"الفن السابع الأفريقي مدرسة مسائية لمحو الأمية السياسية والاجتماعية - عثمان سمبين"
جسد الروائي والسينمائي السنغالي عثمان سمبين (1923 ـ 2007)، صوت أفريقيا في عالم السينما، على الرغم من أنه صاحب ميول أدبية، وكاتب رواية من طراز رفيع - صدر له باللغة الفرنسية عدة روايات مثل : "عامل تحميل السفن الأسود"، و"خالا" (حولها لاحقا الى فيلم بالاسم نفسه) و"قطع الخشب السماوية"- ، يمكن أن تضعه مع كتاب أفريقيا العظماء مثل : وول سوينكا وتشينوا اتشيبي. إلا أنه توجه للسينما، لإعتقاده بأن السينما ستعمل على مساعدة أفريقيا في التحدث بأسلوب خاص بها، من خلال النزعة الإنسانية القوية والحيوية التي تمنحها الصورة السينمائية، وإن نشر كتاب مكتوب باللغة الفرنسية لن يصل إلا إلى أقلية. على النقيض من ذلك، السينما تسمح بالمجادلة مع الناس. وتسهل عملية اللقاء الفكري بين أفريقيا والعالم الآخر، حيث تسلط الكاميرا الضوء على الظلم في الداخل والخارج.
لعبت صعوبة حياة سيمبين الذي ولد في عام 1923 لعائلة فقيرة، وعمل كصياد في طفولته ثم حمالاً، والخدمة في الجيش الفرنسي إثناء الحرب العالمية الثانية، العمل في موانئ مارسيليا الفرنسية قرابة عشر سنوات. بأن يلعب دورا هامًا في المناقشات السياسية والأدبية ما بعد الحرب العالمية الثانية من أجل إنهاء الاستعمار الأفريقي.
وتميز سيمبين بنهج راديكالي، فكان مؤيدًا للاستقلال. وضد أي ميول اندماجية مع المستعمر الفرنسي والتي أنتهجها مؤيدي الحركة الأدبية المرتبطة بالكتاب مثل إيميه سيزير وليوبولد سنغور(أول رئيس للسنغال). وسيبقى سيمبين لنهاية حياته 2007 ناقدًا لاذعًا لأنظمة ما بعد التحرر من الإستعمار في أفريقيا.
ففي مقابلة عام 2004 مع الصحيفة اليومية للحزب الشيوعي الفرنسي، أشار سيمبين إلى أنه خلال أكثر من 40 عامًا على تحرير السنغال ، قتلنا المزيد من الأفارقة أكثر من الذين ماتوا منذ بداية تجارة الرقيق .
وبهذا شكل سيمبين ابن الحزب الشيوعي الفرنسي -انضم سيمبين للحزب باعتباره عامل رصيف في موانئ مرسيليا في الأربعينيات-، نهج منفصل باحثًا عن روح أفريقيا خالصة بدون أي مخلفات إستعمارية، وهذا ما سيظهر في أعماله السينمائية في شكل "صراع هوية" وصراع بين القطيعة مع الماضي الأفريقي، أم القتال من أجله.
في عام 1960، حصلت السنغال على إستقلالها من فرنسا وعاد سيمبين إلى بلاده، بعد ما يقرب من20 عامًا في فرنسا. يقول عن هذا : أردت أن أعرف قارتي الخاصة. ذهبت إلى كل مكان، لأتعرف على الناس والقبائل والثقافات. كنت في الأربعين من عمري، وكنت أرغب في صناعة الأفلام. كنت أرغب في إعطاء انطباع آخر عن أفريقيا. وبما أن ثقافتنا كانت شفوية بشكل أساسي، فقد أردت تصوير الواقع من خلال الطقوس والرقص.
وهكذا طور أسلوب صناعة الأفلام في السنغال، الذي كان شعبويًا وتعليميًا وأحيانًا دعائيًا، وحدث في تقنياته. وكثيراً ما استخدم الممثلون غير المحترفين وكتب حوارًا بلغات أفريقية مختلفة.
