قصة قريتين

قصة قريتين

قصة قريتين

By : Akram Alkatreb أكرم قطريب

قبل أي شيء في الحرب يتجمد الإحساس بالزمان والمكان معاً وتضأل المساحة التي يقف عليها المرء حتى تكاد تختفي. الطرقات المألوفة للعين المجردة بين المدن والقرى ستتبدد وتصبح رهينة الخيال، فتلك السهوب والبيوت والمنحدرات المترامية  ستختفي تحت وطأة الخوف والهلع وفقدان الأمان. المسافة التي كنت تقطعها برفة العين صارت تحتاج لأيام وربما أسابيع وسنوات طويلة، أو ربما لن تراها بعد ذلك أبداً. غرق كل شيء في الجحيم السوري، والمدن الكبرى أخذت نصيبها من الانقسام الاجتماعي الكبير والدمار والصور الملتقطة مروعة جداً بحيث يخال المرء أن الذي يحدث لا علاقة له بالواقع، فقط محض خيال مبني في سيناريو فيلم رعب. مدن وقرى مترامية الأطراف كأنها تقيم أعمدتها على أرض كواكب بعيدة .

في أتون طاحونة هذا الصراع الذي بدأ في نقطة وانتهى في مجرة حسابات الدول ومصالحها وصراعاتها، بينما الكائن والمواطن البسيط الذي كان يصرخ في الشوارع للحرية انتهى به الأمر يصرخ لرغيف الخبز. بقي الريف المحيط بالمدن مرهوناً بشكل كبير للتحولات المفاجئة التي قد تحدث في أي لحظة. دفعت الأثمان الكبيرة مقدماً دماً وتشريداً وسجوناً جاهزة والخريطة التي درسناها على مقاعد الدراسة وحفظنا سهولها وجبالها وأنهارها ستختفي وتصبح مجرد ذكرى. مناطق كثيرة في الريف البعيد والقريب واجه الأهالي فيها أقدارهم لوحدهم عزلاً في عراء مرسوم بالدم والهلع والجوع.

في محاولة لتسليط الضوء على بعض هذا الريف المسكوت عنه وعن عذابات سكانه، ولجذب الأنظار إلى ما آلت إليه الأمور فيه بعيداً عن الخطاب الرسمي لأي طرف من الأطراف المتصارعة، فثمة من يدفع الثمن عنهم جميعاً، والذي يتدفأ في الفنادق وغيرها ويصرخ وراء الميكروفون، ليس كمن يقف في البرد كالحطبة التالفة في مهب الريح.

ع. الداغستاني من دير فول وسمير تسي من بئر عجم حاولا أن يحكيا عن قريتيهما، و بعضاً من التراجيديا التي عايشاها دون نقصان باليوم والساعة والدقيقة والثانية. ليست فانتازيا أو حكايات للتسلية المبرحة. إنها قصص الموت السوري اليومي وهي رواية الجرحى والمفقودين والمظلومين والهاربين من العسف والقذائف الطائشة والموت الحتمي. قريتان طحنتهما الرحى السورية الهائلة فيما يحاول شاهدان أن يسردا ما شاهداه وشهدا عليه وكيف كان عليهما أن يتركا كل شيء وراءهما ويغذان الخطى باتجاه المجهول الذي لا يعرفان عنه شيئاً.

دير فول: الموت البطيء

سمير أباظة مجنون القرية يختصر كل التفاصيل الكثيرة التي يمكن سردها هنا. سمير الذي كان يدور في أحياء وشوارع دير فول، يحمل لافتة صغيرة يمشي وهو يصرخ: “حرية، حرية” سيجدونه مسجى فيما بعد على ناصية شارع من الشوارع بعد يوم قصف شديد وفي جسده أكثر من رصاصة وآثار شظايا بادية عليه.

تقع دير فول في ريف حمص الشمالي وهي قرية صغيرة سكانها من الأقلية الداغستانية وتضم أيضاً بعض التركمان والبدو. عدد سكانها لا يتجاوز ال ٦٠٠٠ نسمة. منهم البعثي والشيوعي والمستقل. لم تسلم القرية من الطيران الحربي وانتقام داعش والنصرة وتحولت إلى مسرح عمليات عبثي اضطر فيه الأهالي إلى مغادرتها نحو القرى المجاورة مثل عين النسر والمشرفة والسلمية والمخرم الفوقاني. انتفضت القرية وتعرضت لمضايقات أمنية وملاحقة أبنائها.

