'القدس الكبرى' كما تراها إسرائيل

[المصدر: موقع دنيا الوطن] [المصدر: موقع دنيا الوطن]

"القدس الكبرى" كما تراها إسرائيل

By : Khalil Tafkaji خليل التفكجي

"القدس الكبرى" كما تراها إسرائيل

ماذا يُعدّ للقدس؟ وإلى أين يأخذون المدينة؟

لا يستطيع أحد الادعاء بأنه أمر مفاجأ، فما يجري هو جزء من مشروع معلن وجدّي وقد بُني ببطء خلال أعوام الاحتلال من أجل الوصول إلى تهويد القدس وتحويل أهلها الفلسطينيين إلى أقلية داخل مدينتهم. فبحسب قانون القدس الموسعة الذي أعده النائب يوآف كيش، والذي ينتظر الإقرار من الكنيست، سيجري ضم مستعمرات معاليه أدوميم وبيتار عيلييت وغفعات زئيف وأفرات وغوش عتسيون إلى بلدية القدس. وقد سبق أن تقدّم الوزيران نفتالي بينت وزئيف إلكين بمشروع لتغيير القانون الأساس: القدس، من أجل أن يتم نقل كفر عقب ومخيم شعفاط من بلدية القدس إلى إطار بلدي وإداري آخر.

عملية اللصق والقص ليست جديدة، فالدولة العبرية لم تتوقف منذ تأسيسها عن القيام بعمليات شبيهة، لكن ما يجري اليوم تحت أنظارنا يعلن وبشكل قاطع قتل مشروع الدولة الفلسطينية، فضلاً عمّا تمثله القدس على المستوى الرمزي.

ويبدو أن معاناة المدينة في حياتها اليومية هي تلخيص مكثف لمعاناة شعب يعيش تحت احتلال استيطاني منذ سبعين عاماً، فالقدس اليوم هي التجسيد العملي للنكبة الفلسطينية المستمرة.

لقد جاءت خطة "القدس الكبرى" بناء على دراسة أجراها "مركز القدس لأبحاث إسرائيل"، وخرج منها بنتيجة فحواها أنه في سنة 2040 ستكون نسبة العرب 55% من إجمالي عدد السكان في حدود البلدية، الأمر الذي أشعل الضوء الأحمر إسرائيلياً، بعدما كانت إسرائيل اعتمدت على التفوق الديموغرافي في القول إن القدس عاصمتها الأبدية.

وقد أطلقت إسرائيل مشروع القدس الكبرى في سنة 1993، بحيث تصبح مساحة المدينة 600 كلم2 (10% من مساحة الضفة الغربية)، وبموجبه جرى وضع خطة إقامة جدار الفصل العنصري الذي باكتماله يكون قد ضم أكثر من 230 كلم2 أُخرى من الضفة الغربية. وبينما يُعزل 130,000 فلسطيني مقدسي عن القدس، فإنه سيضم 120,000 مستوطن تقريباً يعيشون في كتل استيطانية كبرى.

ويهدف مشروع القدس الكبرى إلى تخفيض عدد سكان المدينة العرب البالغ 350,000 بنسبة 30%، بحيث تصبح نسبتهم إلى مجموع عدد سكان المدينة 12%، وذلك عبر عمليات التهجير والطرد وهدم البيوت والإنذارات ومصادرة الأراضي والعقارات والتغلغل داخل الأحياء العربية، وفي المقابل تشجيع الهجرة اليهودية في مقابل محفزات مادية واجتماعية.

لقد شكلت الزيادة السكانية العربية مفصلاً أساسياً في رسم خطوط القدس الكبرى، والتي حمل لواءها في سنة 1993 وزير الإسكان في حينه، بنيامين بن ـ إليعيزر، مدعوماً بتعليمات مباشرة من رئيس الحكومة السابق يتسحاق رابين، عبر انتهاج إجراءات جديدة تضاف إلى تلك القديمة لطرد السكان الفلسطينيين.

تغيير معالم القدس الديموغرافية والجغرافية

كانت الخطوة الأولى، في هذا السياق، زيادة هدم المنازل، وهي عملية تم بموجبها هدم أكثر من 2000 منزل، وتشريد أصحابها في اتجاه الضفة الغربية بين سنتَي 1994 و2017.

كما أن إجراءات سحب الهويات زادت بشكل كبير، فجرى بين سنتَي 1967 و2017 سحب أكثر من 15,000 بطاقة هوية.

وتمثلت الخطوة الأكبر في استخدام الأمن لتحقيق أهداف ديموغرافية، وذلك بإقامة جدار الفصل العنصري الذي أخرج، بحسب الإحصاءات الإسرائيلية، أكثر من 70,000 مقدسي خارج الجدار، وأكثر من 150,000 وفق الإحصاءات الفلسطينية.

وفي سياق الإجراءات الإسرائيلية نفسها أيضاً، جاء القرار 1650 الصادر بتاريخ 13 / 9 / 2009، والذي دخل حيّز التنفيذ بتاريخ 13 / 4 / 2010، والقاضي بـ "منع المتسللين" من الدخول إلى القدس، بهدف إبعاد أكثر من 55,000 فلسطيني عن حدود البلدية، باعتبارهم مخالفين للقانون.

