زحف الثورة المضادة

زحف الثورة المضادة

زحف الثورة المضادة

By : Sadri Khiari

بين المقاومة واليأس، كيف لنا أن نفصل الأشياء، في علاقة بالانتفاضة التي هزت في كانون الثاني الفارط، الأحواز والمدن الصغيرة في المناطق الريفية وشبه-الريفية؟

مرت خمس سنوات، يوما بيوم، منذ اندلاع الثورة، سيناريو شبيه والأسباب ذاتها. في حين يتسابق الكثيرون لردمها، هاهي الثورة المهزومة تغالط من أرادوا وأدها. لا أحد في مأمن..

القصرين، مدينة تونسية تقع في الوسط الغربي، محاذية للحدود الجزائرية، وتبعد عن تونس العاصمة حوالي 300 كلم.

يوم 17 من شهر كانون الثاني وهب الشاب العاطل عن العمل، رضا اليحياوي نفسه للموت. لم يكن الأول، سبقه آخرون، يوم 17 ديسمبر، في منطقة سيدي بوزيد، أحرق محمد البوعزيزي نفسه، كانت شرارة الانطلاق، انتفض البلد وخرج العالم العربي من سباته و بلبلته، هذا نصر في حد ذاته: اندلعت الثورة.

بعد خمس سنوات، انطلق التمرد من القصرين ليجتاح كل الجهات المجاورة، المتفق على تسميتها "بالمناطق الداخلية " دواخل البلاد المظلمة والمحتقرة. تعددت التظاهرات: مظاهرات، احتلال أمكنة، اعتصامات، سد الطرق، صوم احتجاجي، استحضرت كل أدوات التعبئة والاحتجاج، الثورة تبدأ مجددا، تعود لكيلا تدوم. تبدأ دون جحافل الطبقة العاملة المنظمة في المناطق الساحلية، تبدأ دون البرجوازية الصغيرة في تونس وصفاقس وغيرها، وتبدأ طبعا دون أطياف البرجوازية التي لم تكن متأسفة منذ خمس سنوات تلت لرؤية رحيل الجلفين بن على وزوجته، المتهمين بالاغتناء على حسابها.

تبدأ الثورة مجدّدًا وكأنها تثأر لشرف أضنته النكسات والخيانات. الثورة تريد التقيؤ حين ترى قيادتها السابقة.

في كل العالم العربي، المجال الوحيد الذي أمكن الثورة فيه أن تنتصر وتحصل أكثر من ثورة سياسية في حدها الأدنى، انتصرت ثم هُزِمَتْ وقُبرت وديسَت وفُككت على أيدي الثورة المضادة. وفي هذا المجال داعش ليست إلا الزائدة الكريكاتورية، النمو الوحشي للثورة المضادة التي تمتص دم الثورة لتعيش، وتونس مهما قيل لم تنجُ من هذا العنف.

الثورة المضادة اليوم في مصاف الحكم، اتكأت على العنف والمجازر التي قصمت ظهر الثورات في الدول العربية الأخرى. اتكأت لزمن ما على القمع والعنف البوليسي، على عنف المجموعات الجهادية الذي غذَّته الآفاق المسدودة للثورة وارتكزت أساسا على البؤس الذي خلفه الإضراب الفظيع عن الاستثمار الذي قاده أرباب الأعمال والذي يعبر عنه مخاتلة بعبارات على غرار "سقوط مستوي الاستثمار“، ”الأزمة الاقتصادية " و"فقدان الثقة". إضراب سياسي استوجب ردا سياسيا قمعيا، لا تلك "المصالحة الاقتصادية "التي سيتوصلون في النهاية لفرضها بطريقة أو بأخرى. 

رحل بن علي لكن أتباعه اليوم هم من يمسكون السلطة. هم حاضرون أكثر فأكثر، يتخاصمون فيما بينهم لتقاسم الكعكة. ليسوا مستعدين في الوقت الراهن للتراجع عن الأشكال الديمقراطية التي حققتها الثورة على غرار ما أشار له كارل ماركس من أن الكتل الملكية في 1848 لم تكن قادرة على الحكم خارج الجمهورية غير أن من يحكم اليوم في تونس هم شبكات المصالح واللصوص والبيروقراطية ورجال الدولة الذين تحنكوا تحت حكم بن علي. هم يمسكون الحكم رغم علمهم التام أنهم رهن التحولات العميقة التي أدخلتها الثورة. هم الآن مُجبَرون علي تقاسم السلطة والتفاوض مع أبرز القوى السياسية التي أفرزتها الثورة وخصوصا حزب النهضة، هم كذلك مُجبَرون على أن يأخذوا بعين الاعتبار المصالح الخصوصية للاتحاد العام التونسي للشغل..

لكن إذا استطاع حزب النهضة الاندماج في الحكم وفي مؤسسات الدولة وشبكات مصالح الطبقة المُهَيْمِنة،  كما كان متوقعا، فإن دور المركزية النقابية في إعادة إدماج شبكات بن علي، رغم إسهامها في التحركات التي أطاحت بالدكتاتور، يبقي إشكاليا. إشكالي كذلك موقفها اللامُبالي بل حتى المعادي يناير الفارط..

