لكن بغداد كانت خائفة، شأن أهلها كانت تضع أصابعها العشرة في آذانها لتتقي الخوف والكذب في النبرة الحماسية لمذيع الأخبار والاغاني "الوطنية" في إذاعة بغداد. كان بائع الخضرة يحثنا، وقتها، أن نفر منها. قال لنا: يجب أن تخرجوا من بغداد. وفي وقتها، قبل أن تغرب الشمس، ثم وأنا أعبر أحد جسورها، كنت أفكر بما على بغداد أن تفعله لتواجه كل ذلك الخوف؟! وفي مرآبها الكبير، علاوي الحلة، كدت أقول للشرطي الخائف مثلي، وهو يحاول أن ينظِّم خوف الناس وفزعهم ويجد لهم سيارات تفرُّ بهم من الحرب: وماذا بشأن بغداد؟!
أفكر الآن، بعد عقد ونصف، أن هناك كذبا عظيما يعتاد عليه الناس، من يكتبون، ومن ينظرون، ومن سيجلسون إلى كراس مريحة، ويتحدثون عن البلاد والناس وبغدادهم. أتذكر الآن وجوه الناس، أصواتهم، فزعهم. وأفكِّر أني سأكتب يوما عن أكاذيب كثيرة، عشت بعضها، وسمعت عن كثير منها، وبالطبع ألَّفت، شأن غيري أيضا، بعضها. وعندي أن الأسوأ أن نتحدث عن المدن المنتصرة، هذا اختصار، بل محو لمآسٍ كثيرة كان على بغداد، على أهلها "وهل من فارق!"، علي أن أعيشها وأتمرغ بها. بيقين أن كتابنا كانوا يكذبون بحديثهم عن المدن التي تفكر بمقاومة خوفها بالأكاذيب. أن نزعم، مثلا، إن المدن تعتاد الخوف والفزع؛ وهذا هو البهتان؛ فالمدن تقاوم، وتخاف، وتأنس كما البشر للضوء وأصوات الناس، وتفرُّ بجلدها من الحرب، ولو تمكَّنت لهربت من بلاد لا تحميها. صديقنا المتحمس للحرب وقتها، لاحظ أن وجوه الناس بدأت تختلف، مع اقتراب ساعة الموت والحرق والقنابل، توقف الناس عن الضحك. صار طلبة كلية الآداب وقتها يمرون بصمت، اختفت الضحكات، اختفت المشية الرشيقة، صرت أرى الطالبات يمررن بسرعة: لا سلام لا كلام، إنها الحرب فقط!
كان هذا ما رأيته في صباح باكر من زمن بعيد، عندما هربت من معسكر تدريب الطلبة، ربما عام 1987، ووقتها كانت الحرب، حرب الثماني سنوات، تطحن البشر والحجر. كان سوق الحلة الكبير يستيقظ للتو، ثمة من يخرج من زقاق فرعي ليشتري القيمر و"الصمون" الحار، وآخر يطرد قطة سائبة من مساره، وكنت أخترق السوق الكبير بلباسي العسكري وببندقية ثقيلة. وفي آخر الزقاق، كان أحدهم يغني بقايا خمرته ويضحك. في ذلك الفجر كانت المدينة تقاوم خوفها، تقاوم رغبتها أن تكون جزءا من الفزع. بائع الباقلاء مثلا كان يهتف بحماسة على زبائنه: خيطك خيطك! الدجاجة الحمقاء كانت قد خرجت مسرعة من دكان في ركن منزو. وفي الزاوية البعيدة، ثمة رجل يطارد امرأة. ابتسمت وقتها، وأنا أحاول أن أتدبر أمري مع بندقية ثقيلة، وأناس لم يفكر أحدهم حتى عناء أن يلقي علي نظر فضول. وفي سيارة الأجرة التي عبرت بنا الجسر. كنت أفكر أن اقلِّد بغداد، أن أقاوم الخوف والحرب بالسكائر والكتب. كان هروبنا منها مع غروب الشمس. وكان لي أن أرى بوضوح شديد، وأنا أعبر أحد جسورها، قلة الناس في الشوارع، قلة السيارات العابرة من كرخها إلى رصافتها، وبالعكس. كانت بغداد تفكر بما عليها أن تفعله في حرب الأوغاد الثالثة. وهو ما كنت أفعله دائما في أزمنة الخوف والبرد والفارقة "وهل هناك غيرها!". ففي الظلام الشاسع كنت أعيد وضع الوسادة بشكل طولي خلف رأسي، وعلى ضوء المصباح النفطي الشحيح كنت اقرأ للحب وقت.. للموت وقت. كان ذلك في الكوفة، في شارع السكة. وفي الايام الدافئة كنت أفكر بقطار يخترق الكوفة القديمة؛ ألم يسموه شارع السكة! أكذب إن قلت أني كنت أفكر باعتراض ريمارك على الكتابة الكاذبة عن الحرب والهجوم.. والهجوم المضاد، كنت فقط أفكر بالبرد والجوع، وكيف أقاومه بالقراءة وتدخين التبغ الرديء. فيما بعد، بالضبط في سيارة الأجرة كنت أفكر بتقليد بغداد، أن اقاوم الحرب والفزع بالكتب والحكايات والتبغ الرديء.