قال لي: “أنا في السويد الآن لكنني دائماً حين أنام أجد نفسي في الحلم على أحد حواجز النظام.” على الطريق الرئيسية من جهة ساقية الري باتجاه قرية عسيلة ومنذ نيف من الزمن تم غرس أشجار سرو سُرقت فيما بعد وبيعت في أكياس نايلون وصل فيه سعر كيلو الحطب إلى ٣٠٠ ليرة سورية. حتى شجر الزيتون المثمر والذي يقدر عمره بحوالي ٢٥ سنة تم تحطيبه وبيعه في الأسواق . كانت عملية التصحير ممنهجة. وهكذا انكشفت الأرض لمرمى المدافع والرشاشات والصواريخ. والذي بقي من أهل القرية سينامون تحت الأرض خوفاً من القصف .والمصدر الغذائي الرئيسي كان البرية.

دخلت داعش إلى القرية بعد انقطاع عام للكهرباء عبر حواجز النظام وارتكبت مجازر بحق الشيوعيين والبعثيين في القرية ثم تم فرض النقاب والجلباب على النساء. كما أنها انسحبت من القرية انسحاباً ملغزاً أيضاً. استطاعت بعض الكتائب الصغيرة هناك وبعض كتائب الجيش الحر وقسم من وجوه القرية وكبارها بإدارة شؤونها من ماء وكهرباء ومحاولة تأمين بعض المواد الغذائية الأساسية عبر المساعدات. بالنسبة للمياه ومصادرها فهي جوفية، لأستخراجها نحتاج إلى مولدات كهربائية، هنا كانت تتم رشوة الحواجز حتى تصل الكهرباء لبضع ساعات قليلة ومن ثم يتم استجرارها. هذا بالنسبة للآبار التي يملكها الأهالي، لكن هنالك بئر مياه للبلدية تتم الإستفادة منها في حال كانت الكهرباء موصولة أيضاً.

لم يشفع الجذر الداغستاني للقرية ولا وجود أكثر من ٤٠ ضابطاً من شبانها في الجيش النظامي حتى في ظل التسويات. بقي الذي بقي فيها يواجه مصيره لوحده، والمساعدات التي تصل لاتذكر وكانت تحدث في إطار الدعاية الإعلامية وتبييض الوجه لا أكثر. قصفت دير فول بالصواريخ والقنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية.

وصل سعر بيضة الدجاج إلى ٩٠ ليرة سورية وربطة الخبز ٣٠٠ ليرة وجرة الغاز ٤٠٠٠ ليرة وتنكة زيت الزيتون٣٠٠٠٠ ليرة ومع انحدار قيمة الليرة السورية لم يجد السكان ما يسد رمقهم. حتى الفرن الوحيد الذي كان يؤمن للأهالي بعض الخبز سيُقتل صاحبه في ظروف غامضة. والدواء ممنوع منعاً باتاً تداوله أو دخوله وبالتحديد أدوية الجروح والالتهابات، ومن يتم القبض عليه وفي حوزته أي كمية مهما كانت قليلة سيُعدم على الفور ميدانياً. القصف لم يتوقف والجثث ستراها مرمية في الطرقات أينما اتجهت. تم تهجير ثلاثة أرباع القرية فانتشروا في المدن والبلاد القريبة والبعيدة منهم من رحل إلى سلمية وحماه وتركيا والأردن وألمانيا والسويد. التهجير كان محكماً وعاماً. والذين خرجوا لم يكن لديهم أي فكرة إلى أين هم ذاهبون. تُركت القرية إلى قدرها ومصيرها. في يوم من الأيام وبعد قصف شديد تهجّرنا مع الأغنام والأبقار والكلاب، حتى أن ابني لمح الكلب المعروف في القرية والملقب بكاسر في قرية مجاورة يقف تحت شجرة تين ضخمة وحيداً، ويتابع قائلاً: “انظر أبي حتى كاسر هاجر أيضاً.”