في الحقيقة لا يمكننا فك لغز هذا التناقض الظاهري إلا إذا اعتبرنا أن الاتحاد العام التونسي للشغل ما هو إلا مجرد نقابة بيروقراطية كما هو حال النقابات الكبرى في أوروبا حتى إن وجدت أوجه شبه مع هذه النماذج. وحتى إن وجدنا فيه بعض أشكال التعاونيات المفيوزية على غرار النقابات الأمريكية.  إن الاتحاد العام التونسي للشغل لا يمكن أن يتلخص في ذلك.

إن البيروقراطية النقابية هي إرث النظام البورقيبي وأحد أُسسه وإن شابت علاقتهما منذ الاستقلال بعض الخلافات العنيفة..

لقد تمثلت إحدى ركائز "البونابرطية" البيروقراطية البورقيبية في سياسة "التحديث" و"التنمية” المتأصلة في الهرميات الإمبريالية للنظام البين-الدولي الما-بعد-إستعماري، والقائمة بما في ذلك على الهيمنة السوسيوعنصرية: الاقتصادية-السياسية والثقافية على المجموعات الريفية وشبه-الريفية في الغرب والجنوب لحساب مدن شرق البلاد، البيروقراطية، البرجوازية الناشئة وبطريقة ملتبسة الطبقة العاملة الحضرية. 

مثل الاتحاد العام التونسي للشغل المأزق الأساسي في هذه البنية التحتية /البنية الفوقية باعتباره وسيطا أساسيا بين الطبقة العاملة الحضرية والدرجات السفلي من البيروقراطية من جهة، ومع الدولة البورقيبية من جهة أخرى. رغم تحولات النظام السياسي في تونس وتتابع مسارات اللَّبْرَلَة، مازالت المركزية النقابية تلعب دورا هاما في التركيبة السوسيوعنصرية المتواصلة إلى حد اليوم والتي تعقدت أكثر مع موجات الهجرة الداخلية باتجاه المناطق الساحلية.

لئن واصلت المركزية النقابية فرض حدود لاستغلال العمال، وإن أثبتت بعض النقابات المنضوية تحتها مقاومة حقيقية، فمن منظور الثورة يبقى الاتحاد العام التونسي للشغل جزءا من المشكل وليس الحل وهذا لا يعود فقط لكونه منظمة بيروقراطية إصلاحية.

فحل المعضلة الثورية في تونس لا يتمثل في الشكل الديمقراطي أو غير الديمقراطي للدولة الحديثة كما لا يقتصر على الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، بل يتمركز أساسا في ما تصبو إليه تلك العبارة المنمقة " التوازن الجهوي" ذلك الشعار المتكرر منذ بداية الثورة، ذلك الشعار الذي يُردد بصورة جوفاء. بدل المطالبة بتشجيع التصنيع وتحديث "المناطق الداخلية"، وهو المقصود من عبارة التوازن الجهوي حتى بالنسبة لليسار، من الأرجح أن تربط المسألة الزراعية بالمسألة العنصرية المتنازعة مع الصراع الطبقي كما حاولت إبراز ذلك في النص التالي.

حدث إخماد انتفاضة يناير بسرعة ولكنها جاءت لتذكر أن مسألة الهيمنة على "المناطق الداخلية" تكمن في قلب المسار الذي انطلق في سنة 2010 وليست مجردة قضية عرضية أو جانبية لا وقع لها على الاستراتيجية الثورية الراغبة بتوزيع منصف للثروات والاستثمارات.

الإصلاح الزراعي الذي يدعو إليه اليسار منذ سنين (وإن كان اليوم بدرجة أقل) لا يمكن أن يتحقق دون تَثْوير العلاقات بين شرق وغرب البلاد ودون تفكيك الهرمية العنصرية التي أنتجتها الدولة الحديثة: أي بطريقة أخرى لا يمكن أن يتحقق دون أفق مناهض للرأسمالية كشرط أساسي لتحقق الحلف بين الطبقات الثورية.

كذلك الأمر بالنسبة للإصلاح الحضري في علاقة بالضواحي الفقيرة للمدن الكبرى، حيث يتكدس أبناء "النزوح الريفي". إذ لا يمكن أن يتلخص في النضال من أجل التشغيل الذي يقصد به إعادة الاستثمار الرأسمالي بل يتحقق في علاقة لصيقة بضرورة الإصلاح الزراعي.

من المؤسف جدا، أن اليسار الإصلاحي، المتمثل أساسا في الجبهة الشعبية، والمندمج في هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل وفي المؤسسات المدنية الأخرى للدولة وفي الأجهزة الإمبريالية للمنظمات غير الحكومية، اختار تجميع القوى السياسية على أساس الدفاع عن الحداثة لا على أساس خيارات طبقية .