وفي الوقت نفسه، أُعلن المشروع 30 / أ الذي يمتد من منطقة اللطرون شاملاً حدود بلدية القدس التي تم توسيعها في سنة 1967، والذي يهدف إلى:

1- بناء مستعمرات جديده وتوسيع القديمة.

2- إقامة مناطق صناعية، والقدس ذات أفضلية في ظل هذا المشروع، عبر:

(أ) دعم الاستيطان والاستثمار وإعطاء تسهيلات للمستثمرين.

(ب) إقامة بنية تحتية كاملة من طرق وسكك حديدية وغيرها.

(ج) خلق تواصل واضح للسكان اليهود، وتقليص التقارب والاحتكاك مع العرب، مع أن ربط المستعمرات الواقعة خارج حدود البلدية مع داخلها سيكون بواسطة أنفاق وجسور، وربط منطقة غوش عتسيون بالقدس بواسطة نفق تحت بيت جالا، وإقامة سكك حديدية، وقد تم تنفيذ مشروع نفق تحت جبل "المشارف" (سكوبس) لربط تجمّع معاليه مع القدس. وهذا المشروع، علاوة على مشروع 2020، يُعتبر من أهم المشاريع الهادفة إلى تهويد المدينة، وجعلها مركزاً سياسياً وحضارياً وثقافياً ومحوراً رئيسياً لليهود.

ويهدف المشروع إلى جلب 100,000 يهودي في كل عام، والانتقال من القدس الموسعة (1,2% من مساحة الضفة الغربية) إلى القدس الكبرى (10% من مساحة الضفة) وذلك لتحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها:

1- اعادة التوازن الديموغرافي وطبع المدينة بطابع ديني.

2- فصل الضفة إلى قسمين جنوبي وشمالي، بحيث تكون القدس الكبرى في وسط المنطقة، وتمتد في اتجاه الشرق حتى غور الأردن، وبعرض يزيد عن 15 كلم2، فتصبح المدينة في قلب الدولة العبرية، وحاجزاً يمنع القادمين من الجنوب من التوجه إلى الشمال، إلاّ من خلال نظام معين متفق عليه، أو عبر طرق بديلة تحت اسم "نسيج الحياة" تجري إقامتها، وهو مشروع صُودق عليه في سنة 2007.

3- إحكام السيطرة على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ومنع أي جهد فلسطيني لولاية جغرافية عليها، والحيلولة دون ممارسة السيادة الفلسطينية على الأرض.

4- تدمير أي نمط اقتصادي في الضفة الغربية، وذلك عبر السيطرة الإسرائيلية على محاور الطرق، والتحكم في إغلاقها وفتحها بحسب شروطها.

5- منع إقامة عاصمة فلسطينية في القدس.

وهكذا فإن خريطة القدس المستقبلية ستكون مختلفة تماماً عن القدس الحالية جغرافياً وسكاناً. فإقامة القدس الكبرى، وتوسيع حدودها، جاءا لأسباب عنصرية، وهو ما أكده أرنون يوكتئلي، عضو مجلس بلدية القدس الغربية، إذ كشف في تصريح له عن مخطط تهويدي لمحاصرة الأحياء العربية في القدس باليهود.

[خريطة مستعمرات القدس الكبرى]

 توافق سياسي على مشاريع القدس

كان بنيامين بن ـ إليعيزر، فور تسلّمه وزارة الاسكان، قد طلب من طاقم التوجيه في الوزارة دفع تطوير المدينة بحسب الحاجات التنظيمية والمتروبوليته كعاصمة لإسرائيل، وأن يتم التحرر تماماً من الاعتبارات السياسية والحزبية.

وعادت خطة القدس الكبرى مرة أُخرى بضوء أخضر من رئيس الحكومة إيهود براك.

وأسس الوزير الإسرائيلي والقيادي السابق في حزب العمل حاييم رامون، حركة جديدة أطلق عليها اسم "إنقاذ القدس اليهودية"، ضمت بين أعضائها شخصيات سياسية وعامة يسارية وغير يسارية. وشدد رامون عند إعلان تأسيس حركته على طابعها الشعبي البعيد عن الفهم السياسي التقليدي. وجاء في بيان الحركة التأسيسي: "أقيمت حركة إنقاذ القدس اليهودية عبر تحقيق الانفصال عن أراضي 28 قرية ومدينة فلسطينية تم ضمها إلى حدود المدينة بعد حرب 1967، مع أن هذه القرى لم تكن يوماً جزءاً من القدس."

