عن جيرترود بيل ورسائل الاستعمار

[الفيلم الوثائقي [الفيلم الوثائقي

عن جيرترود بيل ورسائل الاستعمار

By : Abdullah Altak عبد الله التك

وسط احتفاء العديد من العراقيين في بغداد، عرض قبل فترة قصيرة الفيلم الوثائقي “رسائل من بغداد” (٢٠١٧) عن حياة الجاسوسة البريطانية جيرترود بيل في العراق. تمحور الفيلم، من إخراج سابين كراينبول و زيڤا اويلباوم، بشكل أساسي حول دور بيل “المشرف” في إنشاء العراق الحديث وعلاقتها الوطيدة بالمجتمع العراقي واعتمد على رسائلها الشهيرة ما بين ١٩١٧-١٩٢٦ والتي كانت ترسلها لعائلتها في بريطانيا بشكل دوري. بالاضافة إلى شهادات بعض من البريطانيين والعراقيين الذين عاصروها آنذاك. لكن، كعادة الكثير من النتاجات المرئية والأدبية حول جيرترود بيل ودورها في سياسات المستعمر البريطاني في العراق، فأن الفيلم يعيد إنتاج للخطاب الكولونيالي الاستشراقي الذي يعمل على إعادة صياغة تاريخ العراق بشكل خاص والمنطقة بشكل عام وكتابته من منظور استعماري بعيد كل البعد عن مجريات وصراعات الحياة اليومية السياسية للمجتمع العراقي في تلك الفترة، وهنا يجب طرح عدة نقاط مهمة:  

أولاً: إلى متى سنظل نقدّس ونحتفي بالمستعمر كخبير أو كشاهد على شعوبنا وحضارتنا، لمجرد أنه قد أحب أو تظاهر بحب شيء من بلادنا التي أستعمرها، متناسين أنه كان جزء من المنظومة الاستعمارية. في واقع الأمر، وعلى عكس ما صوره الفيلم، فأن رسائل جيرتورد بيل ماهي إلا مثال صريح على ذلك الخطاب الكولنويالي الذي يستبيح " قلب الظلام" لغرض اكتشاف المستعمر نفسه\ها من خلال تأصيل فكرة "الآخر" المختلف أو الغريب سواء في التقاليد والحياة اليومية أو حتى في الطبيعة والأرض. لذلك يلاحظ في الكثير من رسائلها تكرار الخطاب الاستشراقي التقليدي الذي أكد عليه أدوراد سعيد في العديد من كتاباته. في رسائل بيل، المجتمع والفرد العراقي عشوائي و "طائش أو مستهتر"١ مقارنة "بعقلانية الغرب" الذي تنتمي إليه بيل، ولكنه في نفس الوقت قادر على التفكير بعقلانية "لأننا (أي الغرب) قد مهدنا له طريق المنطق والعقلانية الذي سوف يسهل عليهم اتباعه"٢ وبالتالي يتم تصوير المجتمع العراقي، والعربي بشكل عام، كمجتمع رجعي يقلّد ولا يفكر.

يتم تصوير العراق في رسائل جيرترود بيل كبلد "غير متحضر" يتكون بشكل عام من قبائل "همجية"٣ تستطيع بيل أن تهرب في أراضيه وأن تتناسى، كما ذكرت في إحدى رسائلها، للحظات قليلة أنها قد جاءت وبكل وعي وإدراك مع مشروع "احتلالي وأستعماري" وتطلق روحها لتكون "وحشية"٤ كباقي هولاء العرب الذين يقطنون هذه "الصحراء القاحلة"٥. لم يذكر الفيلم، بالطبع، مثل هذه الرسائل التي كتبتها بيل من وعن العراق كبلاد وأرض تخلف. بل اقتبس مخرجو الفيلم فقط ما يبرئ بيل ويبرزها كشخصية أحبت العراق ووجدت فيه كل ما هو جميل ونادر الوجود في بلادها. من المعروف عادة عن المستشرقيين أن هنالك الكثير من الأشياء التي قد تجذبهم وتغويهم في البلاد التي زاروها وكتبوا عنها، ولكن في نهاية الأمر، وتحديدا فيما يخص جيرترود بيل، فأنها أكدت في أكثر من موضع في رسائلها أنها في العراق لخدمة الادارة البريطانية وإمدادها بكل المعلومات الممكنة عن المجتمع العراقي لغرض توسيع سلطة المستعمر البريطاني. 

إعادة انتاج هذا الخطاب الكولونيالي الاستشراقي وتسويقه للمتلقي العراقي بالتحديد من خلال ندوات وورش عمل أقيمت في بغداد تمثل إشكالية عميقة. حيث أنه في الوقت الحالي تحديدا يتناسى الكثير من العراقيين ليس فقط دور المستعمر البريطاني ومن تواطأ معه من “النخبة المحلية” في استغلال العراق على مدى سنوات، وإنما أيضا الدور الأمبريالي للمستعمر الأمريكي الحديث ودور حلفائه في تدمير المجتمع العراقي والبنية التحتية لهذا البلد منذ عام ١٩٩٠. في مثل هذه النتاجات التي تعمل على تجميل وترقيع دور المستعمر تتم إعادة تصوير المنظومة الاستعمارية بأجملها على أنها جاءت بمباركة المجتمع العراقي وبغاية سامية لتحرير البلاد من العنف والفوضى أو\ولتحرير مجتمعه ونسائه بالتحديد من عادات "متخلفة" وليس لغايات إمبريالية بحتة.