افتتحت في العالم العربي سلسلة من الأزمات، الحروب و الثورات، هل سنرى ميلاد أفق ثوري جديد غير ما يقدمه اليسار الحداثي؟ بين المقاومة و اليأس؟ لست أدري.

زحف الثورة المضادة 2015

هل تعد تونس الاستثناء الخارق؟ زهرة الربيع العربي الوحيدة التي أينعت؟

خلاصة أربع سنوات من التقلبات والأزمات العنف هل تونس هي البلد الوحيد الذي نجح في انتقاله الديمقراطي؟ وأهدى شعبه مواطنة طال انتظارها. الوقائع لا تبرر مثل هذا التفاؤل.

 هزيمة الطبقات الشعبية

 الوقائع، أولا، هي موازين القوى التي أفرزتها الانتخابات التشريعية والرئاسية. فقد مَثَّلَ هذا الاقتراع الثنائي لحظة فارقة في قلب التوازنات السياسية الناتجة عن انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 والتي جلبت إلى الحكم مكونات المعارضة الديمقراطية لنظام بن علي، أي ما سمي بالترويكا[1] والتي تحيل إلى حزب النهضة وحلفائه في حين طردت شبكات النظام السابق من الساحة السياسية وواصلت عملية التحلل التي ابتدأت بسقوط الديكتاتور. نجحت التحركات الشعبية في فرض انتخابات المجلس التأسيسي التي تلاها انتخاب المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية، وهو دون شك أكثر وجوه الحركة الديمقراطية راديكالية، وكان هذا في استمرارية للدينامكية الثورية[2] . في المقابل كرست انتخابات الخريف السابق هزيمة الطبقات الشعبية وخصوصا الأكثر فقرا واحتقارا من سكان الجهات الداخلية وأحواز المدن الكبرى الشرقية والغربية الذين امتنعوا عن التصويت أو صوتوا لحزب النهضة خلال الانتخابات الرئاسية أو رأوا أنفسهم في الديماغوجيا الشعوبية للمنصف المرزوقي خلال الانتخابات الرئاسية.

دون أن تنجح موازين القوى الجديدة في ترميم النظام السابق تمكنت من أن تعيد إلي السلطة القطاعات المهيمنة المرتبطة بشبكات بن علي والذين تجمعوا في غير واضح داخل حزب نداء تونس الذي شمل كذلك شخصيات من الحركة الديمقراطية واليسار. اِلْتَأَمَ شمل الجميع حول شخصية رجل هو الباجي قائد السبسي البالغ من السن 88 عاما وأحد وجوه برجوازيات العاصمة القديمة. رجل تتماهى سيرته مع تاريخ الدولة منذ الاستقلال إلى اليوم. الباجي قائد السبسي هو اليوم رئيس الجمهورية[3] وحزبه متحصل على أغلبية برلمانية مريحة.[4]  يهيمن نداء تونس شبه كليا على السلطة التنفيذية، وخصوصا وزارة الداخلية تلك القوة العظمى، وذلك بمعية بعض المكونات السياسية اللبرالية وبعض ممثلي النخب التكنوقراطية الجديدة. هذا إلى جانب بعض الوجوه اليسارية وممثلين عن حركة النهضة اللذين يشغلون مراكز ثانوية.

الأهداف الحقيقية للسلطة الجديدة تتلخص في بعض العبارات: إعادة النظام والأمن السياسي للطبقات المهيمنة والشبكات المفيوزية، حل الحركات الاحتجاجية الديمقراطية والاجتماعية، طمأنة البرجوازية المحلية والمستثمرين الأجانب والمؤسسات المالية العالمية. هذا إلى جانب طمأنة الجنرالات الجزائريين وإعادة إدماج تونس داخل الحلف القائم حول العربية السعودية ومصر وهذا طبعا بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وخصوصا فرنسا.

دون الخوض في التفاصيل تفسر هزيمة مكونات الترويكا بعدم قدرتهم أو بعبارة أصح بانعدام رغبتهم في تعميق المسار الثوري الذي انطلق في ديسمبر  2010. وهو ما يعني أولا الاعتماد على راديكالية الحركات الشعبية لتُحَيِّدَ بصفة نهائية شبكات ومراكز السلطة المرتبطة بالنظام السابق.

مع الاحتكام إلى بعض مراكز القرار تمثلت الاستراتيجية المُهيمنة لدى الترويكا في إبرام تحالفات مع بعض الكتل التابعة للنظام السابق ومع برجوازية الأعمال. كما تمسكت النهضة بتقييد الدستور الجديد لصالحها وبالقيام بمعارك خاسرة في النهاية حول مكانة المرجعية الإسلامية في المؤسسات والمجتمع، لم يطل انتظار عقوبة مثل هذا الخيار إذ لم تنجح الترويكا في إدماج النظام السابق بل نجح هذا الأخير في إدماج المعارضة الديمقراطية و اليسار. أكثر من ذلك، خشية تطور الوضع نحو ما آل إليه الأمر في مصر، وتحت ضغوط خارجية متعددة، اختار حزب النهضة التحالف مع الحزب الفائز. باعتبارها القوة الثانية داخل المجلس قدمت النهضة دعما ضمنيا إلي الباجي قائد السبسى بمناسبة الانتخابات الرئاسية كما صوت نوابها للوزير الأول الذي عينه رئيس الجمهورية، والنهضة تساهم في الحكومة التي شكلها الحزب الأغلبي.

