الانتحار في العراق: مؤشر اليأس الجماعي

[لوحة للفنان العراقي نبيل علي] [لوحة للفنان العراقي نبيل علي]

الانتحار في العراق: مؤشر اليأس الجماعي

By : Safaa Khalaf صفاء خلف

الانتحار في العراق: مؤشر اليأس الجماعي

يقفز الانتحار في العراق الى السطح اليومي للأحداث كظاهرة. هو واحدة من علائم الانهيار الاجتماعي الآخذ بالتصاعد منذ ثلاثة عقود. وحتّماً؛ الانهيار نتيجة حُزّمة مخيفة من الحقائق المُتعلقة بتغيّر انماط التفكير والمعيشة والفساد والصراع على السلطة.

فالقوى الحاكمة في بغداد الآن وسابقاً، تقبض على السلطة بقوة الدجل السياسي والعلاقات الزبائنية الممدودة بين مركزية الدين الطائفي والسلاح الميليشياوي القاهر الذي يوفر الحماية للمرّعى الغني، بالتالي هذه السلطة التي تكافح لديمومة البقاء عبر السياسات التخديرية والدعائية واستغلال الفقر والامية والشعبوية والطائفية، تمارس هدّماً ممنهجاً للنسيج الاجتماعي العراقي، فهي لا تقدم سوى الوصفات الكارثية والمعالجات المُريعة المرتبطة بالفشل وسط اهمال المشكلات الاجتماعية المتفاقمة.

جذور غير بعيدة

برز الانتحار في العراق، كظاهرة متفشية ومخيفة في الثمانينيات الفائتة، حين كانت حرب الخليج الاولى (الحرب العراقية الايرانية 1980-1988) تستعر بنحو مليون جندي عراقي من الطبقتين الوسطى والفقيرة، وهرباً من الموت المتحقق في الجبهات، كان الشُبان المقاتلون يلجأون الى ايذاء انفسهم عمداً لاجل اعفائهم من القتال. كانت اعمال الايذاء الشخصي تلك عنيفة ومميتة، وغالباً ما تخلف عوقاً دائماً، وفي غالب الاحايين كان الجنود ينتحرون هرباً من الموت في المعارك الدامية. معادلة يأس اجتماعي تسحق بطاقتها القصوى الامل.

ابتكرت الحرب لنفسها نمطاً جديداً من التفكير العدمي الذي يؤدي الى الموت. وكأن الموت خارج الحرب هي حياة جديرة بان تمارس. ولا يعرف على وجه التحديد اعداد الجنود المنتحرين، لكنهم كثر. فيما الاسرى العراقيون كانوا يعتنقون الانتحار للخلاص من التعذيب الايراني في المعتقلات، ولندرة ادوات الانتحار هناك، كانت ثمة طريقة مفزعة بأن يُمرر الاسرى سلكاً غليظاً يُحمى بالنار في الصدغ، او الموت شنقاً بالملابس الرَّثة، او القاء انفسهم على المنحدرات الصخرية في حقول العمل الشاق، عوضاً عن الموت تحت التعذيب، والطريقة الاخيرة كان يموت فيها كثر من المواطنين المعارضين ايضاً في معتقلات النظام العراقي.

ازاء هذه فكرة - الموت هرباً من الموت - تبرز فكرة مضادة تخرج من نمط تفكير المجتمع المحافظ والقاسي ايضاً، ففكرة الانتحار غالباً ما ترتبط بـ"الضعف" و"المياعة" المرفوضة من مجتمع ذي خصال بدوية، فضلاً عن القراءة الدينية التي تعتقد بأن "الانتحار" هو اعتراض على القدر المقنن من قبل الاله وبالتالي فأن مصير "المنتحر" هو الخلود في جهنم، لكن ذلك لم يقف عائقاً امام انتحار رجل دين في اربيل برمي نفسه من بناية يسكنها. ورغم المسحة الدينية لدى العراقيين يظل خيار الانتحار واحداً من الطرائق المجيدة للاعتراض على الاقدار الخائبة التي وضعوا فيها.