ثانياً: تصوير جيرترد بيل من قبل منتجي الفيلم وغيرهم بل وحتى من قبل بيل نفسها، كما ورد في إحدى رسائلها، على أنها مؤسِّسة العراق الحديث ما هي إلا مغالطة تاريخية كبيرة، تمحو تاريخ الكثير من الحركات السياسية الوطنية قبل وأثناء فترة بيل، كالحزب الشيوعي العراقي في بدايات ١٩١٤ وحزب الحرية والإئتلاف في مطلع ١٩١٢. هذه الحركات جابهت المستعمر البريطاني ومن قبله السلطة العثمانية، وكان لديها مشروع سياسي وحدوي مناهض للاستعمار، وإن تواطأ بعضها مع المستعمر البريطاني في الفترات اللاحقة. لعبت جيرترود بيل دوراً في تنفيذ الأجندات الاستعمارية في العراق التي خدمت مصالح المستعمر ومصالحها الشخصية ولم تلعب دوراً في انشاء العراق كمشروع وطني (إن صح التعبير) كما حاول الفيلم الوثائقي أن يصورها. في واقع الأمر كانت "الخاتون" من أشد المناهضين للمشروع الوطني ولثورة العشرين، التي لم تتوقف عن وصفها بأنها بروباغاندا "متطرفة و متعصبة", و لكن أيضا أكدت أنه "اذا ما تركوا هذه البلاد لهولاء الكلاب (المقصود الحركة الوطنية)، فأن سلطة بريطانيا سوف تتزعزع ليس فقط في العراق وإنما في أسيا بأجمعها"٦.

كما هو متوقع ومقصود بنفس الوقت لم يتطرق الفلم لثورة العشرين و للحركات السياسية إلا بعجالة وبإقتضاب شديد حيث ذُكر جزء مقتبس من رسالة لبيل كانت تؤيد فيها نداءات العراقيين بالاستقلال والحكم الذاتي و لم يتم ذكر بقية هذه الرسالة أو الرسائل الأخرى التي أوضحت فيها أن تأييدها لتلك النداءات للاستقلال نابع من قناعتها أن مصلحة وسلطة بريطانيا في العراق سوف تزداد ان ابتعدت عن الحكم المباشر و حولت إلى حكم غير مباشر يتم من خلاله اختيار شخص عربي موال للأجندات البريطانية، يعمل بنفس الوقت على إسكات الأصوات التي تنادي بالاستقلال. لم يكن العراق من منظور بيل إلا حقل تجارب تتمكن من خلاله الإدارة البريطانية من تطوير المنظومة الاستعمارية لتستجيب للمتغيرات السياسية والشعبية في ذلك الوقت. وأوضح مثال على ذلك نجده بين طيّات إحدى رسائلها حيث تقول: "سوف تكون تجربة جديدة وجميلة لي إن رشحت نفسي لأكون الملكة غير المتوجة لكردستان. ولكنني لا أريد ان أقف في طريق السير پيرسي كوكس (المفوض السامي للعراق آنذاك) أذا ما كان يريد هو ذلك المنصب. لربما سوف نحتاج لرمي عملة لنختار إحدانا"٧

ثالثا: انتقى فيلم "رسائل من بغداد" من رسائل جيرترد بيل ماهو مشرف لها وصوّرها كأنها ذلك الفرد المتعاطف مع العراق ووحدته، في حين أنها كانت من المساهمين في تأصيل الخطاب الطائفي آنذاك، سياسيا واجتماعياً، من خلال الكثير من القنوات التي كانت قد تغلغلت داخلها. من يقرأ رسائلها بتمعن سيلاحظ أنها كانت مليئة بخطاب طائفي مسيس دخيل على المجتمع العراقي آنذاك. لم تكتف بيل بتقسيم المدن والمناطق العراقية بناءاً على عوامل طائفية دينية لا تمت بصلة للواقع على الأرض وكانت فقط تسهل عملية تقسيم المجتمع العراقي للأدارة الأستعمارية، وأنما كانت أيضا تنادي بالمحصاصة الطائفية في التمثيل السياسي في الحكومة العراقية التي شكلت من قبل الإدارة البريطانية ونتجت عن ترشيح الملك فيصل الأول، مع التشديد على أن الملك كان يجب أن يكون من الطائفة السنية من وجهة نظر بيل والإدارة البريطانية في العراق. 

 بالأضافة إلى كل هذا، فإن تأصيل ذلك الخطاب الطائفي على المستوى الشعبي كان يتم تغذيته ونشره من خلال صحف وجرائد البروباغاندا التي كانت تنشر من قبل الانتداب البريطاني باللغة العربية. كانت بيل تعمل كمحررة رئيسية لإحدى هذه الصحف: جريدة العرب (لاحقا سميت “العراق” بعد تعيين الملك فيصل الأول) الناطقة باللغة العربية والتي كان شعارها، وهذه مفارقة طبعاً، "من العرب إلى العرب". في احدى رسائلها ذكرت بيل إنه لا يتم نشر أي خبر أو مقال في الصحيفة دون أن يعبر رقابتها ويحصل على موافقتها شخصيا بغض النظر عن دور المحرر الرسمي لتلك الصحيفة آنذاك، الأب أنستاس الكرملي، الذي كان يلعب دورا ثانويا٨. الكثير من المقالات والأخبار المحلية التي كانت تنشر في هذه الصحف استخدمت لغة طائفية في تصوير المجتمع العراقي والأحداث السياسية والأجتماعية التي كانت تجري في تلك الحقبة، وحتى في الماضي تحت السلطة العثمانية. أحد الامثلة على زرع تلك البذرة الطائفية كانت في عدد من صحيفة العرب، حيث تم وضع أعلان لجمع التبرعات لبناء تمثال في بغداد لأحد الضباط البريطانيين وتم فيه ذكر المبالغ التي جمعت في حينها، ولكن مع ذكر الطائفة الدينية لكل فرد عراقي كان قد تبرع لبناء هذا التمثال وإجمالي المبلغ الذي تبرعت به كل طائفة دينية.

