شجرة الهشاشة العراقية: من 'المهدي' إلى التضحية بـ'ماركس'

[المصدر: موقع القدس العربي] [المصدر: موقع القدس العربي]

شجرة الهشاشة العراقية: من "المهدي" إلى التضحية بـ"ماركس"

By : Safaa Khalaf صفاء خلف

يسعى مقتدى الصدر إلى جعل تيّاره، عامل توازن شيعي في العراق، إزاء الطموحات الإيرانية بدفع جماعاتها المسلحة إلى الواجهة السياسية في الانتخابات النيابية المرتقبة عبر "تحالف الفتح"، وعلى رغم العداء الأيديولوجي بين الصدريين والولايات المتحدة الاميركية، إلاّ أن الأخيرة باتت تتقبل هذا العداء كجزء من الدينامية الاجتماعية والسياسية للتيار في العراق للحفاظ على إرثه "الثوري"، فيما يتفهم الصدريون أن الدور الأميركي مفيد لحراكهم ومستقبلهم الذي يريد التملص من الكمّاشات الإيرانية، شريطة ألا يحقق الطرفان تقارباً مباشراً يفضي إلى نسج علاقة صريحة بينهما. يملك الصدر خطوط تواصل غير مباشرة مع واشنطن، منها عبر دعمه لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، وعلاقته التي تبدو جيدة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ودول أخرى في المنطقة. لذا فإن الرسائل غير المباشرة المتبادلة تبدو أكثر نفعاً من العلاقة الواضحة.

نجح الصدر بإحاطة نفسه بسلسلة علاقات نفعية جيدة مع الإقليم العربي، ووثق علاقته مع العبادي الذي بدا مرتاحاً لهكذا نوع من الشراكات السياسية التي لا تؤثر على طريقة إدارته للسلطة، رغم أن الصدر يملك ميليشيا قوية قادرة على نفض البيت السياسي في العراق وتقويض "أسطورة الاستقرار"، فيما زعيمها يتحرك في سائل سياسي متلون لا يخضع لمبدأ سوى البقاء كمهيمن إقطاعي يلبس العمامة على مساحة هائلة من الأتباع الذين يقدسون تلوّنه.

تبدو الشراكة بين الصدر – العبادي، مدعومة من المرجعية التقليدية في النجف التي يرأسها آية الله السيستاني، وكأن مكتب الأخير ينظم تلك العلاقة ويدفع بالطرفين إلى احتلال مكانة متقدمة من التحالف الذي يضمن بقاء إيران بعيدة عن رئاسة الحكومة بوجود قوة سياسية وجماعة مسلحة مطيعة (سرايا السلام) تمثل ضداً نوعياً للميليشيات المدعومة من إيران، وتلك العلاقة أيضاً تضمن تحجيم التمدد الاميركي في العراق. 

ولم يطلق الصدر مواقف حادة تجاه رغبة الكُرد بالانفصال عن العراق، فيما عزز صلته النفعية عميقاً بما بات يُعرف بـ"التيار المدني" والحزب الشيوعي العراقي، بتحالف انتخابي، أنهى به الفيتو الديني على التعامل مع "العلمانيين"، ففي انتخابات سابقة أفتى آية الله كاظم الحائري، أحد المراجع المسموعين لدى التيار بـ"حُرمة انتخاب العلماني"، وهذه الفتوى تستند على إرث الفتاوى المُشيْطنة للشيوعيين. المرجع الأكبر للصدريين (والد مقتدى) محمد محمد صادق الصدر، اعتبر الشيوعيين "أنجاساً" في كتابه "مسائل وردود" - في مسألته المرقمة (102) الجزء الثالث ص 28 –:

[- هل من يدعي الشيوعية نجساً؟/ ج: مع الاعتقاد الذي يستلزم إنكار أصول الدين، أو ضروريات الدين، يعتبر نجساً]. 

في أواخر الخمسينيات كفّر زعيم الشيعة حينها آية الله محسن الحكيم، الحزب الشيوعي في غمرة تقاربه مع عبد الناصر والإخوان المسلمين بظل موجة العداء مع حكومة عبد الكريم قاسم التي كانت تأخذ نهجاً علمانياً في إدارة السلطة. 

