جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
باسل رمسيس: لا جديد سيساوياً في الفضيحة المصرية
ربما كانت المشاركة المصرية في المونديال، ومادار حولها، واحدة من أبلغ التعابير عن بعض ملامح مصر في زمن السيسي، لدرجة أن كل التفاصيل الكروية الحاضرة في هذا النص، والغائبة عنه، نجد إحالات لها في الواقع السياسي والاجتماعي المصري/السيساوي.
بدأ المسار المصري بالثقة في البطل الفرد، محمد صلاح، الذي سيحقق حلم الجماهير، مع حالة من حالات فقدان الثقة الكامل في أغلب زملائه وفي الفريقين الفني والإداري، لدرجة تذكرك بأسطورة محمد البرادعي، البطل الفرد والفارس النبيل، المحاط بالأوغاد. لكن محمد صلاح يقع مصابا قبل المونديال، ومثلما اكتسب البطولة والشهرة نتيجة اعتراف "الخواجات" بقيمته، يقع بسبب تدخل لاعب "خواجة". ليظهر عنصران أساسيان من عناصر الثقافة العامية المصرية بعد يناير ٢٠١١، وكانا قد تضخما خلال سنوات السيسي الكابوسية، المؤامرة الخارجية علينا كوننا مستهدفون، والإحساس بالمظلومية الشعبية العامة التي تري أننا شعب أوقعه حظه العسر في ثقب أسود خارج التاريخ والجغرافيا. مؤامرة وحظ عسر يخلعان كتف محمد صلاح.
دائما ما يصاحب تأهل أي فريق وطني لكأس العالم تصاعد في المشاعر والخطابات الوطنية، المتمحورة حول الشعب والبلد العظيمين. لكن الحالة المصرية سيرت هذا التصاعد في اتجاهين متضادين، على المستوي الشعبي تعويضا عن حالة الاخفاق والفشل والتراجع في كل المجالات، وتعويضا عن الهزيمة الشاملة. وعلى المستوي السلطوي تصوير المشاركة في المونديال باعتبارها إشارة لبداية الازدهار السيساوي، وبالذات مع نظام لا يملك أي خطاب أيديولوجي متماسك سوى الوطن الذي حماه وأنقذه عسكره، و"أم الدنيا اللي هاتبقي قد الدنيا". حتى وإن كان الطموح الأكبر هو مجرد التمثيل المشرف والعبور للدور الثاني.
البطل الأسطوري يصارع إصابته وسيلحق بالمباراة الثانية، سيخلص المصريين من المهانة، وسينتقم من المعادل الكروي للمستبد والمذل "السيسي". فمثلما يقوم الرئيس بإذلال مواطنيه بأنهم لا يستحقونه، وبأنه أنقذهم من الهلاك، وبأنه الوحيد الذي يتحلى بالحكمة والمعرفة، سيخلصنا محمد صلاح من لعنة مجدي عبد الغني، الذي قام بإذلال المصريين خلال أكثر من ثمانية وعشرين عاما بأنه الوحيد الذي أحرز هدفا وقت المشاركة المصرية الأخيرة في المونديال، برغم كل ما يثار حوله من فضائح فساد وخلافه.
ومجدي عبد الغني، عضو الاتحاد المصري لكرة القدم، هو أيضا المعادل السيساوي على مستوي العلاقات المشبوهة والمذلة بالمملكة العربية السعودية. فبعد فضيحة سرقة، ستظل تفاصيلها - مثل الكثير من الفضائح في الزمن المخابراتي - داخل الصندوق الأسود الحامل للأسرار، يتم إقصاؤه عن البعثة المصرية. لكنه يصل فعلا للمونديال ولمقر البعثة بفضل الكفيل السعودي "تركي آل الشيخ"، بفضل المنافس! وتركي آل الشيخ، رئيس جهاز الرياضة السعودي كان قد اشتهر لدى المصريين بفضائح مالية، وبشبكة مهولة من الأذرع داخل مؤسسات الرياضة المصرية، لدرجة اجتماعه مع رئيس الجمهورية لاتخاذ قرارات حيوية تخص كرة القدم المصرية، وكأنه “كفيلها”!
الجعجعة الوطنية تجد أمامها عائق أننا نلعب في مجموعة تضم أثنين من أقرب حلفاء العسكر المصريين، السعودية التي لولاها لما توطدت سلطتهم، وروسيا التي تجمع الصداقة والخلفية المخابراتية المشتركة بين رئيسها وبين الرئيس المصري، وقد كانت الحليف الأقوى قبل أن يرتب العسكر المصريون ملفاتهم الأوروبية والأمريكية.