اجتماعياً، لم يوضع الانتحار كمادة سائلة تتحرك ضمن انماط التفكير الشائعة، الا خلال التسعينيات بعد انفلاش صيغة المجتمع العراقي القديم، واختلاق مجتمع جديد بقيم غرائبية فرضها الشظف الاقتصادي وتغيّر نمط تفكير الدولة القابضة.

فعقب الهزيمة المدوية لأعتى الانظمة القومية في المنطقة خلال حرب الخليج الثانية (حرب الكويت/ آب 1990 – اذار 1991، ما تلاها من حرب اقتصادية دامت 13 عاماً)، تحوّل نظام (البعث – صدام) من منطقة الفهم العلماني المتطرف لادارة المجتمع، الى بديل خطر تمثل بالاسلمة المركزية تماشياً مع الصعود الشعبوي للدين بالتزامن مع انهيار التجارب  الاشتراكية التي اقتبستها الدول القومية بالمنطقة، وانفتاح الجبهة الافغانية الجهادية على دول المقاتلين حين عودتهم الى بلدانهم.

كان ذلك تغيراً غير مسبوق وانفلاشاً مريعاً للبنى المستقرة بمجتمعات مدجنة وريعية تدار عبر انظمة قامعة. وقبالة هذا التبدل السريع واجه المجتمع العراقي تشظياً هائلاً باستيعاب التبدل. فعلى مدى عقود كان الدين منفياً من خارطة الاهتمام. والافراد المتدينون يواجهون بعقوبات سياسية بوصفهم معارضين لنمط العقيدة العلمانية. فبعد ان كانت الدولة العراقية تحرض مواطنيها على الانفتاح، باتت تحرضهم بعنف على الانغلاق والتوجه الى الصيغ القديمة لتطبيق الشريعة. وشيئاً فشيئاً سرت العقيدة السياسية الجديدة مشفوعة بفكرة الهزيمة واللجوء الى "الله" لتبرير التجويع الدولي المريع.

وخلال التسعينيات عانى العراقيون جوعاً سافراً كشف عن سلوكيات اجتماعية صادمة من ضمنها "الانتحار"، لكن رغم ذلك ظلت المعدلات منخفضة لجهة ان حالة العوز كانت عامة، واسست عليها السلطة مفهوم "تشريك الفقر" كمعادل اضطراري لـ"اشتراكية الرفاهية" الذي ظل سارياً لعقدين منذ السبعينيات.

دخل المجتمع العراقي الى منطقة الهدم الممنهج لبناه المستقرة منذ العام 1980، وتصاعدت حُمى الانفلاش بالتساوق مع عسكرة "الدولة" و"المجتمع"، ومثالاً للقياس السطحي العام كانت الاغنية تمثل فرزاً واضحاً لفهم التغير الاجتماعي، بالانتقال من "اغنية التفاؤل" الى "اغنية الانكسار"، ومع نهاية الثمانينات، كانت الشعبوية السلوكية قد احتلت الصدارة.

سقوط الاستقرار

خلال التسعينيات، خرج المجتمع العراقي مهشماً ومهمشاً، فيما السلطة كانت مفروغة تماماً من قدرتها على معالجة التشوهات العميقة التي اصابت المجتمع، فلجأت الى تنمية الدين الطائفي ليكون مرهماً وثقب تنفيس للمرجل الاجتماعي الرافض، ومع نهاية العشرية التسعينية  السوداء، لم يبق من المجتمع العراقي سوى هيكل العلاقات الطيفية النفعية وهي تتصارع على حيازة البقاء.

