الدمشقية التي دوّنتها واستعادتها في كثير من نصوصها. في دمشق، كغريبة متوسّطية هائمة على وجهها، اهتدت بالصدفة إلى بيتها الذي كانت تجهل وجوده، لمست تنوع الحياة وترحيب الغرباء بالغرباء، فقد عاشت لأعوامٍ طوال في حي يحمل بدوره اسم المهاجرين، حارة جادات-سلمية في أعالي قاسيون، وشهدت في الوقت نفسه، اختناق البلاد بالقمع السياسي وهيمنة المخابرات التي كانت تحطّم بالخوف أبسط مبادرة قد تخطر للناس، وتتذكر وجوب الحصول على ترخيص أمني للسماح بجمع القمامة من الشارع أو بافتتاح مكتبة. من جهة أخرى، كانت نتالي صديقة لسوريات انخرطن في السياسة واعتقلن وأمضين أعواماً في سجون حافظ الأسد، وكانت تشاركهن احتفالهن السنوي بذكرى الإفراج عنهن، ولم أنسَ شخصياً هذا الميعاد لأنه يصادف يوم ميلادي.
درست نتالي الفلسفة في جامعة باريس الأولى-السوربون منتصف التسعينيات، ثم انتقلت لدراسة الأدب العربي في جامعة إكس إن بروفانس، وأعدّت هناك بحثاً عن "فضاء العيش في ديوان محمود درويش: "ورد أقل"". ربما كان لوالدها دور في انشدادها إلى الأدب العربي، حيث أمضى عاماً يدرّس اللغة الفرنسية في الجزائر بعد استقلالها. ربما كانت تأمل، منذ بداية دراساتها، إن السفر سيفتح لها أبواباً على الحياة اليومية، بأقاصيصها وشخوصها وصداقاتها التي لا تقدر بأي ثمن، وهذا ما كان حقاً. فنشرت "مدينة التحويلات الطرقية" سنة 2005، ثم "فندق ضربة شمس" سنة 2009، وضمَّ الكتابان نصوصاً عن مرسيليا، أما كتابها السردي-الشعري الأكبر "ناس دمشق" (دار المنار، باريس 2016) فهوة وليد اللقاءات الكثيرة التي جمعتها بالناس على مدار ثماني سنين، في دمشق وحاراتها وضواحيها، ومعظمهم مهاجرون من مدن ومناطق سورية مختلفة إلى العاصمة. الأمكنة هي قاطنو الأمكنة وعابروها وغائبوها، وهي تتحوّل مثلهم وتمّحي أو تصير أحلاماً وصوراً في الألبوم. هذا الكتاب سيرة المدينة التي عاشت فيها الكاتبة وأحبتها وشهدت جزء من دمارها. سأجازف بالقول إنها قد وجدت في دمشق-البيت عائلةً حقيقية، بالمعنى الإنساني الواسع للكلمة، وإنها ما ساحت وعاشت هناك بغرض أن تنتج كتاباً. بالنسبة إليها، الحياة والصداقة أولاً، وإن لم تحالفها أية كتابة.
لعل رغبتها في مخالطة الناس والاستماع إليهم أفضت بها إلى تدريس اللغتين الفرنسية والعربية على السواء، فدرّست اللغة الفرنسية في المركز الثقافي بدمشق، واللغة العربية في معهد ثقافات الإسلام في باريس. لم تتوقف نتالي طوال هذه الأوقات عن الترجمة، فنقلت إلى الفرنسية أعمالاً مختلفة، روائية وشعرية ونثرية، لكتّاب من لبنان وسورية والسعودية، من ضمنها كتبٌ لحسن داوود وعباس بيضون وبسام حجار وإيمان حميدان يونس وآرام كرابيت وجمانة معروف (الاسم المستعار لوجدان ناصيف) وياسين الحاج صالح وفواز طرابلسي، وأنهت مؤخراً ترجمة رواية "طيور الغسق" للروائي السعودي عواض العصيمي. كما عملت على إعداد كتاب "شرق دمشق، أقاصي العالم" باللغة الفرنسية، ويضمّ شهادة مجد الديك عن غوطة دمشق الشرقية بين عامي 2011 و 2014.
*
-هذا الكتاب-
فتح نصوص نتالي بونتان أبواباً صغيرة للدخول إلى غرف فسيحة في بيوت أحلام اليقظة، حيث تستعاد الحياة التي عيشت في منازل حميمة، من دمشق وعمان إلى باريس وآرل وآفيز. يعمّ هذه النصوص توق صامت يشوبه الخفر، توق من عاشت وحدة طويلة وافتقدت ملاطفة حانية من الواقع. هذا التوق لا يخفي تطلعه إلى تقاسم المسرات الصغيرة ولذات العيش المنسية ومتعة تبادل حديث عادي. هذا العاديّ هو المُشتهى، هذه الحياة المتواضعة بأسفارها المتواضعة، الخالية مما يسمى "المغامرات"، أي ما ننساه، سواء بالتكرار أو الإهمال، فلا يستوقفنا ولا نراه.