في بيت تسكنه امرأة مسنة تم قصفه رأت المرأة الشمس تلمع في مرآة جيرانها. في يوم آخر تم قصف بناية يقطنها صديق لي. هذا البيت إن كنت أتذكر شيئاً منه أنه طيلة ثلاثين عاماً كانت تتكوم أمامه تلال الرمل والنبكة والإسمنت والنحاتة وقطع البلوك والبلاط ولا شيء غير ذلك، كل هذه السنين وهو يبني بيت العمر كما يقولون. في النهاية سيسقط صاروخ عليه، بينما عائلته كانت خارج البيت للصدفة، وكان صديقي يقف على سلّم العلية الحديد. دُمّر البيت بأكمله بينما سلّم الحديد الذي يقف عليه صديقي سيبقى سليماً وينجو، وهو يقيم الآن في تركيا بعيداً عن البيت وعن دير فول.

بئر عجم : البيت الذي تركناه وراءنا

في بئر عجم القرية الشركسية الهادئة في هضبة الجولان والتي لا يزيد عدد المقيمين فيها عن ٤٠٠ نسمة، احتلتها اسرائيل سنة ١٩٦٧ ثم تم استعادتها ضمن الاتفاقيات التي جرت تلك الفترة مع سوريا تحت مظلة الرعاية الدولية. سمير تسي الذي ترك كل شيء في دمشق وبنى بيتاً كبيراً مع أرض مساحتها لا يستهان بها غرسها بكل أنواع الأشجار المثمرة والزيتون وليبدأ حياة جديدة مع عائلته، يشتغلون في الأرض وتربية المواشي والدجاج والزراعة صيفية كانت او شتوية. مثابة حلم لا يضاهيه شيء هذا البيت أو جنة صغيرة لبقية العمر الذي بقي. على الماسينجر ومن فرنسا حيث انتهى به المطاف الآن يخبرني عن الذي حدث وعن تلك اللحظات التي بدأت فيها الأشياء تتغير، فلغاية شهر آب ٢٠١٢، على حد تعبيره، لم يكن هنالك أي حراك شعبي كون المنطقة عدد سكانها قليل جداً، لذلك لم يكن هنالك أي تواجد عسكري أو أمني يذكر. كان شباب القرية يذهبون إلى العاصمة للمشاركة بالمظاهرات فمنهم من اعتقل ومنهم من يعود آخر النهار. اختلفت إيقاعات الحياة رويداً رويداً حتى دخول المرحلة المسلحة التي امتدت ووصلت إلى جباتا الخشب التي سيطر عليها الجيش الحر وطرد منها كل رموز النظام، ثم وصلوا إلى قرى مثل مسحرة، أم باطنة، العجرف، ثم أعداد من تجمعات نازحي  ببيلا والسيدة زينب وخان الشيح التحقوا بالجيش الحر الذي سيدخل بعدها إلى قرية رويحينة بنهاية شهر أيلول ٢٠١٢ لبضع ساعات ثم ينسحب منها. اما التواجد العسكري للجيش النظامي في هذه المنطقة فكان ضمن المسموح فيه على أساس اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل. منطقة فصل القوات عرضها ١٠ كم وطولها ٧٠ كم ممنوع فيها تواجد أي مظهر عسكري سوري، وكانت تحت إشراف قوات الآندوف الأممية.

انسحب عناصر الجيش الحر من رويحينة بدون سابق إنذار ولم يتركوا أي أثر وراءهم، وفيما بعد أصبحت تظهر بعض علامات لوجودهم في الأحراش الواقعة غرب قرية بئر عجم على خط تماس وقف إطلاق النار مع إسرائيل، أعدادهم لم تكن معروفة لكنهم لم يتجاوزوا الخمسين فرداً، الإمدادات اللوجيستية كانت تأتيهم من دمشق ومن القرى الواقعة على طريق دمشق – القنيطرة وكانت تمر عبر حواجز المخابرات بكل سلاسة. أحد المطاعم في دمشق كان يرسل في سيارة مغلقة وجبات أطعمة وسندويتشات هامبرغر وبيبسي وسلطة وصهريج بنزين كلها كانت تمر عبر الحواجز التابعة للجيش السوري.

