تُثيرالصورالملتقطة في الحروب الصدمة والهلع. حيث يتحول الموت إلى فرجة، و تتراجع قوة الحياة إلى الدرجة صفر؛ فالصور التي تُحفظ كغنائم حرب، لا تختلف في مضمونها عن جثث الأسرى التي يحتفظ بها الطرفان المتحاربان.
في فيلم غودار ( ليه كاربيناي ) فلاحان بليدان يُغريان بالانضمام إلى جيش الملك مع وعد أنه سيكون بمقدورهما أن يغنما، ويغتصبا ويقتلا ويغتنيا. لكن حقيبة الغنائم التي عادا بها لم تكن تحوي سوى بطاقات مصوّرة.
تشير الصورة إلى معنى الغنيمة التي نحصل عليها من الواقع، فبمجرد كبسة زر يتم تخليد وتوثيق أقسى اللحظات، ثم عرضها للعالم. وبقصد أو بدونه، وأمام هدف الصورة المعلن وهو إثارة التعاطف مع الضحية؛ تؤدي الصورة دوراً معكوساً فبتكرار عرضها "تحجب الواقع وتخفيه". وهي تفقد فاعليتها وتصبح وسيلة لإماتة الحواس وتقليم الحساسية الأخلاقية وتوجيهها نحو التبلد . تروي سونتاغ "أنه وفي في عام 1930 كتب وستون يومياته" المفعمة بعاطفة مسرفة عن أهمية العلاج بالصدمة البصرية " لكن هذا الأمل الهش تبدد، فالصورة التي كانت تروِّع من يشاهدها، أدت بالناس للتآلف مع الدماء والأشلاء". وتعتقد سونتاغ " إن صدمة الوحشية المصورة تزول تدريجياً بتكرار الرؤية، مثلما تزولُ تماماً المفاجأة والانشداه اللذانِ يحسُ بهما المرء حين يرى أول مرة فيلماً إباحياً؛ بعد أن يرى بضعة افلام أخرى".
إن تكرار مشاهد العنف والدمار، تؤدي لتمجيد البذاءة وقوة القتل كما في صراع الثيران الأسباني، فالجمهور يطلب المزيد من الدماء؛ ولا يتوقف إلا حين يغرس الثور قرنيه في صدر أحدهم.
ويتبنى بارت في كتابه " الغرفة المضيئة ومن الإهداء - إجلالاً لخيال سارتر- تأويل سارتر للعلاقة بين الأنا والغير وهي تتضمن في جانب كبير منها عدائية غير مبررة بين أفراد الجنس البشري، فالنظرة وسيلة هيمنة من الآخر" وهي تعريني وتختصرني إلى وجودي الجسدي".
إن الكاميرا عند بارت امتداد لنظرة الغير- لعين الآخر الذي يسعى إلى الاستيلاء على وجودي الحي "بتثبيته ومحوه" ، وهولا يحلل الصورة من وجهة نظر حامل الكاميرا بل من وجهة نظر الضحية " لم أمتلك تحت تصرفي سوى خبرتين ، خبرة الذات المشاهَدة ، وخبرة الموضوع المشاهَد" ، بمعنى أنه لكي نفهم صورة فوتوغرافية علينا "الغوص في النفس" ومساءلة الشعور إزاءها، لا أن نلجأ لوضع ثقافي بل ما تثيره من مشاعر لدى المتلقي"
وكما شعر بودريار إزاء حرب الخليج بأنها لم تحدث، أشعر الآن أن القتل والنزوح والعيش الجماعي في المخيمات لم يحدث، ولم تعد صور النازحين في المخيمات وسط الفقر والوحل والبرد تستطيع أن تثير سوى كلمات زائفة، تتضمن التعاطف، والتعاطف: هو مشاركة وجدانية فاشلة، إنه الدليل على بؤس القدر البشري وخِسَّتِه.
تستدعي صورة الممثلة السورية التي التقطت صورا مع المشردين في الحدائق ببنطالها الجينز ووقفتها وهي تحتضن طفلة كالدمية مباعدة بين قدميها على طريقة رعاة البقر، فكرة بودريارعن "بورنوغرافيا الصورة".
ولا ننسى نظرات انجلينا جولي المليئة بالتعاطف، وهي تستمع بحنو أمومي للضحايا الذين ترشح وجوههم من الذاكرة وتتلاشى. فما يرسخ في الذاكرة صورة الممثلتين .. بحيث لا تعود لساكني الحدائق ومخيمات اللجوء من قيمة بحد ذاتهم، بل قيمتهم تستمد من التوليد الإعلامي وقدرتهما على غواية الناس. إن الصورة شكل من أشكال الإعلام والبطولة وفي قلب كل بطولة جشع لا يرتوي.
نفهم الآن لماذا نتعاطف مع الصور وننسى الضحايا، فالصور بحسب بودريار تنقطع عن الواقع إنها" تقضم الحقيقة الواقعية وتحيلها إلى ما فوق الواقع إلى" واقع مصطنع" .
