القدس في القانون الدولي

القدس في القانون الدولي

القدس في القانون الدولي

By : Shafiq Almasri شفيق المصري

مداخل

كثيراً ما كانت القدس محور قرارات عديدة صدرت عن الأمم المتحدة اعتباراً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 وما تبعه من قرارات ذات صلة بالصراع الفلسطيني / العربي ـ الإسرائيلي؛ وهي كمنطقة محتلة، تخضع بالتالي للقانون الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، اللذين يجرّما الإجراءات الإسرائيلية، وينقضا قرارَي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرَين باعتبار "القدس الموحدة" عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المحتلة. 

لمدينة القدس أهمية استثنائية على عدة مستويات؛ فهي ذات قيمة دينية لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، فضلاً عن كونها مدينة تاريخية بارزة، وتتعلق بأطر قانونية أصيلة. وهي، إلى ذلك كله، عاصمة فلسطين ومحور تجاذب لكثير من الدول والشعوب.

واستناداً إلى ما للقدس من أهمية متعددة الوجوه والجوانب، يهمنا في هذا البحث المختصر أن نركز على الأوضاع القانونية التي رافقت القدس، أو شكلت لها الإطار القانوني الدولي منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن. ومع أن هذا الإطار القانوني يشتمل على بنود بنيوية ووظيفية كثيرة، إلاّ إننا مضطرون إلى اختيار المحطات القانونية فيه، وهي المحطات التي اتسمت بإلزامية دولية لجميع الدول وفقاً لأحكام الشرعية الدولية.

وعلى هذا الأساس سنوزع هذا البحث على:

1 ـ الوضع القانوني للقدس في إطار الشرعية الدولية قبل سنة 1980، أي منذ صدور القرار الدولي 181 في سنة 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأُخرى يهودية، وبإعطاء صيغة دولية لرعاية مدينة القدس، ثم التطورات اللاحقة لهذا التاريخ.

2 ـ الوضع القانوني ـ الدولي للقدس بعد سنة 1980، أي بعد إعلان إسرائيل أن القدس الموحدة (أي بعد ضم القدس الشرقية) هي عاصمة الدولة اليهودية. ويشمل هذا الجزء الثاني أيضاً، التوصيف القانوني ـ الدولي لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير، أن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل، وأنه سينقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى هذه العاصمة، ثم شرح تداعيات هذا الإعلان الأميركي في ضوء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الصدد.

وعلى أي حال، فإن معالجة هذين الجزأين ستنحصر في الأطر القانونية ـ الدولية المتعلقة بالقدس دون سواها من بنود أُخرى تتعلق بفلسطين ككل، ومن دون التطرق إلى أمور سياسية وتاريخية أو سواها.

I ـ الوضع القانوني ـ الدولي للقدس قبل سنة 1980

أولاً ـ كانت إسرائيل قد احتلت الجزء الغربي من مدينة القدس في سنة 1948، مخالفة، بالتالي، أحكام الشرعية الدولية في كل ما يتعلق بنظام الانتداب (في عهد عصبة الأمم المتحدة ـ المادة 22، ونظام الوصاية لمجلس الوصاية الدولية للأمم المتحدة)، ومتجاوزة مسؤولية الدولة المنتدبة ...إلخ. إلاّ إن إسرائيل قُبلت عضواً في المنظمة الدولية في سنة 1949، بعد أن تعهدت خطياً بالعمل على، أو المساعدة في تنفيذ القرار 181 (الذي قضى بتقسيم فلسطين)، والقرار 194 (الذي قضى بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم to their homes).[1]

وعلى الرغم من هذا التعهد الخطي الإسرائيلي، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تقوم أحياناً بتذكير إسرائيل بوجوب التقيد بهذا التعهد، إلى أن طالبت في سنة 1982، بعزل إسرائيل لأنها أصبحت دولة "غير محبّة للسلام" بسبب انتهاكها أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وبسبب عدم تنفيذها القرارَين 181 و194، كما سنرى في الجزء الثاني من هذا البحث.