كرس الجوع في العراق خيار "الانتحار" كمنقذ حتمي من العوز. فالمجتمع المحلي العراقي يُبنى على اساس الشجرة العائلية الممتدة. وظل الفهم البدوي/ العشائري لتشكيل العائلة هو النمط الغالب مع غياب القانون، وخلال الحرب مع ايران، كانت السلطة ترسخ نظرية الحرب الدائمة، واطلق النظام برنامجاً لتشجيع الانجاب بمعدلات مرتفعة رغم ادراكه للمشكلات الاقتصادية المتفاقمة والديون المتراكمة وفاتورة الحرب الباهضة. الا انه كان يدفع بالعراقيين الى زيادة التفريخ ليكونوا حطباً زهيداً لحروب مقبلة.

وتلاقت السلطة مع واحدة من ابشع الانماط الحياتية المقززة المتمثلة بـ"الانجاب" غير الممنهج. فالصبغة البدوية/ الريفية في العراق التي تعززها "القيم العشائرية" المرتبطة بقوة الفحولة وحيازة الارض والزراعة، اضافة الى التشجيع الديني المتوارث والمرتبط بفكرة الغلبة العددية لـ"الاسلام" قبالة تراجع معدلات انجاب الاديان الاخرى لتحقيق الهيمنة المستقبلية.

هذا الفهم افضى الى انفجارات سكانية في العراق. ومع حالة الشظف والجوع وانهيار الاقتصاد تكسرت الرغبة الاجتماعية بالحياة وبان خطأ السلطة والمجتمع معاً، وتداول الناس انواعاً بشعة من الانتحار الجماعي، كأن يقدم رب العائلة على قتل افراد اسرته خنقاً بالغاز او حرقاً او ذبحاً كرد فعل قاسٍ على الجوع وانعدام القدرة الاقتصادية وانسداد الافق.

استخدم النظام هذه الحوادث لتسويق "مظلوميته". ولجأ عشرات المرات الى استعراض نعوش الاف الاطفال الذين ماتوا جراء سوء التغذية ونقص العلاجات والسرطانات المتفشية في المشافي الحكومية، بمواكب مؤلمة للتأثير السياسي على قرارات المجتمع الدولي. وفي الحقيقة كان النظام والمجتمع الدولي يمدان سكاكين طويلة تعمل يومياً على نحر العراقيين.

بالمحصلة فأن الانتحار في العراق تأسس نتيجة سوء ادارة الدولة للمجتمع. فالمجتمع العراقي في حقيقته، مجتمع مركزي/ بنيوي تديره الدولة او السلطة او النظام اياً كانت العقيدة او الفلسفة، فهو يخضع – أي المجتمع - الى التأثيرات المباشرة، ويتحرك ضمن الاطار الذي تحدده البُنى الحاكمة، واذا ما انعدم هذا الاطار يتحول الى مجموعة بشرية هشة تشتبك يومياً مع المؤثرات المحلية او الوافدة وتفرز صيغاً مريعة تعمل على استكمال الهدم.

نهاية الدولة: بداية الجماعة

باللحظة التي تمركزت فيها المجنزرات الاميركية والبريطانية في العراق بعد 2003، انتهت الدولة المركزية القابضة، وانفلش نمط المجتمع المُوَجَّهْ. وبرزت قبالة هذا الانفلاش انماط الجماعات المحلية بعقائدها الاجتماعية المندثرة. كانت الهوية الضاغطة للنظام هي السقف الحديدي الذي يكبس على المشكلات الاجتماعية.

وفي لحظة ما خلال التسعينيات سمحت السلطة بتنفيس المرجل قليلاً، فاندفعت الافكار الدينية الى المجتمع بصيغتين مؤثرتين نتيجة الظروف الجديدة: السلطة تسوق "الايمان السُني" بوصفه بديلاً عن تراجع القبضة الامنية والعقيدة السياسية في ظل انتشار "الصحوة الاسلامية" بالمنطقة، والعموم العراقي يدفع بـ"الايمان الشيعي" كصيغة مناكفة ومعارضة للنظام واستحواذ على المجتمع الفقير.