عقب العالم 2014 ركب الصدر موجة الاحتجاجات "المدنية" لمكافحة الفساد، لكنه – الصدر - ما زال يحتفظ بميليشيا مسلحة منذ 2003، يرفض حلّها، وفي الأوقات التي بدت الضغوطات فيها رهيبة، يعمد إلى خيار "التجميد" أو تغيير اسم المجموعة المسلحة، والإعلان عن الخصائص الجديدة لها، ويرسم زبائنية مبتكرة للسلاح الذي يحافظ عليه في كل مرة.

أعلن مقتدى الصدر عن تشكيل ميليشيا "جيش الامام المهدي" في مسجد الكوفة بالنجف، كخطوةٍ رمّزيةٍ تمتد إلى الروايات التاريخية الغامضة عن نهاية العالم بظهور الإمام الثاني عشر لدى الشيعة واتخاذه للمسجد نفسه كواحدٍ من مراكزه التبشيرية. 

بمنتصف تموز 2003 أطلق الصدر ميليشياه ردّاً على تشكيل سلطة الاحتلال المؤقتة "لمجلس الحكم العراقي"، وبموازاة ذلك ابتدع لنفسه خطاً راديكالياً بطموحه إلى "تأسيس دولة إسلامية تسعى لتطبيق الحكم الشرعي (...) عبر جيش إسلامي مطيع لمراجعه وقواده"، هذه النظرة الخلاصية أدت إلى تفريخ الكيانات المُسلحة في المقسم الشيعي قبالة التفريخ الحاصل على المقسم السُني، وربما أن اغلب الجماعات الشيعية المُسلحة خرجت من بطن التشكيل الأول للصدر، وتنامت فيها بعد وصولاً إلى تشكيل "الحشد الشعبي".

وعِبْر الميليشيا خاض الصدر معارك مُدمرَةٍ ضد السلطات العراقية. مرتان بدافع مقاومة الاميركيين وثالثة ضد الحكومة مباشرة في البصرة، عوضاً عن خروقاتٍ كثيرةٍ بين آونة وأخرى، كان آخرها قتل قائد (لواء 57 قوات خاصة) العميد شريف إسماعيل المرشدي، وهو أيضاً رئيس جهاز حماية رئيس الحكومة حيدر العبادي، في سامراء، حين كان في طريقه إلى الموصل لتأمين زيارة العبادي إليها.  

يخشى الصدر من استقواء خصومه المدعومين من إيران عليه – أبرزهم المنشقون عنه قيس الخزعلي وأكرم الكعبي- كما يخشى أن تتحول الدولة إلى عنصرٍ معادٍ له إذا ما استطاعت القوى التي تدين بالولاء الديني للمرشد الإيراني الوصول إلى السلطة، لذا هو يحافظ على تلك القوة بوصفها جزءاً من نظام الردع الذي يُطوره سياسياً. ولَعلَّ طهران تَنَبّهت إلى نظام الرّدع الذي يبنيه الصدر بمعاونة الشيوعيين، حينَ أعلن علي ولايتي، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي أن بلاده لن "تسمح بعودة الشيوعيين والليبراليين إلى الحكم".

دعم الصدر، وهو شابٌ ينحدرُ من عائلة دينية تقليدية تطالب بتطبيق "الشريعة"، الحراك الإحتجاجي في العراق، وبات يُطلق على نفسه "راعي الإصلاح"، لكنه بموازاة ذلك يحتفظ بوزراء ومسؤولين كبار في الحكومة العراقية التي يتفشى فيها الفساد، وشَنّ هجوماً لاذعاً ضد مفوضية الانتخابات مطالباً بتغييرها، وهدأت حدة انتقاداته تجاهها بعد أن صار له معقدٌ يضمن عبره من تثبيت حصّته من المقاعد في البرلمان المقبل.

إشكالية محاربة الفساد في العراق تتحرك ضمن الزبائنية السياسية وموجهاتها الدعائية الشعبوية، تفتقر إلى إرادة المحاسبة الحقيقية فيما تظل أدواتها بعيدة عن ملاحقة الفاسدين وتقديمهم إلى العدالة، وتشتغل في إطار الترضية والتصفية بين الخصوم السياسيين، فحتى الاستجوابات التي تُطرح في مجلس النواب وتُطيح بوزراء أو مسؤولين فاسدين كبار، تتحرك داخل إطار تحقيق التوازنات، والكيفية التي تحافظ بها تلك الجماعات السياسية النفعية على مصالحها الاستراتيجية. 