وكان لهذا التعهد الإسرائيلي الخطّي في سنة 1949، أهمية قانونية منها:

● أن إسرائيل، بشهادة الأمم المتحدة، كانت الدولة الأولى التي اعترفت بالدولة الفلسطينية وفقاً لاستنادها إلى القرار 181 / 1947، وتعهّدها بالمساهمة في تنفيذه. وقد أعلن بن ـ غوريون، مع إعلان استقلال إسرائيل، أن القرار 181 قرار دولي ملزم لا يجوز التنازل عنه.

● أن القرار 181 / 1947 أرفق في متنه خريطة تفصيلية بالحدود المقررة للدولة العربية وأسماء القرى التابعة لها. وبالتالي فإنه وضع حدوداً واضحة لكل من الدولتين العربية واليهودية، الأمر الذي يعني أن مقولة إسرائيل ليس لها حدود واضحة منذ إنشائها، مقولة غير صحيحة، وأن كل ما تجاوز هذه الحدود يُعتبر أيضاً مخالفاً للقانون الدولي أصلاً.

● أن القرار 181 لا يزال يُعتبر المرجعية القانونية الدولية للدولة الفلسطينية. وأكد ذلك الرئيس ياسر عرفات في سياق إعلانه الدولة الفلسطينية في سنة 1988، فقد قال إن هذا القرار "لا يزال يوفر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني." وفي إثر هذا الإعلان بشأن الدولة الفلسطينية، رحبت الجمعية العامة للأمم المتحدة به انطلاقاً من قاعدة القرار 181 / 1947.[2]

● المعروف، أن هذا الترحيب الدولي يشمل أيضاً[3] الاعتراف بإعلان الدولة الفلسطينية "وعاصمتها القدس الشريف"، كما ورد في الإعلان ذاته، وقد اعترفت بهذه الدولة، آنذاك، أكثر من مئة دولة أُخرى في العالم.

● المعروف أيضاً أن القانون الدولي يقرر في صدد الاعتراف بالدول:[4]

أ ـ أنه غير مشروط، وغير قابل للتراجع.

ب ـ أن الدولة، سواء اعترفت بها الدول الأُخرى أم لا، تملك الحق في الدفاع عن نفسها.

ج ـ أنه بعد هذا الاعتراف، يمكن للدولة المعترف بها أن تقيم علاقات دبلوماسية مع الدول المعترفة على قاعدة الرضا المتبادل.

د ـ أنها، حتى إذا كانت خاضعة لاحتلال دولة أُخرى، كلياً أو جزئياً، لا تفقد صفتها كدولة لها مقوماتها الأساسية من الناحية الدستورية.

ثانياً ـ إن هذا التعهد الإسرائيلي المحفوظ لدى أرشيف الأمم المتحدة، والذي كانت المنظمة الدولية تطالب إسرائيل بتنفيذه، لم ينفَّذ، وإنما عملت إسرائيل على نقضه وتفريغه من معناه وجدواه منذ اليوم الأول لتأسيسها. وقد استعانت إسرائيل، في ذلك، بتغاضي سلطات الانتداب البريطاني عن مخالفاتها المتكررة من جهة، وبعجز الجانب العربي (والفلسطيني ضمناً) من جهة أُخرى، وبتراخي المجتمع الدولي من جهة ثالثة.

ثالثاً ـ في 5 حزيران / يونيو 1967، أي في إثر العدوان الإسرائيلي على بعض الدول العربية، قامت إسرائيل باحتلال الشطر الشرقي من القدس، فوقعت المدينة بكاملها تحت السيطرة الإسرائيلية. وقد فاخر اليهود بهذا الإنجاز، أي "بتوحيد المدينة الأكثر قدسية والتي لن نبارحها أبداً."[5]

بذلك، انتهى الوضع القانوني للقدس فيما يتعلق بوجوب الوصاية الدولية عليها، وتعطلت قسراً هذه النصوص الدولية كلها، وبدأت منذ ذلك الحين النغمة اليهودية باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.