المشكلة الأساسية في فيلم "رسائل من بغداد" وغيره من النتاجات التي تعتمد على أسلوب ومصادر مشابهة تتمثل في نقطتين مترابطتين. الأولى هي أن المصادر التي اعتمد عليها الفيلم الوثائقي هي مصادر أستعمارية بريطانية، تخلو من الصوت المحلي العراقي (إلا من ساند المستعمر) وتعيد كتابة تاريخ العراق ليس فقط في حقبة الانتداب البريطاني، بل في الحقب التي سبقته من منظور كولونيالي مغاير لحقيقة الواقع السياسي والأجتماعي آنذاك. الأشكالية الثانية تكمن في اعتماد تلك المصادر على أنها فعلاً ممثلة لتاريخ العراق، فبهذه الحالة ما نقوم به سواء كمنتجين أو كمتلقين ماهو إلا اعادة تأصيل لفكرة أنه لا دور أو قيمة لصوت الفرد العراقي في كتابة تاريخه\ها، وأن المحتل وحده هو المصدر الموثوق به لكتابة ذلك التاريخ. أو، في المقام الثاني، الأصوات المحلية التي تردد صدى الخطاب الاستعماري ورؤيته. ولقد أعتمد منتجو هذا الفيلم الوثائقي على أصوات عراقية من الماضي أشادت بجيرترود بيل. لذلك، كان من المؤسف أن يلحظ في تتر نهاية الفيلم الوثائقي أن عدداً من الذين كانوا جزء من الكادر البحثي والأكاديمي لهذا الفيلم هم أكاديميون عراقيون, بالاضافة الى دار الكتب و الوثائق العراقية التابعة لوزارة الثقافة. ولا بد من التساؤل، أيكون هذا التعامل\التواطؤ غير النقدي ناتج عن عقدة تقديس النتاج الأكاديمي القادم من الغرب التي تتولد لدى الكثير من مجتمعات مابعد الأستعمار\الأحتلال، أم أنه نابع من إشكالية أكبر، يذكرنا بها فرانز فانون، وهي غياب الوعي النقدي سياسياً وتاريخياً لدى طبقة كبيرة ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين والذين يفترض أن يلعبوا دوراً مهماً في توعية المجتمع بصورة عامةً وتفكيك الاستعمار في العقول.

هوامش 

1. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٤ أبريل ١٩٢٦

2. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٥ أبريل ١٩٢٤

3. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٨ ديسمبر ١٩٢٠

4. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ٩ يناير ١٩٢٤

5. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ١٣ يوليو ١٩١٨

6. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٠ أبريل ١٩٢٠

7. رسالة جيرترود بيل الى فلورينس بيل بتاريخ ١٧ أكتوبر ١٩٢١

8. رسالة جيرترود بيل الى والدها هيو بيل بتاريخ ٩ نوفمبر ١٩١٧

 

وطن.. بالعين المجردة: معبد عين دارة ضحية أخرى للحرب السورية

ضمن ثقافة الحرب وعرفها، لم تكن سياسات إخضاع المناطق وغزوها، وجرائم التطهير العرقي يوماً بالكافية. الحرب لا ترض بما هو أقل من تدمير الهوية التاريخية، شرعنة الأفعال الشنيعة وهدم المجتمعات على رؤوس أبنائها مختزلةً كل ذاك بعاملٍ واحدٍ يقوم على اجتثاث الجذر الأساسي للشعوب وفصلها عن النسيج الأصلي الذي قامت ونبتت فيه.

فالتاريخ الآن عبارة عن كتالوغ مرصوف بتصنيفات تُبنى تبعاً لاندلاع الحروب وسطوتها. قاموسٌ ضخمٌ تتوسع صفحاته باستمرار، يمكن لنا أن نزخرفه وأن نخفف من بشاعته بتنويط الأحرف داخله بموسيقا الطائرات والمجنزرات التي فتكت بأعداد من الضحايا كافية لأن توجد بشرية تبني كوكباً جديداً، هذا القاموس علينا فتحه بين الآونة والأخرى كي نقطع دابر طريقها إلينا.

الحالة السورية لوحدها وخلال السنوات السبع الأخيرة فقط يمكنها أن تُخرج مؤلفاً ضخماً، يحوي أحداثاً يمكن معايرتها وقياس زمن حدوثها بالنانو متر، فليس هناك زمنٌ فاصل بين الحدث والآخر.

بالنسبة لهذا البحث ليس من وظيفته تحليل الأسباب التي جعلت منا شعوباً تصنع أحداثها المفجعة على مدار الساعة. إلا أنني أومن وبشكل مطلق بأن الشعوب لا تتحمل عبء كل ما يجري. “تضييع الهوية التاريخية وتشتيتها جنباً إلى جنب مع تغييب المنهجية العلمية في التعامل مع الحياة والقضايا المصيرية قاد البشر نحو العودة والاستناد إلى الميثولوجيا،”(1) كعامل أساسي يستطيع أن يجيب عن أسئلتها تجاه كل هذه الاستباحة والتهميش الحاصل بحقها. وهذا بدوره سيقودنا إلى نتائج كارثية على كافة المستويات، والتي من شأنها أن تفتك بمقدرات البلد وبتاريخه وارثه الحضاري. اليوم نحن لسنا على تخوم المجزرة، نحن الآن في جوفها، القتل والتدمير هما رواد المرحلة وسياسات التخوين والطعن بالآخر كل ما لدينا. غير آبهين بكل هذه الخسائر والجرائم الحاصلة بحقنا وبحق هويتنا البشرية  بكافة تصنيفاتها. لم تنجُ الرقعة الأثرية من فصول الدمار وأعمال السرقة والنهب  أيضاً، فبات لها أرشيفها الخاص الذي تطول قائمة التدنيس والتخريب المرتكب بحقها. ويبدو بأننا على موعد مع توسيع لهذه الرقعة حتى تغدو ممسدة المساحة لا يشخص منها حجر واحد.

