سقطت ثلاثةٌ من الألواح الخشبية التي تسند فرشة السرير مرّة أخرى، كان عليّ إزاحته ومصارعة الفرشة التي تزن أطنانًا لأعيد جسر الخشب إلى حافة السرير حيث عليه أن يثبُت حاملًا إيّاي والفرشة لأسبوعين آخرين قبل أن تنهار بعضُ ألواحه مرّة عاشرة، كسّ أخت الشغلة، وأن أدحشَ زاوية الشرشف ما بين الفرشة والجسر فتتقحّط يداي من خيوط الخشب غير المجلوخة. لا، ولا يمكن جهد تافه زيّ هيك أن يهزّ شعرة من بدن امرأة قويّة وكاسرة، ولكنّ شعر جسدي كلّه يهتزّ، ويَصُرّ مثل جنزير كيس البوكسنغ حين يتأرجح بين ركلات المواشي جيري، "لازم حوضِك يفتل ويرجع زيّ الطَلَق، أعلى، جودان".
سقطت ألواحُ الجسر الخشبيّ، وكان عليّ أنْ أجوز هُوّةَ الليل الفاغرةَ مثل وَشَقْ
وأنْ، بيديّ الرّاجفتين، أحفنَ العتمَ عمّا وَسَقْ
سَقَطَتْ، وتدلّت مثل بطن وَحْشةٍ حُبلى ببنتها الوحْشة، وكان عليّ أن أنقذ قدميّ من ذَنَب حرباء مصيدة الليل الملتفّة حول أفقِ حدثِ ثقبٍ أسودَ في حلقِ عنقودٍ نجميٍّ مفتوحٍ آخذٍ بالتفكّك. النظرُ نحو الأسفلِ الآنَ تلبيةٌ لدعوةِ ألسنة نار الله التي تطّلع على الأفئدة، ولكنّ الجهاتِ كلَّها أسفل، وعيناي موجٌ يلاطم موجًا قرب شاطئٍ مفتوح.
كان على العمر أن يجعّد الجلد حول عينيّ حتى أرى البحر مرةً بِكرًا وأُدخِله في المجاز. صحوت إثر لكزة خفيفة على كتفي، ها؟ "شوفي البحر" قالت جوجو، وأدرتُ رأسي الخارج من حلم الظّهيرة الجافّ نحو اليسار، واليسار كان الجهةَ التي تشتعل فيها عباءةُ الماء تحت شمس يافا. البحر، تبلّل الجلدُ حول عينيّ، وسَقَطَت ألواحُ الجسر الخشبيّ.
كانت للماء حينها لُجّةٌ تغتصبُ الدمعَ فيقطر كالنحاس المذاب، كسّ أخت الاحتلال، أين أضع قدميّ الآن؟ التقت سفينتا نوح، ولوّح الرّكاب لبعضهم صارخين ومهلّلين، هياجٌ وصخب اقتبسوا به حلم السفن التي تلتقي أقدارها لحظةً في عرض البحر بعد سفر طويل، ثُلث ساعة في الماء يا ولاد الشرموطة لا تكفي، الدموع في عينيّ بحرٌ آخر، هذه التحيّات الحارّة الساذجة بين ركاب سفينتين صغيرتين قطعتا ميلًا عودةً ومجيئًا على طرف البحر الممنوع لا بدّ أن تكون فقرة سخرية يوميّة يستلذ بها قائدا السفينتين، 25 شيكلاً حقّ التذكرة التي قطعها كلّ واحد من هؤلاء الرّكاب لاعتلاء سفينة يقودها ربّان إسرائيلي يقول لهم حين تزاحموا لصعود الطابق العلوي المفتوح من المركب "اللي بظلّ تَخِت بطلّعه عَ البلكونة". تكوّمنا، نحن من لم يتّسع لنا الطابق العلويّ، في البلكونة (مقدّمة السفينة) وكنّا إذ ذاك أكثر قربًا من صفحة الماء، وكان الفيروز سرّ البحر الذي لم يبحُ به. "بتعيّط"، تقول جوجو لنادية، "معلشّ"، كنت وضعت النظارات الشمسية لأبقي الفضيحة في محجرها ونسيت أن الدمع ينزل ويمس زاوية الفمّ ويهطل ويطال رأس الصدر ويسقط في ملتقى الفخذين المثنيّين. ولكنّ فرح ركّاب السفينتين بخوض عشر دقائق في البحر -والذي ارتفع صراخًا مجوسيًّا لحظة التقاء سفينة ذاهبة في رحلة الثلث ساعة وأخرى عائدة- بِوَجِّع القلب كما لو أنّ البيوت التي تُهدم والشباب الذين يُقتلون وأعوام السجن كلّها ووجع الأمهات التي تثكل وتودّع وتزغرد في آن لا تعادل مرارة فراق البحر ولا لقائه الأول، ولقاؤه أشدّ مرارة من فراقه.
