نشهد حالياً محاولة لتفعيل خطة الانتقال الليبية، التي وُضعت في عام 2012، بعد الفشل الذريع في إحراز أي تقدم على جبهات عدة. فقد شملت الخطة الأصلية إجراء انتخابات بعد تنظيم استفتاء على الدستور، ولكنها باتت موضع شك بعد فشل مجلس النواب في إقرار قانون الاستفتاء المطلوب لأسباب عدة، بينها الآليات السياسية الداخلية.
كان المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة، قد أشار في إحاطة إلى مجلس الأمن، إلى أنه، وبعد المؤتمر الدولي المقرر عقده في باليرمو، يجب عقد ’مؤتمر وطني‘ في بداية عام 2019 بهدف "إيجاد مجال لليبيين لبلورة رؤيتهم للمرحلة الانتقالية، ولن يكون بوسع سياسييهم تجاهلهم بعد الآن". بمعنى أن المؤتمر المذكور سيسعى إلى فرض مسار جديد، بغض النظر عمّا تريده المؤسسات القائمة.
كيف يعمل المؤتمر الوطني؟ اكتفى السيد سلامة بالقول إن المؤتمر سيوفر "منبرًا للشعب الليبي للتعبير عن رأيه وإسماع صوته"، مما يعني أن المشاركين سيُختارون على الأغلب من مختلف المكونات الاجتماعية في البلاد، وليس فقط من القوى السياسية الرئيسية فيها. ولم تُطرح الصلاحيات وآليات صنع القرار المقترحة للمؤتمر وإطاره الزمني للنقاش العام، لكن الفكرة هي إيجاد سياق لاجتماع مكوّنات البلد في مكان واحد، وولادة مقولة ’نحن الشعب‘ التي ستحظى بالشرعية المطلوبة وبصلاحيات إقرار قواعد دستورية جديدة من أجل ليبيا الجديدة.
لقد خاضت دول عديدة في المنطقة تجربة عقد مؤتمرات وطنية، الأمر الذي يوفر دروسًا لليبيا. ولكن تلك التجارب أظهرت بأن المؤتمرات الوطنية، رغم إتاحتها فرصاً مهمة، تبقى محفوفة بالمخاطر.
تمثل أحد أهم عناصر عملية الانتقال الفاشلة في اليمن بعد عام 2011 في مؤتمر الحوار الوطني الذي صُمم لإعطاء دور مهم للمكونات الاجتماعية إلى جانب القوى السياسية في البلاد. ولكن في نهاية المطاف فعملية الانتقال قد انهارت بفعل جملة عوامل معقدة، بما فيها فشل مناقشات المؤتمر في مواكبة التغييرات المتسارعة على أرض، والتي فرضت نفسها في النهاية بقوة السلاح. والدرس الواضح لليبيا هو أن أي قرار يُفرض دون دعم القوى المسيطرة على الأرض لن يُكتب له النجاح في أغلب الظن.
يشبه وضع الصومال في عام 2012، من أوجه متعددة، الوضع في ليبيا في عام 2018، حيث شرع البلد في عملية انتقال طويلة الأجل مليئة بالنزاعات، في مسعى لوضع إطار سياسي شرعي جديد لبناء دولة جديدة. وكان الصوماليون، بالتعاون مع شركاء دوليين، يعدّون دستورًا جديدًا للاستفتاء عليه. وكما في ليبيا، ساد الاعتقاد في مرحلة معيّنة باستحالة إجراء الاستفتاء بسبب المشاكل الأمنية وعدم القدرة على إيجاد توافق بشأن القضايا المصيرية.
وبدلاً من ذلك، عقد المسؤولون الدوليون والصوماليون مؤتمرًا، تحت عنوان ’الجمعية الوطنية التأسيسية‘، لتوفير غطاء شرعي لتبني دستور مؤقت يمهّد الطريق لإجراء انتخابات ووضع إطار دستوري دائم للدولة. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من ست سنوات، لا تزال شرعية الدستور المؤقت والدولة الصومالية ضعيفة، ولم تجر انتخابات عامة، ولم تؤدّ الفترة الانتقالية إلى حدوث تغييرات تُذكر سواء في النخب السياسية أو في حياة المواطنين العاديين.
تمثّل تونس التجربة الناجحة الوحيدة لعمليات الحوار في المنطقة، ولكن من الصعوبة بمكان تكرار سياقها ومسارها في ليبيا. أولًا، فقد قامت جهات فاعلة في المجتمع المدني التونسي بعقد مؤتمر تونس، في حين أن الأمم المتحدة هي من أطلق فعليًا المسار الليبي، الذي تطلّب دعمًا إضافيًا من المجتمع الدولي. ثانياً، فقد استغرق مؤتمر تونس أكثر من عام كامل وكان تقدمه بطيئًا للغاية، ما سيعتبره معظم الليبيين على الأرجح أمراً غير مرغوب. وأخيراً، فقد شجع مؤتمر تونس على توافق القوى السياسية الرئيسية في البلاد، في حين بدت دواعي مؤتمر ليبيا أقرب إلى مناورة بين النخب السياسية.
تحتاج ليبيا إلى مسار يخرجها من العملية الانتقالية. فوجود دستور جديد يؤذن بولادة دولة جديدة وعقد اجتماعي وسياسي يستمد شرعيته وسلطته من إرادة الشعب. ولذلك فهو يمثل محطة حاسمة لتخطي المرحلة الانتقالية وبناء أسس مجتمع جديد. مع ذلك، فحتى هذه الأسس تتطلب توفر شروط معينة، مثل الحد الأدنى من الأمن وقبول القوى النافذة الرئيسية بضرورة العمل معاً، أو على الأقل اعتماد العمل السياسي بدلاً من العنف.
هنا يبرز السؤال: ما العمل عندما لا تتوفر تلك الشروط في ليبيا؟ والجواب كما يبدو هو عقد اجتماع وطني ومُشَرعِن يعمل على تأسيس بداية جديدة. وبناءً على تجارب دول المنطقة، يجب أن نكون جاهزين لأرجحية ألّا يمثل ذلك فجر ليبيا الجديدة، بل مجرد بداية النهاية للمرحلة الانتقالية.