هذا السلوك الإسرائيلي دفع مجلس الأمن في الأمم المتحدة إلى التعجيل في اعتبار قرار ضم القدس الشرقية لاغياً كأنه لم يكن، لأنه مخالف للأحكام الملزمة في اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، والمتعلقة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. وبذلك أصدر مجلس الأمن القرار 237 في 11 / 6 / 1967 الذي قام بتوصيف الأراضي الفلسطينية التي سيطرت عليها إسرائيل بالقوة، بما فيها القدس الشرقية، على أنها من الأراضي المحتلة، وأنها من التي تنطبق عليها أحكام اتفاقية جنيف الرابعة.[6] ومن بنود هذه الاتفاقية، على سبيل المثال لا الحصر:

ـ المادة 146 التي تفرض على الدول المتعاقدة، أي الدول التي وقّعت الاتفاقية، وعلى الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى "المخالفات الجسيمة" لهذه الاتفاقية، عقوبات جزائية فعّالة.

ـ المادة 147 من هذه الاتفاقية تنص على أن هذه المخالفات الجسيمة تشمل: القتل العمد، أو التعذيب، أو المعاملة اللاإنسانية بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، أو تعمّد إحداث آلام شديدة، أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، والنفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع، وإكراه الشخص على الخدمة في القوات المسلحة للدولة المعادية، أو حرمانه من حقه في أن يحاكَم بصورة قانونية وغير متحيزة وفقاً للتعليمات الواردة في هذه الاتفاقية، وأخذ الرهائن، وتدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية، وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية.

هذا فضلاً عن الموجبات المترتبة على القوة القائمة بالاحتلال مثل عدم التغيير الديموغرافي أو السياسي للأراضي المحتلة، وعدم نقل مواطني هذه القوة إليها، وعدم ضمها إلى إقليمها، وعدم التعرض للقوانين والأنظمة التي ترعاهم... إلخ.

رابعاً ـ في المسألة المتعلقة بالقدس مباشرة، فإن المدينة بكاملها وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967، وقد تصدّت الأمم المتحدة لهذا الاحتلال:

1 ـ الجمعية العامة أصدرت قرارَيها 2253 و2254 في 4 / 7 / 1967، و14 / 7 / 1967، وذلك في جلستَين استثنائيتين طارئتين. والمعروف في الفقه الدولي، أن جلسة الطوارئ الخاصة (special emergency session)، أي التي تعقدها الجمعية العامة خارج دورتها السنوية، استجابة لأي طارئ، تتسم بالطابع الإلزامي، أسوة في ذلك بقرارات مجلس الأمن. وأيّدت الجمعية في هذين القرارين إلغاء التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس.[7]

2 ـ أمّا مجلس الأمن فأصدر القرار 252 في 21 / 5 / 1968، وقضى بموجبه، بـ "إبطال جميع الإجراءات والأعمال التي قامت بها إسرائيل والتي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس. وقرر مجلس الأمن أن هذه الإجراءات الباطلة لا يمكن أن تغيّر في وضع القدس." ثم أصدر مجلس الأمن القرار 298 في 25 / 9 / 1971 في السياق ذاته، وقرر أن "جميع الأعمال التشريعية والإدارية التي قامت بها إسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس، ومن ضمنها مصادرة الأراضي والممتلكات ونقل السكان والتشريع الذي يهدف إلى ضمّ القطاع المحتل في القدس، لاغية ولا يمكن أن تغير ذلك الوضع."[8]

3 ـ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ذكّر أيضاً في قراره 1336 في 21 / 5 / 1968 بـ "ضرورة احترام حقوق الإنسان الأساسية وغير القابلة للتصرف حتى خلال تقلبات الحرب." ودعا المجلس إسرائيل إلى تسهيل عودة السكان الذين رحلوا عن المناطق التي جرت فيها العمليات الحربية.

