السوريات والقرار 1325

السوريات والقرار 1325

السوريات والقرار 1325

By : Ghaida Al Oudat غيداء العودات

لم يكن ليخطر ببالي يوما أن أعيد قراءة قرار مجلس الأمن 1325 الخاص بالمرأة والقرارات اللاحقة به بعين امرأة تحيا في ظل الحرب، ولم أره بعد إعادة قراءته في نهاية ٢٠١١ كما رأيته من قبل. فأن تكون بلدك تحت ظل الحرب، يعني أن تصبح كل اهتماماتك البحثية متعلقة بما يخدم قضية البلد وعما يمكن أن يتم توظيفه والاستفادة منه بما يناسب الوضع الخاص للحرب.

كانت شؤون المرأة كلها تعنيني كامرأة تعيش في دول العالم الثالث حيث توجد أردأ القوانين بحق النساء على مستوى المجتمع الذكوري سلطةً وشعباً، بقوانينه وممارساته وأعرافه وتقاليده. ورغم حساسية تلك القضايا وأهميتها، لكن يبقى العمل عليها ممكناً، والوصول لنتائج متاحاً، ولو كان بطيئاً وبطيئاً جداً. أما تحت ظل الحرب فتتغير الأولويات لتتصدرها شؤون طارئة نتيجة تضاعف سوء وضع النساء في ظل الحرب، والإمعان في تهميشهن، وتعرضهن المضاعف للعنف.

تصبح تساؤلات عديدة هاجساً يومياً، كيف يمكن حمايتهن؟ كيف يمكن توفير احتياجاتهن الخاصة؟ ثم كيف يمكن إشراكهن في عمليات الحفاظ على الأمن وبناء السلام، ومن ثم ضمان تمثيلهن لإسماع صوتهن في عملية تسوية الصراع. كيف يمكن ضمان تواجدهن في جميع مستويات صنع القرار كشريك متساوي لمنع الصراعات وحلها وتحقيق السلام المستدام.

ليس هناك أفضل من القرار 1325 وما لحقه من قرارات للنظر في كل تلك الأولويات والبحث عن مخارج لها، والمطالبة بتطبيقها، وحسب معرفتي الخاصة فقد بدأت المنظمات الدولية والعالمية بإلقاء الضوء على القرار وضرورة إشراك النساء السوريات منذ نهاية عام ٢٠١٢. وتتالت الدعوات لتفعيله والحديث حوله من كل الاتجاهات، وترافقت بمؤتمرات ودورات تدريبية تدعو لضرورة تضمين النساء في العمل السياسي الآني والمستقبلي.

كانت كل تلك الدعوات، الحكومية تارة وغير الحكومية تارة أخرى، تطرح الموضوع وتتناوله بشكل نظري لا تخرج نتائجه عن إطار الورق المكتوب، ولا يتم تفعيل تلك النتائج على أرض الواقع بطريقة منظمة تمكن من الوصول لنتائج حقيقية وليس نظرية. وإن تم القيام بأي مشاريع مبنية عليها فلا يتجاوز تأثيرها العشرات، بتأثير آني سرعان ما يزول دون أن يبني نتائج أو ينجز خطوات باتجاه الهدف المنشود. وفي أحيان كثيرة تكون بعض النساء عاملاً معطلاً، فمنهن من كن يشاركن وهن لا يؤمن بمدى أهمية مشاركة النساء في العمل السياسي ومراكز صنع القرار، ولا في بناء السلام، ولا أهمية أن يكن شريكات متساويات ومتكافئات في جميع المراحل، بل ربما يعتبرن الرجال قوامين على النساء. ومنهن من لم تكن تطرح نسبة مشاركة في مراكز صناعة القرار بأكثر مما وهبت سلطة الديكتاتور لهن (١٢%).

كثيرات قابلتهن لم يكن يعين خطورة الوضع الذي كان يتم أحياناً إلقاء الضوء عليه؛ فيُقللن من حجم أثر الحرب الكبير على النساء والفتيات والأطفال، ويطرحن القضايا وكأن الحرب ستنتهي بين ليلة وضحاها، ويؤكدن أننا لن نحتاج للتفكير في كل القضايا التي طرحتها القرارات المتعلقة بوضع النساء في ظل الحروب بدءاً من القرار 1325 وما لحقه.

