الثورة الافتراضية

[الحراك في المغرب. المصدر: موقع الخبر] [الحراك في المغرب. المصدر: موقع الخبر]

الثورة الافتراضية

By : Rachid Yamlouli رشيد اليملولي

ارتبط الاحتجاج بخلل انتاب المشاريع السياسية، والأنظمة التي تحتضنها من خلال العجز عن جسر الهوة بين القول السياسي والفعل المرتبط به. أي غياب الانسجام بين المشروع السياسي والحالة الاجتماعية والاقتصادية، بشكل قد يوحي بأن المجال السياسي محكوم بالانقلاب والارتجاع عن لحظة الخطاب السياسي، مما أفرز في الواقع "حكرة" تلتقي عندها المضامين السياسية والاجتماعية والنفسية، في ظل تنامي الفارق الخرافي دال النسيج الاجتماعي. ونكاد نوافق أن الجهر بالاحتجاج انطلاقا من رسائل وشعارات يروم في الأساس المجاهرة باللا مساواة وانعدام العدالة الاجتماعية، بل و يتعداها إلى "محاكمة" النظام التنموي المتبع، عبر تقييم أداء فعل الفاعل الرئيس سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، لدرجة أن الاقتراع السياسي في محطاته العديدة، قد تحول مع تنامي الفشل السياسي إلى مجرد " روتين "، أو تمرين و في أحسن الأحوال أداة ووسيلة يتأبد بها الاستغلال والتمويه خلف أقنعة سياسية، تتفنن في إقبار ووأد الأمل السياسي وإن بدرجات مختلفة .

تدين الحركة الاحتجاجية الحالية في المغرب و منذ حركة 20 فبراير وإلى غاية حملة المقاطعة ضد بعض المنتوجات الوطنية، إلى التحول في نمط و فلسفة الاحتجاج ذاتها، الذي عبر عنه الانتقال من الاحتجاج "الرسمي" المؤطر إما سياسيا أو نقابيا من طرف قوى تشتغل في العلن،أو قوى محظورة،إلى الاحتجاج العنكبوتي الذي يؤطره مجتمع الاتصال والتواصل، وفي هذا إيحاء بانتقال الثقل السياسي من التنظيمات الحزبية والنقابية الموازية لها،إلى مرحلة سيادة الشارع باعتباره فضاء عموميا فاعلا وقادرا على صياغة تصور احتجاجي في أفق تقديم بديله وقوته الاقتراحية. غير أن الالتفاف الذي ميز انتفاضة حركة 20 فبراير من طرف النظام السياسي برمته، والارتجاع الذي عبر عنه مجموع مكونات هذا النظام، قد ولد في تجربة المقاطعة الاحتجاجية نوعا من استيعاب الدرس النضالي، والاكتفاء بالعالم الافتراضي باعتباره أداة يمكن أن تسهم في تكوين كتلة تاريخية قادرة على قيادة معركة نضالية،و هذه المرة بالعودة إلى المطالب المادية المعلن عنها في حملة المقاطعة هاته، بعد أن كانت تجربة 20 فبراير ثورة سياسية تقترح الانتصار لقيم الحرية والمشاركة والكرامة وبتعبير سوسيولوجي دال الحكرة، وبسقف مطالب عالية من خلال إسقاط الاستبداد ورموزه، بشكل أفاد في معرفة طبيعة الحرمان النفسي والشعور بالدونية والظلم واللاعدالة في توزيع الخيرات المتعلقة بالأمن النفسي والغذائي أو الاقتصادي منه والاجتماعي .

إن الحركة الاحتجاجية في صيغة 2011و 2018 تأخذ صفة اجتماعية على مستوى بناء خطابها ووسائلها التي تنحو منحى تدريجياً، يسوغ مقومات كيانه الخاص الذي له قسماته وسماته المعبرة عن جوهره وأفقه الاجتماعي، إذ إن الشك الذي يحوم حول طبيعة وسقف المطالب والإجماع الافتراضي، سرعان ما يرتد إلى وهم "معياري" ينطلق من الفكرة إلى الواقع، وليس نزولا إلى الواقع بغرض صياغة الفكرة،وفي هذا تسقط غالبية الافتراضات النظرية المؤطرة للفعل الاحتجاجي، إن نحن استحضرنا جدوى وفاعلية الخطوات النضالية ونتائجها المرحلية .