في فلمي "Ceddo" و "Xala" نقد سيمبين إخفاقات الحكومات الأفريقية الحديثة -ما بعد التحرر من الإستعمار- وتجاوزاتها في مجال حقوق الإنسان فسادها، في طابع تكسوه السخرية، في فيلم '' Xala'' يعالج، كما يشير الكاتب وجدي كامل، موضوع السلطة والسياسة والمجتمع الأفريقي في نموذج السنغال . فـ '' Xala" تعني اللعنة أو العجز الجنسي الذي يصيب مسؤولاً كبيراً بالدولة بهذه الحالة ليلة زفافه من بنت صغيرة وهو الذي بلغ عمره سبعين عاماً وتزوج للمرة الثالثة.
وركز نقد سيمبين خصوصًا للرئيس والأديب ليوبولد سيدار سنغور، أول رئيس لسنغال، فقد كان سيمبين الخصم السياسي والأدبي المباشر له، فلكل منهما رؤية مختلفة للسنغال ما بعد الإستعمار.
فسنغور الذي تلقى تعليم النخبة في فرنسا المتروبولية، أعتقد أن الأفارقة داخل الأراضي التي كانت تحكمها فرنسا يمكنهم أن يستخلصوا هوية لأنفسهم داخل الكون الأكبر من خلال اللغة والحضارة الفرنسية.
عكس سيمبين تمامًا الذي انتهى تعليمه النظامي في الصف السادس، وتعلم الفرنسية لكن ليس في المدرسة العليا للدراسات في باريس، بل على أرصفة مرسيليا وداخل الحركة النقابية الراديكالية. ومثل سيكو توريه وفرانتز فانون ، حلفاءه في الجناح الراديكالي للحركة المناهضة للاستعمار ، اعتقد أن الأفارقة سيخوضون تحررًاً حقيقياً عندما يرمون النماذج الأوروبية ويكتشفون نسخهم الخاصة من الحداثة المحلية.
وهذا ما أعطى مكانة فريدة حقًا لـ"سيمبين" الذى تحدى شخصية مهيمنة سياسيًا وثقافيًا مثل سنغور. محاولًا بناء ثقافة أفريقية خالصة، وأثناء هذا التحدي عمل سيمبين على تثمين اللغات الأفريقية وشجعها عن الفرنسية (حرص أن يكون كل مكونات أفلامه سنغالية حتى الشتائم). حيث رأي أن الاستقلال سيظل فاشل. ما دام لم يتم مساواة أفريقيا مع أوروبا من حيث الحضارة والثقافة واللغة الخاصة بكل قارة.
وطرح سيمبين إشكالية الهجرة والحلم الذي تملك أبناء أفريقا، والذي تركه مستعمرهم الأسبق فيهم، حلم الشباب بباريس. بالجنة التي لم يأخذوا منها سوى اللغة. ولعل هذا الفكر المناهض للهجرة بناه من خلال تجربته حيث غادر السنغال في أواخر العام 1947 مهاجرًا غير شرعي مختبئ في أحد سفن البضائع وعمل على رصيف في ميناء مارسيليا، وأصبح ناشطًا في الحركة النقابية وصار من قادة الاضراب الذي كان يهدف لمنع إرسال الأسلحة الى حرب فرنسا في فيتنام. ومن هذه التجربة استقى مادة روايته «عامل تحميل السفن الأسود» اولى رواياته بالفرنسية، التي تعامل فيها مع العنصرية التي تواجه العمال السود في فرنسا.
قدم هذه التجربة في فيلم '' Black Girl'' حيث تجسدها فتاة سنغالية تذهب إلى فرنسا مع الفرنسيين الذين تخدمهم حيث تواجه هناك السقوط المريع لأحلامها عن الحياة في باريس.
تواجه هذا الفتاة خريطة القمع الحديث. ديوان الهجرة الأفريقية في فرنسا ، ومجتمع يهيمن عليه الذكور أيضًا، وربما، قبل كل شيء، تدرك الفتاة ما معنى عامل مُستغَل في اقتصاد وحشي عالمي. وتدخل الفتاة في حرب مع نفسها كي تشعر أنها إنسانة كاملة - لاكتشاف من هي - خلال هذه الشبكة من القيود.
تم تصوير هذا الفيلم في عدد قليل من المواقع بالأسود والأبيض، مع صوت مدبلج بعد ذلك، يمكن اعتبار الفيلم ، من بين أشياء أخرى ، بمثابة تحفة لـ سيمبين ، الذي عمل خلال هذا الفيلم مع المصور السينمائي الفرنسي كريستيان لاكوست ، ومع فريق صغير غير محترف ، يتمتع بالبراعة - الرؤية - لتحويل القيود المادية إلى ميزة فنية. إن الحوار غير المتزامن، الذي يبدو أنه يطفو فوق رؤوس الشخصيات بدلاً من الخروج من أفواههم، يعطي نوعاً من الحلم ويغمر القصة بالواقعية القاتمة وبالشعور الغامض بالشوق.
