جيش الإسلام من الصعود إلى السقوط

جيش الإسلام من الصعود إلى السقوط

جيش الإسلام من الصعود إلى السقوط

By : Ammar Diob عمّار ديّوب

انطلقت الثورة السورية، ولم تكن “الجيوش الإسلامية” قد ظهرت بعد. رافق انطلاقتها، أشكال تنظيمية لضبط حراكها المتوسع تباعاً، كالتنسيقيات، ولاحقاً المجالس المحلية، وكذلك كتائب صغيرة للجيش الحر؛ الأخيرة كانت إمّا من ضباط وجنود منشقين، أو كانت مجموعات شعبية مسلحة. تصاعد الكلام عن التيار السلفي والجهادي والمعتدل، وتنويعاته مع إطلاق أفراد بعض هذه التيارات من معتقلات النظام السوري وسجونه في حزيران 2011، ولاحقاً عبر العراق، وبوابة تركيا وقدوم آلاف الجهاديين من كل العالم.

الثورة التي امتدت في كل سورية، أخافت النظام، ولم تتمكن كل خبراته الأمنية والعسكرية، ولا سيما في ثمانينات القرن الماضي أو في لبنان، من مواجهتها؛ فكانت محاولة تلغيمها بالتنظيمات السلفية والجهادية من ناحية، واستجلاب كل الدعم الإيراني وميليشياته العربية وغير العربية، ولاحقاً التدخل العسكري الروسي في 2015.

الإسلاميون قادمون

في حزيران 2011، أطلق النظام أكثر من 1500 سلفي وجهادي، ولم تنته أكثر من أربعة أشهر، إلا وأعلنت الحركات الجهادية والسلفية عن وجودها، كجيش الإسلام وأحرار الشام ومجموعات أخرى مرتبطة بالإخوان المسلمين؛ تشكلت هذه المجموعات ولم تنخرط ضمن كتائب الجيش الحر.

يمكن أن نلاحظ هنا، أن الثورة اعتمدت، كأشكال للتعبير عنها، المظاهرات والاحتجاجات الشعبية العارمة، وبما ينظِّم هذا الحراك ويحميه من القتل. الإسلاميون على اختلاف حركاتهم، لم يشاركوا بهذا التعبير، واعتمدوا النهج العسكري والتنظيمي الحديدي، واستقدام الدعم الخارجي بكل أشكاله، وبالتالي هناك اختلاف كامل بين مشروع الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكافة السوريين، وبين مشروع الجهاديين والسلفيين في أسلمة الثورة والوصول للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية والارتباط مع التنظيمات الجهادية العالمية كحال تنظيم “داعش والنصرة”، وهناك مجموعات صغيرة لا تخرج عن التوجه ذاته، أي إسلامية.

زهران يجادل

يعتبر جيش الإسلام الأكثر “محليةً” و “سوريةً”، وقد دافع زهران علوش طويلاً عن جيشه ضد اتهامات جبهة النصرة والجولاني والبغدادي الذين قالوا عنه بأنّه وطني، ويحافظ على سايكس بيكو، بينما هم أمميّون وليس من وطن لهم! مشكلة زهران وبقية قادة جيش الإسلام، تكمن في أنهم ندّدوا بمفاهيم الديمقراطية والحرية، واعتبرها زهران علوش تعبيراً عن حكم القوي وكفراً، وأن سورية مكونة من طائفة كبيرة وهي السنة ومذاهب صغيرة ويجب محاربتها ويجب أن تنصاع للأكثرية الدينية.

أريد القول إن قادة التيارات السلفية والجهادية لم تعترف بالثورة الشعبية، ورأت ما يحدث في سورية كما رآه النظام ؛ أي إمارات سلفية وجهادية، وحرب سنية ضد “تحالف الأقليات” كما أشار في إعلامه ونقاده. التوافق السابق بين النظام والإسلاميين هو ما دفع كثيرين للاستنتاج أن النظام أخرجهم من معتقلاته لتخريب الثورة وأن الإخوان أيضاً تبنوا الرؤية ذاتها وساهموا بقسطهم في تخريبها، وهذا صحيح.