هنالك برج خاص بمديرية زراعة القنيطرة لمراقبة الأحراش من قبل موظفين تابعين للمديرية الذين لاحظوا بعض الأشياء والأمور التي لم يكن يشاهدونها من قبل مثل ( عظام خرفان، بقايا سندويش، علب كولا…إلخ)، وصل الخبر للمفرزة العسكرية الموجودة بقرية بريقة فأتى ثلاثة عناصر صف ضباط واتخذوا موقعاً  لهم على طريق مقبرة بئر عجم وبدؤوا باطلاق النار باتجاه البرج، علماً أن المسافة ١٥٠٠م ومدى البندقية المجدي فقط ٥٠٠ م، ولم يكونوا على أية حال يشاهدون أهدافاً. بعد ساعتين ستنتهي الذخيرة فيذهب العناصر لمقابلة الأهالي أمام المسجد وبعض الدكاكين يخبرونهم بأن مهمتهم انتهت والآن جاء دورهم، أي سكان القرية، بأن لايستقبلوا أياً من عناصر الجيش الحر إذا نزلوا من الأحراش إلى القرية. لم تمض أيام حتى أتى الجيش الحر إلى القرية القديمة واستولى عليها ثم القرية الجديدة كذلك الأمر ومبنى البلدية وهكذا تمددوا حتى وصلوا إلى طريق بريقة حتى اقتربت المسافة بينهم وبين مفرزة المخابرات السورية بما لا يتعدى المئة متراً. استولوا كذلك على مقسم الهاتف في بئرعجم فانقطعت الاتصالات واعتمدوا إعدادية الشهيد نزار حاج حسن مقر لهم. بعد ٢٤ ساعة بدأت قذائف الهاون تنهمر على القرية بشكل متقطع، وفي الليل كان اللواء ٦١ يرمي القنابل المضيئة أما ضربات المدفعية فكانت تأتي من اللواء ٩٠، كل هذه القذائف كانت ترمى بشكل عشوائي على منازل المدنيين هناك. الفرصة الوحيدة المتوفرة لهروب العائلات ونزوحها من القرية كانت حين يتوقف القصف. في أحد الأيام اتصل بي ضابط برتبة عقيد ولا أدري من أين أتى برقم موبايلي وبدأ يسألني عن أعدادهم ومواقعهم ونوع أسلحتهم. قلت له: نحن لا نعرف أين هم، نتسمر في بيوتنا ولا ندري ماالذي يحدث في الخارج والقذائف تنهمر علينا. قال لي: “يجب أن تتحملوا القصف حتى يتم تصحيح الهدف.” أعاد الإتصال بي مرة ثانية وكرر نفس الأسئلة . خلال يومين سيشتد القصف ويصبح كثيفاً ومتلاحقاً.

في أحد أيام الجمعة ٢-١١-٢٠١٢ أصبح القصف خفيفاً لمدة ساعة، فطلبت من جاري الكوسوفي، يحمل جنسية سورية، ويملك سيارتين، أن يأخذ زوجتي وابنتي إلى دمشق مع أفراد عائلته وبعض الجيران أيضاً. كانتا آخر سيارتين تغادران المنطقة. بعد ذلك لم يستطع أحد أن يغادر. بعد ذهابهم بحوالى نصف ساعة حاولت الذهاب مشياً إلى قرية رويحينة  التي تبعد ٢ كم وكانت تحت سيطرة النظام كي أشتري خبزاً ودخاناً لكن القصف اشتد وصار كثيفاً فعدت فوراً إلى البيت وتم إغلاق الطريق. ومن يومها تغيرت نوعية القصف من هاونات إلى مدفعية ودبابات. في قرية زبيدة الغربية شرق بئر عجم بحوالي مسافة كيلو متر واحد تتواجد سرية دبابات تقصف بلا هوادة، إلى القصف المدفعي (الهاوزر بعيد المدى) من قمة تل الحارّة إلى جميع أنواع القذائف منها الانشطاري والعنقودي والفسفوري. استمر الحال على ما هو عليه. وضعنا كمدنيين حدث ولا حرج: لاماء ولا كهرباء ولا طعام أو خبز، كنا نأكل العشب وأوراق الشجر.