في ظل السنوات السبع الماضية، ونتيجة لآثار الحرب الواضحة على النساء السوريات جميعهن، بات من الضروري والمستعجل طرح وضع خطة عمل واضحة لتفعيل القرارات الأممية المتعلقة بالنساء، فلا يمكن الاعتماد على العمل العشوائي والمتناثر وغير المثمر. باتت الحاجة ماسة للعمل المنظم، بعدما تعرّضت النساء السوريات في كامل المجتمع لآثار النزاع بشكل مباشر، إن كان على صعيد كونهن أمهات أو أخوات أو بنات أو زوجات أو حبيبات، أو على صعيد كونهن مواطنات سوريات يحملن قضايا رئيسية يدافعن عنها وأهدافاً مهمة يسعين لها. ودون خطة عمل منظمة لن تتمكن النساء من الوصول لنتائج مرضية، إن كان فيما يخص تحسين وضعهن، أو الوصول لحقوقهن أو في إحلال السلام وحل النزاع .

تتطلب خطة العمل مشاركة كل السوريات بعيداً عن الخلافات السياسية والانتماءات الضيقة، فمن الصعب بل من المستحيل إحلال السلام دون مشاركة حقيقية لكل السوريات على امتداد مناطق سوريا للوصول إلى سلام شامل ومستدام. دونهن جميعاً ستبقى النار تحت الرماد ومن الممكن أن تشتعل من جديد مرة أخرى، إنهن الأقدر على الوصول للأسرة والتأثير في آلية تفكير أفرادها ودفعهم باتجاه العمل الجدي لإحلال الأمن والسلام في كافة المجتمع.

ورغم أن القرار 1325 لم يقدم خدمة مباشرة للسوريات، لا في خدمة النساء والفتيات في أوقات النزاع، ولا في حمايتهن من تبعات النزاع المسلح، لكنه يبقى قراراً مهماً يؤكد على الدور الهام للمرأة في بناء السلام وحفظ وتعزيز السلام والأمن، وعلى ضرورة مشاركة النساء في كل مراحل عملية السلام .

رغم سوء العمل على القرار 1325 في الوضع السوري، حتى من “الأمم المتحدة” التي حولت دور النساء من فاعلات حقيقيات، لمشاركات نخبويات غير فاعلات في شؤون السياسة، كما فشلت في فرض تبني قضايا النساء في الدستور والقانون من قبل كل أطراف النزاع. وفرغت “الأمم المتحدة للمرأة” المبادرات النسوية من مضمونها بالمطالبة بالعدالة والديمقراطية والسلام العادل، وحولت دور السوريات من حاملات قضايا رئيسية وهامة وشاملة، لحمامات سلام ولو كان هذا السلام هشاً وسطحياً ومجرد فقاعة.

عند النظر لشمولية القرار نرى بوضوح قدرته على التغيير وأهميته، وكيف يمكن استثماره لخدمة النساء آنياً ومستقبلياً، وكيف نستطيع عبره تنظيم تحالفات وشبكات نسوية ضاغطة لتنفيذه ولدعم النساء حيثما تواجدن.

كيف ستتمكنّ السوريات من العمل عليه إن لم يوحّدن جهودهن ويحرصن على تنفيذه؟ وكيف سيحملن قضايا النساء إن لم يدركن حقوق الإنسان عامة وحقوقهن خاصة ويؤمن بها؟ والأهم كيف سيتمكن من إحلال سلام عادل وشامل ومستدام إن لم تكن دولتهن دولة ديمقراطية وقانون وعدالة ومواطنة متساوية؟ كل هذا يمكن ان تطرحه خطة العمل وتلم به وتعمل عليه، وبالتالي تستطيع أن تضع خططاً وآليات للتنفيذ، ومن هنا تأتي أهميتها وضرورتها.

حول المرأة السورية والأمن والسلام:

قدمت المرأة السورية ولا تزال الكثير من التضحيات وعانت من الاضطهاد والعنف بمختلف أنواعه وأشكاله من جميع الأطراف، ولا زالت تتعرض للانتهاكات والمخاطر وتعيش تحت هيمنة الفكر الذكوري على المجتمع. وتعتبر النساء هن الضحية الأولى لانتهاكات حقوق الإنسان في الأسرة والمجتمع والدولة وأطراف الصراع المسلحة بمختلف توجهاتها الدينية والسياسية. واليوم يواجهن تحدياً مضافاً لاضطراب وضعهن الأمني والجهل بالزمن اللازم لاستقرار سورية. إنه الخوف فيما إذا استقر الوضع ولم تكن النساء قادرات بعد على الانخراط في العمل على تغيير نظرة المجتمع للنساء، ولم تشاركن على صعيد متساوي ومتكافئ في مراحل التغيير والعبور نحو الاستقرار والحفاظ على بنية المجتمع.

