أنا بخير، لكني اليوم مُت مرة أخرى

[لوحة للفنانة الفلسطينية أصالة بدر] [لوحة للفنانة الفلسطينية أصالة بدر]

أنا بخير، لكني اليوم مُت مرة أخرى

By : Nesrine Shibib نسرين شبيب

 

لاحقتني إلى سريري ليلة البارحة صور احتفاليات السفارة الإسرائيلية بـ "عيد الاستقلال" السبعين، النكبة الفلسطينية، بالقرب من ميدان التحرير، وصور الفريق الإماراتي في سباق الدراجات الإسرائيلي في القدس المحتلة. كانت الليلة سيئة والآن استيقظت على انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقها مع إيران، رائحة الخبر تعد بمزيد من الدمار لسورية، قد يسقط النظام، قد ينزلق لبنان إلى ساحة الحرب، قد يلحق بإيران ما حدث للعراق، يصعب الآن توقع ما سيحدث في السنوات المقبلة، لكن المؤكد أن إسرائيل ستخرج منتصرة. 

 

يا له من صباح تعيس! نسيت أن أعطي لابنتي المضاد الحيوي وسط كل هذه القنابل الإخبارية التي تنهال علي. أنبني ضميري، افترس ما تبقى في داخلي من راحة بال. هل ألحق بها قبل بدء الحصة الأولى؟ أم أن في ذلك مبالغة؟ 

"نسينا أن نعطيها الدواء، من العادي أن ينسى المرء أمراً ما، لن تمُت البنت من نسيانك الدواء مرة، كوني كالعالم والناس وتعلمي أن تتحرري مما لا يمكنك تصحيحه"... لا أحب أن يتدخل زوجي فيما لا يعنيه، من حق كل أم أن تشعر بالتعاسة لأبسط الأخطاء التي ترتكبها تجاه أطفالها، ومن حقي أن أحول اليوم إلى كربلائي الخاصة... وفيما أنا غارقة في الجلد الذاتي، اتصلت بي سكرتيرة المدرسة لتخبرني بنبرة مرتبكة:

- احضري فوراً، لينا تجلس أمامي وقد دفعها أخوها أرضاً. إن في يدها حجر! رجاءاً احضري معكِ ملقطا لأننا غير مخولين بإزالته! 

- ما يعني: في يديها حجر؟ أتعنين أن حصوة دخلت تحت جلدها؟

- نعم! هذا ما أعنيه.

 

أعددت حقيبتي ولم أنسَ المضاد الحيوي هذه المرة. كانت عيناها وارمتين وقد ارتسم على فمها البؤس. نظرت إلى يدها، كان الخدش بسيطاً، حضنتها، بحثت في حقيبتي عن المضاد الحيوي والمعقم، وجدت حلوى وشوكولاتة في قاع الحقيبة.

- اختاري ما تريدين.

- أريدك أن تبقي معي.

- الجرح طفيف يا حبيبتي، سأعصم أصبعك الآن، وإن كنت لا تريدين الكتابة، فاجلسي في الصف للاستماع فحسب، سأتحدث إلى مدرستك، لا تقلقي.

 

احتفت المُدرسة والصف بعودتها سالمة، ودعتها وقلبي يعتصر من تأنيب الضمير. لماذا تركتها مكسورة الخاطر؟ نعم، الجرح طفيف لكن ألم فراقي كان موجعاً لها. بكيت في السيارة، شعرت باكتئاب حاد دون أدنى سبب منطقي، تخبطت أفكاري حتى رست في مدرستي أنا، في بيروت الثمانينيات...

 

كان يوماً خاصاً في صيف 1982، بلغت أجمل أمنياتي في ذلك اليوم، سمحت لي "المادموزيل" أن أجلس على حجرها، ها أنا مغيبة، هائمة في غيمة عطرها الراقي وملابسها الأنيقة، يلامسني شعرها الأسود الناعم كلما حركت يديها لشرح شيء ما للآخرين. ما يزال شعرها رطباً وبارداً مثل ساعات الصباح. تحبني "المادموزيل" أكثر من الآخرين، لأنني سريعة الفهم، عالية التركيز ومطيعة في كل ما تطلب منا، لكنني أحبها أكثر. نظرات الأولاد الآخرين غير مريحة، لكني لا أعبأ بما يشعرون. أنا الآن في تجل ولن ينهي ساعة المجد هذه إلا جرس الفرصة. 