يوم الإثنين ٥-١١-٢٠١٢ اتصل ابني بي حوالي الساعة التاسعة صباحاً من قدسيا وأخبرني أن ما يزيد عن ٥٠ شاباً شركسياً “في طريقهم إلى القرية لإخراجكم منها.” قلتُ له أن الوضع صعب للغاية ومن المستحيل دخولهم المنطقة، فهي على خط النار والقصف لا يتوقف. لكنهم أتوا من كودنة – بريقة وهي طريق فرعية. اجتمعوا مع قائد اللواء ٦١ وكان متواجداً أيضاً ضابط نمساوي رفيع المستوى من قوات الآندوف على آخر حاجز عسكري بقرية بريقة وجرت المفاوضات أن يسمح لهم بالدخول وإخراج ما يقارب ٣٠٠ فرد متوزعين في ملاجئ يلفها ظلام دامس. اتصل ابني بي مرة ثانية وقال لي “إن الجيش سمح لنا بالدخول ونحن في الطريق إليكم.” كررتُ انزعاجي ورفضي للفكرة بسبب القصف المتواصل وإن الليل اقترب. قال لي، “سيتوقف القصف الآن. ثم انقطع الاتصال بيني وبينه فجأة، واعتقدتُ أنه عاد إلى دمشق هو والذين معه ولم أدر ما الذي حدث بعد ذلك.

في صباح اليوم التالي ٦-١١-٢٠١٢ أتى إلى منزلي رجل من أهل القرية وكان معي إثنان من أبناء الجيران وصديق لي لواء متقاعد. ملامح الرجل لم تكن على مايرام، بدأتُ السؤال عن أحواله وأحوال عائلته، لكنه ظل متردداً وعلامات القلق والحزن بادية على وجهه: “ابنك ينال راح”، قال هذه العبارة وصمت. لم يخطر على بالي أنه يتحدث عن ابني للوهلة الأولى، لأنني اعتقدت أنه عاد إلى دمشق بعد إلحاحي عليه بالعودة. استطرد الزائر، “ابنك ينال استشهد الساعة ٣:٤٠ عصراً يوم ٥-١١-٢٠١٢. بعد ذلك اتصل بي الضابط العقيد وقال لي: “قتلنا ابنك، وبتعرف الوطن بدّو تضحيات” وكان قصده أن العصابات الإرهابية تقتل المدنيين. السيارات التي حاولت الدخول إلى بئر عجم عادت إلى قرية بريقة. وفي هذه الأثناء كان طاقم محطة الإخبارية التلفزيونية متواجداً هناك حين أتى الشاب الذي كان يقود السيارة التي أقلت ابني وثيابه مغطاة بالدم. أجبروا الشاب على تغيير ملابسه وأجروا مقابلة تلفزيونية معه تحت تهديد السلاح والضرب ثم أرغموه على القول أن العصابات الإرهابية قتلت ابني. مع العلم أن ابني جلس في المقعد الذي من جهة شرق الطريق، وشرق الطريق بين بريقة وبئر عجم تحت سيطرة الجيش النظامي. من هنا علمت أن الجيش هو الذي أطلق النارعلى ابني.

أخذوا جثته إلى مسجد قرية كودنة وتمت تسجيته هناك، بينما أنا محاصر حصاراً تاماً مع أهالي القرية. اتصلت بزوج ابنتي وسألته عن الجثة، جثة ابني. فقال لي أنه تم أخذ الجثة من قبل مديرية الصحة إلى مستشفى ممدوح أباظة في مدينة البعث. اتصلت بأخي وسألته: لماذا لم يتم دفن الجثة؟ فقال لي إنهم “لا يسلمون الجثة بسبب اختلاف الكنية.”

سألت أحد الموظفين بمحافظة القنيطرة وهو صديق لي أن يساعدني في هذا الأمر، فقال “تعالوا وخذوا الجثة.” اتصلت بأخي وطلبت منه أن يذهب ويستلم الجثة. ذهب أخي مع مجموعة من الشباب في قدسيا إلى مستشفى ممدوح أباظة واستلموا الجثة. ثم قال لي صديق ابني أنه حين النزول إلى قدسيا سيضعون الجثة في براد الجثث بجامع الجادات بقدسيا. رفضتُ ذلك مع إصراري أن يتم الدفن في نفس اليوم. قال لي، “بإمكاننا انتظارك حتى تخرج من الحصار وسيكون باستطاعتك رؤيته وحضور الجنازة والعزاء.” قلت، أنا لا أعرف متى أخرج من هذا الحصار، دعوا أمه وأخواته يرونه ثم ادفنوه اليوم.

