هذه شهادتي عن سفري من غزّة/ فلسطين إلى القاهرة/ مصر صيف 2018
وُلدت في غزة، وعشت كل واقعها، لكن السنوات الأخيرة، كانت الأسوأ. الناس هنا يعيشون مأساة مختلفة، ويبحثون عن بطل من ورق ليمنحوه الأمان والكرامة.
بدأت حكايتي التي سأكتبها هنا منذ حاولت ممارسة حقي بالسفر كإنسان والخروج من قفصي (غزة) إلى العالم. بعد محاولات شاقة حصلت على تأشيرة إلى دولة عربية، لكن لا مطار ولا ميناء في غزة، والطريق الوحيد هو معبر رفح باتجاه مطار القاهرة، وفي الأول من رمضان (أيار/ مايو 2018)، ذهبت لتسجيل إسمي في كشوف المسافرين. توجّهت إلى ما يعرف بـ “مجمع الوزارة – أبو خضرة في الرمال” مقابل السرايا، فقالوا لي إن التسجيل عبر موقع الوزارة الإلكتروني.
تسجّلت على الموقع ومرّت الأيام من دون أن أسمع شيئاً، وبعدما يئست، أخبرني جميع الأصدقاء أن من يريد السفر من غزة، عليه أن يدفع ما يسمّى (تنسيق للطرف المصري) أي “رشوة”، وأن ذلك يتم بواسطة الطرف الفلسطيني، وأن هناك حافلة خاصة لفئة التنسيق تخرج يومياً. والمبلغ ألف و400 دولار وما فوق، ما يضمن لك الوصول إلى “معبر رفح”. وجميع الفلسطينيين الداخلين في “لعبة التنسيق” يدّعون أن مبالغ الرشوة كلّها للطرف المصري، لكن عليك ألا تصدّق كل ما يقال.
معبر خان يونس
دفعت ألف و400 دولار مقدماً، وقيل لي إن بإمكاني السفر بعد يومين. لكن مرّ يومان، ومرّ أسبوع، من دون جدوى، فشممت رائحة نصب. طلبت أن أسترد المبلغ، فاتّصلت بالرجل الوسيط، فقال لي عليك أن تتوجّه الآن إلى دوار النصيرات في وسط قطاع غزة وسيأتي إليك من يعيد لك المبلغ، فانطلقت ووقفت حيث طلب، وبعد نصف ساعة قدم شخص وسيم وأبلغني اعتذاره، وقال لي إن اللواء المصري مضغوط بسبب كم المسافرين الذين دفعوا، وعلي الانتظار حتى الأسبوع المقبل إن كنت أرغب في السفر، فقلت له إنني لا أريد السفر، وأريد المبلغ، أعطاني المبلغ ثم كرّر السؤال: إن كنت تريد أن تسافر “غداً” عليك أن تدفع مبلغ ألف و700 دولار، وهذه المرّة لن تتأخّر فهناك سيّدة موثوق بها لها علاقة جيّدة بلواء مصري بإمكانه تسهيل أمورك غداً. رفضت الفكرة وأخذت النقود وعدت إلى بيتي مهموماً.
بعد يومين حدّثني صديقي من ماليزيا عن شخص “خارق” بالتنسيق وموثوق به وبالمبلغ ذاته (1400 دولار)، وزوّدني برقم هاتفه. اتّصلت به وأصغيت إلى صوت يتصنّع التهذيب الشديد، وطلب مني، كرجال المخابرات، أن أنتظره الساعة العاشرة صباحاً عند دوار الصاروخ في نهاية شارع الجلاء في حي الشيخ رضوان. توجّهت إلى هناك وانتظرته، حدّثني من بعيد عبر هاتفه النقال وعندما تأكّد مني، اقترب واستلم المبلغ، وقال لي: “اتّصلت بأكثر من منسّق لمساعدتك للسفر غداً بمشيئة الله، ستسافر وستشكرني، وعليك الآن انتظار مكالمتي”.
انتظرت الاتّصال، وبعد ساعتين أخبرني أن هناك ضغطاً على حافلات التنسيق بسبب كم المسافرين، وبإمكانه أن يخرجني من غزة “قريباً” بشرط عدم تحديد الوقت الزمني. رفضت الفكرة وطلبت منه أن يعيد إلي أموالي، وبذكاء أخبرته أنني أعرف من هو وأنه كان يعمل بالأمن الوطني بالسلطة القديمة. حينها أخبرني أنه سيعيد المبلغ وعلي أن أذهب إلى بيته في بيت لاهيا وأعطاني العنوان.