كلا الصيغتين كانتا نمطاً شعبوياً لمواجهة تهشم المجتمع. وعلى الشاشة الحكومية الوحيدة كان ائمة السلطة يدينون الانتحار ويغذون المجتمع بفكرة الموت من اجل "الوطن المؤمن". فيما كان يُنمي الامام الشيعي الابرز آنذاك – محمد محمد صادق الصدر – فكرة الموت من اجل احياء الشريعة ولبس الاكفان. هذان الاعتقادان كانا غيمة عتيقة تسبح بسماء ملبدة بالغضب.

عقب هزيمة حرب الخليج الثانية، اندفع العموم الشيعي وجزءاً من العموم السني بانتفاضة ضد السلطة. ولعل ابرز الاهازيج المعارضة في (اذار 1990)، كانت تعبر تلك عن السماء وعن ذلك الغضب: "إحنا الغَيّمْنا أُوْ نُمْطِرّ نار إعّليْه"/ أي (نحن الذين صرنا غيماً ملبداً في السماء ونمطر ناراً على السلطة). بعدها قُمعت الانتفاضة بعنف همجي، وقبالة هزيمة السلطة بالحرب، هُزم المجتمع بتطيير السلطة.

على الشاشة الثانية (تلفزيون الشباب) المبتكرة لسلطة نجل الرئيس الاكبر (عُدي) التي اطلقها في العام 1992، تصادم الحقلان، الرئيس يدفع بالاسلمة المتطرفة ونجل الرئيس يدفع بـ"الانفتاح المتطرف"، وعقب اصابته بعوق أثَّرَ على قدراته الجنسية نتيجة محاولة اغتيال غامضة في بخريف 1996، اشتغل (عُدي) على بث صيغة هجينة من الاسلام الانتحاري بالجمع بين (الطرق الصوفية والسلفية الجهادية والشيعية المأتمية)، وبات تلفزيونه الخاص يبث موادً شديدة التحفيز على الكراهية وغاصّة بالموت المحتوم. فيما شن الرئيس ونجله حملات تفتيش دامية على مراكز المتعة الجنسية والمشروبات الروحية، بالتزامن مع برنامج محموم لبناء الجوامع والمساجد واستقدام أئمة متطرفين لادارة الوعي الديني الاجتماعي.

هذه الممارسات بالتأكيد مهدت الى غلبة الاسلام السياسي في العراق بعد العام 2003، وضخت دماءً متفائلة بتجربة حكم المهمش الديني لمجتمع متعدد القناعات الهوياتية والسلوكية، وبدلاً من أن يُجرب المهمش التاريخي صيغة حكم اكثر قبولاً بالآخر، اعتنق ذات البرنامج الالغائي لنظام (البعث – صدام) بفرض القيم الاحادية بوصفها خلاصة التحرر من الانتقام.

وعلى مدى 15 عاماً (2003 – 2018) من الفشل في ادارة الدولة والتجريب الخاطئ على الحقل العراقي المنفلش، كان المجتمع يتآكل ويفقد خواصه التاريخية ويتحول الى جماعات هجينة حائرة مهمومة بصناعة دفاعات عنيفة للبقاء، فكان العنف هو الالة المتوافرة لتحطيم الخصوم الشركاء. وفي تجربة نادرة تهشمت الطبقات الاجتماعية وحلّت محلها طبقات نفعية انتهازية طارئة، عززت طاقة التدمير الذاتي.

امتصت الخامة العراقية المهترئة عقب سقوط بغداد، كل التشوهات الاجتماعية والسياسية التي افرزتها التحولات الحادة منذ تأسيس الدولة العراقية (1921)، واعادت انتاجها بأفظع ما يمكن توصيفه من همجية بشرية وشعبوية، وبات التحكم بالمجتمع يمر عبر صراع الجماعات والمصالح المتناقضة ومغذيات سوء ادارة السلطة. انها تركيبة كارثية للتفوق الطائفي والمناطقي والعرقي. انتحار جماعي للعقد الاجتماعي والشراكة التاريخية. من مجتمع الدولة الواحدة الى جماعات الهويات الفرعية الصدئة وهي تنقب بالماضي لاختطاف المستقبل.