4 ـ أمّا لجنة حقوق الإنسان فكانت الأكثر صرامة في هذا المجال، وقد أصدرت القرار 10 في 23 / 2 / 1970، الذي أكدت فيه أن اتفاقية جنيف الرابعة ملزمة لإسرائيل التي ارتكبت "جرائم حرب موجهة إلى الإنسانية، بالإضافة إلى كونها جرائم." وأن اللجنة تدين إسرائيل لانتهاكها هذه الاتفاقية، ولا سيما لجهة تدمير المناطق وإقامة المستوطنات وترحيل وطرد السكان المدنيين، وإلغاء القوانين القائمة، وسوء معاملة وقتل المدنيين، وتدمير الممتلكات وغيرها من الانتهاكات العديدة لاتفاقية جنيف الرابعة.[9] 

II ـ الوضع القانوني للقدس بعد سنة 1980

أولاً ـ كان لإعلان ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل في سنة 1980 بموجب قانون صادر عن الكنيست الإسرائيلي، الأثر الحاسم لدى مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة. فقد أصدر هذا المجلس القرار 478 في 20 / 8 / 1980 الذي قضى باعتبار القانون الإسرائيلي لاغياً، وأنه لن يغيّر وضع الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية.[10]

وكانت الفرصة الملائمة للقضية الفلسطينية، والقدس ضمنها، عندما أُعلنت "الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف" في سنة 1988. وقد قوبل هذا الإعلان بترحيب دولي كبير شمل أكثر من مئة دولة اعترفت، آنذاك، بالدولة الفلسطينية كما ورد في إعلان استقلالها.[11]

وانسجاماً مع هذا الموقف المؤيد لاستقلال الدولة الفلسطينية والشطر الشرقي من القدس، وذلك بموجب قرار الجمعية العامة 43 / 177 الذي صدر في 15 / 12 / 1988 بأكثرية 101 صوت. ولم تعترض، يومها، على هذا القرار سوى الولايات المتحدة وإسرائيل.

ولعل أهمية القرار الدولي أنه اعتمد اسم "فلسطين" كمراقب في الأمم المتحدة، وأنه شمل في ذلك الترحيب بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

إلاّ إن هذا الإنجاز التاريخي لفلسطين بدأ يتقلص ثم يتبدد مع تطور الأحداث اللاحقة، وذلك بسبب:

1 ـ الجهود الإسرائيلية المدعومة أميركياً في إجهاض هذه الاعترافات، وفي إضاعة نتائجها السلبية على إسرائيل.

2 ـ اتفاق أوسلو وتداعياته المتدحرجة على القضية الفلسطينية عامة.

ثانياً ـ يبدو أن القرن الواحد والعشرين شهد، لغاية الآن، بعض التطورات السياسية ـ العملية وكذلك القانونية المتعلقة بالقدس، إلاّ إننا نعرض باختصار ثلاثة منها:

أ ـ تهويد القدس بشتى الوسائل الإسرائيلية وطرد الفلسطينيين منها.

ب ـ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية واعتبارها من "الأراضي المحتلة".

ج ـ إعلان الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) بشأن القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وتداعيات هذا الإعلان.

أ ـ تهويد القدس

قامت إسرائيل في حزيران / يونيو 1967 باحتلال القدس الشرقية، وبذلك وقعت مدينة القدس بكاملها في القبضة الإسرائيلية. إلاّ إن إسرائيل لم تعلن رسمياً القدس "الموحدة" عاصمة لها وتدعو الدول الأُخرى إلى نقل بعثاتها إليها إلاّ في سنة 1980. وقد بدأت العملية الإسرائيلية في التهويد منذ ذلك الوقت. والواقع أن هذا التهويد اتخذ عدة أشكال وصيغ منها:

ـ الإصرار على أن فلسطين هي دولة تحقيق الحلم الإسرائيلي القديم.[12]

ـ أن "قانون العودة" هو الوسيلة الأكثر جدوى في تحقيق هذا الحلم.

ـ أن إسرائيل "دولة الشعب اليهودي". والعمل جارٍ لتشريع ذلك الأمر وتنفيذه عملياً، حتى إن إسرائيل تطالب السلطة الفلسطينية بالاعتراف به كشرط مسبق للمفاوضات.[13]

واليوم تزداد وتيرة التهجير القسري في القدس، الأمر المخالف لجميع أحكام الشرعية الدولية ولحقوق الإنسان في آن. وقد ذكرنا هذه الأحكام الدولية الملزمة.