في الحقيقة هذا المخرج كان معدا منذ زمن قبل الانتخابات لكن اللغز يكمن في بنود هذه التسوية.

مفارقات اليسار

من واجبنا أن نتساءل حول مفارقة تقارب جزء هام من الطبقات الوسطى، خصوصا في المدن الكبرى في غرب البلاد، والاتحاد العام التونسي للشغل الحركة الديمقراطية والمكونات اليسارية، وخصوصا الجبهة الشعبية (خليط غير متجانس من مجموعات يسارية وقومية عربية)[5] مع نداء تونس. كيف لنا الادعاء بحق الدفاع عن الثورة ضد التهديدات التي تواجهها والتي ساهم فيها حزب النهضة بالتحالف مع النظام السابق؟

إن التحركات الجماهيرية الواسعة المستمرة التي خاضتها الدوائر الديمقراطية والمجموعات اليسارية النسوية النقابية التي تناست شعاراتها مقابل مساندة لا تكاد تشوبها شائبة لنداء تونس لا يمكن أن يكون مجرد خطأ في القيادة أو مدفوعة بطموح شخصي لبعض القيادات السياسية.

كما لا يمكننا القبول بحجة تغيُّر أهداف الثورة انطلاقا من انتخابات المجلس التأسيسي ليتمحور الصراع حول ثنائية الإسلام والحداثة لكن هذا النزاع، بما أنه ساهم في توزيع القوى بين هذا المعسكر وذاك وقد حمل كلاهما جملة من المصالح الطبقية المتناقضة، فلا يمكننا استبعاده بسهولة

بل علينا أن نتساءل عن النزاعات الحقيقية التي ينطوي عليها هذا الصراع وما هي علاقات الهيمنة التي امتزجت بالنضالات الديمقراطية الطبقية والجندرية (النوع الاجتماعي)[6] حتى يتراءى أن في مساندة نداء تونس دفاع عن الحداثة ضد إسلام سياسي يزعم أنه رجعي ومتخلف.

للإجابة عن هذه الأسئلة سنحاول في حدود هذا النص الربط بين فرضيتيْن، الأولي تُدْخِلُ النزعات التي أنتجتها الثورة في الدور المُؤَسِّسْ والمتواصل للهيمنة الإمبريالية في بناء الدولة وهيكلة العلاقات الاجتماعية، والثانية انطلاقا من غرامشي تتعرض لدور المثقفين في مثل هذه النزاعات. مع العلم أن الموضوع الذي أتناوله يحتاج إلي الكثير من التحليل والاستدلال إلا أنه يفتح محاور تفكير هامة حول الديناميكيات السياسية التي قد تبدو للولهة الأولى متناقضة إذا حاولنا تفسيرها فقط بالاعتماد على التحليل الطبقي أو على النزاع حول شكل الدولة.

خصائل الحداثة الصفراء

أنا مقتنع من جهتي أن تطورات الثورة التونسية لا يمكن أن تُفَسَّر دون أن نأخذ بعين الاعتبار داخلية الهيمنة الإمبريالية. هذه الأخيرة لا تتفاعل فقط لتنمية العلاقات الطبقية داخل المجتمع في سياق بلد تابع بل تُدمجها في العلاقات النظامية الخصوصية التي أنتجتها المصفوفة الاستعمارية. وهذا ما أعني به العرق الاجتماعي أي العرق كنتاج اجتماعي.[7] والأعراق كما هي شكل من أشكال الهيمنة الأوروأمركية المتواصلة حاليا والتي تصنف المجموعة المًعَرَّفة كبيضاء مسيحية أوروبية في أعلى هرمية الشعوب استنادا على معايير تَمايُز بين المجموعات البشرية على أسس طبيعية أو ثقافية.  

يُعَبَّر عن هذا الهرمية حاليا بطريقة غير واضحة ومجازية وذلك عبر الحديث عن الاختلافات في التنمية أو الثقافة وهي محجوبة عبر الاستقلال السياسي والعلاقات التي تبدو متساوية بين الدول القومية في إطار النظام البين-دولي العالمي.

عَنْصَرة العلاقات الاجتماعية كظاهرة عالمية تتجاوز الحدود هي مؤسسة لأشكال التواجد الإمبريالي داخل مختلف الدول القومية أي بطريقة أخرى وبأشكال غالبا غير واضحة وغير مباشرة أو متعلقة بنزاعات أخرى وتحت غطاء الدول القومية هي فاعلة حتى في النزاعات المحلية.