وعندما وصلت المكان، اتّصلت به فأخبرني أن أتقدّم باتجاه الغرب، فاتّجهت حتى وصلت بيته، فخرج ابنه الصغير وطلب مني الدخول إلى البيت فدخلت والتقيت به. حدّثني عن بطولاته الوهمية، وأخبرني أنه لا يعمل في مافيا “التنسيق”، وهو تطوّع لمساعدتي فقط من أجل صديقه الذي زوّدني باسمه. علمت من كلامه أنه يريد أن يخصم جزءاً من المبلغ، شربت فنجان القهوة غاضباً، وعندما علمت أن ما يريد خصمه لا يتجاوز الخمسين دولاراً وافقت.
ندمت على محاولتي اللّجوء إلى “الرشوة” وبدأت الاتصال بالكثير من المسؤولين الفلسطينيين، وأخبرتهم بحاجتي إلى السفر من أجل المشاركة في مؤتمر علمي، وزوّدتهم بالدعوة، وبعد مجهودات شاقة وعدوني بالمساعدة فبقيت أياماً أراقب كشوف السفر ليلاً نهاراً.
فلسطينيون ينتظرون إذن العبور من السلطات المصرية عبر معبر رفح
مرّت الأيام والأسابيع ثقيلة بعد أن طفح الكيل، وحفظت أسماء المسافرين عن ظهر قلب، وأخيراً كانت المفاجأة السعيدة حين وجدت اسمي في كشف المسافرين، بعد 3 أشهر من نيتي الأولى بالسفر، كان ذلك في آب/ أغسطس 2018، فطرت فرحاً وحمدت الله على نعمته.
أعددت الحقيبة وودّعت العائلة والأصدقاء، فلا يعرف المسافر من غزة متى يمكنه العودة. صلّيت الفجر، وحملت حقيبتي وانطلقت إلى ما يعرف بـ”صالة أبو يوسف النجار” في خان يونس. وصلت باكراً، ووجدت المئات غيري، عائلات، ونساء وأطفال، وجرحى مصابين من جرّاء القصف الاسرائيلي، كانوا مسافرين بهدف العلاج، ومن الآن سأنسى أنني فرد، وسنكون مجموعة تحاول الفكاك من القفص.
استقبلنا الباعة في المكان، ومن يحملون الحقائب (الشيالين)، وكي نجلس على مقاعد، مجرّد الجلوس، يجب أن ندفع، فدفعنا. وبعد نصف ساعة قدمت شرطة المعبر (على الجانب الفلسطيني الذي تسيطر عليه حركة حماس) وبدأوا المناداة على أسماء الحافلة الأولى، وبقدرة قادر وجدنا بعض الأفراد من خارج الكشوف تزاحم أصحاب الحق وتعتلي الحافلة. التزمنا الصمت على أمل بأن يتحقّق حلمنا بالسفر، وتسير الأمور ولا تتم معاقبتنا. بعد الانتهاء من الحافلة الأولى بدأوا سرد أسماء الكشف الثاني، وكان رقمي أربعين في الكشف الثاني، لكن الشرطي لم يلتزم بترتيب الأسماء وفق الكشف، فرفعت صوتي منبّهاً إياه، لأني أحفظ أسماء جميع المسافرين، على أمل باسترداد حقي، لكنه صرخ بي: “اكتفينا اليوم بنصف الكشف الثاني، وجاء دور حافلة التنسيقات فانصرفوا إلى بيوتكم”. دب شجار بيني وبينه لكن من دون جدوى.
أدركت أنني حرمت من السفر اليوم، فعدت إلى بيتي أجر خيباتي. وفجر اليوم التالي تكرّر المشهد ذاته. إلا أنني لم ألتزم النظام، زاحمت حتى اعتليت الحافلة، وسارت بنا إلى مدينة رفح، حيث توقّفنا عند نقطة ثانية (فلسطينية – تسيطر عليها أيضاً حماس)، سلّمنا أوراقنا، وتكرّر المشهد ذاته، وسألت نفسي ما الهدف من تكرار الإجراءات ذاتها عند نقطتين فلسطينيتين، ولم أفهم إلا عندما عدنا إلى الحافلة ووجدنا مسافرين جدداً لا أعلم من أين أتوا ولم تكن أسماؤهم في الكشوف!