وفي سنة 2010، صرّح يكير سيغف الذي كان يشغل منصب مسؤول ملف شرقي القدس في بلدية الاحتلال، في مؤتمر بعنوان "المساواه البلدية في شرقي القدس"، بأن الأحياء التي تقع إلى الشرق من الجدار تشكل جزءاً من مدينة القدس. وأضاف أنه لا يعرف أحداً يرغب في أن يفرض السيادة الإسرائيلية على تلك الأحياء إلاّ أحزاب اليمين. واعتبر أن بناء جدار الفصل له أهداف سياسية وديموغرافية، وليس فقط أهدافاً أمنية. وكانت هذه المرة الأولى التي يصرّح فيها أحد مسؤولي بلدية الاحتلال علناً عن الرغبة في إزاحة أحياء مقدسية إلى خارج الجدار.

أمّا رئيس بلدية الاحتلال نير بركات، فصرّح علناً، ولأول مرة في كانون الأول / ديسمبر 2011، عن رغبته في التخلي عن هذه المناطق، إذ نقلت عنه الصحف الإسرائيلية قوله إنه "يجب التنازل عن مناطق نفوذ البلدية الموجودة خارج الجدار."

كما أوضح بركات أن الجدار في منطقة القدس يشكل "عازلاً أمنياً ووطنياً، ويجب أن يتم تحويله أيضاً إلى دليل على ابتداء السيادة وانتهائها"، أي أن كل ما يقع خارج هذا الجدار، وأقرب إلى مناطق الضفة، ليس ضمن نفوذ البلدية، وكل ما يقع داخل هذا الجدار، أي أقرب إلى مركز المدينة، هو تحت نفوذ سيادة البلدية.

وفي تموز / يوليو 2012، التقى مدير بلدية القدس يوسي هايمين منسق الحكومة في الضفة الغربية، وطلب منه أن يتحمل الجيش المسؤولية عن الأمور البلدية في الأحياء المقدسية ما وراء الجدر، أي نقل هذه الأراضي والأحياء إلى نفوذ الإدارة المدنية. 

إزاحة سكانية وليست جغرافية

أظهر تقرير صدر عن "مجموعة الأزمات الدولية" في سنة 2012، أن رئيس البلدية يعمل على إخراج الأحياء العربية في الجهة الشرقية من الجدار إلى خارج المدينة، مع تشديد السيطرة على الأحياء العربية الموجودة إلى الغرب منه: وقد ورد في التقرير أن أحد مستشاري بركات قال في مقابلة خاصة مع مُعدّي التقرير: "لماذا نستثمر في تلك المناطق؟ في نهاية الأمر لن يكونوا جزءاً من إسرائيل"، شارحاً أن التنازل عن تلك الأحياء لا يعني نقل أمر إدارتها والسيادة عليها إلى جهة فلسطينية، وإنما سحب هذه المسؤولية من البلدية ونقلها إلى جهات عسكرية إسرائيلية، أو جهات إدارية أُخرى، لكن إسرائيلية.

وجاء في التقرير أن رئيس البلدية تلقّى نقداً حاداً من طرف أعضاء الكنيست وأعضاء المجلس البلدي، الذين ينتمون إلى الأحزاب اليمينية، والذين يعتبرون حدود بلدية القدس الحالية حدوداً مقدسة على اعتبار أنها تمثل القدس الموحدة. وبناء على ذلك، عدّل تصريحاته في شأن الأحياء خارج الجدار. ففي الوقت الذي كان يدعو في البداية إلى إخراجها تماماً من حدود نفوذ البلدية، أصبح يقول أنه لن يتخلى عن تلك الأحياء سيادياً، ويدعو إلى "تقاسم عبء إدارتها وتقديم الخدمات فيها بين البلدية والإدارة المدنية"، إلى حين الوصول إلى حل سياسي.

في 25 تشرين الثاني / نوفمبر 2015، ذكر تقرير للقناة الإسرائيلية الثانية أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو اقترح في اجتماع المجلس الوزاري المصغر الذي عُقد في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2015، سحب الهويات الإسرائيلية من الفلسطينيين القاطنين في الأحياء ما وراء الجدار. وطلب في ذلك الاجتماع عقد اجتماع مخصص لمناقشة هذه الفكرة.

وبحسب التقرير، فإن نتنياهو ركز على أحياء مثل مخيم شعفاط، وحي كفر عقب، والسواحرة.

وأشار مراسل القناة عميت سيغل إلى أن قرارات اجتماع الكابينت تتلخص بنقطتين أساسيتين:

1. عدم قدرة الحكومة على سحب جميع الامتيازات من المقدسيين.

2. ضرورة سحب الهويات الزرقاء من المقدسيين، وخصوصاً سكان مخيم شعفاط، وكفرعقب، والسواحرة.

إن إزاحة ربع السكان المقدسيين هو أمر سياسي كبير، وليس مجرد إجراءات أمنية. وقد تأكد الأمر خلال مؤتمر حزب العمل الذي عُقد في 9 / 2 / 2016، والذي صادق على خطة انفصال أحادية الجانب من الضفة الغربية وحول القدس، وقرر العمل من أجل فصل عشرات القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس عن منطقة نفوذ البلدية، أي سلخ 200,000 مقدسي عن مدينتهم، بهدف تهويد القدس. ويجري الحديث هنا عن أحياء ضخمة مثل العيساوية وصور باهر وشعفاط.

[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع "مجلة الدراسات الفلسطينية"].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