سأكتفي بذكر أحد أشكالها المرتبط برهانات أكثر تعقيدا، ألا وهو الربط بين الشرف الاجتماعي والبياض أي أن الاعتراف بك كأبيض أو أكثر بياضا من الآخرين يعني أن تتطابق مع المنظومة القيمية المهيمنة في الدول الإمبريالية حتى في الأشكال الاحتجاجية التي تنتجها يصبح معيار تفاضلي قد يفيض على الصراع الطبقي. بنفس الشكل وبالاشتراك مع الإحساس الوطني يصبح الاندماج في البياض[8]، حتى بطريقة سطحية أو جزئية، شرطا ضروريا للرُّقي بالأمة داخل الهرمية العرقية العالمية.

أما الفرضية الثانية فهي أن المثقفين بالمعنى الغرامشي للكلمة يلعبون دور وسيط أساسي للعرق ومصطلح مثقف لا يعني السمات الخاصة بأشكال من العمل اليدوي والفكري إنما يُحيل على المكانة الخصوصية لهاته الفئة داخل التَّمَفْصُلات الاجتماعية، وخصوصا داخل علاقات الطبقات الأساسية في المجتمع، ودورهم يتمثل على اختلاف درجاتهم وتنوع آلياتهم على تأمين التنظيم الإداري والسياسي والأيديولوجي داخل المجتمع. المثقفون هم موظفو البنى الفوقية، موزعون في ماكنة الدولة حتى في مراكزها القيادية وفي المجتمع المدني .  كتعبير عضوي عن الطبقات تنمي هذه الفئة عبر خصائصها ودورها الاجتماعي ديناميكيات طائفية مرتبطة ومستقلة في الآن نفسه عن العلاقات الطبقية. أما فئة المثقفين، حسب المعنى الخاص التي يُضفيه عليها غرامشي، فإنها مؤسسة للدولة الحديثة المنتمية للاقتصاد الرأسمالي والمرتبطة عضويا بالسوق العالمية.

يحاول غرامشي تحليل دور ووظيفة المثقفين في إيطاليا، الدولة الحديثة والتي تأسست بشكل مُتأخر وهي في وضع تابع في الهندسة البين-دولية للبلدان الإمبريالية. لا يتعرض غرامشي للدول الحديثة المَدْمَجة داخل النظام البين-دولي العالمي والتي تشكلت تاريخيا داخل العلاقات الاستعمارية. بيد أن مقاربته يمكن أن تسلط الضوء في علاقة بالدول التي تأسست إبان الاستعمار مع اختلاف مهم وهو أن هذه الدول تشكلت في وضع تابع كتعبير عن العلاقات الكلونيالية والبعد-كلونيالية.  كتب غرامشي أنه "خلافا للطبقات الاجتماعية الأساسية، علاقة فئة المثقفين وعالم الإنتاج علاقة غير مباشرة يلعب فيها النسيج المجتمعي ومجمل البُنى الفوقية[9] بدرجات متفاوتة دور الوسيط". تطبيق هذه الفرضية في علاقات بالدول التي تكونت بناها الفوقية و نسيجها المجتمعي جزئيا داخل الهيمنة الإمبريالية تضاعف محددات طبقة لفئة المثقفين بمحدد آخر متجذر وهو التمايز العنصري.

إن الهيمنة العنصرية تجد جذورها في الدولة، في عقلانيتها وقانونها و اندماجها في وضع تابع داخل المنظومة البين-دولية العالمية. وكذلك في أبعاد أخرى للهيمنة: المعايير والأعراف الثقافية وكل ما له علاقة بالأخلاق التي يلعب فيها المثقفون دور الوسيط الذي يحظى بالامتياز. لذلك يمكن التطرق لفئة المثقفين عبرالنزاعات المُتأصلة في العلاقات الاستعمارية والتي أسميها بصراع الأعراق الاجتماعية. في المجتمع الكلونيالي العنصري، خصوصا في أشكاله الراهنة، يمثل المثقفون فئة بالغة الأهمية خصوصا وأن الأعراق كنظام تندرج مباشرة داخل البنى الفوقية. بالتزامن مع دورهم في العلاقات الطبقية وأحيانا بطريقة تشمل هذه العلاقات، فالمثقفون هم "موظفو" العرق مما يضخم استقلاليتهم النسبية في علاقة بعلاقات الإنتاج.

الزاوية العرقية في تونس

يجب أن ندرس بطريقة دقيقة عبر أي آليات لعبت الهرمية العرقية دورا مُؤَسِّسًا للهياكل "الأصلية" للمجتمع والدولة التونسية خلال الفترة الاستعمارية والمابعد-إستعمارية. حتما لا يسمح هذا المجال بذلك ولكن يمكن المقاربة مع ملاحظات غرامشي حول دور المثقفين في بناء الدولة الإيطالية الحديثة والمبادرة السياسية البالغة الاستقلالية التي اكتسبوها نظرا للضعف العضوي للبرجوازية والميزات الخاصة بالرأسمالية الإيطالية المرتبطة بعوامل خارجية. التشابه بين التجربة الإيطالية وبناء الدولة التونسية واضح وضوح الشمس. نحن أمام أحد ثوابت الدولة التونسية والاقتصاد الحديث الناتج عن ضعف الطبقات الأساسية،