 

مرت الساعات التالية بشكل روتيني. رسمنا وغنينا "فرير جاك"، تناولنا الحرف العشرين من الأبجدية ثم طن صوت الإنذار وارتعشت المدرسة تحت دقات الأرض. هلع الجميع من بين الصفوف إلى حافلات المدرسة، دفع أحدهم الكرسي جنباً محدثاً صوتاً مزعجاً. كنت أود أن أعدل وضعه، لكن المادموزيل أصرت أن أتوجه مع الطابور إلى الباصات. عوت الحافلة بين وهلة وأخرى، وصرخ سائق الباص على غير عادته بيننا: "اجلسوا فوراً واصمتوا، مش ناقصة هي!"

ما كاد "أمين البدين" يدخل بطن الحافلة حتى أغلق السائق بابها المتهالك، وانطلقت إلى الشارع. كانت الشوارع خالية من البشر، يملأها غبار فاتح وصمت كثيف. حتى الأولاد لم يلعبوا أو يثرثروا، وصلنا إلى نزلة الفكهاني لكن الشارع كان مسدوداً، لم يتردد السائق ولا انتظر. لوى الديريكسيون بثقة وعاد إلى المدرسة معي، قال لي: "انزلي عمو!" 

 

خرجت إلى هواء المدرسة الساخن وكان الحوش موحشاً مخيفاً. أحسست بالخطر والوحدة، ففعلت ما علمتني تجاربي الأولى أن أفعل: لم أبكِ، تصلب وجهي على تعبير محايد، طالما تدربت عليه على الحدود المصرية، على نقاط التفتيش الفلنجية والسورية، أمام الضباط العراقيين الذين كانوا يريدون التحقق من جواز سفري العراقي: "شلونچ عيني؟ شِنو إسمچ؟ ليش ما دا تحچين ويانا؟". لم أفه بكلمة واحدة، ولبست قناع "التعبير المحايد" حتى تركوني وأمي نخرج من الحدود متجهين للأردن. "تعلمين أنك تدينين لي بالكثير؟ لو أنني فتحت فمي أمام الضابط لعلم على الفور أني فلسطينية، ولواجهت أنتِ مشاكل كثيرة، لقد أنقذتك!" انهالت دموع أمي وسط غرباء سيارة الأجرة بعد أن زال التوتر، وأخذت تقبلني بامتنان.

لكن أين هي عندما احتاج أنا إلى منجِ؟ 

عاد سائق الحافلة من المكتب: "ماما أكيد في الطريق، التلفونات خربانة، تعالي اقعدي هون عمو"...علق الوقت في بيت حبات الغبار، بقي محير الاتجاه، أشعل السائق سيجارته والراديو ليتابع نتائج القصف الأخير، لكني لم أسمع سوى دقات قلبي على طبل أذني.

 أخيراً جاءت أمي وهلعت إلي تقبلني والدمع يغمر وجهها، شكرت السائق وجذبتني إلى سيارة الأجرة، طوقتني: "هل أنت بخير؟" أومأت لها بتعبيري المحايد، وقلت في داخلي: “أنا بخير، لكني اليوم مُت مرة أخرى".

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • بيكاسو يقضم رغيف البيض

      بيكاسو يقضم رغيف البيض
        استيقظت على هيئة إحدى لوحات بيكاسو؛ أنفي في جهة وعيني في جهة، أمعائي على اليمين، وساقاي كل في مكان. كل طرف من جسمي منسق في إطار فني جميل. لم أعثر على رأسي. اعتمدت على غريزتي لتسيير خطواتي الأولى إ
    • كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة

      كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة
      "ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة.
    • غزة ليست لكِ

      غزة ليست لكِ
      أفيق من كابوسي- إنهم يطلقون كلابهم لينهشوا لحم أطفالنا، يأتي في الليل جنودهم ليحصوا عدد الذكور في المنزل وأماكن نومهم، يأخذوا منهم من أرادوا، والأم والأب لا حول لهم ولا قوة لأنهم - هكذا هددوهما: سيأخ

كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة


"ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة. وفاجأته: "أنظر يا حبيبي، وجدت كرة أرضية خرافية! تلعب بها بالقلم الإلكتروني، فيقول لك القلم اسم البلد وعاصمته، ويقول لك "مرحباً" بلغة البلاد. سيحييك بـ "بونجور" في فرنسا، و"هِلو" في إنجلترا، وتحييك بـ” كونيتشيوا" في اليابان. ما رأيك؟".. انفُرجت أساريره وسأل بلهفة: "متى تشتريها لي؟" فقلت: "إنها هدية قيّمة وخاصة جداً، لن تحصل عليها إلا في عيد ميلادك أو بعد إنجاز كبير..". لم يدم إحباطه طويلاً، لكنه عاد كل بضع ساعات يسأل: "متى تأتي الأرض المتحدثة؟"