“في حاجز يسمّى “حاجز الريسة” ألقوا حقائبنا على الأرض بشكل استفزازي، وبدأوا ينفضون الملابس قطعة قطعة، يفتّشون في أرواحنا نحن المنهكين الذين أعيتهم فكرة السفر”
تحرّكت الحافلة أمتاراً عدّة ثم توقّفت عند نقطة ثالثة، فشاهدت صورة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وصورة الراحل ياسر عرفات، فأدركت أننا خرجنا من دائرة حماس ووصلنا إلى دائرة فتح، حيث تم تدقيق الأوراق مجدداً، وسارت الحافلة حتى وصلنا إلى النقطة الرابعة وهي فلسطينية أيضاً، وتم فيها ختم الجوزات (للعلم جوازاتنا الفلسطينية ليست جوازات بالمعنى المعروف، لكنها أقرب إلى وثائق سفر). وعندما اعتلينا الحافلة بعد ست ساعات من بدء رحلتنا مع الفجر، صدمنا بمجموعة من المسافرين (الجدد) تجلس في أماكننا، وعلينا أن نصمت ونجلس في أماكن أخرى، فلا حول لنا ولا قوة، وهنا أدركت أين يكمن سر النقاط الفلسطينية الأربعة، إذ إنها صراع بين تنظيمين متناحرين ضحيتهما مواطن مسحوق قضى ست ساعات وهو ينتظر أن يصل المعبر المصري والذي لا يحتاج الوصول إليه من نقطة الانطلاق الأصلية، أكثر من نصف ساعة.
خرجنا ممّا يعرف بـ”الصالة الفلسطينية” باتجاه “الصالة المصرية”، وصلنا النقطة المصرية الأولى، عند الحادية عشرة والنصف قبل الظهر، وكنا أول حافلة تصل في ذلك اليوم، الا أن الجنود المصريين لم يكونوا مستعدّين لاستقبالنا. بعدما انتظرنا واقفين في الحافلة أكثر من 15 دقيقة سمحوا لنا بأن ننزل، وتم تفتيشنا والتدقيق بالأوراق والحقائب، ثم دخلنا الصالة المصرية وتخيّلنا أن الغيمة زالت وأننا سنسافر كالبشر.
تسابقنا لملء بطاقات البيانات فقال الضابط المصري: “اجلسوا، الوقت مبكر. هذه الإجراءات ستتم بعد قراءة أسمائكم من الكشوف، بعدها بإمكانكم تقديم البيانات مع الجوازات”، وانتظرنا، ربع ساعة، نصف ساعة، مرّت ساعة، وساعتان وثلاث ساعات، ونحن ننتظر.
جلسنا على مقاعد غير مريحة إطلاقاً، وكان باستضافتنا أسراب من الذباب والروائح الكريهة! وقفت أراقب وجوه الفلسطينيين الهاربين من القصف الإسرائيلي والألم والجوع في غزة، الحالمين بالسفر، أتأمّل ملابسهم الزاهية التي اختاروها ليوم السفر، وكيف بدأت فرحة السفر تذوب مع طول الانتظار. حتى دورات المياه أبوابها مخلوعة لن تسترك، هجرتها النظافة، رائحتها تصيبك بالغثيان، ونحن تحت الأمر الواقع نطحن وليس بيدنا شيء. حين يضطر مسافر إلى استعمال دورة المياه، يحمل بعض الشباب الأبواب المخلوعة ويقفون وراءها، كي تكون له خصوصيّته! حمدت الله أنني لم آكل ولم أشرب ذاك اليوم، تعاملت مع نفسي كأنني صائم، واكتشفت أن من دفع “الرشاوى” بآلاف الدولارات، أقصد التنسيق، ونحن من لم ندفع شيئاً، يستوي أمرنا وأمره في هذا المكان، فلا فرق بين مذبوح ومذبوح في هذا القبر.