يوم الخميس ٨-١١-٢٠١٢ اشتد القصف صباحاً بشكل هستيري حتى الواحدة ظهراً ثم توقف فجأة ولم نر بعدها سوى سرايا من مشاة الجيش النظامي تأتي من شرق القرية ثم تتغلغل فيها بدون أن يطلق الجيش الحر أي طلقة باتجاههم وكان تعدادهم يقارب ال٨٠٠ عسكرياً، اعتقدنا كمدنيين أن اتفاقاً حصل بين الطرفين على عودة الجيش النظامي إلى القرية ويكون بعدها بمقدورنا مغادرتها . كانت أوهامنا هي التي تحدثنا بذلك، إنه اليأس وقد أطبق على رقابنا.

استولوا على القرية ودخل قائد الحملة مبنى البلدية يعلن الانتصار والتطهير. بعد ذلك سمعنا الرصاص يلعلع في السماء وبدأ العساكر يهربون وإذ بالجيش الحر يقوم بهجوم معاكس وقائد الحملة داخل مبنى البلدية لا يدري ما الذي يجري في الخارج إلى أن داهم بعض العناصر مبنى البلدية، فحاول الهرب إلى الجامع الذي بمقابل مبنى البلدية ثم صعد إلى المنارة وقذف بنفسه منها ومات. حين أتى الليل حاولنا الدخول مع مجموعة من المدنيين إلى ملجأ تحت أحد البيوت ثم صعدت أنا وشاب إلى البيت بحثاً عن الماء. كدنا نموت من العطش والجوع وكان الظلام دامساً ولم يكن باستطاعتنا إشعال قداحة لأن المكان سيتم قصفه على الفور. وبينما أنا على هذه الحالة وقعت يدي على كتف آدمية دافئة بعض الشيء، وإذ بعسكري متكور على نفسه يحمل بندقية ومعه ١٢ آخرين، هم بقايا المجموعة التي انسحبت ولا يعرفون أين يذهبون. طلبوا ماء وطعاماً. سألته، “أين طعامك وماؤك؟” نزلتُ إلى الملجأ وأخبرت من معي أن في البيت ١٣ عسكرياً هاربين.

اليوم التالي ٩-١١-٢٠١٢ السادسة صباحاً وقفت على باب الملجأ فرأيت مجموعات من الجيش الحر يبحثون بين البيوت عن الهاربين، وإن عرفَ العساكر المختبئون في البيت بالأمر سنتحول إلى دروع بشرية بين الطرفين فقلت للذين معي أن نهرب إلى البرية فخرجنا رجالاً ونساءً باتجاه قرية زبيدة، وفي طريقنا قبل مغادرة الحارة قابلتنا قوة من الجيش الحر وسألنا أحدهم “إلى أين أنتم ذاهبون؟” فقلت له، نحن لا نريد أن نبقى أكثر من ذلك، سنترك كل شيء هنا. في هذه اللحظات أتى عنصر من الجيش الحر راكضاً من جهة الملجأ الذي كنا فيه وأخبر قائد القوة بوجود عساكر في البيت الذي غادرناه فتركونا إلى سبيلنا وهجموا على البيت الذي يتواجد فيه العسكر. مشينا باتجاه البرية وكان الضباب كثيفاً ساعدنا على ألا يكتشفنا أحد  لكن ذلك لم يمنع الدوشكات من أن تقصف باتجاهنا لكننا لم نصب بأذى. صادفنا في الطريق حقل ألغام عبرناه ووصلنا إلى قرية زبيدة الغربية، استقبلنا أهالي القرية ثم انقسمت مجموعتنا إلى قسمين نساء ورجالاً. في الصباح تناولنا الإفطار وشحنّا الموبايلات وأخبرنا أهالينا في دمشق أننا خرجنا. بعد ذلك بدأت بقية الملاجىء التي في بئر عجم تخرج.