لم يكن تدمير معبد عين دارة أول خساراتنا وللأسف لن تكون الأخيرة. فبحسب التقرير(2) الذي صدر عن (ASOR) حُدد تاريخ استهداف المعبد بتاريخ 22  كانون الثاني/ يناير (الصورة رقم(1. إلا إن الصور والفيديوهات التي شاهدناها وظهرت للعلن انتشرت بعد هذا التاريخ وبشكل أدق بعد التقرير الذي أعدّته وسيلة الاعلام الكردية (ANHA) التي نقلت الحدث من قلب الموقع المدمر في يوم 27  كانون الثاني/ يناير بعد تعرّض المعبد لغارة من قبل الطيران التركي في خضم عملية أطلق عليها “غصن الزيتون” التي بدأت في تاريخ  20 كانون الثاني/ يناير.

الصورة رقم 1: صور جوية للموقع قبل وبعد الاستهداف حيث يحدد المربع الأحمر المنطقة التي تعرضت للضرر (مصدر الصور:  ASOR)

تُذكرنا هذه العملية والترويج لها بالحملات العسكرية في العصور التاريخية القديمة، حيث العمل الدؤوب لإضفاء صفة الشرعية على الحملة التي سيقوم الملك بشنها على الممالك أو المدن الأخرى. فقد لبى (90) ألف مسجدٍ طلب الدعاء لأردوغان في حملته الاخيرة في عفرين وكأننا نرى كهنة معبد إله الحرب (ننجرسو) تبارك المقتلة القادمة وتقدسها. الأهم من ذلك خاصية تأليه الملك التي لا زالت متفشية وجذورها الأولى لازالت متفرّعة وبتوسع كبير. فالتاريخ يجلب لنا الكثير من التفاصيل التي نراها اليوم وكأنها شريط يُعاد ولكن بأدوات جديدة وبنسبٍ تتناسب طرداً مع تطور وسائل القمع والقتل، وعكسياً مع الإرادة الحرة للشعوب.

بالعودة إلى عين دارة فهو موقعٌ جديد يضاف إلى قائمة المواقع التي شهدت الأيام الأخيرة مجزرة بحق الحجارة والقدسية التي وسمت المكان. أحاول في هذا المقال توثيق آثار المعبد ووصف أهميتها التي لن يتسنى للأجيال القادمة للأسف رؤية بعض أجزائه الفريدة التي دُمرت إثر الحملة العسكرية التركية على عفرين والحرب السورية التي أتت على عددٍ كبير من آثار هذه البلاد المنكوبة. كما سأحاول تسليط الضوء على الأجزاء التي تعرّضت للتدمير إثر الضربة الجوية مع التأكيد على عدم كفاية هذا التحليل دون المعاينة المباشرة من قبل آثاريين لتقييم الضرر وتوثيقه ودراسة إمكانيات الصيانة والترميم. وأختتم المقال بالتحدث قليلاً عن زيارة قصيرة للمعبد، لكنها مكثفة في الذاكرة.

موقع عين دارة

يقع في وادي عفرين، الوادي الذي ينحدر في مجراه العلوي من الشمال إلى الجنوب قادماً من دوليشا (عينتاب) ليجتاز موقع تل عين دارة ثم ينحرف نحو الغرب نحو بحيرة أنطاكية. يعتبر هذا الوادي ممراً هاماً يصل سهل أنطاكية بمنطقة عينتاب وبمنطقة حرّان عبر الفرات في البرجيك. وعلى مقربة من عين دارة تقع ممرات متعددة تتجه نحو الغرب وتؤدي إلى ممر بيلان، منفذ سوريا من جهة وإلى الإصلاحية وسنجرلي على سفوح الأمانوس من جهة أخرى، وتعتبر ذات أهمية استراتيجية كبرى حيث كانت تسمح للقادمين من أنطاكية الوصول إلى تل رفعت Arpad)) قديماً وإلى حلب دون المرور من الطريق الجنوبية التي كانت أكثر تعرضأ للهجمات. لذلك فقد جهز هذا الممر بما يحتاج إليه من منشآت دفاعية فنجد أنّ موقع الباسوطة القريب مثلاً كانت محمياً بقلعة محصنة ترجع إلى القرون الوسطى. من المرجح بأن تل عين دارة المرتفع كان محاطاً بسورٍ يرجع إلى العهود البيزنطية أو ربما الهلنستية، وأنّ سوراً كبيراً آخر كان يحميه في العهود القديمة التي سبقت ذينك العهدين(3).  و يقع هذا التل على بعد (40)كم شمال-غرب حلب و(7)كم جنوب مدينة عفرين.(1) على الضفة الشرقية لنهر عفرين، أحد روافد نهر العاصي، نبعُ عفرين الذي أعطى اسمه للمكان ويبعد عنه مسافة (800) م شرقاً. تتميز هذه المنطقة الهضبيّة بوفرة مياهها وبأراضيها الخصبة التي شكلت المقومات الأساسية للبنة الاستيطان البشرية الأولى. يحتل موقع عين دارة موقعاً استراتيجياً هاماً حيث يبعد عن موقع عزازا (A-za-za) الأثري (عزاز حديثاً) مسافة (25) كم شمال شرق، وعلى مسافة (30)كم شرقاً من موقع أرفاد (Arpad)(تل رفعت حديثاً)، عاصمة مملكة “بيت أغوشي” الآرامية (4).

لم يكن الموقع معروفاً حتى اكتشاف تمثال ” الأسد البازلتي الكبير”  في العام 1955، حيث تم العثور عليه مرتمياً على جانبه المنقوش في الجزء الغربي من التل  (الصورة رقم 2). أسطحه تخلو من الكتابات على خلاف الأسد الذي تم اكتشافه في موقع تل أحمر (تل بارسيب قديماً). الذي كُشف لاحقاً عن تل عين دارة الأثري والذي عُدّ من التلال الكبيرة في المنطقة (5).

الصورة رقم 2 : الوضعية التي وجد عليها الأسد

(مصدر الصورة: الحوليات الاثرية السورية، علي أبو عساف).