فالتقارير الراهنة تشير، في هذا الصدد، إلى أن دولة إسرائيل تتبنّى المخطط الهيكلي للقدس لسنة 2020، وفيه أن إسرائيل تتبنّى ثلاثة حلول استراتيجية:

ـ تفعيل سياسة طرد السكان العرب من القدس.

ـ تفعيل إجراءات استقدام السكان اليهود إليها.

ـ تعديل الحدود البلدية للقدس كي تتطابق مع مسار الجدار العازل.

هذا، فضلاً عن استكمال أساليب الحصار والترحيل والمصادرات.

وتلجأ إسرائيل، من أجل تحقيق غرضها الهادف إلى تدمير المسجد الأقصى من دون أي اعتراضات معلنة، إلى أسلوب مراوغ وغير مباشر يتمثل في القيام بحفريات، فقد شهدت الفترة بين 21 / 8 / 2008 و21 / 8 / 2009 الكشف عن خمسة مواقع جديدة، علاوة على الحفريات القائمة سابقاً.[14]

هذا مع العلم بأن التهجير من القدس لا يقتصر على المسلمين فقط، بل يتناول السكان غير المسلمين، أي المسيحيين أيضاً.

وتترافق هذه المساعي التهجيرية والتدميرية والتهويدية مع بناء المستوطنات اليهودية في القدس، بتمويل حكومي إسرائيلي، وبتبرعات يهودية من الخارج ـ غالباً أميركية، وباستثمار شركات يهودية أيضاً.[15] 

ب ـ رأي محكمة العدل الدولية

المعروف أن محكمة العدل الدولية تشكل السلطة القضائية الدولية في العالم، وهي تقوم بعملها من خلال قرارات قضائية بناء على إحالة مشتركة من الدولتين المعنيتين، أو من خلال رأي استشاري بناء على طلب الجمعية العامة أو مجلس الأمن في الأمم المتحدة.

والمعروف أيضاً أن القرار القضائي ملزم للدول المعنية به، وذلك تحت طائلة أحكام المادة 94 من الميثاق.[16] أمّا الرأي الاستشاري، أو الفتوى، فغير ملزمَين إلاّ للجمعية أو لمجلس الأمن اللذين يطلبان هذا الرأي.[17]

واستناداً إلى ما تقدم، تجدر الإشارة إلى الرأي الاستشاري الذي صدر عن محكمة العدل الدولية في سنة 2004 بشأن مسألة الجدار الذي أقامته إسرائيل في بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة من طرفها في أعقاب حرب حزيران / يونيو 1967. وكان لهذا الرأي أهمية ملحوظة، منها:

ـ أنه صدر عن أعلى سلطة قضائية في العالم. وفحوى هذا الرأي أن الجدار جاء مخالفاً لأحكام اتفاقية جنيف لسنة 1949، لأنه أُقيم ـ في بعض وصلاته ـ على الأرض الفلسطينية المحتلة. ولذلك يجب تفكيك هذه الوصلات ودفع تعويض للفلاحين الفلسطينيين المتضررين.

ـ أنه، بشهادة محكمة العدل الدولية، لا يجوز تغيير الوضع القانوني لهذه الأراضي المحتلة ـ بما فيها القدس الشرقية ـ وفقاً لأحكام الشرعية الدولية.

والمعروف، أن جميع النصوص الدولية ـ كالقرارات والاتجاهات ـ تؤكد ذلك الموقف الدولي الملزم. 

ج ـ إعلان الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) بشأن القدس

لم يكن إعلان الرئيس دونالد ترامب هو الأول في شأن القدس من جانب الولايات المتحدة، إذ كان هذا الإعلان قد صدر منذ التسعينيات، إلاّ إن الرؤساء الأميركيين السابقين آثروا التريث في تنفيذه لأسباب تتعلق بإمكان التقدم في المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وبالتخوف من الانعكاسات السلبية في الأوساط العربية والإسلامية وفي ردات فعلها.