وجدت متجراً إلكترونياً يعرض الكرة المتحدثة بسعر مخفّض، فوضعتها في سلة المشتريات الافتراضية حتى لا أضطر للبحث عنها مجدداً عندما يحين موعد "الهدية القيمة". كنت وأنا اتصفح العروض فخورة بأن ابني يريد أن يتعلم أسماء البلدان. "أريد أن أذهب إلي أفريقيا" قال. وفي مرة أخرى سأل: "هل يمكن لنا أن نزور الصحراء في يوم من الأيام؟" فقلت: "سنزور الأردن، فيه صحراء جميلة، والنجوم في ليلها قريبة. إن السماء تمطر نجوماً على الساهرين فيها."...كنت سعيدة بفضول ابني واهتمامه المبكر باستكشاف العالم، إلى أن لسعتني فكرة مفاجئة.. ستكون فلسطين مدفونة تحت خارطة إسرائيل التوسعية، وإذا كان حظي سيئاً ستمتد خريطة العدو لتبلع قطاع غزة والضفة الغربية، وقد يتكرم مصنِع الكرة على إسرائيل بتنصيب القدس عاصمة لها، فما علاقة المصنع الألماني بالقرارات الدولية، وما الضرر في ذلك؟ وإن كان هناك ضرر فهل من مشتكٍ؟

لن أجد إسم (پالستينا) على الخريطة إن سألني عنه سامي، وفي المقابل سيكون إسم إسرائيل كبيراً واضحاً، لأن المنتِج ألماني، وحاجة الألمان والصناعة الألمانية إلى توثيق وجود الدولة اليهودية كبيرة جداً. إذا نقر إبني بقلمه البرتقالي على الخريطة سيطلق الصوت المسجل تحية "شالوم" من فلسطين.

لم يتعلم ابني القراءة بعد، لكنه يميز بعض الأحرف الكبيرة في أول الكلمات. سيعرف أن الكلمة المكتوبة على بلدي تبدأ بالـ (آي) وليس بالـ (پي) مثل پالستينا. فماذا أقول له إن سألني أين (پالستينا)؟ كيف أشرح له الاحتلال؟

"لماذا لم يُكتب على فلسطين أنها محتلة إذن؟ لماذا لا توجد فلسطين أصلاً على الخارطة؟" سيتساءل إبني.. "هل تدعي أمي وجود أماكن غير موجودة؟" هل سيظن أنني كاذبة أم أنه سيشفق علي لكوني مختلة عقلياً وأرى ما لا وجود له.

ترددت. . .هل أؤجل شراء الكرة الأرضية والحديث عن الوجود إلى حين يكبر إبني؟ وما جدوى التأجيل إذا درسته المدرسة في أول سنواته ما اتهرب منه أنا - جبناً من المواجهة؟

هل أشرح له أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأن العالم ملئ بالمؤامرات، وأن الأقوى هو الذي يكتب التاريخ ويرسم خطوط الخرائط وحدودها، وأن بلاداً وشعوباً قد وقعت من الخريطة بقوة السلاح...ما هو دليلي على ما أزعمه؟ عندما تتحدى بمقولتك الخارطة المرسومة، عليك أن تتسلح بما هو أقوى في عين الطفل من الألوان والخطوط والأحرف الأولى. ماذا لدي لأبرهن لإبني على وجود ما لا يراه؟

اغرورقت عيناي بدمع المغلوب على أمره. إن عمره خمس سنوات أيها الظُلّام! كيف أشرح له أن أمه أتت من اللا مكان، كيف أقول له إن عائلتها تقطن في مكان تغطيه إسرائيل عن أعين العالم، لتفعل بهم ما يخدش الحياء والقانون والإنسانية؟ كيف أعلمه الثقة في الكتاب وما يقوله، بعد أن كَذَبتُه أنا في أول الطريق؟ كيف أزعم أمامه أن فلسطين حقيقة وليست من صنع خيالي، وأنها ليست كبلد الجنيات والعجائب التي يراها في الرسوم المتحركة؟

أدركت أنني بعد أن خسرت معارك الأرض في فلسطين، ومعارك الجو في بيروت، وبعد قبولي بجنسية أخرى في ألمانيا، ها هو تاريخي كله مطروح للزوال عن الخريطة.

بكيت بحرقة على مائدة الطعام، حتى شعرت بيد صغيرة دافئة على كتفي. "ماذا بك يا ماما؟" سأل ببراءة. قلت له بيأس: فلسطين موجودة، لكنهم لا يكتبون إسمها على الخريطة!"، فرد: "لا يهمك ولا تبكين! فأنا أصدقك!"

 

هينيف، ٢٣ مارس ٢٠١٧