وبعد ثلاث ساعات نادونا بأسمائنا، فقمنا بتعبئة البيانات، وسلّمنا جوازات السفر، وبقينا ننتظر، ومرّت ساعة وساعتان، وثلاث وأربع، حتى الساعة السابعة مساء، في تلك الظروف المذلّة المقيتة، حتى نادونا بأسمائنا من جديد، ووقفنا طابوراً للقاء المخابرات المصرية، والسؤال عن أسباب السفر، بعدها تم السماح لـ127 شخصاً بدخول مصر ذلك اليوم، نصفهم تقريباً دفع رشى (التنسيق) أي أنه في يوم واحد كان المبلغ الذي يصل إلى “التنسيق” يبلغ نحو 100 ألف دولار.
“شابّة أخرى في الصالة تودّع زوجها بعد أن سمحوا لها بالسفر هي وأطفالها الصغار، ومنعوا الزوج”
ثلاثة رجال آخرين وأنا لم يسمح لنا بدخول مصر، والسبب وراء ذلك ليس أمنياً أو سياسياً، فنحن نحمل تأشيرات لبلدان عربية أخرى، ومعنا تذاكر السفر من مطار القاهرة، لذا ممنوع “أن ندخل مصر آمنين” ويجب أن نخضع لما يعرف بـ”الترحيل”، وهذا يعني ترحلينا كاللصوص إلى المطار مباشرة وممنوع أن نحيد عن الطريق إلى هناك أو ندخل أي مكان في مصر. وعلى رغم مأساة الترحيل فرحنا أننا سنتجاوز “الصالة المصرية” ونسافر، وانتظرنا أن ينفّذ الأمر لنخرج من هذا الجحيم، لكنهم تناسونا تماماً كما تناسوا الآخرين من المسافرين إلى مصر (غير طريق الترحيل).
جاء الليل، وتعالت الآهات، وبدأ الأطفال من الإرهاق يبكون، وتحامل الجرحى على آلامهم، على رغم أنهم يجلسون على مقاعد غير مريحة أو يفترشون الأرض.
توجّهت إلى المقصف في “الصالة المصرية” لشراء فنجان قهوة، فصدمت من الأسعار المرتفعة جداً.
بقيت طول الليل مستيقظاً، وعند الساعة الواحدة صباحاً (بعد منتصف الليل)، سمعنا صوت الميكرفون ينادي على بعض أسماء المسافرين، وعلمنا أن هذه الأسماء سترجع من حيث أتت، إلى غزة، بعد محاولة سفر وانتظار قارب 24 ساعة، وكل المبالغ المالية التي دفعت، فهؤلاء منهم من هو “ممنوع من السفر” لأسباب أمنية أو سياسية أو مجهولة، أو لم تأتِ الموافقة عليهم، وقد تأتي لاحقاً!
وقفت مشدوهاً أراقب تعابير العائلات، وهم يفترقون عن بعضهم بعضاً. فهناك زوج يجب أن يرجع إلى غزة، لكن زوجته يمكن أن تسافر، أو العكس! كان رجل عجوز يبلغ من العمر 70 سنة، يريد أن يرافق زوجته المريضة للعلاج، والتي تجرّ نفسها على جهاز للمشي (ووكر)، فبدأ يستغيث ويبكي لعل التوسّل يرحمه، لكنه غير مرغوب به في مصر، بينما مسموح للزوجة لأنها مصرية. لكن الزوجة المصرية حسمت الأمر بقرارها العودة مع زوجها الفلسطيني إلى غزة.
شابة أخرى في الصالة تودّع زوجها بعد أن سمحوا لها بالسفر هي وأطفالها الصغار، ومنعوا الزوج. انهمرت دموعها حتى أغرقت الجميع ألماً وحسرة. ولواء متقاعد جوازه ديبلوماسي منع من مرافقة ابنه الصغير، على رغم كل الاتصالات الهاتفية التي قام بها والتي باءت بالفشل.
عاد المحرومون من السفر إلى غزة. وبقينا نحن في الصالة، نبحث عن قطعة كرتون نضعها على المقاعد لنتحمّل الإبر المنبعثة من أسفلها.
استمرّ الليل، واشتدّ الحر، وهبّت معه عاصفة من البعوض. تعالت آهات الجرحى فتطوّعنا أن نحمل قطع كرتون صغيرة، ونحرّك الهواء لنخفّف عنهم الحر ونبعد البعوض.