وبهذا، فإن القرار سبق الرئيس الأميركي الحالي، لكن الأخير لم يشارك مَن سبقه في التريث في تنفيذه، وإنما قام بذلك ربما بسبب الضغوط اليهودية التي طالبته بتنفيذ ما وعد به كمرشح رئاسي أميركي، أو بسبب اقتناعه بأن ردات الفعل لن تبلغ هذا المدى من التشنج والاعتراض.

وفي جميع الأحوال نرى أن إعلان الرئيس ترامب تضمّن بعض الأخطاء التاريخية والمخالفات الجسيمة للشرعية الدولية، وفوجىء برفض دولي عربي وإسلامي وأوروبي وآسيوي... إلخ، من دون استثناء. والواقع أن هذا الإعلان وقع في عدد من الأخطاء والمخالفات، منها أنه مناقض للحقائق التاريخية. فالرئيس الأميركي أعلن أن القدس كانت المركز الديني والسياسي التاريخي لليهود، وأنهم بتوحيدها أنجزوا ما كان أصلاً من حقوقهم التاريخية، وهذا القول مناقض للحقائق التاريخية والسياسية والدينية والاجتماعية معاً.

وإذا كان المجال هنا لا يسمح بضرورة تصويب هذا الزعم الأميركي غير المدروس أصلاً، فإن الوقائع التاريخية والقانونية[18] تشير إلى أن اليهود في فلسطين حتى أيام الانتداب البريطاني كانوا يحملون الجنسية الفلسطينية منذ سنة 1925، وحتى صدور "قانون الجنسية" الإسرائيلي الذي قُدم إلى الكنيست في سنة 1950، وأُقر في سنة 1952، واعتبره بن ـ غوريون مكملاً لقانون العودة (المُقر في سنة 1950).[19] وكانت إسرائيل التي نالت استقلالها في سنة 1948، قد دخلت في سنة 1949 إلى الأمم المتحدة بشرط مسبق يقضي بالمساعدة في تنفيذ القرار 181 الذي يلحظ، إلى جانبها، دولة عربية في فلسطين، وكذلك بموجب القرار 181 ذاته، الالتزام بالقدس تحت رعاية دولية.[20] وبذلك كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي انضمت إلى الأمم المتحدة بشروط.

أمّا عن مخالفات إعلان الرئيس الأميركي للسلوك الأميركي ذاته في شأن القدس، فيمكن عرض بعض الأمثلة فقط:

ـ إن الإدارة الأميركية ذاتها أصرت منذ فترة بعيدة على أن تواظب على دور الوسيط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وكان الطرفان يقبلان بهذا الدور، باعتباره "الوسيط النزيه" في بعض الأحيان. أمّا اليوم فلم تعد هذه الإدارة قادرة على القيام بالدور ذاته، الأمر الذي أسفر عن خسارة دبلوماسية للجانب الأميركي.

ـ كانت الإدارة الأميركية، بدءاً من مطلع هذا القرن تحرص فعلاً على تسهيل الحلول للعقدة الفلسطينية، وكانت، فعلاً، وراء صدور القرار 1397 الذي لحظ "رؤية" الدولتين في فلسطين. كما كانت هذه الإدارة وراء تشكيل اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) لتفعيل هذه المسألة لمصلحة الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية في فلسطين)، وذلك اعتباراً من سنة 2002.

وعلى الرغم من تعثّر هذه اللجنة ثم تجميدها، فإن الإدارة الأميركية كانت بصدد تكوين الدولة الفلسطينية وعاصمتها "القدس الشريف"، أو القدس الشرقية على الأقل، لكن إعلان الرئيس الأميركي أطاح بهذا المشروع.

ـ إن القرار 478 / 1980 الذي أصدره مجلس الأمن، والذي قضى باعتبار القانون الإسرائيلي بضم القدس الشرقية باطلاً، وأنه لا يغير الوضع القانوني لتوصيفها كأرض محتلة، لم يكن صدوره ممكناً لو قامت الولايات المتحدة بوضع فيتو على مشروع ذلك القرار. والواقع أنها امتنعت من التصويت كأنها أرادت تمريره، ذلك بأن الامتناع من التصويت لا يمنع صدور القرار الدولي. [21]

ـ ومثلما فعلت أميركا إزاء هذا القرار، فإنها اتخذت أيضاً الموقف ذاته في بعض القرارات الأُخرى السابقة.