بدايات جيش الإسلام

سيكون موضوع مقالي هذا هو جيش الإسلام، وسنركز على صعوده وسقوطه في أيامنا هذه، أي نيسان 2018، تاريخ تهجيره من منطقته “دوما” التي انطلق منها عام 2011 وتوسع في كل سوريا؛ ثم مع تتالي الفشل للحركات الإسلامية والثورية قبلها، تقوقع فيها ليكون سلطة على أهل دوما فقط! ثم تمّ تهجيره منها، وبالتالي سقطت سلطته بالكامل وكل مشروعه الإسلامي الحنبلي. زعيم جيش الإسلام زهران علوش، كان طموحه أن يكون أحد أقوى زعماء سورية، ولا سيما بعد جولته كزعيمٍ مكرّس إلى كل من تركيا والسعودية ودول أخرى في 2015، ومقتله لاحقاً مع زملاء له في قيادة جيش الإسلام في 2015 بغارة روسية، وربما كان الأمر لإنهاء طموحه وطموح جيش الإسلام والداعمين له في منطقةٍ تسيّج العاصمة وفرض شروطهم على النظام وعلى السوريين.

اعتُقِل زهران علوش 2009 بسبب نشاطاته الدعوية السلفية والنشاط السياسي حينذاك، وبسبب تفاهمات أمنية بين النظام والمحيط الإقليمي وأمريكا لإنهاء هذا النشاط؛ فهو رجل دين ولديه طموح سياسي، ويفهم العالم وفقاً لهذه المرجعية، ويعمل في السياسة وفقها. والده عبد الله علوش أحد مشايخ مدينة دوما، وتتلمذ على يديه، وكذلك تتلمذ على يد أبرز رجال الدين السعوديين الوهابيين كابن باز وسواه. والد زهران، وسكان منطقة دوما، يدينون بالمذهب الحنبلي، وتعد دوما والرحيبة، من أكثر المناطق التي ينتشر فيها هذا المذهب، بينما بقية سُنّة سورية تنقسم بين الشافعية والحنفية.

في بلدات الغوطة ينتشر، كما في كل سورية، الوعي المناطقي والعائلي، ولو أضفنا المذهب الديني المختلف، فسيكون لدينا خلاف متعدد الأسباب، وهذا إشكال آخر سيتعمق تدريجياً مع تطوّر الثورة واستيلاء السلفيين والجهاديين على أغلبيَّة حراكها، وتحوله إلى حراك عسكري كامل. إشكال ثالث أن الثورة ذاتها لم تطرح رؤية وبرنامجاً وقيادة لها، فكان التعدد والفوضى في أشكالها السياسية والعسكرية والإغاثية والتعليمية ثغرةً وأزمة كبرى تدخلت من خلالها التنظيمات الإسلامية وفرضت سيطرتها التدريجية، ولا سيما مع 2013، وبالتالي أصبحت تفرض سلطة كاملة على الثورة في الغوطة وفي أغلبية مدن سورية.

الأشكال التنظيمية لجيش الإسلام

لننظر في رؤية السيد زهران، باعتباره مؤسس جيش الإسلام، وزعيمه إلى لحظة مقتله 2015. شكّل السيد زهران مع رفاقه السلفيين “سرية الإسلام” في أيلول 2011. ثم ومع اشتداد عنف النظام، وتبيّن محدودية رؤية وقوة كتائب الجيش الحر في إلحاق الهزيمة بالنظام، رغم تحريرها لأغلب مناطق سورية من سيطرته، وطرده خارجها وخارج الغوطة بنهاية 2012، وهناك الدعم الواسع لزهران إقليمياً، وانتقال كتائب إليه، شكّل “لواء الإسلام” في 2012. وحينما اشتد عوده، وانضمت إليه كتائب كثيرة “64، وبعضهم يقول 55 كتيبة ولواء”، شكّل “جيش الإسلام” 2013، وبعدها أصبح جيش الإسلام سلطة كاملة في دوما خاصةً، وأصبحت له كتائب في كل سورية تقريباً.