يبدو أن الانتظار سيطول للصباح، لذا قرّرت أن آكل ولم يعد يهمّني الأمراض التي ستصيبني لو دخلت دورة المياه، أو ماذا سيحدث لاحقاً. اشتريت الطعام بالثمن الباهظ، وجلست آكل وأتحاور مع والد شهيد وهو أيضاً والد جريح ينتمي إلى حماس، وشاب ينتمي إلى فتح، وناقشنا من يتحمّل مسؤولية هذا الذل على “معبر رفح” والسكوت عن هذا الواقع غير الإنساني، أهي حماس أم فتح أم الاثنان معاً.
اقتربت الليلة السوداء على الانتهاء، واجتمعنا لصلاة الفجر. في البدء راودتني فكرة عدم المشاركة بسبب عدم طهر المكان وما اصابنا من تلوث في دورات المياه القبيحة، وفي النهاية صليت.
وعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً تم تسليم المسافرين لدخول مصر جوازات سفرهم. خرج الجميع، العائلات والجرحى، منهكين، لكن على وجوههم ابتسامة لأن الفرج بالوصول ونهاية هذه الرحلة، أصبح قريباً.
“لحظة صعود الطائرة إلى السماء، تمنّيت ألا تعود إلى الأرض. تمنّيت أن أقابل وجه الله وأتخلّص من شياطين الأرض”
وبقينا نحن الأربعة المرحلين ننتظر. سألنا: متى يحين دورنا؟ وقيل لنا: ستخرجون بعد نصف ساعة عندما يأتي مندوب من السفارة الفلسطينية. وقد اتصل شرطي المعبر المصري بالمسؤول، بعد أن قدّمنا له وجبة فطور وعلبة دخان، فسمعنا المسؤول يسأله عن عددنا وعندما علم أننا أربعة قال له: انساهم! وتناسونا.
مرّت ساعة وساعتان، وخمس ساعات، أصبحت الساعة الحادية عشرة، في مثل هذا الوقت من أمس، دخلنا هذه القاعة، وما زلنا هنا. هجم الذباب والبعوض علينا أكثر!
وقدّمت حافلة من المسافرين الفلسطينيين الجدد، كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً. تأمّلت الوجوه المبتسمة وهي تتسابق لدخول القاعة المصرية، لا يدركون ما يخفي القدر لهم، وما ينتظرهم من لعنات في الساعات المقبلة التي ستطول حتى ساعات فجر اليوم التالي. لكني، لم أقل لأحدهم شيئاً.
احتجاج فلسطيني لمطالبة السلطات المصرية بفتح معبر رفح
استمرّ اليوم الثاني، بالطريقة ذاتها بالضبط، وتكرّرت مأساة إرجاع أكثر من نصف المسافرين إلى غزّة بعد منتصف الليل، وكأن الأمر استمرار لتعذيب المقهورين في الأرض.
وبخصوصنا نحن الأربعة الذين يجب أن نخضع لـ “الترحيل” إلى مطار القاهرة، حاولنا بكل الطرائق أن نقرع أبواب جهنم لنخرج من هذا الموت المعد سلفاً، فكانت إجابة الشرطة المصرية المشكلة لا تكمن لدينا فنحن ختمنا جوازاتكم منذ الأمس، نحن ننتظر مندوب سفارتكم.
عند الساعة الخامسة مساءً، ظهر مندوب السفارة، وقال لنا إنه سيحاول جاهداً أن يخرجنا في ذلك اليوم، ثم أخبرنا أن هناك سيارة إسعاف ستنقل ميتاً من غزة، وربما سيتم إخراجنا مع الميت حتى نصل العريش بعد التنسيق مع المسؤولين المصريين!
وانتظرنا ساعة وساعتين وخمس ساعات، وجاء الليل، ونمنا في القاعة المصرية ليلة أخرى، نمت من التعب، على المقاعد، لعله كان تأقلماً مع الوجع.
ظهر مندوب السفارة الفلسطينية مجدّداً الساعة الثامنة صباحاً، وتخيّلنا أن الغيمة انقشعت وسنخرج من بين أنياب الذل، لكننا أدركنا سريعاً أنه سيتم استغلالنا مادياً، وسندفع نقوداً مضاعفة إن رغبنا في الوصول إلى المطار سالمين. استسلمنا لواقع الاستغلال، كان أقصى طموحنا أن نغسل أجسادنا بالماء ونتطهّر من العفن وننسى لعنة “معبر رفح”.