لم تتبن الحركة الاحتجاجية الداعية للمقاطعة خطابا أو شعارا، يرمي إلى الجهر بنقد المؤسسات السياسية القائمة، ولكنه رنا ببصره نحو دلالة الفعل الاحتجاجي من خلال منتوجات بعينه، ساعيا من وراء ذلك إلى تقويض "الجشع" الذي ميز هذه العينة من الشركات . وإذا كان البعض يرى أن الكتائب الالكترونية لحزب العدالة والتنمية، هي التي تقف وراء هذا الحراك، فإننا وعلى الرغم من عدم تسليمنا بإطلاقية هذاالتصور، نرى في الخطاب والحركة معا منحى شعبي و غير شعبوي، قد يمتد إلى مقاطعة هذا الحزب سياسي، و ذلك استنادا إلى المؤشرات المقدمة والمتنوعة من طرف رواد التواصل الاجتماعي، سواء برفض الركوب على الحركة ،أو تقديم نقد صريح وواضح للمسؤولين السياسيين البارزين، خاصة من كانت لهم اليد الطولى في تردي الأوضاع، أو في التأسيس لموجة الغضب عبر العديد من القرارات المتخذة من طرف الحكومة "الملتحية"، ولا أدل على ذلك من تحرير قطاع المحروقات ، وإصلاحات التقاعد، لذا فمنسوب التذمر من مسؤولية الحزب "المتأسلم" تتنامى بشكل متزايد داخل الفضاء الافتراضي والمواقع الخاصة به . 

بناء على ذلك ؛ تمرغ المقاطعة في حياض كتائب العدالة والتنمية أو بإيعاز منها  بعيد بدرجة كبيرة عن المشروع السياسي لهذا الكائن أو لأي مشروع سياسي بديل، فهو بذلك حكر على الجماعة الافتراضية بمختلف هوياتها و منطلقاتها الاجتماعية والمعيشية بالأساس ، و ليس ردا وانعكاسا مباشرا بالضرورة وصدى للبلوكاج السياسي الذي كان وراءه بعض رموز الإدارة واليمين السياسي في المغرب ، الذي يشتغل وفق منطق خفافيش الليل، ونقد الزعيم الحالي " للأحرار" . 

في المحصلة النهائية لقراءة المشهد، الحركة الاحتجاجية التي تقف وراء هذا الفعل الاحتجاجي ، مطالبة بتطوير هذا المد، وصياغة أطره الدافعة للإنجاز، وتحويل الأمر من فكرة الرفض والمقاطعة، إلى ابتداع مواجهة احتجاجية حجاجية "دامغة" تكفل في المدى البعيد والقريب بناء رأي عام لها مصداقيته وبرنامج النضالي والحقوقي ، وقوته الاقتراحية القادرة على صياغة مركزه الخاص في موازين القوى والحراك الاجتماعي، دون الارتماء في أي هاجس استعراضي ينطوي على طموحات مرحلية محكومة بتحقيق مطالب آنية، وإنما طموحات استراتيجية لها خطها النضالي في تقوية الجبهة المدافعة عن المجتمع التنموي وقيم العدالة والوطنية الراسخة، ومبادئ المغرب المتنوع الطامح إلى الدخول إلى النوادي العالمية في مؤشرات القوة العلمية والثقافية . 

إن سلوك المقاطعة الاحتجاجي يتعالى عن النمطين المعروفين؛ أي الاحتجاج المشروع والمؤطر قانونيا، والذي يتجلى في المظاهرات و الإضرابات المرخص لها ، أو الاحتجاج غير المشروع، أي الذي لا يستند على أي شرعية قانونية ، وهو ما يفيد بأن النص القانوني والذهنية المرافقة لها تبقى متخلفة عن الحرب الاستباقية، وقراءة المتغيرات وعقلها قانونيا وتنظيميا، مما قد يطرح إشكالا عميقا، يتعلق بكيفية ملاءمة النصوص مع المتغيرات الاجتماعية ، ومعانقة التركيبة الذهنية والنفسية المواكبة للتطور الاجتماعي في ظل مجتمع المعرفة والثقافة و التواصل ، و ليس مجتمع التقنين والتأطير والسلطة  الذي يظل أسير هواجس و حسابات المراقبة، والحرص على التفاني في الولاء والطاعة والافتتان و خدمة العلاقات والشبكات السلطوية، وهذا ما يجعل المجتمع القانوني غير قادر بحكم الفلسفة التي تحكمه أن يمارس الحرب الاستباقية تفاعلا مع تطور الوعي والأشكال النضالية المرتبطة به، وذلك ما يجعله قادرا على النمو والتطور. ولا أدل على ذلك من وسائل الاتصال والتي عانقت السلطة وبجلت منطقها في الاشتغال، بهدف الحفاظ على "زبونية" غير مفهوم، وعلى علاقات غير تواصلية، لأنها تتعارض في بنيتها ومبدئها مع مصالح المواطن، لدرجة تحول معها الإعلام العمومي في المغرب إلى أداة ذيلية لا تتوفر على مسافة نقدية تجاه السلطة. وتفتقر بالتالي إلى المهنية التي توصلها للانخراط في مشاريع إعلامية مجتمعية. وهو ما يفسر التجاهل غير المسؤول من جانبها تجاه المد الافتراضي، والاستمرار في القفز على قضاياه المعيشية والإنسانية، بل و تقديم مادة إعلامية مريعة تهتم بالرقص واللهو والترفيه المبالغ فيه الخارج عن أي رسالة أو خط إعلامي هادف، حتى يكاد الأمر يعني في استمراريته مشروعا مؤسسا لغاية فرملة و تلغيم أي حركة ثقافية أو مد توعوي يطالب فيه الناس بالمجتمع المنشود ، فهل دبر الأمر بليل ؟،وإلا كيف يعلل استمرار الإعلام المغربي في الخط المناوئ للحركية والفاعلية الاجتماعية التي ميزت العديد من لحظاته، وذلك طيلة عقود ؟ .