دور المثقفين مُحَدِّدٌ لنقل بارز في البناء المابعد-استعماري للبني الفوقية كما للبنى التحتية، علاوة على ذلك وبالحصول المكثف على صفة مثقف انفصلت مجموعات هامة من الطبقات الشعبية عن العلاقات الاجتماعية التقليدية لتندمج في الاقتصاد الحديث ورأسمالية الدولة. الاتحاد العام التونسي للشغل، تلك النقابة الكبرى التي يتقاطع تاريخها مع تاريخ النظام القديم بالإضافة إلى دوره كنقابة عمالية، هو كذلك منظمة إيديولوجية طبعا بالمفهوم الغرامشي إذ تدمج في منطق الدولة أولئك الذين من الممكن أن يلعبوا دور المثقفين العضويين للبروليتاريا. هذا لا ينفي وجود صراعات حادة أحيانا  كتعبير جزئي لا عن الصراع الطبقي فقط.

بإمكاننا كذلك تحليل الطابع الإشكالي لعضوية هذه الطائفة المثقفة ولمؤسسة غالبا كمنتوج متدهور للغرب أي خصوصا لعلاقات الإنتاج والبُنى الفوقية المعتمدة عنه لنخلص إلى ما يمكن تسميته ب"العضوية الهجينة " لدرجة تجعل من المشروع القول إن موظفي البني الفوقية في تونس، خاصة أولئك الذين يلعبون دورا محددا في المنطق العام[10]، هم في نفس الوقت وساطات للعالم الأبيض، تعبير عن الضغوطات الناتجة عن تبعية الدولة التونسية داخل النظام البين-دولي وفي الأخير تعبير نسبي عن النزاعات الاجتماعية الداخلية.إذا كان "المثقفون التقليديون" بالنسبة لغرامشى هم مثقفو عالم متأزم يُثْبِتُ كل يوم تقادمه، فالمثقفون التقليديون في تونس هم أولئك الذين تَكَوَّنوا في رحم الحداثة البيضاء .لا أنكر كذلك وجود فئة مثقفة متمسكة نسبيا بأشكال العلاقات المُتجذرة في الفترة  القبل-استعمارية أو الاستعمارية لكن هذه المجموعة الهجينة مندمجة كذلك في الدولة في وضع تابع و لنقل في علاقة لا تخلو كليا من الضغوطات. كما يجدر القول إنه لم يعد لهذه الفئة أي دور تاريخي مستقل... حتى وإن كانت هده الفئة ممثلة جزئيا داخل النهضة، يبدو لي من الخطأ تصنيف هذا الحزب في ما قبل-الحداثة إلا في حال اعتبار المرجعية الإسلامية كأرضية قيميّة وعملية عنوانا للتخلف.

مفارقات النهضة 

إن كل علاقة هيمنة هي كذلك علاقة مقاومة مهما كانت هذه الأخيرة محتشمة، جزئية، متناقضة او حتى عبثية.  كذلك الأمر بالنسبة للهيمنة العرقية.

 في تونس تأخذ هذه المقاومة أشكالا متعددة عبر معاداة الإمبريالية التقليدية بالنسبة لليسار الراديكالي، عبر القومية العربية، عبر المرجعية الإسلامية وكذلك من خلال تعبيرات معاداة الغرب التي تشق كل الشرائح الاجتماعية. ما يُمَيِّز هده المقاومات هو ازدواجيتها وتناقضاتها، هكذا وخلافا لما هو ظاهري، حزب النهضة ليس بمعزل عن الجاذبية البيضاء. لا أرى هنا سببا للعودة إلى تاريخ الحزب كي نلاحظ ثنائية الحركة داخله بين التأكيد على هوية خاصة بالشعوب الإسلامية أعيد إنتاجها والتي من دورها إعادة بناء الأمة في مواجهة الغرب وبين الاندماج العميق في البنى الأساسية لهذا الأخير الشيء الذي كان محددا أكثر لمسيرة الحزب من جانبه الهَويّاتي الذي تحول إلى مجرد سفسطة حول إعادة بناء الأمة وانحصر في المسألة الأخلاقية والحفاظ على شكل العائلة وكأنه شكل متأصل.

لنقلها دون مراوغة: النهضة حزب برجوازي حداثي كما يمكن أن يكون أي حزب برجوازي في بلد تابع. في إطاره الإيديولوجي الأفق الوحيد لحزب النهضة هو الدفاع عن الأشكال الرأسمالية والبيروقراطية للدولة الحديثة، وهو على طريقته يبقى حبيسا لطرق التفكير المهيمنة للحداثة الغربية (تكنولوجيا وعلوم، علاقة استغلالية بالطبيعة وتقديس للمؤسسات والسوق الحرة). على عكس ما يُرَوِّجُهُ اليسار والحركة الديمقراطية عادة لتبرير دعمهم لحزب رئيس الجمهورية الحالي، النهضة ليست حاملة لهوية معادية للديمقراطية كما ليس لها أي نزعة خاصة للاستبداد.