الجماعة تقضم الفرد

سكب الاحتلال ناراً اغريقية على بيدر القش العراقي، فسرى الجحيم يأكل البنى الاجتماعية بوصفها صناعة دولة مركزية. وعبر سنوات مريرة كان البيت المحلي يتداعى، وفكرة الانتقام تسري جنوناً مرعباً بين المكونات العراقية، وعلى مدى سنوات التمرد على النظام الجديد، وظفت كل التناقضات لهزيمة الاخر، والعنف كان الاله المقدس الذي يعبده التنافس على السلطة، وكما يصفها توماس هوبز: "حرب الجميع ضد الجميع".

لم يكن الفرد العراقي يوماً فردانياً، دائما وما يزال يخضع لارادة الجماعة، ويتحرك عبرها لحيازة مصالحه، ما عدا سنوات قليلة نادرة حين هشّم نظام (البعث – صدام) خصيصة الجماعة/ العشيرة في السبعينيات وجزءاً من الثمانينيات لفرض سلطته واداتها القانون الصارم. لكنه تراجع مجدداً في التسعينيات واعاد انتاج الجماعة/ العشيرة عبر اطواق الولاء والبراء، للتحكم بالفرد الجائع والغاضب جراء سياساته.

السلطة كانت ومازالت وستظل في العراق، سلطة جماعات وعشائر، تفتقد عميقاً لروح بناء الدولة، وتعمل على هدم البُنى الدينامية لعزل العنف عن ادارة المجتمع. فحتى في لحظة "الانسجام الوطني" عقب سقوط الموصل (حزيران 2014 – تموز 2017)، استدعت السلطة المتعددة الرؤوس، الشعبوية الاجتماعية لحماية نفسها، ولأول مرة ايضاً تستدعى مباشرة العمامة الدينية لانقاذ مشروع الدولة الناشئة. لكنها ليست المرة الاولى باستدعاء كيانات مسلحة موازية.

جرّبت السلطات الحاكمة والسلطات الموازية لها على مدى عقود، تحرير العنف الاجتماعي عبر كيانات مسلحة موازية لاستنقاذ السلطة واضعاف الدولة المؤسساتية، فعقب انقلاب العسكر في العام 1958، عمل الشيوعيون حلفاء السلطة الشكليون على انشاء جماعات مسلحة برزت خلال تمرد عبد الوهاب الشواف في كركوك – الموصل (1959)، وشَكَلَ البعثيون عقب انقلاب شباط 1963 (الحرس القومي)، وفي العام 1970 شكل نظام (البعث – صدام) ميليشيا "الجيش الشعبي"، وفي التسعينيات شكل النظام ذاته ميليشيات موازية (فدائيو صدام - 1994) - (جيش القدس - 2000)، وعلى المقسم المعارض، كانت الاحزابات والكيانات تشكل جماعاتها المسلحة والتي لعبت دوراً مريعاً بعد سقوط سلطة صدام، كـ(فيلق بدر - 1982) و(كتائب الشهيد الصدر) و(البيشمركة كذراعين مسلحين لحزبي الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني)، وبعد 2003 تشكل "جيش المهدي"، ومن هذه التشكيلات فرّخت ميليشيات متعددة الولاء والهوية، استقرت اخيراً بـ"الحشد الشعبي". والسلطة دائماً تستوعب الفقراء بتشكيلات السلاح.

فعالية الفقر في العراق لم تتوقف يوماً، وظل الماكنة النشطة جداً لانتاج العنف الاجتماعي، والمحفز المرعب لليأس الجماعي، والدافع المخزي الى الانتحار. لكن الان في العراق باتت دوافع الانتحار مرتبكة ومتنوعة. ولعل اغرب دافع يتمثل بانسداد الافق واليأس من تحقق التغيير.