تبلغ أبعاد التل (125) م باتجاه (شمال- جنوب) و(60) م باتجاه (شرق- غرب) وهو يقع بالقرب من النهر. بينما حددت مساحة المنطقة المنخفضة بـ (270) و(170) م وهي متاخمة للقلعة من جهتي الشمال والشرق. حُدد تاريخ استيطان المنطقة المنخفضة بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى عصر الحديد (II) ( 1200-740)ق.م, أما بالنسبة للتل فلقد حددت سوياته بسبع سويات أثرية بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى الفترة السلوقية (6).

بدأت أعمال التنقيب في الموقع بإدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق خلال الأعوام (1964-1962-1956) بإشراف فيصل الصيرفي والباحث الفرنسي موريس دونان (Maurice Dunand) (الصورة رقم 3). وبعد فترة انقطاعٍ طويلة عادت التنقيبات خلال الأعوام ( 1981- 1980-1978-1976) تحت اشراف علي أبو عساف، في حين جرى مسح المنطقة المنخفضة بين عامي 1984-1982)) من قبل فريقٍ امريكي بإشراف اليزابيث ستون وبول زيمانسكي.

تمثلت أهم الاكتشافات التي قدمها الموقع باكتشاف المعبد الذي ظهر للعلن خلال سلسة التنقيبات التي قام بها علي أبو عساف خلال الأعوام ( 1985-1980).

المعبد

يشغل المعبد الربع الشمالي من التل ممتداً باتجاه جنوب شرق – شمال غرب. دلّت الدراسات الأثرية بأن المعبد قد بني على ثلاث مراحل استمرت على مدار (550) سنة  (الصورة رقم 3 ).

 

الصورة 3: مخطط معبد عين دارة مع مراحل بنائه الثلاث

(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).

في المرحلة الأولى تم تشيد المعبد فوق المصطبة الأكثر قدماً، وشهدت المرحلة الثانية إنشاء مصطبة المعبد الحديثة ومجسم المعبد. أما الرواق  (Gallery)الذي وجد خلال أعمال التوسعة الخاصة بالمصطبة فقد أُضيف خلال المرحلة المعمارية الثالثة والأخيرة. وتشير الدلائل بأن المعبد بُني في بادئ الأمر مفتوحاً على الخارج، وهذا الطراز من العمارة يشترك بهذه الخاصية مع عمارة  المعابد الإغريقية المعروفة بالبِريبتِروس((Peripteros  ذات الأعمدة، لكن في المرحلة الأخيرة تم احاطة المعبد وجرى تسيجه بسورٍ خارجي.

ينتمي مخطط المعبد إلى نماذج المعابد المعروفة بـ (( Ante-temple وهي معابد ذات قاعة أمامية سابقة للمصلى، وتُعرف أيضاً بالمعبد البيت.  تنتشر أمثلة مشابهة لهذا النموذج في مواقع المشرق الشمالية و بلاد الرافدين الشمالية أيضاً  كتل خويرة وتل حلاوة، وإيبلا (تل مرديخ) من عصر برونز وسيط ، و إيمار، وإيكلتا (ممباقة) من عصر البرونز الحديث، وكركميش من عصر الحديد. استمر هذا الطراز المعماري كأسلوب مميز في العمارة “اللوفية ـ الآرامية” خلال عصر الحديد.  يختلف نموذج معابد (Ante-temple) بشكل كبير عن نماذج المعابد الآشورية والبابلية من جهة، وعن نماذج المعابد الحثية من جهة ثانية، فهذه المعابد تتميز ببناء داخلي معقد ذو باحة مركزية وعدة غرف إضافية بجانب المصلى.

بني المعبد فوق مصطبة ذات ارتفاع (1.80) م غطيت واجهاتها بلوحات بازلتية حفرت بزخارف لأبي الهول والسباع الرابضة. يبدو بأن هذه المصطبة كانت في الأصل جزء من ساحة مقدسة واسعة تمتد باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي. رُصفت هذه الباحة بشكل متناوب بألواح البازلت والحجر الكلسي، وُجد فيها حوض حجري محفوظ بشكل جيد على بعد (14)م جنوباً من زاوية المعبد الشرقية، يُعتقد بأنه قد استُخدم للتقدمات الخاصة بالسوائل. يتم الدخول إلى مصطبة المعبد عبر مدرج حجري عرضه (11)م مؤلف من أربع إلى خمس درجات من الحجر البازلتي المزنرة بالضفائر. تُظهر الصور الحديثة للموقع والملتقطة بين 27 و 29 من شهر كانون الثاني 2018 بعد استهدافه بغارة جوية تركية،  بأنّ الدرجات لاتزال قائمة في مكانها ويبدو بأنها تحتفظ بملامحها الأساسية التي وجدت عليها مع بعض التخريب والانكسارات التي لا يمكن تحديدها بشكلٍ دقيق دون معاينة مباشرة من قبل أخصائيين. بينما بيّن تحليل الصور الفضائية للموقع تعرّض الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من الواجهة للدمار، ونتج عن الاستهداف تهشم وتحطم التماثيل التي كانت تشكل واجهة المعبد في الجهات الخارجية المذكورة.

بالنسبة لمدخل المعبد فيتألف من كوة واسعة في الجهة الجنوبية الشرقية ذات دعامتين، يدل وجود قاعدتين دائرتين بازلتيتين على احتمالية وجود أعمدة خشبية بين الكوة والسقف مغطيةً بذلك الكوة. ومن هذه الكوة ننتقل إلى أجزاء المعبد الداخلية حيث القاعة السابقة لقدس الأقداس (غرفة ماقبل المصلى أو Antecella) مستطيلة الشكل وبعمق ((6.55 م. ننتقل منها إلى القاعة الرئيسة قاعة قدس الأقداس “المصلى”  ( (Cella مربعة الشكل بأبعاد ( (16.70 x16.80 م (الصورة رقم 4).

الصورة رقم 4: مشهد للمعبد من الجهة الجنوبية

(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).