لم يستطع الصدر تقديم أيٍ من سياسييه الفاسدين إلى القضاء، بل تحرك بعيداً عن سلطة الدولة التي يدعي أنه متكفل بحمايتها والخضوع لها، وأسس لنفسه مكتباً للمحاسبة والتطهير. وعَمَدَ على غيرِ مرَّةٍ إلى احتجاز أتباعه عُرّفياً كعقوبة لهم على عصيانهم كحادثة احتجاز نائب رئيس الوزراء السابق بهاء الاعرجي لثلاثة أشهر وتجريده من تمثيله سياسياً لتياره. هذه الممارسة تكشف عن طبيعة الهيمنة التي يفكر بها الصدر والتي يريد أن يدير بها السلطة في المستقبل، كما أن مبدأ الحفاظ على الدولة وصلاحياتها الحصرية هو مجرد غطاء للقيام بأعمال غير مشروعة تحت عنوان محاربة الفساد، يقوم الصدر بخرقها دائماً، ومثالاً "أزمة مطار النجف"، وتوجيهه وفداً إلى وزارة الكهرباء للإطلاع على "العقود". وعملياً يقبض الصدر على إدارة مديريات وزارة الكهرباء في الجنوب والفرات الأوسط. 

فيما يغذي جزيرته السياسية ويُنميها عبر حلقات من المنتفعين وخطوط الولاء الشعبي، وأخيراً بالتحالف مع الشيوعيين، الذي مارسوا أفظع انتهازية سياسية بتاريخهم بالتحالف مع الرجعية الدينية المسلحة والمسؤولة عن انتهاكات وتفريخ الميليشيات. 

تحالف أقدم وأعرق حزب عراقي علماني أيديولوجي (الحزب الشيوعي العراقي) تمتد خبرته السياسية على مدى 84 عاماً، مع تيار ديني رجعي شعبوي مسلح، يفتقر إلى الخبرة السياسية والإيمان بالسلمية في إطار الصراع السياسي، لم يمض على تشكيله سوى 15 عاماً، وعلى تشكيل حزبه "الاستقامة" سوى أشهر قليلة، نكسة هائلة للماركسية واليسار العراقي، ونهاية مؤسفة ومؤلمة لانفلاش الإيمان بتحرير الفرد من الاستغلال وتلميع الرجعية بوصفها جزءاً هاماً من منظومة الفساد والتدمير الاجتماعي وعرقلة التنمية وتحطيم بناء الدولة. وبهذا التحالف فقد الحزب الشيوعي شرعيته اليسارية والماركسية وبات حزباً طفيلياً يسعى إلى مكاسب رخيصة على حساب فكرة وجوده الأساسية. إنها طفيلية تلازم اختطاف  الحزب دائماً من قبل القيادات التي تطفر إلى الواجهة وتمارس اغتصابها الانتهازي فيما تظل القاعدة مؤمنة بالماركسية لكنها مقموعة بجهاز القيادة.

جرّب الحزب المختطف من قبل القيادات الانتهازية تحالفات مريبة وسطحية وساذجة لا تنم عن وعي بقدر ما تؤشر على هشاشة، فالحزب تحالف مع العسكر في 1958، وارتكب فظائع في قمع حركة الشواف في كركوك والموصل، ليقمع بعدها من قبل حليفه العسكري اليميني، وموقفه غير المسؤول من حركة الكفاح المسلح في هور الغموكة أواخر الستينيات،

ومن ثم يعاود التحالف مع اليمينية القومية المتطرفة في السبعينيات بتحالفه مع حزب البعث في إطار "الجبهة الوطنية"، وحين غزت الولايات المتحدة العراق واحتلّته كان موقف الحزب مخزياً، بقبول ذاك الاحتلال ودخول "مجلس الحكم" على أساس "شيعية" سكرتيره العام "حميد مجيد موسى" لا على أساس شيوعيته. إن مثل هذه الانحيازات اليمينية تكشف مدى فراغ الحزب من يساريته، ومدى تحكم البرجوازية بمصيره. ولم تسمح تلك القيادات للحزب بعملية مراجعة شاملة لاستعادته. 