في ١٠-١١-٢٠١٢ خرج جميع المتبقين في القرية ولم يبق أحد هناك. بعد ذلك أخذني أحد الشباب إلى مدينة البعث التي تقع في الطريق قبل مدينة القنيطرة. كنت قد أخبرت ابنتي أنني خرجت من بئر عجم وعن مكان تواجدي. جاري الكوسوفي الذي أصبح يقيم في مدينة صحنايا عرف من زوجتي أنني في مدينة البعث فأتى بسيارته من صحنايا وأخذني إلى قدسيا حيث منزل أحد أقربائي. كان عزاء ابني منتهياً، فطلبت من أحد أصدقائه أن يأخذني إلى المقبرة لأرى قبره، فقال لي “إلى يوم غد.” لم أعرف لماذا إلى يوم غد. في اليوم التالي أخذني بالسيارة إلى المقبرة وأسرّ لي بعد ذلك أنه حصل لي على موافقة لرؤية القبر من مسافة ١٥ متراً فقط، وهذا ما حدث. ولم أستطع بعدها رؤية القبر لأنني لم أحصل على موافقة. بعدها بوقت قصير غادرت سوريا أنا وعائلتي إلى الأردن في ٢٦-١١-٢٠١٢. بقينا في عمان إلى تاريخ ٢٠-١٢-٢٠١٦ ثم غادرنا إلى فرنسا. علمت بعدها أن كتائب لجبهة النصرة تسيطر على القرية.

من حديث على الموبايل

-آخر مرة خرجت فيها من البيت في طريقي إلى بيت صديقي الكوسوفي، سمعتُ دوياً هائلاً، وإذ بقذيفتين ضربتا بيتي. ومن يومها لم أعد إليه. لم يبق لا سقف ولا حيطان ولا أبواب.

-مرة وقعت قذيفة على بئر عجم وكان هنالك ثلاثة شبان يدخنون أما باب أحد البيوت. صاروا قطعاً صغيرة لملمناها ووضعناها في أكياس نايلون.

٧-١١-٢٠١٢

في قرية بئر عجم خمسة ملاجئ فقط تنعدم فيها أي خدمات، لا ماء ولا كهرباء أو حمامات، بمساحة ١٠٠ متر مربع للملجأ الواحد. في أحدها انحشر عدد كبير من الأهالي مع بطانياتهم وبعض الفرش الإسفنجية وما تبقى من مؤن البيت. صدف وجود امرأة حامل في آخر أيامها بدأت تشكو آلام الطلق ووقعت على الأرض دون أن يكون هنالك أي مادة إسعافية أو حتى طبيب بين الموجودين. صرخت إحدى النساء الحاضرات وأقنعت المرأة التي على الأرض بأن لها تجارب كثيرة في التوليد، وعلى الفور تضامن الجميع ووضعوا ساترا من البطانيات وتمت عملية الولادة على أكمل وجه. كتم الجميع أنفاسهم خوفاً من طارىء ما قد يحدث حتى سمعوا بكاء المولود الجديد، وبعد يومين سنحت الفرصة للجميع بالخروج والتوجه مشياً على الأقدام إلى قرية زبيدة الغربية وسط الضباب والصقيع. الآن الرضيع وأمه ووالده في النمسا، والمرأة التي قامت بالتوليد في ألمانيا.

بني هذا النص على شهادة حية لكل من عامر الداغستاني من قرية دير فول وسمير تسي من بير عجم، وكلاهما قريتان سوريتان هُجر سكانهما بشكل كامل في سياق الحرب السورية. وينشر موقع صالون سوريا هذه المادة في سياق مشروع لكتابة قصص تروي ما جرى للقرى والمدن السورية منذ ٢٠١١ حتى الآن.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • عصفورية إلى الأبد

      عصفورية إلى الأبد
      عصفورية  "إلى الأبد" سماء.. محض سماء محفوظة في علبة سردين، دون أن ينقطع نفسي وأنا أتفرج على الدلفين الخارج من المرآة التي أقف قبالتها. خذ المكان الى آخره، لن ينفع المكر لحظة تفسير
    • حمص: مدينة اخترعها الله على مهل

      حمص: مدينة اخترعها الله على مهل
      حمص مدينتي. عشتُ قسماً من طفولتي في الخالدية .يقول صديقي علاء الدين عبد المولى : «الخالدية خراب حمص».تخيّل أن خراب طفولتي هناك، ولم أجرؤ على كتابة حرف واحد عنها. كان بيتنا يقع قرب الملجأ في شارع شها

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