لهذا على السوريات أن يحظين بكل الدعم للعب دور رئيسي ومركزي في العديد من المستويات، وتبني قرار 1325 حد فاصل للوصول الى حقوق النساء وقضايا الأمن والسلام؛ فهو يفتح المجال أمامهن للإدلاء برأيهن والمشاركة بأفكارهن للضغط على صانعي القرار لتغيير سياسات العنف الدموية القائمة والقوانين التمييزية بما يحقق لهن المساواة الحقيقية والمواطنة الكاملة المتساوية. ويطالب القرار 1325 أطراف النزاع باحترام حقوق النساء ودعم مشاركتهن في مفاوضات السلام وفي مرحلة ما بعد النزاع. ويعد وثيقة قانونية بالغة الأهمية تدعو إلى زيادة نسبة تمثيل النساء في كل مستويات صنع القرار لتتمكن من المشاركة الفاعلة في آليات منع الصراعات وإدارتها وحلها.  

لكن يُعتبر تطبيق القرار 1325 ودعمه التحدي الأكبر الذي تواجهه النساء السوريات في المرحلة الحالية؛ وذلك لغياب دور النساء في صنع القرار السياسي الوطني، وإقصائهن عن العمل السياسي الحقيقي. رغم أن الواقع يتطلب ضرورة وجود النساء في الساحة السياسية بشدة ليشاركن في صناعة القرار الحالي والمستقبلي، وليتمكن من المشاركة في صناعة مستقبل سوريا بما يخدم المجتمع بشكل عام، وقضاياهن بشكل خاص.

نحن اليوم بأشد الحاجة لتفعيل دور النساء الذي طالما شل حركته عوامل كوضعها في الدين ونظرته لها، وتبني المجتمع لأعراف بالية، وتسلط المجتمع الذكوري، والخوف والضعف الناتج عن عدم وجود مجموعة قوية من النساء قادرة على خلق القرار والبيئة المناسبة لإنهاء حالة التفرد والتسلط وإقصاء النساء في المجتمع.

الفرصة المناسبة مُتاحة للعمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1325 ووضع خطة عمل وفقه، والدفع باتجاه تنفيذه، وتضمينه في خطة عمل للمناصرة والدعم والمطالبة بتطبيق بنوده وتنفيذها. للبدء يلزم أولاً تكييف القرار 1325 وتطويعه للخصوصية السورية، فالقرارات الدولية عادةً تواجه بالرفض من قبل التيارات المتشددة والمجتمعات المحلية، وتُتهم بأنها مستوردة، وأنها لا تناسب الطابع الثقافي للمجتمع. وهذا الوضع قد ينتج عن الجهل بالقرار، لهذا تبدأ الخطوة الأولى بحملة توعوية بإنسانية القرار 1325، وتعامله مع النساء كشريكات في صنع السلام والأمن في بلدهن. ثم يتم الانتقال للإجراءات الجذرية والشاملة الممتدة إلى أعماق المجتمع، والتي تستوعب جميع مكوناته. ومن هنا تأتي أهمية دور المنظمات المدنية خاصة النسوية، ودور الأحزاب السياسية، والقيادات المجتمعية، بالقيام بحملات حشد ومناصرة موجهه نحو تبني سياسات عامة وبرامج خاصة لتفعيل القرار، والطلب من السلطة والمعارضة إعطاء دور حقيقي أكبر للنساء في الأوساط السياسية والاجتماعية.

يقع على المجتمع الدولي ضمان مشاركة الأمم المتحدة في البدء بتأسيس خطة عمل وطنية تمهيدية لتفعيل دور النساء والدفع باتجاه تبنيها من جميع الأطراف، تعتني بتأهيل وتمكين السوريات وتزويدهن بمهارات حل النزاع ودمجهن في صنع القرار السياسي لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.