وكان القيادي المخضرم في الحزب الشيوعي وعضو اللجنة المركزية حسان عاكف، وهو أشد المعترضين على التحالف مع الصدر، قد كشف بمقال مطول خفايا الدفع إلى هذا التحالف المريب، وأطلق دعابة متسائلاً: "كيف لحزب عمره 80 عاماً أن يتحالف مع حزب عمره شهرين؟". 

وللسخرية مرارتها ايضاً، حين ظهر سكرتير الحزب رائد فهمي أكثر من مرة وهو يردتي بزات سوداء في زياراته إلى الصدر في النجف، وفي الزيارة الأخيرة وقف فهمي مع اثنين من أعضاء مكتبه السياسي مع قيادات صدرية لقراءة الفاتحة على قبر الصدر الأب. إن مثل هذه الممارسات تمثل إساءة حقيقية لتاريخ نضالي لحزب يمثل العلمانية العراقية وسط بحر هائج من الأسلمة والتمييز الطائفي. حتى أنه بذكرى تصفية محمد باقر الصدر في 9 نيسان 2018، وزّع بياناً يبين مدى تهشم الحزب الأيديولوجي داخلياً واختطاف مواقفه من قبل منتفعين تربطهم مصالح مع السلطة وأحزابها، وهي المرة الأولى التي يصدر بها هذا بيان كهذا، وكأنه يحاول استرضاء مقتدى الصدر بتغيير جلد الحزب. حتى أن الحزب ومرشحوه لم يحصلوا على المكانة التي تحترم حزبهم في لائحة سائرون الأنتخابية، فسكرتير الحزب مثلاً حلّ ثالثاً في ترتيب المرشحين لمحافظة بغداد. فالصدريون يجعلون من الشيوعيين مجرد دمى ملونة لتجميل محتوى بشع.

دائماً ما تجيء خطوات الصدر السياسية وكأنها قَفَزاتٌ كبيرة إلى مناطق لعب جديدة خارج الكمّاشات التي يجد نفسه محاصراً بها، لكنه بالتحالف مع الشيوعيين يحاول أن يوظف التناقضات المحلية والإقليمية لصالحه، ويهز الشجرة غير المستقرة للتحالفات في العراق مترقباً تساقط الخصوم منها، ومنها يصل إلى أقصى نفعية سياسية بالقفز من "المهدي" إلى "ماركس" على طريقته بإيجاد المقاربات الهشّة. 

فهو يُصدر خطابه كمعادٍ للسياسة الإيرانية بالمنطقة، ويعارض بقاء الأسد بالسلطة، ويقترب كثيراً من الرياض وأبو ظبي، ويعزز سياسة رئيس الحكومة بالانفتاح العربي، وتحوّل إلى هراوة سياسية مطيعة بيّد المرجعية التقليدية في النجف، ويدعم توجهات حلّ الفصائل المسلحة لكنه لا يحل جماعته المسلحة على نحو مطلق ويحتفظ لنفسه بحماية واحدة من أهم مراكز الشيعة في سامراء المرتبطة بـ"قضية المهدي"، فهو دائماً يُبقي خيطاً رفيعاً ممدوداً بين قناعاته الخلاصية بوصّفها المنطقة المقدسة التي يُهيّمن بها على ملايين من الفقراء التواقين إلى العدالة المفقودة وبين طموحاته السياسية. لكن ذاك الخيط أيضاً مصدر قلق رهيب بوصفه مُحفزاً للتنظيمات السرية التي تدعي الصلة بـ"المهدي". 

وبات واضحاً أن التحالف مع الشيوعيين مَثّل نكسة اجتماعية للجمهور الذي ينظر إلى الحزب كمُنقذ علماني للخروج من ورطة حكم الإسلام السياسي، لكن مع هذا التحالف الذي يبدو مُريباً لتنافر العقيدة، ابتلع الاسلاميون آخر حجرٍ في حائط الطبقة الوسطى المتهالك وهو يحاول الصمود أمام تردي الخدمات واستشراء الفساد والمحاصصة الطائفية. 