كأن الكاتبة تنتقي أشياء أو شخوصاً أو أحداثاً ومشاهد صغيرة بمقدورها الإيمان بها والإحساس بها، كشجرة معمرة مثلاً أو باص ليلي في ضواحي باريس، طائرة ورقية في سماء عمّان أو موت قطة صغيرة في دمشق، ثم تشرع ببناء عوالمها في بطء، مدركة افتقار الكثير من الأدب ذي الطموحات العظيمة إلى أي رأفة. أشياء صغيرة مثل حاملة الشموع أو الشراشف، مشمولة بالعطف والصمت، تستدرجنا، بأقل ما تستطيع من الأسى، إلى تأمل المنسيات. هذه أشياء لا يطالها الكلام، القليل بعامة في هذه النصوص، والصمت يتيح للكلمات أن تتجسّد وتُلمَس أكثر، في خفوت الوصف وتمهّله، كأن الوصف متأنٍ لكيلا تتهشّم هذه الحياة الرقيقة الموصوفة. الحياء هنا في الاعتناء باللغة لكيلا تجرح الوصّافة من تصفهم، ولا تنتهك صمتهم، رغم تعطشها إلى سماعهم والتحدث معهم، وربما تحاول أن تبقي لغتها في إطار لغة هذا العالم الذي يستهويها وتراه الأقل ادّعاء، وعند اشتغالها على حذف المبالغات أو السماجات العاطفية يبقى هناك لطف يشيع دفئاً في ثنايا نصوصها بعيداً عن الحياد والموضوعية، بعيداً عن المسافة بين الذات والموضوع التي يُحكى عنها في النقد الأدبي.
قد يتخلل لغتها أحياناً شيء من الريبة والحذر، أحسبه بالدرجة الأولى تردداً تجاه اللغة الأدبية بحد ذاتها، كأنها ترغب في الكتابة كمجهولةٍ تنتمي إلى حشود مجهولين عاديين لن نعرفهم بأية وسيلة، وهي تخفي على الدوام قدراً من المحبة تجاه الذين تكتب عنهم. كتابتها تقف على الطرف المعاكس مما يعتبر الثقافة المهمة والرفيعة، كأنها شعرٌ ضد الشعر، غير محاط بأية هالة أو تفخيم، لا زخرفة فيه ولا بوهيمية ولا لعب بالألفاظ ولا تذاكيات ولا شكوى، ولا برهان على قوة ولا انصياع للدوغما الأدبية التي يروّجها الإعلام بأشكالها المتنوّعة. لن نجد هنا بصمات الفلسفة والكلام المنمّق، وإنما شعر الحياة منثوراً في جنبات المدن والبلدات والأمكنة الصغيرة. الناس يتسوّقون، يشترون قميصاً، يشربون المتة، يفتّشون عن الجُبنة واللبنة، يفعلون ذلك بالرغم من كل ما يجري من عظائم الأمور وشدائدها في أعالي الحياة وأسافلها. الحروب تدور، وعين الكاتبة، بهدوء الناظرة إلى رتابة الأيام بكل ما تختزنه من جمال لا يستنفد، تلتفت، مرة تلو أخرى، إلى العادي الذي تعتبره جوهرياً، لأنه بالضبط ما هو مفتَقَد. أيفسّر هذا لنا اهتمامها بترجمة قصائد سعدي يوسف منذ خمسة عشر عاماً، ودراستها الأكاديمية لشعره في جامعة إكس؟
كتابة نتالي بونتان تتقاطع مع الترجمة. فمثلما لا تبدأ الترجمة إلا من عمل موجود مسبقاً، فإن كتابتها لا تنطلق إلا من تفاعلها مع الحياة والعيش مع الناس، فتبدأ عادة من شيء مسبق الوجود، اختبرَتْه أو عرفته، شيء ملموس جرى معها أو سمعته في تجارب الآخرين، تكتفي به لتبني عليه وتضيف إليه وتعدّله، وقد تهدمه تماماً لتصيره شيئاً آخر مختلفاً. ألهذا نختبر في نصوصها إحساساً بألفة أمكنة احتوتنا ثم هجرناها، إحساساً باستمرارية بين أشياء قد لا نعرفها بالضرورة، كأن الماضي القريب حاضر بمعناه الحالم الحميم؟ قد توحي كتابتها بأنها ليست المؤلّفة، فما تدوّنه ليس تسجيلاً أو نقلاً، وإنما هي تخلِص لقصص الآخرين وتبتكرها في آنٍ معاً، تماهياً معهم وافتراقاً عنهم في الوقت نفسه. فروق الدقة في هذه الحالة جمالية. من يعرف الصلاة الربّية "أبانا الذي في السموات" "وعبارة "أعطنا خبزنا كفافَ يومنا"، قد لا يتذكر ترجمة أخرى منسية تقول: "خبزَنا الجوهريَّ أعطِنا اليوم".
[ترجمة وتقديم: جولان حاجي]
تنويه: إلى جانب نصوص نتالي بونتان وترجمتها العربية المرافقة، ضمّ كتاب "القهوة منطلقاً" رسوم بونوا غيّوم، الفنان الفرنسي المقيم في مرسيليا. كان هذا الكتاب، بالنسبة إلي، مغامرة أولى في ترجمة كتاب كامل عن اللغة الفرنسية، اقتضت مني أضعاف الوقت والجهد اللذين قد تستلزمهما ترجمة كتاب مماثل باللغة الإنكليزية. أجريت ترجمة حرفية أولى، ثم ناقشت نقاطاً عديدة مع الكاتبة، وأجريتُ بالاتفاق معها بضعة تعديلات طفيفة اقترحتها عند اعتماد النسخة النهائية باللغة العربية. كان عنوان "القهوة منطلقاً" مقترحاً أولياً تجريبياً، قد يكون وقعه غريباً باللغة العربية. فكرنا لاحقاً باعتماد "ذبابة الصيف"، ولكن بعد فوات الأوان، لأن الناشرة ماتيلد شيفر، في دار "الميناء الأصفر" في مرسيليا، كانت قد أدرجت الغلاف والعنوان ضمن كاتالوغ المطبوعات المرسَل إلى الموزّعين، وما عاد التراجع ممكناً. بأية حال، العنوان البديل هو "ذبابة الصيف"، وهذه الترجمات تنشر في "جدلية" بالاتفاق مع الناشرة.