لقاعتان مرصوفتان بألواحٍ من الحجر الكلسي. يُشير التقرير الذي نشره مؤخراً مرقاب التراث الثقافي الصادر عن المدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية  (ASOR)إلى تعرض كل من القاعة الأمامية والقاعة الرئيسة للدمار (الصورة رقم 5).

الصورة رقم 5: المعبد محدد بمربع أحمر يحدد المساحة التي تأثرت جراء الاستهداف

 (مصدر الصورة تقرير ASOR – 2018).

أما العتبات فقد شكلت من كتلٍ من الحجر الكلسي، اثنتان منها غطت مدخل قاعة ما قبل قدس الأقداس، وعتبة واحدة غطت مدخل القاعة الرئيسة. حملت الأولى طبعات قدمين كبيرتين متوازيتين وأبعادها ((97×35 سم، في حين غطت الثانية طبعة لقدم اليسار وبنفس القياس تقريباً، العتبة الثالثة حملت طبعة للقدم اليمنى. تعتبر طبعات الأقدام من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. بالنسبة لهذه الطبعات في الوقت الحالي تشير المعلومات والمعاينة النظرية للصور الملتقطة للموقع إلى تعرّض هذه الأرضيات للتخريب بشكلٍ شبه كامل، يبقى ذلك غير مؤكد قبل إجراء عمليات التقييم المباشرة من قبل الاختصاصين (الصورة رقم 6).

الصورة رقم 6درجات المعبد قبل وبعد الاستهداف بغارة جوية تركية.

(مصدر الصورة: Hawar News; January 27, 2018 وتقرير ASOR – 2018).

طبعات الأقدام

شغلت طبعات الأقدام (7) المحفورة في معبد عين دارة الباحثين كونها من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم والأمثلة عليها نادرة جداً (الصورة رقم 7). إلا أنه تم العثور على ما يأتي على ذكرها ويعود تاريخ أقدم هذه الشواهد إلى عصر البرونز حيث تم العثور في موقع تل براك الأثري* على أختام اسطوانية يعود تاريخها إلى (3300-3050) ق.م. تصور هذه الأختام “زوجاً من الأقدام العارية تلتف عليهما أفعى”. قدمت الباحثة إديث بورادا (Edith Porada) تفسيراً بأنّ دلالة التصوير تهدف إلى التنويه والتحذير من ترك القدمين من دون حذاء. في حين رجح بعض الباحثين على أنّ سلوك انتعال القدم أو خلوها من الحذاء مرتبط بالمكانة الاقتصادية والاجتماعية، ووفقاً لهذا التفسير فإن الحذاء يرمز للفروقات الطبقية وقد عثر على ما يشبه ذلك في النصوص المقدسة. وفي روايةٍ أخرى عندما واجه موسى العليقة المشتعلة ناداه صوتٌ عند محاولته الاقتراب منها “لا تدنُ إلى هنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن المكان الذي أنت قائم فيه هو أرض مقدسة” (سفر الخروج: 5:3) ويستمر الرب ويعيد طلبه. فُسر هذا الطلب من قبل رجال الدين بأن الأرض ملكٌ للرب، مكرسةٌ له، حيث أنّ ارتداء النعل على أرض معينة يعني في التقاليد العبرية الامتلاك. الضيف عندما يدخل يخلع من قدميه كرمز إلى أنه ضيف سلام.  وعلى ما يبدو فإن هذه الروايات مستقاة من نصوص مدينة نوزي (يورغان تيه الواقعة جنوب شرق مدينة كركوك)  حيث جاءت بعض النصوص على ذكر ظاهرة الانتعال أو عدمه وربطها بخاصية الاستحواذ والامتلاك أو التنازل.

وإذا ما وسعنا دائرة البحث خارج نطاق منطقة الشرق الأدنى القديم باتجاه ثقافات أخرى، فسنجد بأنّ معبد عين دارة لم يكن المكان الوحيد الذي احتوى هذا النوع من التصاوير. فلقد جسدت طبعات أقدام بوذا في الأحجار تاريخاً طويلاً في حياة الهند ومنطقة جنوب شرق أسيا، وظهرت بأشكال ودرجات متفاوتة في التعقيد. أكثر الأدلة قدماً تلك التي تعود إلى ( القرن الأول ق.م) القادمة من “” Tirat والمحفوظة في متحف ” Swat “. حيث تمثل طبعات نحتت بطريقة قريبة من الطبعات الواقعية التي قُدست بتقديم ممارسات السجود إليها. وفوق قمة آدم في (Samanala) في سيرلانكا طبعة قدم نادرة وهامة وذلك لدلالتها الرمزية والمشتركة ما بين أربع ديانات. فالهندوسية قدستها باعتبارها طبعة قدم شيفا (shiva) آلهة الخلق، في حين نسبها البوذيين إلى بوذا. أما مسيحيو سيرلانكا فنسبوها يجدون بها طبعة قدم  القديس توما (St. Thomas) المبشر الذي أدخل المسيحية إلى سيرلانكا، بينما ينسب المسلمون طبعة القدم إلى آدم أثناء وقوفه على قمة الجبل بزمن قدره ألف سنة (كتكفير عن الذنوب).

الصورة رقم 7: العتبات الحجرية في مدخل المعبد وتظهر عليها طبعات أقدام محفورة.

 (مصدر الصورة: مايكل دانتي، حزيران 2010)

المنحوتات:

كان عدد منحوتات الواجهة ست منحوتات  وهي عبارة عن زوج من أشكال أبي الهول على جانبي الدرج أحدهما ملتفت نحو اليمين والآخر نحو اليسار وخلف كل واحد زوج من السباع متقابلان يلتفان كذلك يمنة ويسرى (الصورة رقم (8-9. لأبي الهول رأس فتاة وجسد أسد ذي جناحين، الشعر طويل ومرفوع نحو الخلف تبدو منه عقيصتان على جانبي العنق، المفاصل بيضوية ليس لها الشكل الحقيقي (الصورة رقم 10). تبرز هنا خاصية الايجاز الشديد في تفصيل العناصر التشريحية. يختلف أبي الهول عن الأسد في كون الأول مجنح بينما الأسد غير مجنح، ومُثل الأسد وهو يزأر. كوّنت هذه المجسمات لوحات الواجهتين الجانبيتين والواجهة الخلفية والمصطبة ومدخل الرواق وعددها (72) منحوتة. يكمن الاختلاف بأنّ منحوتات الواجهة صُورت بحجم أكبر وزيادة بأعداد المخالب لأسبابٍ ربما تتعلق بتكثيف الاحساس بالرهبة والخشوع قبل الدخول إلى المعبد (8).