سابقاً كانت مشكلات الدولة ومغامراتها الاقتصادية الفاشلة هي الدافع الاصيل. اما الان وبعد عقود، بات انهيار قيم المجتمع وانفلاش مقوماته وتراجع التجديد فيه هو الدافع الكارثي الذي يدفع بالمنتحرين الى هذا الخيار.

غرابة المصائر

اواخر كانون الاول/ ديسمبر 2017، حاولت فتاة الانتحار غرقاً بالقفز من جسر وسط بغداد، لم تعرف الدوافع الشخصية. لكن تكمن الغرابة بالحالة الكُلّية التي عكستها قصة الفتاة وما كشفته عن عفن اجتماعي يضرب عميقاً.

وفقاً لمحضر الشرطة، اُنقذت الفتاة من قبل صيّادٍ هاوٍ شاب كان قريباً بالصدفة من نقطة سقوط الفتاة. اتهمت الفتاة فيما بعد الشاب - وهو عاطل عن العمل - بسرقة مقتنيات ذهبية كانت بحوزتها حين الانتحار، وبالتعمق، توصل المحققون الى سائق سيارة الاجرة ووجهوا اليه تأنيباً لتقاعسه عن انقاذ الفتاة. برر السائق انه معاق وبرجل واحدة فقدها بانفجار قبل سنوات، ويعول نفسه وعائلته كسائق.

تؤشر الحادثة على العناصر المثالية لدوافع الانتحار في العراق: [العنف الاجتماعي (الفتاة)/ الفقر والبطالة (الشاب الصيّاد)/ مخلفات العنف السياسي (السائق المعاق)] والاطار الرابط لمثلث الانتحار، يتمثل بغياب التنمية والاستقرار الاجتماعي وفشل الدولة/ السلطة خدماتياً.

تنامت حوادث الانتحار على نحو مضطرد بعد العام 2003، وبالطبع فأن مؤشرات القياس الكَمّية غائبة، ومحاولات البحث النوعي في الدوافع والاسباب غائبة ايضاً، فيما الحكومات المتعاقبة منذ 2003 لم تضع ببرامجها معالجة ظاهرة الانتحار المتنامية، بل حتى مؤسساتها تتعمد التغاضي عن الاعتراف بذلك.

وفي احصائية يتيمة، أشّرت دراسة فقيرة اجراها مجلس النواب العراقي في العام 2014، على تصاعد الارقام من مستوى الاحاد الى المستوى العشري، مشيرة الى اعداد المنتحرين الموثقة لدى مجلس القضاء الاعلى بين (2003 – 2013) بلغ (1532 حالة) فيما الحالات الموثقة لدى وزارة الداخلية لنفس الفترة بلغت (906 حالات)، مبنية ان العام الذي قفز به الانتحار الى مستوى مخيف كان العام 2010.

  

وبالطبع فأن الدراسة النيابية لا تحمل السلطة الجديدة مسؤولية الفشل. فيما تتحامل على المنتحرين لـ"فقدانهم الوازع الديني"، متناسية بأن الحكام الجديد ينتمون الى ذات المنطق الديني الذي يُحرّم الانتحار، لكنه ايضاً يبرر للسلطة فعالياتها اللصوصية.

وفي دراسة كمّية جديدة مجاورة، اعدها مجموعة باحثين ضمن برنامج "الدراسة العراقية الوطنية عن الانتحار" بالتعاون مع وزارة الصحة، تَقَصّت قياس الظاهرة بين عامي (2015 – 2016)، استناداً على تقارير مراكز الشرطة التابعة لوزارة الداخلية في 13 محافظة عراقية (باستثناء محافظات كردستان ومحافظتي نينوى والانبار)، افادت بوقوع (290 حالة) في العام (2015) و(357 حالة) في العام (2016) بتفصيل جندري (55,9% ذكور) و(44,1% إناث)، مشيرة ان نسب الانتحار الاعلى كانت ببغداد والبصرة. لكن في احصاءات اخرى تتصدر ذي قار وديالى.