أمّا مخالفات إعلان الرئيس دونالد ترامب الأخير ضد الشرعية الدولية، فيمكن ذكر بعضها:

ـ خالف هذا الإعلان للرئيس ترامب أحكام اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، وتعديلاتها المتعلقة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. وقد شرحنا بعض هذه الأحكام.

ـ خالف عدداً من القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية وغيرها بشأن التوصيف القانوني للأراضي المحتلة. وهذه الأحكام ملزمة ليس فقط لإسرائيل، بل لجميع لدول الأُخرى أيضاً.

ـ خالف الحقوق الإنسانية المعترف بها دولياً للشعب الفلسطيني. وهذه الحقوق تصنَّف، عادة، على أنها من "الحقوق غير القابلة للتنازل"، ومنها حق تقرير المصير، وحق العودة، وحق الاستقلال، وحق العيش بسلام... إلخ، وهي محفوظة للشعب الفلسطيني منذ سنة 1969 (بموجب قرارات أكدتها الجمعية العامة تكراراً).

ـ خالف القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن ـ وهي ملزمة مبدئياً ـ بشأن القدس الشرقية (ولا سيما القرارَين 478 و479) في سنة 1980. وهذه القرارات صدرت بقبول صريح أو ضمني من الولايات المتحدة.

ـ خالف بعض "القواعد الآمرة" في القانون الدولي التي تعني المساواة المطلقة بين الشعوب (كحق تقرير المصير، وحق العيش بسلام، وضرورة احترام الكرامة الإنسانية، إلخ)، وقد أشرنا إلى بعضها في هذا البحث.

ـ إعلان الرئيس الأميركي يخالف أيضاً مبادىء حقوق الإنسان بصورة عامة، والمبادىء الأميركية لحقوق الإنسان ومبادىء الدستور الأميركي في بعض نقاطه أيضاً.[22]

[ينشر ضمن إتفاقية شراكة مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"]

هوامش

[1] انظر القرارَين 181 / 1947، و194 / 1948، في "قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين، 1947 ـ 1972" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، المجلد الأول، ص 31 وما بعدها. علماً بأن الترجمة العربية الرسمية لكلمة home، كانت "ديارهم"، والمنازل في معناها الحرفي أضيق نطاقاً من "الديار" وأكثر دقّة.

ومع أن احتلال إسرائيل الشطر الغربي من القدس أمر مخالف للقرار 181، إلاّ إن إسرائيل قُبلت كدولة "محبة للسلام / peace loving" وفقاً للمادة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تحدد شروط الانضمام إلى المنظمة الدولية.

[2] علماً بأن طلب السلطة الفلسطينية في سنة 2011 الانضمام إلى الأمم المتحدة استند أيضاً إلى القرار 181 / 1947، كما سنرى.

[3] للاطلاع على قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين، انظر: سلسلة "قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، صدرت في 7 مجلدات بين سنتَي 1973 و2015.

[4] راجع اتفاقية مونتي فيديو لسنة 1933 بشأن الاعتراف بالدول والحكومات في:

Ian Brownli, ed., Basic Documents in International law (Oxford: Oxford University Press, sixth edition, 2009), pp. 4–5.

[5] انظر مجلة "صوت الجامعة"، العدد 2 (2011)، ص 18. [المطلوب معلومات نشر كاملة... والسؤال هو عن أي جهة تصدر مجلة "صوت الجامعة"؟ إذ إن هناك الكثير من المجلات التي تحمل هذا الإسم وتصدر عن كليات في جامعات في دول كثيرة...]

[6] هناك كثير من الكتابات عن القانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين بموجبه. وعلى سبيل المثال انظر موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بشأن اتفاقية جنيف الرابعة وواجبات القوة القائمة بالاحتلال، وبشأن الاتفاقية ذاتها.