ونظراً للمواقف الانقلابية للصدر على حلفائه، ونزعته غير المستقرة بالبقاء في جبهة واحدة، فأن المخاوف تتراكم إزاء انقلابه على الشيوعيين، لاسيما وأنه يحتفظ لنفسه بموضع ديني أيضاً، ويحرص على تراث عائلته المتشددة، فوالده آية الله الراحل محمد محمد صادق الصدر، يُصنّف كأبٍ روحيٍ لـ"الصحوة الفقهية الشيعية" في التسعينيات التي اندفعت قُبالة "الصحوة الإيمانية السُنية" التي قادها صدام حسين لتحصين سلطته من الانهيار. 

فالصدر وأبوه حريصان على الشريعة. وخلال الأعوام الخمس الاولى بعد سقوط بغداد أنشأ الصدر محاكم دينية لمحاسبة غير الملتزمين، وتورطت ميليشياه بمقتل مئات النساء والرجال ولا سيما في البصرة. 

والآن، تطفو التساؤلات عن الكيفية التي سيتعامل بها الصدر مع أسلمة القوانين في العراق بظل حِلّفه مع الشيوعيين، ولاسيما قانون الأحوال الشخصية أو منع الخمور أو مراكز السهر والحريات الخاصة. كيف يُمّكن السيطرة على العقيدة العميقة للصدر إزاء الأيديولوجيا الشيوعية المُناقضة له والتي يَصِفُها الحزب في أدبياته بـ"الرجعية" خلال سنوات الصراع على علّمنة القوانين والتشريعات والمجتمع بعد انقلاب 1958. 

لا تبدو خطوات الصدر المقبلة واضحة، فالصراع الانتخابي يُغيّر باستمرار الوجهات المُستقبلية، وحتى اللحظة يبدو أن الزعيم الشاب هو الوحيد الذي حافظ على تماسك لائحته الانتخابية (سائرون) من التفكك، لكن تبقى حظوظه الانتخابية تُراوح عند مديات الطاعة العمياء لجمهوره الذي يرزح غالبيته تحت مستوى خط الفقر وسط فقر حظوظ الشيوعيين في خدمته انتخابياً، لكن بالتأكيد أن الصدر سيغدو قبّان التوازن الذي يسعى إليه الطامحون إلى منصب رئاسة الوزراء. 

يدفعُ الاميركيون برئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي بقوة إلى تولي ولاية ثانية، لكن مخاطر ضياع الجهد الاميركي تبدو جدّية مع خصوم شرسين تدعمهم إيران احتشدوا بلائحة واحدة (الفتح)، واضعين بالاعتبار إعادة تموضع منصب رئاسة الحكومة بمقاسات جديدة، ومنها إخراج حزب الدعوة الحاكم من التوافق العُرّفي على تسنّمه لإدارة السُلطة منذ العام 2005. هذه المرة تُخلي القوى الشيعية مواضعها السابقة إلى جديدة، على أساس التنافس على السلطة لا على توزيعها، ويذهبون بعيداً إلى تشكيل "سلطة الأغلبية السياسية"، بمعنى أن الشركاء السُنّة والكُرد سيمثلون على أساس نسبهم، لا على أساس مبدأ التوافق السياسي بتوزيع السلطة.

لكن القناعة المؤكدة لدى الصدر أنه لن يستطيع القفز إلى السلطة، ولا يملك شخصية بارزة لترشحيها إلى رئاسة الكابينة الحكومية، غير أن المُشكلة العويصة التي تهدد كيانه بالكامل، فكرة المهدوية ذاتها، فالشاب الذي بدا متحمساً في صيف 2003 لظهور "المهدي" وهو يطل على أنصار والده الراحل بلحّيةٍ كثّةٍ وكفن أبيض، بات اليوم متخوّفاً من الفكرة نفسها، مع تنامي الجماعات السرّانية المؤمنة بـ"مقتدى" بوصفه هو "المهدي الغائب المنتظر" كجماعة "أصحاب القضّية". 

ورغم أن الصدر يَشِنُّ حملات تطهيرية داخل تياره بحثاً عنهم، إلا أنه فشل بالوصول إلى الرأس التي تغذي الجماعة الغامضة، وسط انشطار هذه الجماعة إلى جماعاتٍ أصغر كُلما يُعثر على تفسير جديد لـ"مهدوية مقتدى الصدر". ويشعر الصدر أن هذا الحراك قد يقف وراءه خصومٌ لتحطيم سمعته كمعارضٍ يلبس العمامة ويحيط به الفقراء. لكنه يملك أيضاً أسطولا من مركبات حديثة وطائرة خاصة.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