الفيلم قائم على قصة قصيرة من تأليف سيمبين، وهو أول عمل سينمائي درامي طويل لمخرج من جنوب الصحراء الافريقية الكبرى. وقد فاز الفيلم، الناطق بالفرنسية، بجائزة «جان فيغو» مما أعلن مولد مخرج عبقري للسينما الأفريقية.
ولتدليل أكثر على نقطة فساد العيش في فرنسا بالنسبة للمهاجر الأفريقي، هناك قصة يحب أن يقولها سيمبين عن رحلاته عبر أفريقيا في الستينيات.
عندما انتهى السيد سمبين من عرض فيلمه "حوالة مالية" في بلدة صغيرة في الكاميرون.
اقترب منه شرطي محلي. قائلًا : "أين حصلت على هذه القصة؟"
أراد الضابط أن يعرف.
أجاب سيمبين بأن المؤامرة على أسرة سنغالية، والآثار الفوضوية والفاسدة اللتي عانت منها الأسرة في فرنسا ، هي من اختراعه الخاص.
قال الشرطي: "لكن هذا حدث لي"!
في " Moolaadé " وهو أحد أشهر أعماله وأخرها وتم إخراجه في العام 2004، تناول فيه مشكلة ختان النساء، فقد كان سيمبين منتقدًا طوال حياته للنظام الأبوي، "عندما تتقدم المرأة ، يتقدم المجتمع" ، كما قال في وقت متأخر من حياته المهنية. وطالب بإنهاء معاناة المرأة ورعايتها وهذا ما أشار له في العديد من أعماله. ويظهر فيلمه الأخير مجموعة من النساء ضد الممارسات التقليدية المتمثلة في تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، ويتحدى هولاء النسوة سلطة كبار السن في القرية وكذلك الكهنة الذين يؤدون هذه الطقوس. إن هيكل الفيلم مضاد للهيمنة (بالنظر إلى الخلفية الماركسية لسيمبين، ينشئ مسألة جدلية)، مما يسمح للمدافعين والمعارضين للتقاليد بأن يكون لهم رأيهم الخاص كي تسود حالة من الوفاق ينتج عنها عدالة وتنوير خاص بأفريقيا. فقد كان سيمبين يخفف من الحماسة الأخلاقية بالفكاهة. فقد عرف كيف يتحدى النظام الأفريقي دون أن يشعل حرب أهلية، أو بمعنى أصح عرف كيف يخرج بالأفريقي خارج أجواء وأحكام القبيلة، دون أن يكسر خصوصية حضارته وطبيعته.
وبهذا الأسلوب الذكي تميز فيلم " Moolaadé " بالإرتباط بالحياة اليومية الإفريقية. وفي الوقت ذاته مرتبط ومقروء للمشاهدين غير الأفارقة ، ونادراً ما يشعر بالغرابة داخل أفلام سيمبين. فهو كفنان كان شعبويًا وعالميًا، أو نقول "أممي". ولهذا فاز الفيلم بعدة جوائز في مهرجانات «كان» و«واغادوغو» و«بوركينا فاسو».
سيمبين وبعض اللقطات من أعماله
يحل مشهد النهاية في حياة عثمان سيمبين، ويغادرنا في السبت الموافق 9 يونيو 2007، بـ داكار، السنغال، نهاية غير محددة كما نهاية فلمه "Black Girl"، حيث ظهر طفل ذا القناع الأفريقي لم يعرف أحد من هو ومن سيكون، وهكذا رحل سيمبين محاولًا أن يعرفنا ما هي أفريقيا ومحاربًا كي تكون، دون أن يعرف النتيجة. لهذا نحن لسنا فقط بصدد مخرج بل، رجل ماركسي، مناهض للإستعمار، والمجتمع الذكوري، ومناضل ضد إستبداد الحكومات الإفريقية وليدة الإستعمار. إنه حقاً واحد من أهم مخرجي ومفكري أفريقيا. وصاحب روئية يجب أن يقاس من خلالها تجارب صانعي الأفلام من بعده.