الصورة رقم 8: تمثل الأسود الرابضة في واجهة المعبد وواجهة المصلى.

(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).

الصورة رقم 9: تمثل الأسود الرابضة وأبو الهول في واجهة المعبد

(مصدر الصورة: موقع Archaeology in Syria ).

الصورة رقم 10: نحت لأبي الهول.

 (مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).

حددت منحوتات الرواق فقط في كل من جانبيه ب( (30منحوتة لم يبق منها غير كسرٍ جاثمة فوق قواعدها أو متناثرة فوق الرواق، ويبدو أن هذا التشابه يقصد به عدم اظهار الاختلاف بشكل جلي. زين محراب المنصة بمجموعة من القطع البازلتية سماكتها أكبر من سماكة الألواح الأخرى عددها سبعة، احتوت خمس منها على عنصرٍ نقشي مشترك ُيصور إله الجبل بلحيةٍ طويلة ويرتدي تاجاً ذي قرون، في حين تنوّع مرافقيه بين مخلوقات مركبة وتجسيد الثور  (الصورة رقم 11).

الصورة رقم 11: منحوتات تصور إله الجبل ومرافقيه

( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)

تمثلت درّة المنحوتات بلوحةٍ من البازلت مشوهة في بعض أجزائها، عُثر عليها في الحافة الجنوبية الغربية للجدار الواقع بين القاعة الرئيسة والقاعة الأمامية السابقة لها. يجسد النحت صورة لامرأة (تمثل عشتار) ملتفتة باتجاه اليمين، ترتدي معطفاً طويلاً ذي حزام وفتحة في جزئه  السفلي. الساق اليمنى جرى تغطيتها بينما اليسرى صُورت دون غطاء إلى جانب تجسيد العضو الأنثوي الذي صور فوق الغطاء. رأسها وكتفيها (الكتف الأيمن) غير محفوظين بشكل جيد. تبرز السهام من كتفها الأيسر، الجعبة خلف ظهرها وهي تمسك سلاحاً بيدها اليمنى في حين تمسك باليسرى عصىً ظاهرها مزوق بصفوف من الدوائر والخطوط المنكسرة وداخلها مقسم إلى حقول (الصورة رقم 12). ومن المنحوتات الهامة ايضاً منحوتة تجسد رأس امرأة ترتدي تاجاً يطغى على الوجه له قرنان وعروة خماسية يزينه شريط من الورود (الصورة رقم 14).

الصورة رقم 12: منحوتة عشتار

مصدر الصورة: دراسة ميركو نوفاك نقلاً عن اورتمان، (1993)

الصورة رقم 13: نحت لرأس امرأة

( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)

تُظهر الصور الواردة  من الموقع بعد استهدافه أنّ قاعدة مسلة عشتار الموجودة في صدر المعبد (في الجهة الشمالية منه) قد نجت من التدمير. لكنّ السطح الخارجي للمسلة متضرر بفعل العوامل الجوية عبر الزمن.

 المواضيع الأخرى المنقوشة

بالإضافة إلى النقوش السابقة تضمنت المنحوتات النافرة تمثيلاتٍ متنوعة كضفائر زخرفية، الشجرة المقدسة، الانسان الجالس على كرسي وهو يمثل بلا ريب إلهاً يستعد لاستقبال القرابين والهبات، عملاقاً وهو يروض ثوراً إلى جانب الكثير من المواضيع. ويبدو بأنّ المعبد كان يجمع في مواضيعه النحتية والتشكيلية بين أمرين: أولهما يكمن في تكريس صفة الالوهية ورمزيتها المشتركة بين أغلب مناطق الشرق الأدنى القديم من تصوير الأسود التي رأيناها مسبقاً في ملاحم بلاد الرافدين والأناضول إلى جانب وادي النيل، وبين استنباط العديد من المواضيع الزخرفية من البيئة المحلية التي وجدت ورسخت من الطابع القدسي للمنطقة. من الأمثلة على هذه المواضيع: الإله الموجود في أنصاب عين دارة حيث جُسد كإله الشمس الذي يظهر من وراء الجبل أو على الأرجح بأنه إله الجبال. ويؤيد ذلك ما نجده في أختام بلاد الرافدين حيث نرى قرص الشمس يظهر خلف الجبال بعد أن يفتح له تابعوه باب الليل على مصراعيه الكبيرين. ويوجد ما يشبه هؤلاء الجن الذين يساعدون إله الشمس في اللوحتين المكتشفتين في تل حلف مثلاً، حيث مُثل عليهما جنيان ملتحيان بجسد ثور ويحملان قرص الشمس المجنح كما في اللوح الجميل المحفوظ في متحف حلب. أما الجنيين المجنحين هنا فلهما شكل انسان وغير ثابتين بل يتحركان ويركضان ليرافقا الشمس في حركتها. سواء تم الأخذ بتحديد الإله بأنه إله الجبال (تيشوب) الذي يقوم هو وتابعوه بمساعدة إله الشمس وهو غير ظاهر فإنه يمكننا ربط فكرة التابعين في أنصاب عين دارة وفي نصبي تل حلف جميعها بفكرة دينية .