فيما تفيد الاحصاءات الرسمية لمفوضية حقوق الانسان في العراق، عن تسجيل (544 حالة) في العام 2014، و(607 حالات) في العام 2015، بينها حالات لغير العراقيين كانت للاجئات سوريات في إقليم كردستان.

الانتحار: ثقافة مقبولة

المنتحرون بالغالب ينتمون الى اوساط محافظة دينية وعشائرية، واعمارهم اقل من 30 عاماً، لكن المؤشر الاكثر فزعاً انتحار الشُبان الصغار من جيل العام (2000) الذين ولدوا ضمن الحقبة الاكثر ظلامية في العراق، وهولاء ضحية ثقافة مرتبكة ومزدوجة وهجينة، فهم الجيل الضائع، والخزان البشري العملاق دون استثمار سوى بدفعهم الى العنف وتجنيدهم في حروب الجماعات المسلحة سواء في سورية او العراق. وعبر تتبع الاخبار اليومية في العام 2017، كان اغلب المنتحرين من هذا الجيل، وكأن روحاً منطفئة جزعة احتلت اجسادهم النحيلة وهي تشنق او تغرق او تحرق او يطلق عليها الرصاص.

تعد مؤشرات الولادة في العراق هي الاعلى عالمياً بنسبة 3,5% سنوياً بواقع مليون ولادة، وازاء هذا الانفجار السكاني غير المسبوق، بظل تحطم الخدمات واستشراء الفساد، وشيوع الزبائنية الحزبية وتوظيف الخرافة الدينية، فان الافق بات مقفلاً امامهم، مع تحديات الطموح الشخصي بالخلاص من الانفاق العشائرية والشعبوية والتقاليد القاسية وثقافة الموت و"الاستشهاد" الذي يعاد انتاجه سنوياً ضمن طقوس الاحتفال الجنائزي بعاشوراء، ازاء الانفتاح الثقافي غير المسبوق الذي اسسه تنوع الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، وبأبسط المقارنات فأن هذا الجيل يجد نفسه محروماً بالمطلق من حق الحياة مع انهيار التعليم وتخلف التربية الاسرية وتفككها. ولعل دراسة International Crisis Group: "القتال أو الهرب: محنة ويأس "جيل الـ 2000" في العراق"، واحدة من ابرز التقارير الدولية التي كشفت المأساة العراقية.

ولأن طرائق تفكير الجيل الجديد الذي كَبُر دون رقيب بشوارب ثخانٍ، باتت مغايرة لجيل الاباء الذي تتلمذوا في مجتمع اكثر استقراراً، باتت ثقافة الانتحار اكثر مقبولية، والطريق السهل للتخلص من مرارة الواقع وقسوته.

 ودون التفكير بعيداً في الدوافع، لكن انسداد الافق والاحباط المريع وعدم استثمار الحيوية الشابة وتنمية المهارات والمواهب، والشعور الدائم بالنقص واستحالة تحقيق الامال، وسط المقارنات التي تعقد بين العالم المدهش الذي تسوقه الشاشات اليهم وبين واقعهم المنكسر وهو يعيشون في مدن يسفها التراب وتأكلها المياه الاسنة وتحكم قبضتها عليهم العمائم والعشائر والضغط المادي الرهيب مع نشوء طبقات ثراء رخيصة استهلاكية متخلفة، فضلاً عن عجز الدولة/ السلطة بمعالجة الفساد والخدمات وتصميم عالم قابل للحياة في بلد يعج باللافتات السود التي تنعى الشبان المنتحرين عمداً بذهابهم الى الجبهات المفتوحة للخلاص من التفكير العدمي الذي لا يؤدي سوى الى الموت نفسه.