تتألف البنية التنظيمية لجيش زهران من 26 مكتباً إدارياً، وهي لا علاقة لها بالمجال العسكري، بل تهتم بمختلف شؤون الحياة اليومية، من صحة وتعليم وخدمات وإغاثة وسواها. وقد حلًت هذه المكاتب بالتدريج مكان المنظمات المدنية المرتبطة ببداية الثورة، وكل من رفض الانصياع تم التضييق عليه وملاحقته. إذاً جيش الإسلام، ولا سيما في دوما، فرض سيطرة على كافة الفصائل وحلّها بالقوة، وبنى شبكة أمنية واسعة، وهناك من يتكلم عن 21 فرعاً أمنياً يتبع له. أيضاً شكّل مرجعية شرعية خاصة به، ولديه ثلاثة سجون “التوبة، والباطون والكهف” وهي غير مقرّات الاعتقال. زهران علوش كرجل دين سلفي، فهو لا يمكن أن يقرّ لرجل دين آخر بالزعامة السياسية والعسكرية، فكيف للسياسيين من غير الإسلاميين؟ هذا الرجل وباعتباره ينتمي إلى عائلة كبيرة، استطاع مع بعض العائلات الدومانية الكبرى تشكيل سلطة شمولية، وفرض آلياتها على دوما بأكملها، وأجبرت الفصائل على حلِّ نفسها، ولاحقت أقوى الفصائل “كفصيل شهداء دوما” وأعدمت قائده أبو علي خبية وهو من حرّر كلَّ دوما وأخرج النظام منها. وبذلك تشكلت “دويلة زهران علوش” حيث يسود الإسلام في ربوعها.

سياسات جيش الإسلام

أراد زهران أن يفرض سلطة كاملة ليس على دوما بل وعلى كل الغوطة، وكذلك رغب أن يكون أبرز زعماء سورية، وهناك من يقول إنه حلم بأن يكون رئيساً على سورية. زهران هذا خطط لمستقبله ولفرض سيطرته منذ أن أنشأ “سرية الإسلام”، وبالتالي كل التطورات اللاحقة، من محاربته لداعش وإعدام بعض أفرادها، ثم رفض الاعتراف بالمجلس الوطني والائتلاف لاحقاً، وكذلك رفض المجلس العسكري في ريف دمشق وهيئة الأركان وسواها، وأيضاً حروبه المتتالية مع فصائل الغوطة، ولا سيما جبهة النصرة وفيلق الرحمن، خاصة في 2016.

خفت توهّج جيش الإسلام بعد مقتل زعيمه 2015، واستلام عصام البويضاني “أبو همام” زعامته. وإذا كان زهران يرفض دوراً محدوداً في السياسة المؤثرة في المعارضة، فإن قيادة جيش الإسلام الجديدة وافقت على مفاوضات جنيف والأستانة وبدأت تتدجّن ضمن التوافقات الإقليمية والدولية، ولإنقاذ أنفسها وجيشها وأن يكون لها حصص في أي نظام سياسي قادم. طموحهم الأخير هذا انبنى على أوهام ساقتها روسيا لقيادة جيش الإسلام ولحركات مسلحة كثيرة، ضمن صفقات لقاءات الأستانة خاصة وجنيف كذلك. وكذلك بسبب التقارب بين السعودية وتركيا وروسيا من ناحية أخرى، وباعتبار جيش الإسلام ممولاً من السعودية بشكل كبير. طبعاً زهران نفسه غيّر من سياساته، أي اعتراف للشعب بدوره في تقرير مستقبله، وخفف من الكلام عن الرافضة، واعتبر العلويين، بعد تكفيرهم، جزءاً من الشعب السوري، وأصبح أقرب للسياسة المناهضة لداعش ولجبهة النصرة. إذاً جيش الإسلام حركة عسكرية وسياسية ودينية براغماتية “وطنية” وليس لها أهداف أكبر من سورية كحال التنظيمات الجهادية والسلفية، وهذا ما دفع البعض ليصفه بالسلفية الشامية، أي أن حدود نشاطه هي سورية؛ ومناهضته لداعش وللنصرة تأتي في سياق الحرب على الإرهاب كما تعلنها أمريكا وروسيا. السيء أن بضاعته هذه لم تشتريها الدولتان العظميان.