بكل بساطة كأي حزب مُؤَسِّسْ للدولة الحديثة، حزب النهضة ديمقراطي إذا فَرَضَ عليه ميزان القوى -بما في ذلك في بعده الأخلاقي–داخل الطبقات المهيمنة والمجتمع إجمالا ذلك وهو أقل ديمقراطية إذا لم تَسْمَحْ بذلك موازين القوى. هذه الملاحظات لا تكفي حتما لتوصيف النهضة ففي أكثر من أربعة عقو. رغم القمع نجح الحزب في كسب تأثير شعبي واسع وهذا لا يعود طبعا إلى انجذابه المتناقض للحداثة الرأسمالية.

تمكَّنَ حزب النهضة من تقويض هيمنة الثنائي المتمثل في الحزب الدستوري والاتحاد العام التونسي للشغل وذلك على عكس القوى السياسية الأخرى المعارضة للنظام  القديم. هذا يعود على الأرجح للبعد الهَويّاتي للحزب المصنف عادة كالعودة لتقاليد أساءت إليها البورقيبية إلى جانب إرجاع هيبة العالم الإسلامي في مواجهة الهرمية الأرومركزية  للثقافات والقوى المادية، وكذلك لخطابه الاجتماعي الموجه للطبقات الاجتماعية لا بالضرورة الأكثر فقرا بل الأكثر احتقارا نظرا للقيم "المتخلفة" التي تحملها، وهي المجموعات الشعبية المندمجة في الأشكال الرأسمالية المهمشة والتابعة والمهددة بالزوال. 

في هذه القاعدة تكونت الطبقات المعارضة للترميم الجزئي للنظام القديم وفيها أيضا تشكلت تعبيرات الإسلام السياسي الأكثر راديكالية وطائفية. لنقلها بطريقة أخرى في هذه القاعدة تتشابك الإمكانات الثورية الديمقراطية وإمكانات الثورة المضادة. التصنيف الاجتماعي لأي حزب لا يمكن أن يكون إلا جزئيا. إن العديد من النزاعات المحلية في بعض الأحيان تساهم في جاذبية قوة سياسية معينة. كذلك المغالاة في إبراز القوة يمكن أن يستقطب طبقات اجتماعية مختلفة سيكون لها  تأثير على مساره. هذا صحيح بالنسبة لحركة النهضة وخصوصا منذ انطلاق الثورة ووصولها للحكم وكذلك هو الحال أيضا لنداء تونس الذي يمثل مع اتحاد الشغل مركز ثقل الحلف المؤسس للدفاع عن الحداثة.

جبهة الحداثيّين

تتكون الجبهة الحداثية من

-حزب نداء تونس يقوم على أرضية الدفاع عن الحداثة المؤسساتية ومبادئ وطرق الحياة التي تأخذ الغرب المعاصر نموذجا. هو يتجذر دون شك داخل الدوائر البرجوازية والبرجوازية الصغرى شبه-المهيمنة داخل القطاع الثقافي والخدماتي وكذلك داخل بيروقراطية الدولة، بما في ذلك مؤسساتها القمعية، ويلتف حول هذه الدوائر مجموعات اجتماعية مختلفة نجحت في كسب نفوذ وامتيازات نتيجة تقاربها من مؤسسات النظام الدستوري التجمعي.

-الاتحاد العام التونسي للشغل وهو تعبير عن بيروقراطية شرائح الموظفين المندمجة خصوصا داخل القطاع العام وبطريقة تصاعدية داخل القطاعات الخدماتية الحديثة. يمارس اتحاد الشغل نفوذا يتجاوز محيط تأثيره المباشر.

من جهة أخرى نجد اليسار الذي يجد جماهيرية لا يستهان بها رغم محدوديتها داخل شرائح المثقفين والشباب العامل والعاطل عن العمل.

هذه الجبهة الحداثية الواسعة والمتنوعة طبقيا تبدو أكثر تجذرا من النهضة داخل المجموعات المدمجة إيجابيا داخل تطورات العلاقات الاجتماعية والدولة الرأسمالية وكذلك داخل البُنى الفوقية للحداثة الغربية المرتبطة بهما.

هذا التمفصل المحدد في التجمع الحداثي يمثل مصفوفة الهيمنة البورقبيية المتواصلة إلى اليوم باسم الأمير المثقف الأكبر لتونس المستقلة، الوحيد، إذا أقصينا قيادة النهضة راشد الغنوشي لنحيل مرة أخرى على الفئات التي يستعملها غرامشي.     

منذ بداية الثورة تبدو النزاعات السياسية الأساسية (الطبقية والجندرية) مشوهة بموازين القوى القائمة بين الشرائح المثقفة.

أي أن هذه النزاعات ملتوية وخاضعة جزئيا للعلاقات المتضامنة والمتضاربة في آن واحد التي تنسجها الشرائح المثقفة فيما بينها ومع مختلف الطبقات الاجتماعية والتي تصاغ داخل المصفوفة الهرمية العرقية العالمية كما تنعكس محليا. 