ما زالت نسبة الفقر عند مستويات مخيفة: 22.5 في المئة على مستوى الوطني ككل، وقد تزيد في المحافظات الوسطى والجنوبية إثر توقف الموسم الزراعي الشتوي 2018 بسبب شح المياه وعودة المقاتلين من الجبهات ودخول خريجين جدد لسوق العمل. وهي تصل في المحافظات التي تأثرت بعمليات "داعش" إلى 41.2 في المئة.. مع بقاء العراق ضمن مستوى البلدان الاكثر فساداً، عند المرتبة 166 عالمياً. فيما تبدو المؤشرات الاقتصادية للعراق ضعيفة ومقلقة.

تتصدر محافظة ذي قار (جنوب العراق) نسبة الانتحار الاعلى، فيما معدل الانتحار الوطني يسجل يومياً ثلاث حالات انتحار على الاقل. وفي ديالى يرتفع المؤشر الى حد مخيف، حتى ان السلطات المحلية اعادت فتح التحقيق العام الماضي بعدد من الحالات للتأكد من صحة دعاوى الانتحار، فيما شكلت منظمات مبادرة لخفض معدلات الانتحار. انتحر 63 شخصاً في ديالى في العام (2017) اغلبهم من النساء، واعتبر مجلس المحافظة ان اعداد المنتحرين فاقت لاول مرة اعداد ضحايا العنف، وانه بات السبب الثالث في المحافظة. وخلال كانون الثاني/ يناير الماضي احرق تسعة منتحرين انفسهم.

فيما يقول مجلس القضاء الاعلى انه في العام 2016، سجّلت بغداد 38 حالة انتحار متصدرة جميع المحافظات، تلتها كربلاء بـ23، ثم ذي قار مسجلةً 22 حالة.

وتظل كردستان العراق، جزيرة غامضة ومعزولة، فثقافة الانتحار هناك اكثر شيوعاً من المدن العراقية الاخرى، وفاقمتها ازمة الحصار الاقتصادي الذي تفرضه سلطة بغداد عليها، لكن منذ سنوات طويلة كانت النساء تنتحر هناك بصمت اعتراضاً على الاعراف الاجتماعية. وتفاقم الوضع سوءاً بتزايد المنتحرات من المواطنات الايزيديات المسبيات على ايدي التنظيم الدموي "داعش".

وازاء هذا الارتفاع المسبوق بمعدلات الانتحار الا ان خدمات الرعاية النفسية تكاد معدومة. وطبقاً لوزارة التخطيط فان عدد سكان العراق حتى منتصف العام الماضي بات يلامس 40 مليون نسمة. بينما عدد المشافي النفسية (وهي بالاصل اماكن احتجاز مرضى عقليين) في عموم البلاد، ثلاثة فقط، أي ان كل 12,5 مليون عراقي لهم مستشفى، قبالة 206 ستة اطباء نفسيين فقط، فيما تصنف منظمي اطباء بلا حدود والصحة العالمية العراق كـ"موطن للامراض النفسية".

وغالباً ما يُصنف المجتمع الساذج في العراق، المكتئب، والمنتحر بانه "مريض نفسي"، ودلالة التوصيف معنية بالاحتقار والانتقاص والاستهزاء، وبسبب تلك النظرة ايضاً يُدفع الى الموت. لكن ثمة سبب مضاف ايضاً يتعلق بانتشار تعاطي المخدرات الرديئة كـ" crystal meth" الذي يدفع متعاطيه الى الانتحار بعد اشهر قليلة، وغالباً ما يكون المنتحرون من البصرة بينهم جنود ورجال شرطة كثر، لقربها من المصدر الاساس ايران.

 وللانتحار طرافته ايضاً، حين انقذ سم للفئران فاسد مخلوط بمواد غير سامة لزيادة ربح التاجر المستورِد، حياة فتاة حاولت الانتحار في كربلاء. وربما هي المرة الوحيدة، التي يكون فيها للفساد فضيلة انقاذ حياة مواطن في العراق. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