سنخسر أمام الأورجواي، وهذا طبيعي لكونها أقوى فرق المجموعة، وبالذات مع غياب محمد صلاح. لكننا نستطيع هزيمة روسيا أو على الأقل التعادل معها. و"طبعا" سنهزم السعودية هزيمة مهينة، تعادل هزيمتها أمام روسيا، والتي تسببت في واحدة من أقوى حالات الشماتة الجماعية المصرية خلال الأعوام الأخيرة. هذا الانتصار الحلم سيكون ثأرا لفقدان جزيرتي تيران وصنافير، ثأرا من نظام الكفيل، وثأرا من التغلغل السعودي في الكثير من شؤوننا خلال حكم السيسي. كل هذا بناء على التصور الشعبي المصري العام، مع تجاهل بعض المشككين، والبعض من سيئي النية القائلين بأن المباراة سوف تباع للسعودية.
لكن الفضائح تتوالي، فساد وأخبار ببيع بعض اللاعبين لأندية سعودية خلال المونديال! تسفير لوفد موسع من "قطيع المشاهير للتطبيل السيساوي"، الذي يتم استدعاؤه عند الحاجة، حتى أثناء المذابح الجماعية! فوضى في التنظيم ووفد المشاهير يغزو نفس الفندق الذي يقيم فيه المنتخب والجهاز الإداري والفني، لتتحول الصورة إلى "مليطة" بالتعبير المصري! صور وعشاء مع رئيس دولة الشيشان تشكل فضيحة للمنتخب وبالذات لمحمد صلاح أوروبيا! أداء باهت أمام الفريق الروسي! وأداء أكثر تواضعا وريبة أمام المنتخب السعودي ينتهي بالهزيمة المصرية.
يعود المنتخب المصري إلى أرض السيسي مكللا بالعار شعبيا، في اتساق كامل مع حالة عامة لا تسمح سوى بالانكسارات المتتالية. يعود لينعش حالة الاستقطاب المجتمعي وتغير المشاعر الجماعية من النقيض للنقيض، والتي ميزت المصريين بعد هزيمة ثورة يناير ٢٠١١. فهذا المنتخب الوطني العظيم، يتحول بعد مباراة السعودية بدقيقة واحدة إلى المنتخب المستهدف علانية وفي الشوارع بأقذر السباب، وككتلة واحدة دون أي تمييز بين لاعب وآخر. فيما عدا محمد صلاح، هذا البطل الذي يصارع الأقدار، ينجو من الغضب الشعبي، بل يتم تشجيعه على قطع كل صلاته بمصر التي سقطت في الثقب الأسود، والتي يحلم أغلب شبابها بالهرب منها. لكن محمد صلاح لا ينجو من القانون السيساوي الإعلامي القائل بضرورة تشويه وتدمير أي شخص يبرز أو يتمايز عن الانحدار المصري العام.
ربما يلاحظ من يقرأ هذا النص بأن هناك بعض اللبس في بعض التعبيرات، كأن يوصف ما هو سيساوي بالمصري، والعكس. هو لبس مقصود، ومنسجم تماما مع حالة التماهي بين الديكتاتور العسكري والوطن المهزوم.
تبقي الدعابة السيساوية الأخيرة: يعقد اتحاد الكرة مؤتمرا صحفيا امتاز بالتصفيق المتواصل من قبل الصحفيين، المفترض أن مهمتهم هي طرح الأسئلة وليس التصفيق. وينتهي بأنه لا استقالات أو محاسبات هنا، فصفر المونديال هو نصر مصري خالص، مثلما كانت ما أسموها بـ "قناة السويس الجديدة" هي هدية مصر للعالم، وأكبر إخفاق اقتصادي سيساوي في نفس الوقت. بعد المؤتمر بعدة أيام، وخلال كتابة هذا النص، يصرح هاني أبو ريدة، رئيس اتحاد الكرة، لإحدى الجرائد بعبارة من ثوابت الزمن السيساوي "الإخوان مسؤولون عن أزمة المنتخب في روسيا”!! وفي نفس اليوم يوافق البرلمان المصري على قانون جديد لتحصين قيادات العسكر المصريين أمام أي مسائلة أو محاكمة مستقبلية، عن أي جرائم إرتكبوها.