[7] انظر ""قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين 1947 ـ 1972"، مصدر سبق ذكره، ص 73 ـ 81.

[8] يبدو أن هذا القرار أشار، للمرة الأولى، إلى القدس الشرقية بعبارة "القطاع المحتل منها". انظر المصدر نفسه، ص 205 ـ 206.

[9] راجع قرار اللجنة في المصدر نفسه.

[10] يلاحظ هنا، أن امتناع الولايات المتحدة من التصويت (في سنة 1980) سهّل تمرير هذا القرار، لأن الامتناع والغياب عن جلسة مجلس الأمن لا يُعتبران "فيتو" على المشروع. لذلك صدر القرار 478 المشار إليه. راجع القرار بأكمله في: "قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي، 1975 ـ 1981" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1994)، المجلد الثاني، ص 288.

[11] علماً بأن إعلان 1988 الذي حظي بهذه الاعترافات الدولية الأُخرى، ذكر صراحة أن عاصمة هذه الدولة هي القدس. وعلماً أيضاً بأن المقصود هو القدس الشرقية عملياً.

[12] وقد أشار الرئيس الأميركي (ترامب) إلى هذا الأمر، مؤكداً الزعم ذاته.

[13] والواقع أن إسرائيل أصدرت في الكنيست القانون المذكور. ومن تداعياته أن فلسطين المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، ستصبح (إذا اعترف بها الفلسطينيون) جزءاً من الدولة اليهودية، وأن القدس ستكون عاصمة للشعب اليهودي فقط.

[14] انظر: محسن صالح (إعداد)، "معاناة القدس والمقدسات تحت الاحتلال الإسرائيلي" (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2011). وأيضاً: "تقرير حال القدس السنوي 2015: قراءة في مسار الأحداث والمآلات" (القدس: مؤسسة القدس الدولية ـ إدارة الأبحاث والمعلومات، آذار / مارس 2016)، ص 27 ـ 34.

[15] " تقرير حال القدس السنوي 2015..."، مصدر سبق ذكره، ص 28 ـ 34.

[16] تعتبر المادة 94 من الميثاق أن الدولتين ملتزمتان بقرار المحكمة، وأن الدولة التي لا تمتثل له يمكن أن يلزمها مجلس الأمن به، وبقرار منه.

[17] كان للرأي الاستشاري للمحكمة أن عدّل المادة 104 من الميثاق في سنة 1949 تعديلاً ضمنياً، كما كان لهذا الرأي أن ألزم مجلس الأمن بالتدخل في مسألة ناميبيا، والعمل على تحقيق استقلالها في سنة 1971، وذلك بحكم رأي استشاري أيضاً. وهذا يعني أن الرأي الاستشاري غير ملزم مبدئياً إلاّ لطالبه.

[18] كتب التاريخ كلها تؤكد هذا الواقع، قبل الإسلام، واستمراره حتى نهاية أربعينيات القرن الماضي.

[19] انظر: "قانون الجنسية الإسرائيلي"، "ملحق فلسطين في جريدة السفير" (تشرين الثاني / نوفمبر 2010)، في الرابط الإلكتروني التالي:

[20] راجع القرار 181 / 1947 الذي يؤكد، في متنه، حدود الدولة الفلسطينية.

[21] انظر "نص إعلان إسطنبول الصادر عن القمة الإسلامية حول القدس" الصادر في 13 كانون الأول / ديسمبر 2017، في موقع قناة "الجزيرة".

[22] الواقع أن هذه المبادىء تكرر استخدامها في تشريعات وطنية ودولية كثيرة. وإذا كان هذا البحث المختصر لا يتسع لتفصيل هذه المبادىء كلها، فإنه يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى نقطتين فقط هنا: الأولى، أن التزام الرئيس الأميركي بمبادىء الدستور والحقوق الأميركية للإنسان هو أمر ضروري؛ الثانية، أن الشرعتَين الدوليتين: "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، و"العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، الصادرَتين في سنة 1966، تؤكدان في المادة الأولى المشتركة بينهما "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي، وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي."

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