منذ بداية الثورة لعب المثقفون دورا هاما ومحددا انتهى باحتكار المجال السياسي وممارسة ضغط كبير على النضالات الاجتماعية للطبقات الشعبية التي انتهت بالتفكك داخل الضبابية، في حين اكتسبت شرائح المثقفين استقلالية هامة، خاصة بعد إقصاء الطبقات الشعبية من المجال السياسي وتعويض مطالبها برهانات وتناقضات هذه الطائفة. تتخفى مصالح ومشاغل مختلف قطاعات طائفة المثقفين وخصوصا تلك المرتبطة بالنظامية العرقية المتشابكة مع الفروق الاجتماعية المُهيكلة للمجال السياسي التونسي وراء النزاع الإسلامي الحداثي.

لقد مَثَّل الاندماج في الحداثة الغربية المعيار الأساسي للتمايز مع الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً في وسط وجنوب  البلاد وأصليي هذه المناطق و البرجوازية الصغرى وقطاعات المثقفين المصنفين  بالتقليديين  وبما قبل-الحداثيين والمقرونين تعسفا بالإسلام السياسي. من هذا المنطلق الالتزام اليساري، النقابي والديمقراطي، في الدفاع عن الحداثة حتى بالتحالف مع شبكات النظام السابق يجد صداه في خوف الشرائح المثقفة داخلهم من التراجع عن المنظومة التمييزية وثانيا بالاعتقاد الراسخ بأن الحداثة البيضاء هي تعبير عن بل وشرط التطور الاجتماعي. لذلك فبالإضافة إلى مكائد المراكز الأساسية للإمبريالية وحلفائها المحليين مَثَّلَ استبطان الهرمية العرقية العالمية الآلية الأساسية لزحف الثورة المضادة.

[للاطلاع على المقال باللغة الإنجيليزية انقر/ي هنا]

[ترجمته عن الإنجيليزية: رانية مجدوب]

هوامش

* مصدر الرسمة 

[1] الترويكا و هي التحالف الذي ضم حزب النهضة والمنتدى التونسي من أجل العمل و الحريات المنخرط في  الأممية الاشتراكية و حزب المؤتمر من اجل الجمهورية الذي يجمع عديدي من الحساسيات السياسية حول شخصية المنصف المرزوقي  

[2] أستعمل مصطلح ثورة دون تقديم توضيحات نظرية وهو يحيل على الاضطرابات  التي شهدنها تونس من أيام الذروة الاحتجاجية التي أدت إلى رحيل بن علي و حل حزبه و انتخاب المجلس التأسيسي و اغلب التونسيين الدين عاشوا هذه المرحلة يسموها كذلك, لمزيد من التحليلات يمكن الإطلاع على نصي الصادر في نوفمبر 2011 تحت عنوان « Commentaire sur la révolution à l’occasion des éléctions » وهو الجزء الأول من ثلاث نصوص  

[3] تمت الانتخابات الرئاسية في دورتين 23 نوفمبر و 21 ديسمبر 2014وقد تحصل المرشح الفائز على 55,68بالمئة من مجموع الأصوات مقابل 44,32بالمئة لصالح المنصف المرزوقي في حين لم يقدم حزب النهضة مترشح

[4] تمت الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر 2014و قد تحصل نداء تونس على أغلبية برلمانية 86مقعدا من حساب217في حين تحصل حزب النهضة على 69مقعد أما باقي المقاعد فتحصلت عليهم حساسيات سياسية مختلفة

[5] تحصلت الجبهة الشعبية على 15مقعد في البرلمان

[6]يمثل هذا دون شك بعدا مهما في النزاع القائم و لكن في الوقت الراهن لا أستطيع تقديم فرضيات شافية حول هذا الموضوع

[7] أحيل في هذا المجال إلي كتابي

« La contre révolution coloniale en France, De de Gaulle à Sarkozy »  La Fabrique 2009 »

يمكن ان نقرأ كذلك  

Félix Boggio Ewanjé-Epée, Stella Magliani-

Belkacem (coord.), Race et capitalisme, Syllepse, 2012 ; Cedric Robinson, Black Marxism: The

Making of the Black Radical Tradition, UNC Press, 2000 [1983] ; Theodor Allen, The Invention of the

White Race, Verso, 2012 (2e edition).

[8] البياض هنا لا يحيل على خاصية فردية إنما على علاقة هيمنة إجتماعية و هي شكل من أشكال الهيمنة الإمبريالية القيم المبادئ المصنفة كبيضاء ليست بيضاء في ذاتها بل هي كذلك في علاقة بمسار التحقير العنصري .أتحدث من جهتي على الحداثة ككل تاريخي تميز بالرأسمالية , الهيمنة الاستعمارية و المابعد إستعمارية ,الدولة الحديثة و المنظومة الأخلاقية المرتبطة بهم

[9] Antonio Gramsci,Guerre de mouvement et guerre de position, textes choisis et présentés par R.

Keucheyan, La Fabrique, 2012, p. 146.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