اقتتال سلفيي وجهاديي الغوطة

إشكالية هذا الجيش أنّه رفض تشكيل قيادة موحدة للغوطة أو لسورية، وأراد الاستئثار بكل أشكال السلطة والحياة في مناطق سيطرته كما أوضحنا أعلاه؛ فقد سيطر عسكرياً واقتصادياً ومدنياً. عدم قدرته على تشكيل قيادة موحدة للغوطة كرّس الانقسامات المحلية القديمة، وأصبحت الغوطة قطاعات عسكرية مقسمة بين هذه الفصائل داخلياً، والنظام يحيط بها من الخارج، أي أن جيش الإسلام في دوما، وأحرار الشام في حرستا، وفيلق الرحمن في مناطق أخرى. سياسات الاستئثار أجبرت فصائل كثيرة على التوافق مع الفيلق خوفاً من الاجتثاث، واضطر الفيلق للتحالف مع جبهة فتح الشام “النصرة سابقا”. إن تكريس هذه الإقطاعات ظهر مع فشل القيادة الموحدة المُشكّل في 2014، وظهر ذلك للعلن 2015، ويشار أن فشلها كان بسبب الخلافات السعودية القطرية وانعكاس ذلك على الفصائل المدعومة من قبلها، وبالتالي الانقسام مجدداً والاقتتال، وكذلك مع فشل مجلس القضاء الموحد في 2015. في 2016 حدثت أكبر عملية اقتتال بين جيش الإسلام من ناحية وبقية فصائل الغوطة من ناحية أخرى، وراح بسببها قرابة ألف مقاتل! وحينها تقدم النظام إلى جنوب الغوطة، أي منطقة المرج، والتي توصف بسلّة الغوطة الغذائية، واحتلها بالكامل. أي أن الخلافات داخل الغوطة والاقتتال الذي فتك بأكثر مما خسرته الغوطة مجتمعة في حروبها مع النظام سمح للأخير باحتلال قسم كبير من الغوطة، وتأمين طريق المطار وإحكام السيطرة عليها وحصار أهلها.

النظام الذي ضَعفَ جيشه وتفكك وطالب بتدخل عسكري روسي 2015 عبر إيران، أعطاه جيش الإسلام والفصائل الأخرى منطقة واسعة من الغوطة هدية مجانية، وضحت بقرابة ألف مقاتل ثمناً لتلك الهدية.

انتقادات لجيش الإسلام

هناك انتقادات تُوجّه لجيش الإسلام، ونوضح هنا أنّه لم يعد يفيد الاكتفاء بتركيز النقد على دور النظام في قمع الثورة. فهناك مشكلات خاصة بالمعارضة من ناحية، وكبرى بما يخص التيار الإسلامي بكل تلويناته، وضمنها الإخوان المسلمون. جيش الإسلام هذا وغير ما ذكرنا أعلاه، هو متهم بالتخاذل عن معارك كثيرة؛ فلم يشارك بمعارك القلمون، وحتى معركة عدرا العمالية، الخاطئة كلية، اكتفى بإمداد الطعام للمقاتلين. هناك كذلك استيلاؤه على عتاد عسكري كثير كان هو مسؤولاً عن وصوله إلى الغوطة من إدلب في 2015، وهناك اتهامات بالفساد ومصادرة ملايين الدولارات لصالحه، وهي مُرسلة إلى كل فصائل الغوطة، وأيضاً يُتهم بسيطرته على أنفاق كثيرة مع النظام، واحتكاره المواد الغذائية والأدوية وسواها، وجنيه ملايين الدولارات بسببه وعلى حساب إفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم. حدثت الكثير من المظاهرات ضد نظام جيش الإسلام الشمولي، وكانت بسبب الجوع، أو مظاهرات سياسية للإفراج عن المعتقلين، أو لإيقاف الحروب الداخلية في الغوطة.