تستدعي هذه الفكرة الأخيرة مسألة تواطؤ الكاميرا مع الموت، فلم يكن المصور "كيفن كارتر" وحده مع كاميرته ينتظر موت الطفلة بل كان بموازاته نسر جائع " فالنسر كان يجهز منقاره وكارتر يصوب كاميرته كلاهما ينتظر تحول الفتاة إلى جيفة " حتى لقب قبل أن ينتحر بأنه "نسر جيف آخر". أيضا المصورة دايان أربوس التي كانت تستمع بتصوير مشوهي الخلقة والأقزام المشردين، الذين يرسمون على وجوههم رضى مبتذلاً عن حياتهم في الأحياء المعتمة من أميركا، انتهت منتحرة .لأنها لم تحتمل هذا الحياد الأخلاقي الذي تزرعه الكاميرا لدى حاملها، من وجهة أخرى يبدو أن الظروف تفرض على حاملي الكاميرا أن يكونوا "نسور جيف". فهم كما تقول سونتاغ " وحين يتحتم عليهم الاختيار بين الحياة والصورة الفوتوغرافية اختاروا الصورة ".
تذكر سونتاغ أنه "حين صور آدم كلارك فرومان الهنود الحمر في أريزونا ونيو مكسيكو بين عامي( 1894-1904 ) لم تكن صوره متفردة وتدعو للتعاطف فقد كان يعي أنه يصور عالماً زائلاً". سوزان بيرنيس آبوت تكتب ( الفوتوغرافي هو كائن، الآن يصبح من خلال عينيه ماضياً"،
أتذكر الصور التي التقطت في الأزمة السورية والنقاشات المضنية حولها لم تثر صور الضحايا بعد مدة أي تعاطف عند البعض، بل شاعت روح التشفي والشماتة عند كثيرين "صور المعاناة حسب سونتاغ لا تؤدي إلى نخس الضمير فحسب بل قد تفسده وتخدره" ، وبذا قد تنتهي الصورة إلى نقيض هدفها.
في حرب العراق يتفرج الناس على الجنود الأميركيين وكأنما في لعبة وهذا ما قصده أورويل بقوله " الحرب هي السلم " حيث يموت الناس كما يموتون في مشاهد لعبة لا أكثر" وويل لمن يسأل عن عمقها وحقيقتها وبحسب بودريار "هناك اتجاه إعلامي لتخريب النظرة السوية للواقع بقوة الميديا ".
"هذا يجعل من الكاميرا" سلاحاً موازياً" ، ، لا يقل بذاءة عن البندقية فالأولى تقتل والثانية تؤرخ "فتصوير الناس هو قتل مريح ، ملائم لزمن حزين" .قال يانوش لكافكا يوماً: "الشرط المبدئي للصورة هو الرؤية .ضحك كافكا وأجاب: نحن نصور الأشياء لكي نطردها من أذهاننا".
لا يمكن النظر للكاميرا باعتبارها شراً أو خيراً ، إن لها وجهاً قاتماً - رغم جدارتها كما قال وليام أتش فوكس تالبوت بتسجيل جراح الزمن –
إذا أردنا أن نفهم شيئاً فلنذهب إلى ماوراء الخير والشر " هكذا يروي نيتشه.
ستشاهد الأجيال القادمة عيون الضحايا بكونهم مجرد صور يصح عليها قول مالارميه " إن كل شيء يوجد كي ينتهي في كتاب . اليوم كل شيء يوجد لينتهي في صورة فوتوغرافية".
يصف رولان بارت في كتابه الغرفة المضيئة المصورين الفوتوغرافيين" بأنهم عملاء للموت" . ويصح أن نطلق على صورة أنجلينا -رغم نبل دوافعها- التعليق الذي وضعته مجلة لوكسبرس على صورة جين فوندا الملتقطة أثناء زيارتها لفيتنام الشمالية تظهر فيها وهي تصغي وعلى وجهها التعاطف الأسى والتعليق هو " هذه الصورة ، مثل أي صورة".
سئل بونويل مرة، لماذا يصنع أفلاماً، أجاب بأنه يفعل ذلك كي يبين أن " هذا العالم ليس أفضل العوالم المتاحة ".
إن حساسيتنا الأخلاقية العميقة في جوهرها ليست في خطر بل تم محوها، حتى مفهوم بارت للصورة بأنها أشبه "بالجرح أو الوخزة " لم يعد موجوداً . ياترى هل نشعر بهذه الوخزة عند رؤية عدونا ينتحب فوق جثمان صغيره؟ أم أننا نتشفى ونفرح بتخلصنا من عدو محتمل صغير. هذا ما يقوله البعض سراً صدقوني!
وماذا عن الأفلام السينمائية التي تحاول نزع أي تعاطف إزاء الضحايا؟
ما رأيكم؟
إنه تاريخ "الكتابة بالكاميرا" التي ستترك للأجيال القادمة صوراً مروعة عنا نحن الذين "نصنع تاريخنا من حطامنا" وإذا كانت سونتاغ ترى في التصوير الفوتوغرافي " جرداً للخلود". فإنني أعتقد أن تصوير الحروب هو "جرد للخراب والوحشية البشريين"
المصادر:
1-سوزان ، سونتاغ (حول الفوتوغراف ، ترجمة: عباس المفرجي )
2- رولان بارت. الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا. ترجمة :هالة نمَّر.
3-جان بودريار ( المصطنع والاصطناع ، ترجمة : جوزيف عبدالله .