كما تميزت هذه المنحوتات أيضاً بتشاركها مع منحوتات بوغازكوي (حاتوشا) عاصمة الإمبراطورية الحثية الواقعة في شمالي وسط الأناضول التي لا تبعد عنها كثيراً، وتمثالها من حيث أسلوب دمجها كعنصر معماري وفني بالإضافة إلى طريقة النحت بشكل نافر وهذا ما أدى إلى سهولة تفتتها وانفصال أجزائها عبر الزمن. ويُعبتر هذ الأسلوب النحتي والمعماري من الأساليب الشائعة ومن المميزات الأساسية للفن الحثي إلى جانب استدارة المخالب الذي سمح بالتأريخ رغم عدم العثور على أية كتابات في مواقع عين دارة. فقد جرى تقريب تأريخ هذه المجموعات بالمقارنة مع مكتشفات المواقع المجاورة في تل طعنات، سنجرلي،  كركميش، والباب الكبير في ملاطية. ولا بد من الإشارة بأنّ اكتشاف معبد إله الطقس حدد في قلعة حلب على يد البعثة السورية -الألمانية المشتركة بين عامي (1996 -2004) قد لعب دوراً كبيراً في تحديد الفترة التي تم خلالها تشييد المعبد نظراً للتشابه الكبير من حيث المواضيع وأساليب النحت، إضافة إلى التشابه الكبير بين قاعة قدس الأقداس في عين دارة ومعبد حدد في قلعة حلب.

نهايةً لا بد من التذكير بأنّ خاصية وجود حرم كبير يقوم على مصطبة تحيط به وتتجاوز أطرافه كان نمطاً معمارياً شائعاً في معابد بلاد الرافدين وشمالي سوريا في فترة الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، وفي هذا الخصوص يمكننا العودة لدراسات عالم الآثار العراقي نائل حنون ((9. كان لهذه المصطبة في معبد عين دارة وظيفتان الأولى معمارية والثانية مبنية لتحمي الحرم وتزوده بالحراسة اللازمة عن طريق الأسود والسباع.

أخيراً أود أن أشير بأنّ أعمال التنقيب في موقع جنديرس القريب من معبد عين دارة التي كان لها الفضل بتعريفي على المعبد. كان ذاك في صيف العام 2008 خلال رحلة التنقيب بإدارة الدكتور عمار عبد الرحمن.

زيارة معبد عين دارة

مجرد زيارةٍ قصيرة للمكان كانت كفيلةَ باستباحة التفكير والسيطرة عليه من قبل تلك المجسمات والتماثيل الشاخصة التي  كانت تتشبث به وتحمي ما تبقى منه. للوهلة الأولى شعرت أن وظيفة هذه المنحوتات مازالت تعطي نتائجها حتى ولو بعد ثلاثة آلاف عام.

لأول مرة أجد في نفسي رغبةّ عميقة للصلاة، فلهالة الأنصاب الضخمة وروعة المنحوتات ما يوحي بالقداسة، وذلك  على الرغم من تلاشي العديد من تفاصيلها وزخارفها التي غاب أغلبها، إلى جانب أن بعض المنحوتات كانت مهشمة الرؤوس والأطراف السفلية.

 بالنسبة لنا خسارة اليوم لم تكن وليدة اللحظة وإن كانت أفدحها. فعند الدخول والمرور في حرم المعبد والتمعن بالوضع الذي آل إليه آنذاك جرّاء الإهمال أدركتُ حجم الانكسار والفاجعة التي حلت بمنحوتاتٍ لا تقل شأناً عن أهالي هذه البلاد. أما كانت هذه الآثار الفريدة لتستحق أن تُحفظ وتقوم في متاحف تُقدر قيمتها؟ للأسف باتت ذاكرة هذه البلاد عرضة للاستباحة والتدمير والتجارة من كل حدبٍ وصوب. إلا أنّ هذه البلاد لا تنسى ولا تُمحى ملامحها قطعاً فمازالت تحتضن في سوياتها ما يشهد ويفوق كل هذه الأدوات البشعة والوحشية التي تسعى لاجتثاثها وسلخها عن نسيجها الأصلي.

الهوامش:

1 – اندرسن، بندكت. الجماعات المتخيلة ( تأملات في أصل القومية وانتشارها)- ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.

2 – توثيق الأضرار تم بالاعتماد على الدراسات الحديثة التي قام بها  المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية (ASOR) : UPDATE: Ain Dara

والتقرير الذي أعدته وكالة أنباء هوار: طائرات الاحتلال التركي دمر تل عين دارة الأثري

والتقرير الذي أعدته شبكة كوردستان 24:  WATCH: Turkish shelling destroys iconic Iron Age temple in Syrian Kurdistan

3 – الصيرفي، فيصل؛ كيريشيان، آغوب؛ ودونان، موريس: الحوليات الأثرية السورية (حفريات أثرية في عين دارة) العدد الخامس عشر 1965.

Novak, Mirko. The Temple of Ain Dara in the Context of Imperial   –4

And Neo-Hittite Architecture and Art. “Temple Building and Temple cult.” Proceedings of a Conference on the Occasion of the 50th Anniversary of the Institute of Biblical Archaeology at the University of Tübingen (28 – 30 May 2010), Band 41, (41-50).

5 – الصيرفي، فيصل: الحوليات الأثرية السورية (الموسم الأول في عين دارة) العدد العاشر 1960.

6 – Oxford Encyclopedia of ancient Near East, (Ain Dara)  Oxford university 1997-7  Volume 1, (38-37)

7 –  لمعرفة أكبر عن الموضوع يمكن الرجوع للمقالة:  The Riddle of  Ishtar’s Shoes: The Religious Significance of the  Footprints  at ‘Ain Dara from Comparative Perspective ” THOMAS, Paul brain”.

8 – أبو عساف،علي: فنون الممالك القديمة، دار شمأل، 1993.صـ 185-181-180

9 – حنون، نائل: مهد الحضارة ” خصائص عمارة المعابد في عصر اوروك الأخير وجمدة نصر” المديرية العامة للآثار والمتاحف- العدد (9-8) صـ 26