فهناك ينضح العرق وتنقطع الأنفاس، هناك، ترى كيف ينبطح الماء امرأةً تمجُنُ فوق لحمها العاري شفاه الشمس، هناك تحسّ أنّك مُهان ومحروم ومدعوس عكرامتك من حثالة البشر الذين يفلّتون أفاعيَ وخنازير وكلابًا ضالّة وحيوانات لا ذنب لها في القرى لإخافة السكان الأصليّين، ومن شبابيك البيوت التي احتلوها يُخرجون أيورهم على مرآى جيرانهم من العائلات الفلسطينية المحتشمة، وتتذكّر هناك أنّك دفعت لدولة الاحتلال نقودًا لتزور البحر الذي سرقوه منك وحرموك منه وصنعوا من أشواقك إليه اقتصادًا تغذّيه أنت بمالك لأنّ عليك، وأقول عليك، أن ترى البحرَ وقد فرش موجه على الشاطئ، البحرَ وقد لمّ موجه عن الشاطئ، وهناك تصبح فجأة ضحيّة مشاعرك الناعمة وعواطفك التي تمرّنها على الاندثار وأنت تنهال على كيس البوكسنغ بركلات المواشي جيري، دون أن تستطيع مرّة واحدة أن تفتِل حوضك وتعيده زيّ الطّلَق.
حين موجةٌ قويّة ضربت صخور المينا، طرطش الماء على وجهينا جوجو وأنا إذ سرنا مساءً قربه نلتهم ساعة البحر الأخيرة، تاركين دودو التي جرح الحذاء قدمها مستلقيةً على عشب التلّ، رشّقتنا في الماء قُبَلُ أمٍّ محرومة من أولادها منذ سبعين شوطًا في مباراة العمر الذي يشيخ دون أن يبلّل البحر ثيابَ ناسِه، فيشفّ قميص أبيض كاشفًا لحم فتاةٍ تتمرّغ في موج البحر الأوّل ويبدو من تحته لون الستيان الفاقع، فيُغمُّ المنظرُ أمًّا اقترحت هذا المشوار لتفرح بناتها بمشاهدة أولى للبحر. لا أعرف كيف أعتذر عن هذه الغفلة، ولكنّني يَمّا أريد فقط أن يضرب الموج صدري فتنتصب حلمتاه، وأريد أن يغمر الرمل والملح والماء والزبد عنقي وأن يمسّ لساني فأبصقه وأصيح أن الماء مالح. هرتسيليا، هنا تتعكّر بذكرى ثيودور هيرتزل وأنت تلقّط الصدف عن الشاطئ وتقول لنفسك إنّ هذا البحر لولاد الوسخة، هذا الهواء الرّطب لربّهم. عذّبتُ نفسي ذاك المساء برغبة سيجارةٍ على البحر، كنت أريد أن أرتاح على صخور الشّطّ وأسحب دخانها بنهمٍ مثل صيّادٍ يافاوي عاد لتوّه من الماء وبعض السّمك ما زال يلعبط في شباكه المتّسخ، ولكنّ الجسر سقطت ألواحه، وعليّ أن أرفع فرشة السرير الثقيلة وأن أصعد الأدراج حاملةً صندوق مياه جريكو بيدٍ واحدة دون أن تهتزّ من بدني شعرة. "أعلى... جودان".