 إن النقلة التي ميزت الحدث الاحتجاجي والسلوك المرتبط به في ظل حراك المقاطعة، توضح بما لا يدع مجالا للشك أن منسوب الوعي تطور في اتجاه ترسيخ مبدأ السلمية تجاه السلطة السياسية والأمنية. إذ لم ينفك يؤكد على طابعه المغربي الصرف ،الذي لا ينتمي لأي اتجاه أو ايديولوجية عنيفة أو متطرفةأوأجندة خارجية، إذ يتحرك في المجال المشروع الذي تم النصيص عليه في الوثيقة الدستورية لسنة 2011،الأكثر من هذا أنه قدم دلالة مفيدة في معرفة هذا الانتقال، وهي رفض النزول إلى الشارع ، حتى لا يتحول إلى مجابهة واستعراض عضلات ،أو يعطي الفرصة للمقاربة الأمنية لتكرس خيريتها ومنطقها الخاص في تنزيل وتأويل الأحداث بما يساير توجهاته، و من تم يسهل إجهاض المحاولة وامتصاص بريقها عبر التقاط رؤوسها ورموزها والزج بهم في الغرف السوداء والتضييق عليهم في الحياة العامة، ويبدو أن الاستفادة من مسار حراك الريف وجرادة، قد بدا جليا في فهم وتطبيق مقتضيات العمل وفق الشبكة الافتراضية وفلسفة توجيها وحبك خيوط تحركها ، التي استطاعت فيها التفوق على العمل النقابي و تجاوزه، وقد لا نغالي إذا قلنا تحييد دوره، بفعل هزالة الثمن الاجتماعي للحوار الذي عجز عن تقديم ما من شأنه تطوير الحركة الاحتجاجية، وتقوية سبل مناعتها من أي اختراق سلطوي أو سياسي معين. هذه المهمة التي أنيطت بالحركة النقابية ومنذ الاستقلال وبإيعاز من الظروف المحلية والدولية، أسهمت في تمييع العمل النقابي وأردته موسميا بفعل ارتباطه بالأحزاب السياسية وهواجسها، وبمنطق اشتغال السلطة وقدرتها على موضعة الحركة في سياق محدد من الفعل النضالي، ويتضح في هذا السياق أن زيادة 600درهم إبان موجة الانتفاضة التي تزعمتها حركة 20 فبراير ، قد تمت بعيدا عن المركزيات النقابية من أجل شراء السلم الاجتماعي، ونفي دورها في الحراك السياسي والاجتماعي، مخافة تقوية هذا الحزب أو ذاك، أو بلغة أدق تقزيم الأحزاب ونفي دورها الريادي في العملية الاحتجاجية، في أفق إنزال هيبته الانتخابية، بشكل بدت معه المركزيات النقابية متواطئة بدرجة وبأخرى في التحايل والخداع السياسي بعيدا عن الاقتناع الحقيقي بإصلاح وإرساء العمل التنظيمي والاجتماعي المتين . 