سميرة ورزان وناظم ووائل

هناك قضية خطيرة، وتخص كل ناشطي الثورة السورية، وهي اختطاف الناشطين الأربعة في دوما، رزان زيتونة وسميرة خليل وناظم حمادي ووائل حمادة، ويتهم جيش الإسلام فيها. وتعد تلك القضية من مسؤولية ذلك الجيش فهو المسيطر على دوما، ولو لم يكن مسؤولاً، فبالتأكيد هو قادر على معرفة المسؤولين عنها، وإظهار مصير الأربعة المستجيرين بدوما، والملاحقين من النظام.

تخريب الثورة وسقوط جيش الإسلام

يتحمل جيش الإسلام مسؤوليات كبيرة؛ وإذا كان النظام أراد تخريب الثورة عبر إطلاق زعماء إسلاميين من سجونه، فإن سياسات جيش الإسلام كلها لعبت دوراً في تخريب الثورة وتسهيل مهمة هزيمتها، بهزيمة كل مؤسساتها المدنية والشعبية واحتكارها لصالحه. هذا الجيش بنى سلطة شمولية وقمعية وتوازي سلطة النظام ذاته؛ فعل كما فعلت جبهة النصرة في إدلب، والبغدادي في الرقة، من إذلال وتجويع للسكان. أصحاب المشروع الإسلامي لم يتعلموا الدرس الحداثي بامتياز، أي التآلف مع العصر وإنتاج إسلام سياسي يتوافق مع الديمقراطية والأغلبية والأقلية بالمعنى السياسي، وتحييد الدين عن أن يكون مرجعية لشؤون الدنيا والاكتفاء بما يخص الروحي والإلهي.

تجربة الحركة الإسلامية السورية، بتعدديتها، وبدءاً بالإخوان المسلمين، كان فيها براغماتية كبيرة وغش للحركة السياسية السورية العلمانية، وللشعب الثائر، عبر تخريبها لكل مؤسسات الثورة وإفشالها. وبخصوص التديّن والتطييف لم يقدموا مشروعاً سياسياً موحداً بالمعنى الديني أو الطائفي، وبالتالي خرّبوا حتّى الإسلام الشعبي، وعمقوا التمايزات المحلية القديمة من مناطقية وعشائرية وعائلية ودينية، واستندوا إليها كحال جيش الإسلام وسواه.

جيش الإسلام، ورغم طموحاته الكبيرة، لعب دوراً كبيراً في تخريب الثورة، ولم يعترف بأهدافها، ولم يستطع إنجاز مشروع إسلامي، وكان سبباً في هزيمتها، وحتى هزيمة المشروع الإسلامي في سورية. الآن تخرج قياداته بسيارات دفعٍ رباعي، أي حتى وهم يغادرون مدينتهم المدمرة، يمايزون أنفسهم عن الشعب، وربما يخافون أن يُقتلوا في باصات النظام التي ينقلون فيها مع سكان دوما المهجرين.

جيش الإسلام، يمثّل حركة فاشلة منذ بدايته؛ فكل خططه القائمة على الاحتكار والأسلمة والسلطة الشمولية منافية لقيم الحرية والكرامة والعدالة. أي منافية لمفاهيم العصر والاعتراف للشعب بحقوقه ودوره في تقرير شؤونه ومستقبله. ليس جيش الإسلام وحيداً في مفارقته للعصر، فمثله كل حركات الإسلام السياسي في سورية. الأسوأ أن المعارضة ذاتها تعاني من مشكلات تشبه مشكلات الإسلاميين، وإلا فما هي شرعية تزعمها للثورة، وهي لا تمثل إلا نفسها، وهذا حديث آخر ويتطلب بحثاً آخر.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