يتبع هذه الخطوة الأممية، تمكين النساء على امتداد سوريا من وضع خطط عمل وبرامج مشتركة تراعي خصوصية كل منطقة، على أن تحظى الناشطات في هذا الشأن أولاً ببرنامج حماية تتبناه جميع الأطراف وتلتزم بتنفيذه، تحت رعاية أممية متوفرة للدعم والتنفيذ. لا تستطيع خطة العمل تجاهل ضرورة مراعاة رفع الوعي لدى العاملين في المؤسسات العسكرية، ورجال الشرطة، حول العنف القائم ضد النساء وضرورة حمايتهن. ولا يجب أن ننسى أهمية دور السياسات الإعلامية في تكريس مفاهيم المشاركة والمساواة بين المرأة والرجل ورفع سوية ثقافة المجتمع نحو تلك القضايا والعمل على تغيير المفاهيم والأعراف الدارجة.

ومن الأهمية بمكان العناية بتطوير أداء السياسيين وأصحاب صنع القرار حول المساواة بين الجنسين، وضرورة مشاركة المرأة في الحكم على صعيد الأحزاب السياسية، ومجالس الشعب، والوزارات، ومؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني. وهذا يدفع للنظر لأهمية العناية في خطة العمل برفع وعي السياسيين ورجال القضاء بحقوق المرأة، وتغيير النظرة النمطية لها، وإدماج المرأة والرجل في رسم سياسات واستراتيجيات تضمن تنفيذ خطة العمل، وضمان تعامل النظام القضائي مع قضايا النساء من منظور العدالة والمساواة ما بين الجنسين بما يتناسب مع القرارات الأممية المتعلقة بحقوق النساء. كما على خطة العمل ادراج ضرورة مراجعة المناهج التعليمية لضمان تدريس مفهوم المساواة بين الجنسين وتطبيقه في كافة المؤسسات التعليمية.

لعل هذا مجرد إضاءة على بعض ما يمكن استثماره من القرار 1325 لخدمة السوريات وقضاياهن في ظل الحرب وما بعدها، ربما تدفع الإضاءة سوريات وسوريين لمحاولة فهم أهمية هذا القرار الدولي وضرورة العمل على تنفيذه والمطالبة بتطبيقه، لنتمكن من البدء برسم الطريق نحو سلام عادل في ظل دولة عدالة ومساواة وحقوق إنسان.

نحن وحدنا قد نتمكن بالعمل والمثابرة من وضع خطة عمل للنساء السوريات وفقاً للقرار 1325 وما لحقه من قرارات، ولكننا لن نتمكن من تطبيقها دون حشد دول العالم لنيل دعمها والضغط على الأمم المتحدة للعمل معنا. هذا فيما لو كانت دول العالم والمنظمات الدولية والنسوية يملكون النية لتطبيق ودعم القرار 1325 في الوضع السوري، وإحلال الديمقراطية والسلام في سوريا، وهذا ما أشك به.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الانتفاضة السورية وتهميش نساء حوران

      الانتفاضة السورية وتهميش نساء حوران

      يتداول السوريون توصيف ما كان عليه حال المرأة، يروون أنها كانت فقط منجبة ومربية، ومطيعة لها فم يأكل وليس لها فم يحكي، يتجاهلون كل المهام التي قامت بها يوماً إن كانت لا توافق ما يرونه مناسباً لها، يتمنون أن تكون حالها اليوم كرواياتهم عن الأمس، ويتناسون عمداً أو عن جهل أن يذكروا ويتذكروا ما كانت عليه خاصة في المجتمعات الريفية قبل ثمانينات القرن الماضي

    • الكوتا والسوريات

      الكوتا والسوريات

      رغم أن المرأة السورية حصلت على حق الانتخاب في عام 1949، وبحلول العام 2012 وصلت نسبة عدد المقاعد البرلمانية النسائية 12 بالمئة، ورغم أنها شغلت منصب نائبة رئيس ووزيرة ونائبة وزير ومديرة عامة، وأن نسبة العاملات بحلول ٢٠٠٩ بلغت ١٦ بالمئة من حجم القوى العاملة حسب مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء، إلّا أن هذا لم يحررها من عبء ما يحتويه القانون وقانون الأحوال الشخصية من تمييز ضدها مقابل دستور كان نظرياً يعترف بها كمواطنة متساوية، ولكن عند وضع القوانين تعرضت لشتى أنواع انتهاك حقوقها ومعاملتها كمواطن من الدرجة الثانية.  

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