بعد ربع ساعة من مسيرنا بالحافلة، توقّفنا! عرفنا أن هذا أول حاجز مصري، وسيفتح الساعة الحادية عشرة صباحاً! وهكذا علينا الانتظار أمام الحاجز نحو ثلاث ساعات، وانتظرنا.
على الحاجز التقينا بالمسافرين الآخرين الذاهبين إلى مصر، ومنهم من لم تحمِهم نقود التنسيق، فالحافلة التي خرجت بالأمس من المعبر وجدنا ركابها نائمين على الحاجز أكلتهم الأرض والانتظار.
ثلاث ساعات عجاف امتصّت ما تبقّى لنا من كرامة، وأشعرتنا بأننا حشرات لا تستحق الحياة، بخاصة حين خرج مجنّد مصري يلعن ويهدّد بأنه لن يسمح لنا بالمرور! التزمنا الصمت قهراً حتى بدأ تحرّك الحافلات بعد الساعة الحادية عشرة، وبدأ مسلسل الحواجز المصرية المتتالية، وعلى كل منها التفتيش مجدّداً مع الإذلال والتحقير. كيف يتحوّل مجنّد “مسكين” إلى أداة في ترس الذل!
50 حاجزاً بالعدد، بين كل واحد والآخر أحياناً مسافة تجعلنا نرى بالعين الحاجز السابق! احترفوا تجريدنا من كرامتنا، كل حاجز يسلّمنا للآخر، وعند بعض الحواجز تتمّ مصادرة بعض ما في حقائبنا، زميلي أخذوا منه حذاء جديداً، والآخر زجاجة عطر، و”صمت المهانة” هو الواضح الوحيد في المعادلة. وفي حاجز يسمى “حاجز الريسة” ألقوا حقائبنا على الأرض بشكل استفزازي، وبدأوا ينفضون الملابس قطعة قطعة، يفتشون في أرواحنا نحن المنهكين الذين أعيتهم فكرة السفر، والمسافرين على مدى ثلاثة أيام، مصلوبين تحت الشمس.
وقد طمأننا مندوب السفارة أننا “الخاضعون للرحيل” أفضل حالاً من العائدين إلى غزة، والذين وجدناهم نائمين في العراء منذ ثلاثة أيام على حاجز “الريسة”!
وكانت الطامة الكبرى عندما وصلنا ما يعرف بـ”المعدية”، وهناك نفض المصريون مجدّداً حقائبنا مرتين في المكان ذاته، في بداية المعدية وفي نهايتها، لم يتركوا قطعة إلا وألقوها على الأرض.
وبعد هذا الكابوس انطلقت الحافلة إلى المطار في رحلة استغرقت 16 ساعة، ليتم بعدها تسليمنا إلى مندوب المطار، كالمتّهمين الخطرين، ونحن غير قادرين على التفكير، ننسل خجلاً من روائحنا الكريهة. ذهبنا إلى حمام المطار، وأعطيناهم مئات الجنيهات ليسمحوا لنا بأن نغتسل في دورة المياه، فما ذنب المسافرين معنا على الطائرة! ثم حجزت رحلة جديدة، فرحلتي السابقة ضاعت علي. وبقي جوازي مع مندوب المطار حتى اقترب موعد اقلاع الطائرة، وأخيراً صعدت الطائرة، وطارت الطائرة.
لحظة صعود الطائرة إلى السماء، تمنّيت ألا تعود إلى الأرض. تمنّيت أن أقابل وجه الله وأتخلّص من شياطين الأرض.
بعد أيام، سمعت أن ألف فلسطيني في طريق العودة إلى غزة ليكونوا في العيد مع أقاربهم وعائلاتهم، ينامون منذ ستة أيام في المعدية على الأرض ويلتحفون السماء، وسيحتاجون أيضاً ثلاثة أيام في المعبر، وتملّكني الرعب من رحلة العودة إلى غزة. كرهت نفسي وكرهت أولياء الأمر بعد أن علمت أن رئيس سلطتنا الفلسطينية وسفارتنا الفلسطينية في مصر تعاملت مع الحدث وكأنها تعالج حالات إنسانية، مجموعات من المتسوّلين يحتاجون طعاماً وشراباً، وليس “كرامة”. لقد أوصلوني وكثيرين في غزة إلى أننا لم نعد نريد حياة، إذ إن موتنا رحمة. ارحمنا يا الله. ارحمنا موتاً.