أبانت الحملة عن وعي سياسي باهت يرقى إلى الضحالة والضعف الذي قل نظيره، قد يعين بذلك على فهم صعوبة تنزيل " القيم " الإيجابية في الوثيقة الدستورية، إذ إن مصطلح "المداويخ" بدلالته الاجتماعية والنفسية التحقيرية، تفيد بأن فعل الاحتجاج هو نتيجة مرضية لعينة كبيرة من المرضى النفسيين "الهبال بالمعنى الدارج أي الحماق"، وهي امتداد لذهنية ثقافية حسبت الاحتجاج عقوقا وعصيانا و"كفرا" سياسيا، ولا أدل على ذلك من جملة النعوت التي وصفت بها المعارضة في المجال الحضاري الإسلامي، من قبيل السوقة والرعاع والسفلة وأراذل القوم، والدهماء والهمج والأوباش والمارقين والأصلاف و الأجلاف والعصاة، وهي كلها نعوت تستصغر الحق في الاعتراض، وتسفه الرأي والحلم في غد أفضل، وفقا لذلك قد يذهب الاعتقاد إلى أن النخب السياسية أو بلغة واضحة "العقلية التقنوقراطية" لا تعقل ما تصنع، وليس لها من الدربة والخبرة مما يعينها على الخوض في السياسة وتدبير القول داخل مجالها، الذي يعد مجالا لا شيء فيه على السجية. كل الإشارات والإيماءات تحمل خطابا، تقدر فيه الخطوة بألف ميل، ولا حاجة للتذكير بغياب وتغييب الاستقالة بفعل خطأ فادح في سوء التقدير والقول والأدب، إذا لأمر موكول إلى الثقافة الحاملة للمشروع السياسي، فكيف بمن لا يحترم تعدد المغاربة، اختلافهم، تعددهم، الذي من المفروض أن يكون معطى سيادي وعامل قوة، إلا إذا كان القفز على السياسة لممارستها بغير منطقها، وفي أحسن الأحوال غياب المحاسبة وربطها بالمسؤولية، مع العلم أن بعض الأحزاب لا تعلم في السياسة إلا يومياتها وليس فلسفتها و أفقها ومرجعيتها النظرية. كما أننا في حاجة للاقتداء بنموذج معين في حسن الأدب، ما دامت المدرسة علمتنا قيمة من لا يستحي يصنع ما يشاء. 

لا تقتصر الآفة على غياب الثقافة السياسية المنظمة للقول السياسي في ظل التفاعل السلبي مع حملة المقاطعة، حيث تصل إلى خرافة الردود، بموجبها تم النهل من القاموس الديني وأضحى على أساسه المغاربة خونة حين يقاطعون، ووطنيون شرفاء حين تداس أم كرامتهم بالنعال، وكأن الوطنية تقاس بالحليب، وتراب الوطن أكياس منمقة في القيمة والحجم، مكتوب عليها رحم الله من شرب وسكت وتجرع مرارة العيش و تضرع لله أن ينصر حليب الوطن وزبدة الوطن وقشدة الوطن ومشتقاته، الوطنية أن يمرغ الأجر والمدخول في سياسة التقشف وتصبح صناديق الدولة خزانا لا ينضب بإشارة من الرغبة في تنظيم تظاهرة كأس العالم، آنذاك تتحول الدولة إلى بلد الرفاه المالي والخزائن التي لا تتوقف . أليس في الفعل ازدواجية في المعايير ؟ 

لا نشك أن ردود الفعل تجاه الحملة تنتمي في صيغها ومضمونها إلى عوالم سريالية في التقدير على مستوى الخطاب والتصرف ، و غياب التواصل والتفاعل في القضايا الوطنية والمصيرية، بل ما العيب في الإنصات لنبض الشارع، أحلامه وواقعه؟ وأين القوة في تجاهله والإعراض عنه تحقيره والتعالي عليه؟ 

أليس المشروع التنموي والسياسي والاجتماعي للدولة ومنذ الاستقلال في حاجة ماسة وملحة وحضارية لإعادة صياغة المؤسسات برمتها؟

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • السلطة والمجتمع المدني والانتقال المعاق: حالة المغرب

      السلطة والمجتمع المدني والانتقال المعاق: حالة المغرب

      يقول الطاهر لبيب :"إن التغيير في معناه الاجتماعي هو موضوع فعل، أي موضوع إرادة وتدخل، إنه باختصار موضوع صراع تؤثر نتائجه في مستوى البنية الاجتماعية، التمييز إذن بين تغيير ينظر إليه خارج التغيير الاجتماعي وبين تغيير يتضمن التغير".

    • الذاكرة المجروحة

      الذاكرة المجروحة
      لم تستطع التجربة السياسية المغربية أن تؤسس ذاتها بعيدا عن القوة والمخزنة، وتكاد أدبيات هذه التجربة أن تعلو على كل التجارب ،في المجال الثقافي والحقوقي والاجتماعي؛ أي أن أوفقير وإدريس البصري والدليمي ع
    • الحركة الاحتجاجية في المغرب

      الحركة الاحتجاجية في المغرب
       يبدو أن الحركة الاحتجاجية في المغرب مدينة في روحها وأفقها لتراث نضالي، لا يرتبط بفترة محددة، ولا ينزع نحو المعجزة؛ بمعنى أنه استمرار وامتداد للثقافة النضالية التي أرسى قواعدها العديد من الفاعلي

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